فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (5):

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)}
ثم دلَّ بخلق السموات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر، وتسخير النيرين، وجريهما لأجل مسمى، وبثّ الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك، قهار لا يغالب. والتكوير: اللف والليّ، يقال: كار العمامة على رأسه، وكوّرها. وفيه أوجه منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس. ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب:
تَلْوِي الثَّنَايَا بِأَحْقَيْهَا حَوَاشِيَهُ ** لَيَّ الْمَلاَءِ بِأَبْوَابِ التَّفَارِيجِ

ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها: أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً. فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض {ألا هُوَ العزيز} الغالب القادر على عقاب المصرين {الغفار} لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر على أن يعالجهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم: مغفرة.

.تفسير الآية رقم (6):

{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}
فإن قلت: ما وجه قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عدّدها دالاً على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه؛ إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة، والأخرى لم تجريها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها لها فضلاً ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. وقيل: ثم متعلق بمعنى واحدة، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدت، ثم شفعها الله بزوج. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء {وَأَنزَلَ لَكُمْ} وقضى لكم وقسم؛ لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. وقيل: لا تعيش الأنعام إلاّ بالنبات. والنبات لا يقوم إلاّ بالماء. وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها. وقيل: خلقها في الجنة، ثم أنزلها. {ثمانية أزواج} ذكراً وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. قال الله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39]. {خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ} حيواناً سوياً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة. وقيل: الصلب والرحم والبطن {ذَلِكُمُ} الذي هذه أفعاله هو {الله رَبُّكُمُ.... فأنى تُصْرَفُونَ} فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟.

.تفسير الآية رقم (7):

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}
{فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه، لاستضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} رحمة لهم؛ لأنه يوقعهم في الهلكة {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرض الشكر لكم، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم؛ فإذاً ما كره كفركم ولا رضي شكركم إلاّ لكم ولصلاحكم، لا لأنّ منفعة ترجع إليه؛ لأنه الغني الذي لا يجوز عليه الحاجة. ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلاّ عباده الذين عناهم في قوله: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65] يريد: المعصومين، كقوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6]، تعالى الله عما يقول الظالمون وقرئ: {يرضهُ} بضم الهاء بوصل وبغير وصل، وبسكونها.

.تفسير الآية رقم (8):

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}
{خَوَّلَهُ} أعطاه. قال أبو النجم:
أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ ** كُومَ الذَّرَى مِنْ خِوَلِ الْمُخَوِّلِ

وفي حقيقته وجهان، أحدهما: جعله خائل مال، من قولهم: هو خائل مال، وخال مال: إذا كان متعهداً له حسن القيام به، ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة، والثاني: جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر، وفي معناه قول العرب:
إنَّ الْغَنِيَّ طَوِيلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ

{مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ} أي نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بمعنى من، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] وقرئ: {ليضل} بفتح الياء وضمها، بمعنى أنّ نتيجة جعله لله أنداداً ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله والنتيجة: قد تكون غرضاً في الفعل، وقد تكون غير غرض. وقوله: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه: مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه. لأنه لا مبالغة في الخذلان؛ أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به. ونظيره في المعنى قوله: {متاع قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّم} [آل عمران: 197].

.تفسير الآية رقم (9):

{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)}
قرئ: {أمن هو قانت} بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على من، وبالتشديد على إدخال (أم) عليه. ومن مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أمن هو قانت كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه، وهو جري ذكر الكافر قبله. وقوله بعده: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} وقيل: معناه أمن هو قانت أفضل أمن هو كافر. أو أهذا أفضل أمن هو قانت على الاستفهام المتصل. والقانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الصلاة طول القنوت»، وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الوتر؛ لأنه دعاء المصلي قائماً {ساجدا} حال. وقرئ: {ساجد وقائم} على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين. وقرئ: {ويحذر عذاب الآخرة} وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. وقيل: ونزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي.
وعن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو، فقال: هذا تمنّ وإنما الرجاء قوله: وتلا هذه الآية. وقرئ: {إنما يذَّكَّر} بالإدغام.

.تفسير الآية رقم (10):

{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)}
{فِى هذه الدنيا} متعلق بأحسنوا لا بحسنة، معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة. وهي دخول الجنة، أي: حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدي بحسنة، ففسر بحسنة بالصحة والعافية.
فإن قلت: إذا علق الظرف بأحسنوا فإعرابه ظاهر، فما معنى تعليقه بحسنة؟ ولا يصحّ أن يقع صفة لها لتقدمه.
قلت: هو صفة لها إذا تأخر فإذا تقدم كان بياناً لمكانها فلم يخل التقدم بالتعلق، وإن لم يكن التعلق وصفاً ومعنى {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة؛ حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحوّلوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم. وقيل: هو للذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97]. وقيل: هي أرض الجنة. و{الصابرون} الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى غيرها. من تجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير {بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يحاسبون عليه. وقيل: بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفاً، وهو تمثيل للتكثير.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يُهتدى إليه حساب الحساب ولا يُعرف.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين. ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صباً، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل».

.تفسير الآيات (11- 15):

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)}
{قُلْ إِنّى أُمِرْتُ} بإخلاص الدين {وَأُمِرْتُ} بذلك {ل} أجل {لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة، ولمعنى: أنّ الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقاً.
فإن قلت: كيف عطف {أُمِرْتُ} على {أُمِرْتُ} وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوّض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72]، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} [يونس: 104]، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] وفي معناه أوجه: أن أكون أوّل من أسلم في زماني ومن قومي، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأن أكون أوّل الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً. وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعاً، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأوّلية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعني: أن الله أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكلّ شوب، بدليل العقل والوحي. فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه.
فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} وقوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} قلت: ليس بتكرير؛ لأنّ الأوّل إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص.
والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصاً له دينه، ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأوّل فالكلام أوّلاً واقع في الفعل نفسه، وإيجاده، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله: {فاعبدوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. قل إنّ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه: هم {الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها (و) خسروا {وأَهْلِيهِمْ} لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعني: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله: {أَلاَ ذلك هُوَ الخسران المبين} حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين.