فصل: تفسير الآيات (258- 259):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (258- 259):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}
{أَلَمْ تَرَ} تعجيب من محاجة نمروذ في الله وكفره به {أَنْ آتاه الله الملك} متعلق بحاجَّ على وجهين:
أحدهما حاجّ لأن آتاه الله الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوَّ فحاجّ لذلك، أو على أنه وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه الله الملك، فكأن المحاجة كانت لذلك، كما تقول: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ونحوه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 82].
والثاني: حاجّ وقت أن آتاه الله الملك.
فإن قلت: كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر؟ قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا. وقيل: ملكه امتحاناً لعباده. و{إِذْ قَالَ} نصب بحاج أو بدل من آتاه إذ جعل بمعنى الوقت {أَنَاْ أُحْىِ وَأُمِيتُ} يريد أعفو عن القتل وأقتل. وكان الاعتراض عتيداً ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء. وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وقريء: {فبهت الذي كفر} أي فغلب إبراهيم الكافر.
وقرأ أبو حيوة: {فبهت}، بوزن قرب. وقيل: كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ، ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال له: من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت. {أَوْ كالذى} معناه. أو أرأيت مثل الذي مرَّ فحذف لدلالة {أَلَمْ تَرَ} عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب. ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية. والمارّ كان كافراً بالبعث، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي: (أنى يُحْيىِ). وقيل: هو عزير أو الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. وقوله: {أَنَّى يُحْىِ} اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي. والقرية: بيت المقدس حين خربه بختنصر. وقيل: هي التي خرج منها الألوف {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} تفسيره فيما بعد {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بناء على الظن. روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يوماً، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم.
وروي: أن طعامه كان تيناً وعنباً. وشرابه عصيراً أو لبناً، فوجد التين والعنب كما جنيا، والشراب على حاله {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير، والهاء أصلية أو هاء سكت. واشتقاقه من السنة على الوجهين، لأن لامها هاء أو واو، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان. وقيل: أصله يتسنن، من الحمأ المسنون، فقلبت نونه حرف علة، كتقضي البازي. ويجوز أن يكون معنى {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم تمرّ عليه السنون التي مرت عليه، يعني هو بحاله كما كان كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد الله: {فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسن}.
وقرأ أبيّ: {لم يسَّنه}، بإدغام التاء في السين {وانظر إلى حِمَارِكَ} كيف تفرّقت عظامه ونخرت، وكان له حمار قد ربطه. ويجوز أن يراد: وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير {وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ} فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه، وقيل: أتى قومه راكب حماره وقال: أنا عزير، فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة فأخذ يهذها هذاً عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب، فما خرم حرفاً، فقالوا: هو ابن الله. ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير، فذلك كونه آية. وقيل: رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب، فإذا حدّثهم بحديث قالوا: حديث مائة سنة {وانظر إِلَى العظام} هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم {كَيْفَ نُنشِزُهَا} كيف نحييها.
وقرأ الحسن: {ننشرها}، من نشر الله الموتى، بمعنى: أنشرهم فنشروا، وقريء بالزاي، بمعنى نحرّكها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب. وفاعل (تَّبَيَّنَ) مضمر تقديره: فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً. ويجوز: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعني أمر إحياء الموتى.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {فلما تبين له} على البناء للمفعول. وقرئ: {قال اعلم}، على لفظ الأمر: وقرأ عبد الله: {قيل اعلم}.
فإن قلت: فإن كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه الله؟ قلت: كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافراً.

.تفسير الآية رقم (260):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
{أَرِنِى} بصرني، فإن قلت: كيف قال له {أَوَ لَمْ تُؤْمِنَ} وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؟ قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. و{بلى} إيجاب لما بعد النفي، معناه بلى آمنت {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك.
فإن قلت: بم تعلقت اللام في {لّيَطْمَئِنَّ}؟ قلت: بمحذوف تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب {فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير} قيل: طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} بضم الصاد وكسرها بمعنى فأملهنّ واضممهنّ إليك قال:
وَلكنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا

وقال:
وَفَرْعٍ يَصيرُ الجْيِدَ وَحْفٍ كَأنَّه ** عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ

وقرأ ابن عباس رضي الله عنه {فصرهن} بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء، من صره يصره ويصره إذا جمعه، نحو ضره ويضره ويضره. وعنه {فصرّهن} من التصرية وهي الجمع أيضاً {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} يريد: ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال. والمعنى: على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك. وقيل: كانت أربعة أجبل.
وعن السدّي: سبعة {ثُمَّ ادعهن} وقل لهن: تعالين بإذن الله {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن.
فإن قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت: ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ولذلك قال: يأتينك سعياً.
وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رؤسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال، على كل جبل ربعاً من كل طائر. ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤسهن، كل جثة إلى رأسها. وقريء: {جزأ} بضمتين. {وجّزّاً}، بالتشديد. ووجهه أنه خفف بطرح همزته، ثم شدد كما يشدد في الوقف، إجراء للوصل مجرى الوقف.

.تفسير الآية رقم (261):

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}
{مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ} لابد من حذف مضاف، أي مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة. والمنبت هو الله، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل، أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف، كأنها ماثلة بين عيني الناظر.
فإن قلت: كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحاً على سبيل الفرض والتقدير: فإن قلت: هلا قيل: سبع سنبلات، على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال: {وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ} [يوسف: 53]؟ قلت: هذا لما قدمت عند قوله: {ثلاثة قُرُوءٍ} [البقرة: 228] من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها {والله يضاعف لِمَن يَشَاءُ} أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، لتفاوت أحوال المنفقين. أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك.

.تفسير الآية رقم (262):

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}
المن: أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له: وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم:
وَإنّ امْرَأً أَسْدَى إلَىَّ صَنِيعَةً ** وَذَكّرَنِيهَا مَرَّةً لَلئِيمُ

وفي نوابغ الكلم: صنوان من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضنّ. وفيها طعم الآلاء أحلى من المنّ وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ. والأذى: أن يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه: ومعنى (ثم) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله: {ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30].
فإن قلت: أي فرق بين قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} وقوله فيما بعد: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ}؟ قلت: الموصول لم يضمن هاهنا معنى الشرط. وضمنه ثمة. والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة.

.تفسير الآيات (263- 264):

{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ردّ جميل {وَمَغْفِرَةٌ} وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤل أو: ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل، أو: وعفو من جهة السائل لأنه إذا ردّه ردّا جميلاً عذره {خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًىً} وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة {والله غَنِىٌّ} لا حاجة به إلى منفق يمنُّ ويؤذي {حَلِيمٌ} عن معاجلته بالعقوبة، وهذا سخط منه ووعيد له. ثم بالغ في ذلك بما أتبعه {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ} أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله {رِئَاءَ الناس} لا يريد بإنفاقه رضاء الله ولا ثواب الآخرة {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان بحجر أملس عليه تراب.
وقرأ سعيد بن المسيب: {صفوان} بوزن كروان {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} مطر عظيم القطر {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه. ومنه: صلد جبين الأصلع إذا برق {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْء مّمَّا كَسَبُواْ} كقوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال: أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق.
فإن قلت: كيف قال: {لاَّ يَقْدِرُونَ} بعد قوله: {كالذى يُنفِقُ}؟ قلت: أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق، ولأن (من) و (الذي) يتعاقبان فكأنه قيل: كمن ينفق.

.تفسير الآية رقم (265):

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
{وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح. وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان؛ لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها، وبالعكس، فكان إنفاق المال تثبيتاً لها على الإيمان واليقين. ويجوز أن يراد: وتصديقاً للإسلام. وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم؛ لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه. {ومن} على التفسير الأوّل للتبعيض، مثلها في قولهم: هز من عطفه، وحرك من نشاطه. وعلى الثاني لابتداء الغاية، كقوله تعالى: {حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] ويحتمل أن يكون المعنى: وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه. وتعضده قراءة مجاهد: {وتبيينا من أنفسهم}.
فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها {وتجاهدون فِي سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11] والمعنى: ومثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله {كَمَثَلِ جَنَّةِ} وهي البستان {بِرَبْوَةٍ} بمكان مرتفع. وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر عظيم القطر {فَأَتَتْ أُكُلَهَا} ثمرتها {ضِعْفَيْنِ} مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها. أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطلّ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع زاكية عند الله، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده. وقرئ: {كمثل حبة}، و {بربوة} بالحركات الثلاث و {أكلها} بضمتين.