فصل: تفسير الآية رقم (21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (21):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}
لما عدّد الله تعالى فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها عند الله ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من الالتفات المذكور عند قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ}، وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث لكما: إنّ فلاناً من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، وتستوي على جادّة السداد في مصادرك ومواردك. نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ما لاً يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول، وبلغنا بإسناد صحيح عن إبراهيم عن علقمة: أنّ كل شيء نزل فيه: (يا أيها الناس) فهو مكي، و(يا أيها الذين آمنوا) فهو مدني، فقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) خطاب لمشركي مكة، و (يا) حرف وضع في أصله لنداء البعيد، صوت يهتف به الرجل بمن يناديه. وأما نداء القريب فله أي والهمزة، ثم استعمل في مناداة من سها وغفل وإن قرب. تنزيلاً له منزلة من بعد، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً.
فإن قلت: فما بال الداعي يقول في جؤاره: يا رب، ويا ألله، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأسمع به وأبصر؟ قلت: هو استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها من مظانّ الزلفى وما يقرّبه إلى رضوان الله ومنازل المقرّبين، هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتفريط في جنب الله، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والإذن لندائه وابتهاله، و (أي) وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أنّ (ذو) و (الذي) وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل. وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يوضحه ويزيل إبهامه، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يصح المقصود بالنداء، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو (أي) والاسم التابع له صفته، كقولك: يا زيد الظريف؛ إلا أن (أيا) لا يستقل بنفسه استقلال (زيد) فلم ينفك من الصفة. وفي هذا التدرّج من الإبهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد. وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين: معاضدة حرف النداء ومكانفته بتأكيد معناه، ووقوعها عوضاً مما يستحقه أيّ من الإضافة.
فإن قلت: لم كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؟ قلت: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة: لأن كل ما نادى الله له عباده من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون.
فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ.
فإن قلت: لا يخلو الأمر بالعبادة من أن يكون متوجهاً إلى المؤمنين والكافرين جميعاً، أو إلى كفار مكة خاصة، على ما روي عن علقمة والحسن، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون به؟ وهل هو إلا كقول القائل:
فلَو أنِّي فعلت كُنْتُ مَنْ ** تَسْأَلُهُ وهُوَ قائمٌ أنْ يَقُوما

وأما الكفار فلا يعرفون الله، ولا يقرّون به فكيف يعبدونه؟ قلت: المراد بعبادة المؤمنين: ازديادهم منها وإقبالهم وثباتهم عليها. وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بدلها منه وهو الإقرار، كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرهما وما لابد للفعل منه، فهو مندرج تحت الأمر به وإن لم يذكر، حيث لم ينفعل إلا به، وكان من لوازمه. على أنّ مشركي مكة كانوا يعرفون الله ويعترفون به {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87].
فإن قلت: فقد جعلت قوله {اعبدوا} متناولاً شيئين معاً: الأمر بالعبادة، والأمر بازديادها.
قلت: الازدياد من العبادة عبادة وليس شيئاً آخر.
فإن قلت: {رَبَّكُمُ} ما المراد به؟ قلت: كان المشركون معتقدين ربوبيتين: ربوبية الله، وربوبية آلهتهم. فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أرباباً وكان قوله: {الذى خَلَقَكُمْ} صفة موضحة مميزة. وإن كان الخطاب للفرق جميعاً، فالمراد به (ربكم) على الحقيقة. والذي خلقكم: صفة جرت عليه على طريق المدح والتعظيم. ولا يمتنع هذا الوجه في خطاب الكفرة خاصة، إلا أن الأول أوضح وأصح. والخلق: إيجاد الشيء على تقدير واستواء. يقال: خلق النعل، إذا قدره وسواها بالمقياس.
وقرأ أبو عمرو: {خَلَقَكُمْ} بالإدغام.
وقرأ ابن السميفع: وخلق من قبلكم. وفي قراءة زيد بن علي: (والذين مِن قَبْلِكُمْ) وهي قراءة مشكلة، ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله:
يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أَبَالَكُمُ

تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في: لا أبالك: ولعل للترجي أو الإشفاق. تقول: لعل زيداً يكرمني. ولعله يهينني. وقال الله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44]، {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17]. ألا ترى إلى قوله: {والذين ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18]. وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم، إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به.
قال من قال: إن (لعل) بمعنى (كي)، و (لعل) لا تكون بمعنى (كي). ولكن الحقيقة ما ألقيت إليك. وأيضاً فمن ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا: عسى، ولعل، ونحوهما من الكلمات أو يخيلوا إخالة. أو يظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة، فإذا عثر على شيء من ذلك منهم، لم يبق للطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب. فعلى مثله ورد كلام مالك الملوك ذي العز والكبرياء. أو يجيء على طريق الإطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد، كقوله: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم} [التحريم: 8]، فإن قلت: ف (لعل) التي في الآية ما معناها وما موقعها؟ قلت: ليست مما ذكرناه في شيء، لأن قوله: {خَلَقَكُمْ}، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، لا يجوز أن يحمل على رجاء الله تقواهم لأن الرجاء لا يجوز على عالم الغيب والشهادة: وحمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد أيضاً. ولكن (لعل) واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى. فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتقوا يترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، ومصداقه قوله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7]، [الملك: 2] وإنما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار.
فإن قلت: كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبلهم لذلك، فلم قصره عليهم دون من قبلهم؟ قلت: لم يقصره عليهم، ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً.
فإن قلت: فهلا قيل تعبدون لأجل اعبدوا؟ أو اتقوا لمكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم.
قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدّي ذلك إلى تنافر النظم. وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده. فإذا قال: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ} للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة، وأشدّ إلزاماً لها، وأثبت لها في النفوس. ونحوه أن تقول لعبدك: احمل خريطة الكتب، فما ملكتك يميني إلا لجرّ الأثقال. ولو قلت: لحمل خرائط الكتب لم يقع من نفسه ذلك الموقع.

.تفسير الآية رقم (22):

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلاً؛ لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما، ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الذي لابد لهم منه، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه، ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار، ثم ما سوّاه عزّ وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها. والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقاً لبني آدم، ليكون لهم ذلك معتبراً: ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف؛ ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأن شيئاً من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك أن لابد لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر. والموصول مع صلته إمّا أن يكون في محل النصب وصفاً كالذي خلقكم، أو على المدح والتعظيم. وإمّا أن يكون رفعاً على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح، وقرأ يزيد الشامي: بساطاً.
وقرأ طلحة: مهادا. ومعنى جعلها فراشاً وبساطاً ومهاداً للناس: أنهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده.
فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الأرض مسطحة وليست بكريّة؟ قلت: ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش، وسواء كانت على شكل السطح، أو شكر الكرة، فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع، لعظم حجمها واتساع جرمها وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهلاً في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل. والبناء مصدر سمي به المبنى بيتاً كان أو قبة أو خباء أو طرافاً وأبنية العرب: أخبيتهم، ومنه بنى على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديداً.
فإن قلت: ما معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرته ومشيئته؟ قلت: المعنى أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادّة لها، كماء الفحل في خلق الولد، وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا موادّ كما أنشأ نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال، وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة حكماً ودواعي يجدد فيها لملائكته والنظار بعيون الاستبصار من عباده عبرا وأفكاراً صالحة، وزيادة طمأنينة، وسكون إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته، ليس ذلك في إنشائها بغتة من غير تدريج وترتيب. و (من) في {مِنَ الثمرات} للتبعيض بشهادة قوله:
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثمرات} [الأعراف: 57]، وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} [فاطر: 27]. ولأنّ المنكرين أعني: ماء، ورزقاً. يكتنفانه. وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل: وأنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات، ليكون بعض رزقكم. وهذا هو المطابق لصحة المعنى، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات، ولا جعل الرزق كله في الثمرات. ويجوز أن تكون للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم ألفاً.
فإن قلت: فيم انتصب {رِزْقاً}؟ قلت: إن كانت (من) للتبعيض. كان انتصابه بأنه مفعول له. وإن كانت مبنية، كان مفعولاً لأخرج.
فإن قلت: فالثمر المخرج بماء السماء كثير جمّ فلم قيل الثمرات دون الثمر والثمار؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يقصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك: فلان أدركت ثمرة بستانه، تريد ثماره. ونظيره قولهم: كلمة الحويدرة، لقصيدته. وقولهم للقرية: المدرة، وإنما هي مدر متلاحق.
والثاني: أنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية، كقوله: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات} [الدخان: 25] و{ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 228]. ويعضد الوجه الأوّل قراءة محمد بن السميفع: من الثمرة، على التوحيد. و{لَكُمُ} صفة جارية على الرزق إن أريد به العين، وإن جعل اسماً للمعنى فهو مفعول به، كأنه قيل: رزقاً إياكم.
فإن قلت: بم تعلق {فَلاَ تَجْعَلُواْ}؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه: أن يتعلق بالأمر. أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له {أَندَاداً} لأنّ أصل العبادة وأساسها التوحيد، وأن لا تجعل لله ندّ ولا شريك. أو بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب، فأطلع في قوله عز وجل: {لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} [غافر: 36 37] في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، أو بالذي جعل لكم، إذا رفعته على الابتداء، أي هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تتخذوا له شركاء. والند: المثل. ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ. قال جرير:
أَتَيما يَجْعَلُون إلَيَّ نِدًّا ** وما تَيْمٌ لِذِي حَسَب نَدِيدَا

وناددت الرجل: خالفته ونافرته، من ندّ ندوداً إذا نفر. ومعنى قولهم: ليس لله ندّ ولا ضدّ نفى ما يسدّه مسدّه، ونفى ما ينافيه.
فإن قلت: كانوا يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظم به من القرب، وما كانوا يزعمون أنها تخالف الله وتناويه.
قلت: لما تقرّبوا إليها وعظموها وسموها آلهة، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادّته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم. كما تهكم بهم بلفظ الندّ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ندّ قط. وفي ذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه:
أَرَبًّا واحِداً أمْ ألْفُ رَبٍّ ** أدِينُ إذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ

وقرأ محمد بن السميفع: فلا تجعلوا لله ندا.
فإن قلت: ما معنى {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
قلت: معناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه. وهكذا كانت العرب، خصوصاً ساكنو الحرم من قريش وكنانة، لا يصطلي بنارهم في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها. ومفعول {تَعْلَمُونَ} متروك كأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة. والتوبيخ فيه آكد، أي أنتم العرّافون المميزون. ثم إنّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل. ويجوز أن يقدر: وأنتم تعلمون أنه لا يماثل. أو: وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت. أو: وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله. كقوله: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء} [الروم: 40].