فصل: تفسير الآيات (74- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (74- 76):

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}
{يَشْرُونَ} بمعنى يشترون ويبيعون قال ابن مفرغ:
وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ** مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ

فالذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة هم المبطئون، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ويجاهدوا من سبيل الله حق الجهاد، والذين يبيعون هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، والمعنى: إن صدّ الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون ووعد المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله {والمستضعفين} فيه وجهان أن يكون مجروراً عطفاً على سبيل الله أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين ومنصوباً على اختصاص يعني واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين لأنّ سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر، ولما خرج استعمل على أهل مكة عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا، قال ابن عباس: كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة.
فإن قلت: لم ذكر الولدان؟ قلت: تسجيلاً بإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء، وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان، ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر، وبالولدان العبيد والإماء، لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة، وقيل للولدان والولائد (الولدان) لتغليب الذكور على الإناث كما يقال الآباء والإخوة.
فإن قلت: لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث؟ قلت: هو وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها. فأعطي إعراب القرية لأنه صفتها، وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول من هذه القرية التي ظلم أهلها، ولو أنث فقيل: الظالمة أهلها، لجاز لا لتأنيث الموصوف، ولكن لأن الأهل يذكر ويؤنث.
فإن قلت: هل يجوز من هذه القرية الظالمين أهلها؟ قلت: نعم، كما تقول: التي ظلموا أهلها، على لغة من يقول: أكلوني البراغيث. ومنه {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3]، رغب الله المؤمنين ترغيباً وشجعهم تشجيعاً بإخبارهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله. فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا وليّ لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه.

.تفسير الآية رقم (77):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)}
{كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} أي كفوها عن القتال وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن مقاتلة الكفار ما داموا بمكة، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} بالمدينة كع فريق منهم لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفوراً من الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت {كَخَشْيَةِ الله} من إضافة المصدر إلى المفعول، فإن قلت: ما محل (كخشية الله) من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في (يخشون) أي يخشون الناس مثل أهل خشية الله، أي مشبهين لأهل خشية الله {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} بمعنى أو أشد خشية من أهل خشية الله، وأشد معطوف على الحال.
فإن قلت: لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدر يخشون خشية مثل خشية الله، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ قلت: أبى ذلك قوله: {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} لأنه وما عطف عليه في حكم واحد، ولو قلت يخشون الناس أشد خشية؟ لم يكن إلا حال عن ضمير الفريق ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول أشد خشية فتجرّها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالاً منه، اللَّهم إلا أن تجعل الخشية خاشية وذات خشية، على قولهم جد جده فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية الله، أو خشية أشد خشية من خشية الله، ويجوز على هذا أن يكون محل (أشد) مجروراً عطفاً على (خشية الله) تريد كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقت آخر، كقوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 15]. {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتال فلا ترغبوا عنه، وقرئ: {ولا يظلمون}، بالياء.

.تفسير الآيات (78- 79):

{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}
قرئ {يدركُكم} بالرفع وقيل: هو على حذف الفاء، كأنه قيل: فيدرككم الموت، وشبه بقول القائل:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ للَّهُ يَشْكُرُهَا

ويجوز أن يقال: حمل على ما يقع موقع {أَيْنَمَا تَكُونُواْ}، وهو أينما كنتم، كما حمل (ولا ناعب)، على ما يقع موقع (ليسوا مصلحين) وهو ليسوا بمصلحين، فرفع كما رفع زهير:
يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ

وهو قول نحوي سيبوي. ويجوز أن يتصل بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي ولا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم. أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، ثم ابتدأ قوله: {يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} والوقف على هذا الوجه على (أينما تكونوا).
والبروج: الحصون. مشيدة مرفعة. وقرئ {مشيَّدة} من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجصّ.
وقرأ نعيم بن ميسرة {مشيدة} بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً كما قالوا: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر قارضها. السيئة تقع على البلية والمعصية. والحسنة على النعمة والطاعة. قال الله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 198] وقال: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْن السيآت} [هود: 114]. والمعنى: وإن تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى الله، وإن تصبهم بلية من قحط وشدة أضافوها إليك وقالوا: هي من عندك، وما كانت إلا بشؤمك، كما حكى الله عن قوم موسى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] وعن قوم صالح: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النمل: 47] وروي عن اليهود لعنت أنها تشاءمت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فردّ الله عليهم {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} فيعلموا أن الله هو الباسط القابض، وكل ذلك صادر عن حكمة وصواب ثم قال {مَا أَصَابَكَ} يا إنسان خطاباً عاماً {مِنْ حَسَنَةٍ} أي من نعمة وإحسان {فَمِنَ الله} تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً وامتحاناً {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} أي من بلية ومصيبة {فمن نفسك}، لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِير} [الشورى: 30] وعن عائشة رضي الله عنها: «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر» {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي رسولاً للناس جميعاً لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم، كقوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28]، {قُلْ ياأَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، {وكفى بالله شَهِيداً} على ذلك، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك.

.تفسير الآية رقم (80):

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}
{مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة لله، وروي أنه قال: «من أحبني فقد أحبّ الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل، لقد قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد غير الله! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فنزلت: {وَمَن تولى} عن الطاعة فأعرض عنه {فَمَا أرسلناك} إلا نذيراً، لا حفيظاً ومهيمناً عليهم تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم، كقوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107].

.تفسير الآية رقم (81):

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}
{وَيَقُولُونَ} إذا أمرتهم بشيء {طَاعَةٌ} بالرفع أي أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة. وهذا من قول المرتسم: سمعاً وطاعة. وسمع وطاعة. ونحوه قول سيبويه: وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال أمري وشأني حمد الله. ولو نصب حمد الله وثناء عليه. كان على الفعل والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها {بَيَّتَ طَائِفَةٌ} زورت طائفة وسوت {غَيْرَ الذى تَقُولُ} خلاف ما قلت وما أمرت به. أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطلوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة. وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. والتبييت: إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، يقال: هذا أمر بيت بليل. وإما من أبيات الشعر، لأن الشاعر يدبرها ويسويها {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} يثبته في صحائف أعمالهم، ويجازيهم عليه على سبيل الوعيد. أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن إبطانهم يغني عنهم {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تحدّث نفسك بالانتقام منهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في شأنهم، فإنّ الله يكفيك معرّتهم وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعز أنصاره. وقرئ {بيت طائفة} بالإدغام وتذكير الفعل، لأنّ تأنيث الطائفة غير حقيقي، ولأنها في معنى الفريق والفوج.

.تفسير الآية رقم (82):

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
تدبُّر الأمر: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل؛ فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه {لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} لكان الكثير منه مختلفاً متناقضاً قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغاً حدّ الإعجاز، وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته، وبعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخباراً مخالفاً للمخبر عنه، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني. وبعضه دالاً على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه.
فإن قلت: أليس نحو قوله: {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 107]، {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل: 10]، {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39] من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلاف عند المتدبرين.

.تفسير الآيات (83- 84):

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}
هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور. كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل {أَذَاعُواْ بِهِ} وكانت إذاعتهم مفسدة، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر منهم- وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- {لَعَلِمَهُ} لعلم تدبير ما أخبروا به {الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ} الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعتهم مفسدة. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوّضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالاً على المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر، أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال: أذاع السِّر، وأذاع به. قال:
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ** بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوب

ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ من أذاعوه، وقرئ {لعلْمِه} بإسكان اللام كقوله:
فَإِنْ أَهْجُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ** مِنَ الأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهْ

والنبط: الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، وإنباطه واستنباطه: إخراجه واستخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وهو إرسال الرسول، وإنزال الكتاب، والتوفيق {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} لبقيتم على الكفر {إِلاَّ قَلِيلاً} منكم. أو إلا اتباعا قليلاً، لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها. قال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} إن أفردوك وتركوك وحدك {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلوِ على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وقرئ {لاَ تُكَلَّفُ} بالجزم على النهي، و {لا نكلف}: بالنون وكسر اللام، أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها {وَحَرِّضِ المؤمنين} وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب، لا التعنيف بهم {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} وهم قريش، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبي سفيان وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم {والله أَشَدُّ بَأْساً} من قريش {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} تعذيباً.