فصل: تفسير الآيات (17- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (17- 33):

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}
إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم {كَمَا بلونا أصحاب الجنة} وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين، فكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم شيء كثير، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خفية عن المساكين، ولم يستثنوا في يمينهم، فأحرق الله جنتهم. وقيل: كانوا من بني إسرائيل {مُصْبِحِينَ} داخلين في الصبح مبكرين {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ (18)} ولا يقولون إن شاء الله.
فإن قلت: لم سمي استثناء، وإنما هو شرط؟ قلت: لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء، من حيث إن معنى قولك: لأخرجنّ إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله. واحد {فَطَافَ عَلَيْهَا} بلاء أو هلاك {طَآئِفٌ} كقوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] وقرئ: {طيف} {فَأَصْبَحَتْ كالصريم (20)} كالمصرومة لهلاك ثمرها. وقيل: الصريم الليل، أي. احترقت فاسودت. وقيل: النهار أي: يبست وذهبت خضرتها. أو لم يبق شيء فيها، من قولهم: بيض الإناء، إذا فرغه.
وقيل الصريم الرمال {صارمين} حاصدين.
فإن قلت: هلا قيل: اغدوا إلى حرثكم؛ وما معنى (على)؟ قلت: لما كان الغدوّ إليه ليصرموه ويقطعوه: كان غدوّا عليه، كما تقول: غداً عليهم العدوّ. ويجوز أن يضمن الغدوّ معنى الإقبال، كقولهم: يفدى عليه بالجفنة ويراح، أي: فأقبلوا على حرثكم باكرين {يتخافتون} يتسارّون فيما بينهم. وخفى، وخفت، وخفد: ثلاثتها في معنى الكتم؛ ومنه الخفدود للخفاش {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أن مفسرة.
وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول، أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها؛ والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه، أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك: لا أرينك ههنا. الحرد: من حردت السنة إذا منعت خيرها؛ وحردت الإبل إذا منعت درّها. والمعنىّ: وغدوا قادرين على نكد، لا غير عاجزين عن النفع، يعني أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم، فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة. أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين، بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها، أي: غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع، أو لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم: عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها، فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد.
و{قادرين} من عكس الكلام للتهكم، أي: قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين، وعلى حرد ليس بصلة قادرين، وقيل: الحرد بمعنى الحرد. وقرئ: {على حرد}، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض، كقوله تعالى: {يتلاومون} [القلم: 30] وقيل: الحرد القصد والسرعة؛ يقال: حردت حردك. وقال:
أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ أمرِ اللَّهْ ** يَحْرُدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ اْلمُغْلَّةْ

وقطا حراد: سراع، يعني: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط، قادرين عند أنفسهم، يقولون: نحن نقدر على صرامها وزيّ منفعتها عن المساكين. وقيل: {حَرْدٍ} علم للجنة، أي غدواً على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم. أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان {قَالُواْ} في بديهة وصولهم {إِنَّا لَضَالُّونَ} أي ضللنا جنتنا، وما هي بها لما رأوا من هلاكها؛ فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا {أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم وخيرهم، من قولهم: هو من سطة قومه، وأعطني من سطات مالك. ومنه قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. {لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، كأن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعواإلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فعيرهم. والدليل عليه قولهم: {سبحان رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين} فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة، ولكن بعد خراب البصرة. وقيل: المراد بالتسبيح. الاستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأنّ الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه له؛ وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم.
وعن الحسن: هو الصلاة، كأنهم كانوا يتوانون في الصلاة؛ وإلاّ لنهتهم عن الفحشاء والمنكر، ولكانت لهم لطفاً في أن يستثنوا ولا يحرموا {سُبْحَانَ رَبِّنَآ} سبحوا الله ونزهوه عن الظلم وعن كل قبيح، ثم اعترفوا بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء {يتلاومون} يلوم بعضهم بعضاً؛ لأنّ منهم من زين، ومنهم من قبل، ومنهم من أمر بالكف وعذر ومنهم من عصى الأمر، ومنهم من سكت وهو راض {أَن يُبْدِلَنَا} قرئ بالتشديد والتخفيف {إلى رَبّنَا راغبون} طالبون منه الخير راجون لعفوه {كَذَلِكَ العذاب} مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا {وَلَعَذَابُ الأخرة} أشد وأعظم منه، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعباً.
وعن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيراً منها.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان: فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً.

.تفسير الآية رقم (34):

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)}
{عِندَ رَبِّهِمْ} أي في الآخرة {جنات النعيم} ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا.

.تفسير الآيات (35- 39):

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)}
كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا، فقيل: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين. ثم قيل لهم على طريقة الالتفات {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} هذا الحكم الأعوج؟ كأنّ أمر الجزاء مفوّض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم {أَمْ لَكُمْ كتاب} من السماء {تَدْرُسُونَ} في ذلك الكتاب أنّ ما تختارونه وتشتهونه لكم، كقوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ (156)} فأتوا بكتابكم والأصل تدرسون أنّ لكم ما تخيرون، بفتح أنّ؛ لأنه مدروس؛ فلما جاءت اللام كسرت. ويجوز أن تكون حكاية للدروس، كما هو، كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأخرين (78) سلام على نُوحٍ فِي العالمين (79)} [الصافات: 78- 79]. وتخير الشيء واختاره: أخذ خيره، ونحوه: تنخله وانتخله: إذا أخذ منخوله. لفلان عليّ يمين بكذا: إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به، يعني: أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد فإن قلت: بم يتعلق {إلى يَوْمِ القيامة}؟ قلت: بالقدر في الظرف، أي: هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذٍ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون. ويجوز أن يتعلق ببالغة، على أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم.
وقرأ الحسن {بالغة} بالنصب على الحال من الضمير في الظرف {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جواب القسم؛ لأنّ معنى {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} أم أقسمنا لكم.

.تفسير الآيات (40- 41):

{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)}
{أَيُّهُم بذلك} الحكم {زَعِيمٌ} أي قائم به وبالاحتجاج لصحته، كما يقوم الزعيم المتكلم عن القوم المتكفل بأمورهم {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم عليه ويذهبون مذهبهم فيه {فَلْيَأْتُواْ} بهم {إِن كَانُواْ صادقين} في دعواهم، يعني: أنّ أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به.

.تفسير الآيات (42- 43):

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}
الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام: مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب، وإبداء خدامهن عند ذلك. قال حاتم:
أَخُو الْحَرْبِ إنْ غَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ** وَإنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا

وقال ابن الرقيات:
تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي ** عَنْ خِدَامِ الْعَقِيلَةِ الْعَذْرَاءِ

فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} في معنى: يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كماتقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل؛ وإنما هو مثل في البخل. وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان، والذي غرّه منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «يكشف الرحمن عن ساقه؛ فأمّا المؤمنون فيخرّون سجداً، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً كأنّ فيها سفافيد» ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن.
فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف، كقوله: {يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شَيْء نُّكُرٍ} [القمر: 6] كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل؛ ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل: وعن أبي عبيدة: خرج من خراسان رجلان، أحدهما: شبه حتى مثل، وهو مقاتل بن سليمان، والآخر نفي حتى عطل وهو جهم بن صفوان؛ ومن أحس بعظم مضارّ فقد هذا العلم علم مقدار عظم منافعه. وقرئ: {يوم نكشف} بالنون. وتكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً، والفعل للساعة أو للحال، أي: يوم تشتدّ الحال أو الساعة، كما تقول: كشفت الحرب عن ساقها، على المجاز. وقرئ: {تكشف} بالتاء المضمومة وكسر الشين، من أكشف: إذا دخل في الكشف. ومنه. أكشف الرجل فهو مكشف، إذا انقلبت شفته العليا. وناصب الظرف: فليأتوا. أو إضمار (اذكر) أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت، فحذف للتهويل البليغ. وإن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمه. عن ابن مسعود رضي الله عنه: تعقم أصلابهم واحداً، أي ترد عظاماً بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض. وفي الحديث: وتبقى أصلابهم طبقا واحدا، أيّ، فقارة واحدة.
فإن قلت: لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟ قلت: لا يدعون إليه تعبداً وتكليفاً، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا، مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيراً لهم وتنديماً على ما فرّطوا فيه حين دعوا إلى السجود، وهم سالمون الأصلاب والمفاصل يمكنون مزاحو العلل فيما تعبدوا به.

.تفسير الآيات (44- 45):

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}
يقال: ذرني وإياه، يريدون كله إليّ، فإني أكفيكه، كأنه يقول: حسبك إيقاعاً به أن تكل أمره إليّ وتخلي بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له، والمراد: حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديداً للمكذبين. استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورّطه فيه. واستدراج الله العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقاً إلى ازدياد الكفر والمعاصي {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم، لأنهم يحسبونه إيثاراً لهم وتفضيلاً على المؤمنين، وهو سبب لهلاكهم {وَأُمْلِى لَهُمْ} وأمهلهم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178] والصحة والرزق والمدّ في العمر: إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم، فلما تدرّجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. وقيل: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. وسمي إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً، لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للتورّط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوّة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.