فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (70):

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}
{لَقَدْ أَخَذْنَا} ميثاقهم بالتوحيد {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ} جملة شرطية وقعت صفة لرسلاً، والراجع محذوف أي رسول منهم {بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع.
فإن قلت: أين جواب الشرط فإن قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت؟ قلت: هو محذوف يدل عليه قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} كأنه قيل كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه، وقوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ} جواب مستأنف لقائل يقول: كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت: جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها. قرئ: أن لا يكون، بالنصب على الظاهر. وبالرفع عن (أن) هي المخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يكون فتنة فخففت (أن) وحذف ضمير الشأن.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}
فإن قلت: كيف دخل فعل الحسبان على (أن) التي للتحقيق؟ قلت: نزل حسبانهم لقوّته في صدورهم منزلة العلم: فإن قلت: فأين مفعولا حسب؟ قلت: سدّ ما يشتمل عليه صلة أن وأنّ من المسند والمسند إليه مسدّ المفعولين، والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم من الله فتنة، أي بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة {فَعَمُواْ} عن الدين {وَصَمُّواْ} حين عبدوا العجل، ثم تابوا عن عبادة العجل ف {تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} كرة ثانية بطلبهم المحال غير المعقول في صفات الله وهو الرؤية: وقرئ: {عموا وصموا}، بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم، أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك وركبته إذا ضربته بركبتك {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} بدل من الضمير: أو على قولهم: أكلوني البراغيث، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم.

.تفسير الآية رقم (72):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)}
لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم، وهو احتجاج على النصارى {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله} في عبادته، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} التي هي دار الموحدين أي حرّمه دخولها ومنعه منه، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} من كلام الله على أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليه السلام، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ردّه وأنكره، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره. أو من قول عيسى عليه السلام، على معنى: ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول. أو و لا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله.

.تفسير الآيات (73- 75):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)}
من في قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} للاستغراق وهي القدرة مع (لا) التي لنفي الجنس في قولك {لاَ إله إِلاَّ الله} والمعنى: وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له، وهو الله وحده لا شريك له: و(من) في قوله: {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} للبيان كالتي في قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] فإن قلت: فهلا قيل: ليمسنهم عَذَابٌ أَلِيمٌ.
قلت: في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ} وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير (الذين كفروا منهم) أنهم بمكان من الكفر. والمعنى: ليمسنّ الذين كفروا من النصارى خاصة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي نوع شديد الألم من العذاب كما تقول: أعطني عشرين من الثياب، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون. ويجوز أن تكون للتبعيض، على معنى: ليمسنّ الذين بقوا على الكفر منهم، لأنّ كثيراً منهم تابوا من النصرانية {أَفَلاَ يَتُوبُونَ} ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر. وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه. وفيه تعجب من إصرارهم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفة لرسول، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر، وطمس على يد موسى. وإن خلقه من غير ذكر، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} أي وما أمه أيضاً إلا كصديقة كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما نبي، والآخر صحابي. فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه. ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام {كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الأيات} أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم: {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله.
فإن قلت: ما معنى التراخي في قوله ثم انظر؟ قلت: معناه ما بين العجبين، يعني أنه بين لهم الآيات بياناً عجيباً، وإنّ إعراضهم عنها أعجب منه.

.تفسير الآية رقم (76):

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}
{مَا لاَ يَمْلِكُ} هو عيسى، أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، ولأنّ كل ما يستطيعه البشر من المضارّ والمنافع فبإقدار الله وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئاً. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً. وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته {والله هُوَ السميع العليم} متعلق ب (أتعبدون)، أي أتشركون بالله ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر.

.تفسير الآية رقم (77):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}
{غَيْرَ الحق} صفة للمصدر أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق أي غلوا باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوَّان غلوّ حق: وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان الله عليهم. وغلوّ باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه، كما يفعل أهل الأهواء والبدع {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} هم أئمتهم في النصرانية، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} ممن شايعهم على التثليث {وَضَلُّواْ} لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم {عَن سَوَاء السبيل} حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.

.تفسير الآيات (78- 81):

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
نزّل الله لعنهم في الزبور {على لِسَانِ دَاوُودُ} وفي الإنجيل على لسان عيسى.
وقيل إن أهل أيلة، لما اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللَّهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام: اللَّهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل، ما فيهم امرأة ولا صبيّ {ذلك بِمَا عَصَواْ} أي لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ، إلا لأجل المعصية والاعتداء، لا لشيء آخر؛ ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله: {كَانُواْ لاَ يتناهون} لا ينهى بعضهم بعضاً {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} ثم قال: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} للتعجيب من سوء فعلهم، مؤكداً لذلك بالقسم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبثهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب. فإن قلت كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأنّ في التناهي حسماً للفساد فكان تركه على عكسه.
فإن قلت: ما معنى وصف المنكر بفعلوه، ولا يكون النهي بعد الفعل؟ قلت: معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن يراد: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه {ترى كَثِيراً مّنْهُمْ} هم منافقو أهل الكتاب، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} هو المخصوص بالذمّ، ومحله الرفع، كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم. والمعنى: موجب سخط الله {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ} إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين {أَوْلِيَاء} يعني أنّ موالاة المشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم، وأنّ إيمانهم ليس بإيمان {ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون} متمرّدون في كفرهم ونفاقهم.
وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدّعون، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون.

.تفسير الآيات (82- 86):

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}
وصف الله شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} [البقرة: 96] ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً} أي علماء وعباداً {وَإِنَّهُمْ} قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك. وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين، وكذلك غم الآخرة والتحدّث بالعاقبة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني. ووصفهم الله برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن، وذلك نحو ما يحكى عن النجاشيّ رضي الله عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب- حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده-: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، فقرأها إلى قوله: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} [مريم: 34] وقرأ سورة طه إلى قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} [طه: 9] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس. فبكوا.
فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله: {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ}؟ قلت: بعداوة ومودّة، على أنّ عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودّات، وأدناها وجوداً، وأسهلها حصولاً. ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب.
فإن قلت: ما معنى قوله: {تَفِيضُ مِنَ الدمع} قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الإمتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أي تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً فإن قلت: أي فرق بين من ومن في قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}؟ قلت الأولى لابتداء الغاية، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه. والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا. وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كله وقرؤا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرئ {ترى أعينهم} على البناء للمفعول {رَبَّنَا ءامَنَّا} المراد به إنشاء الإيمان، والدخول فيه {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة.
{لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143] وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين، وقيل: لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك. أو أرادوا: وما لنا لا نؤمن بالله وحده لأنهم كانوا مثلثين، وذلك ليس بإيمان بالله: ومحل (لا نؤمن) النصب على الحال، بمعنى: غير مؤمنين، كقولك مالك قائماً. والواو في {وَنَطْمَعُ} واو الحال.
فإن قلت: ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيداً بالحال الأولى؛ لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا ونطمع، لم يكن كلاماً. ويجوز أن يكون (ونطمع) حالاً من لا نؤمن، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا يوحدون الله، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، وأن يكون معطوفاً على لا نؤمن على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصاحين، أو على معنى: وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين. قرأ الحسن: {فآتاهم} {بِمَا قَالُواْ} بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان، أي اعتقاده وما يذهب إليه.