فصل: تفسير الآيات رقم (222- 224)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏222- 224‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏‏}‏

ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح، وقال قتادة وغيره‏:‏ إنما سألوا لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد‏:‏ «كانوا يتجنبون النساء في الحيض ويأتونهن في أدبارهنّ فنزلت الآية في ذلك»، والمحيض مصدر كالحيض، ومثله المَقيل من قال يقيل، قال الراعي‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

بُنِيَتْ مَرَافِقُهنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ *** لا يستطيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلا

قال الطبري‏:‏ ‏{‏المحيض‏}‏ اسم الحيض، ومنه قول رؤبة في المعيش‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

إليك أشكوا شِدَّةَ المَعِيشِ *** وَمَرَّ أَعْوامٍ نَتَفْنَ ريشي

و ‏{‏أذى‏}‏ لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن من سبيل البول، وهذه عبارة المفسرين للفظة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا‏}‏ يريد جماعهن بما فسر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يشد الرجل إزار الحائض ثم شأنه بأعلاها، وهذا أصح ما ذهب إليه في الأمر، وبه قال ابن عباس وشريح وسعيد بن جبير ومالك وجماعة عظيمة من العلماء، وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ «الذي يجب اعتزاله من الحائض الفرج وحده» وروي ذلك عن عائشة والشعبي وعكرمة، وروي أيضاً عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهذا قول شاذ، وقد وقفت ابن عباس عليه خالته ميمونة رضي الله عنهما، وقالت له‏:‏ أرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ قرأ نافع وابن كثير وأبو كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه «يطْهُرْنَ» بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل عنه «يطَّهَّرْنَ» بتشديد الطاء والهاء وفتحهما، وفي مصحف أبيّ وعبد الله ‏{‏حتى يتطهرن‏}‏، وفي مصحف أنس بن مالك «ولا تقربوا النساء في محيضهن، واعتزلوهن حتى يتطهرن»، ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء وقال‏:‏ هي بمعنى يغتسلن لإجماع الجميع على أن حراماً على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال‏:‏ وإنما الاختلاف في الطهر ما هو‏؟‏ فقال قوم‏:‏ هو الاغتسال بالماء‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو وضوء كوضوء الصلاة‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو غسل الفرج وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة‏.‏ ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت، وهو ثلاثي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكل واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد به الاغتسال بالماء وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه، وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة شد الطاء مضمنها الاغتسال وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم‏:‏ أمر غير لازم، وكذلك ادعاؤه الإجماع، أما إنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال بالماء، وقال ابن عباس والأوزاعي‏:‏ من فعله تصدق بنصف دينار، ومن وطئ في الدم تصدق بدينار، وأسند أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى لله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال‏:‏

«يتصدق بدينار أو بنصف دينار»، وقال ابن عباس‏:‏ «الدينار في الدم، والنصف عند انقضائه»، ووردت في الشدة في هذا الفعل آثار، وجمهور العلماء على أنه ذنب عظيم يتاب منه ولا كفارة فيه بمال، وذهب مالك رحمه الله وجمهور العلماء إلى أن الطهر الذي يحل جماع الحائض التي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهور الجنب، ولا يجزي من ذلك تيمم ولا غيره، وقال يحيى بن بكير وابن القرظي‏:‏ إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلّت لزوجها وإن لم تغتسل‏.‏ وقال مجاهد وعكرمة وطاوس‏:‏ انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ‏.‏ و‏{‏حتى‏}‏ غاية لا غير، و‏{‏تقربوهن‏}‏ يريد بجماع، وهذا من سد الذرائع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ الآية، القراءة ‏{‏تَطَهَّرْنَ‏}‏ بتاء مفتوحة وهاء مشددة، والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم‏.‏ ومجاهد وجماعة من العلماء يقولون هنا‏:‏ إنه أريد الغسل بالماء، ولا بد بقرينة الأمر بالإتيان وإن كان قربهن قبل الغسل مباحاً، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل، و‏{‏فآتوهن‏}‏ إباحة، والمعنى ‏{‏من حيث أمركم الله‏}‏ باعتزالهن وهو الفرج أو من السرة إلى الركبتين‏:‏ أو جميع الجسد، حسبما تقدم‏.‏ هذا كله قول واحد، وقال ابن عباس وأبو رزين‏:‏ المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقاله الضحاك‏.‏ وقال محمد بن الحنفية‏:‏ المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنا، وقيل‏:‏ المعنى من قبل حال الإباحة، لا صائمات ولا محرمات ولا غير ذلك‏.‏ والتوابون‏:‏ الراجعون، وعرفة من الشر إلى الخير، والمتطهرون‏:‏ قال عطاء وغيره‏:‏ المعنى بالماء، وقال مجاهد وغيره‏:‏ المعنى من الذنوب، وقال أيضاً مجاهد‏:‏ المعنى من إتيان النساء في أدبارهن‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط ‏{‏أخرجوهم من قريتكم إنهم ناس يتطهرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 82‏]‏، وقرأ طلحة بن مصرف «المطّهّرين» بشد الطاء والهاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ الآية، قال جابر بن عبد الله والربيع‏:‏ سببها أن اليهود قالت‏:‏ إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، وعابت على العرب ذلك، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم، وقالت أم سلمة وغيرها‏:‏ سببها أن قريشاً كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشر كلام الناس في ذلك، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، و‏{‏حرث‏}‏ تشبيه، لأنهنّ مزدرع الذرية، فلفظة «الحرث» تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة، إذ هو المزدرع، وقوله ‏{‏أنى شئتم‏}‏ معناه عند جمهور العلماء من صحابة وتابعين وائمة‏:‏ من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب، و‏{‏أنى‏}‏ إنما تجيء سؤالاً أو إخباراً عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى، هذا هو الاستعمال العربي، وقد فسر الناس ‏{‏أنّى‏}‏ في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسرها سيبويه ب «كيف» ومن أين باجتماعهما، وذهبت فرقة ممن فسرها ب «أين» إلى أن الوطء في الدبر جائز، روي ذلك عن عبد الله بن عمر، وروي عنه خلافه وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به، ورويت الإباحة أيضاً عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر، ورواها مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر، وروي عن مالك شيء في نحوه، وهو الذي وقع في العتبية، وقد كذب ذلك على مالك، وروى بعضهم أن رجلاً فعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم الناس فيه، فنزلت هذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال‏:‏ «إتيان النساء في أدبارهن حرام»، وورد عنه فيه أنه قال‏:‏ «ملعون من أتى امرأة في دبرها»، وورد عنه أنه قال‏:‏ «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم»، وهذا هو الحق المتبع، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، والله المرشد لا رب غيره‏.‏

وقال السدي‏:‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقدموا لأنفسكم‏}‏ أي الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به، وقال ابن عباس‏:‏ «هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع»، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال‏:‏ اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره»، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏قدموا لأنفسكم‏}‏ طلب الولد، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ تحذير، ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم، ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا لله عرضة لأيمانكم‏}‏ الآية، ‏{‏عرضة‏}‏ فعلة بناء للمفعول، أي كثيراً ما يتعرض بما ذكر، تقول «جمل عرضة للركوب» و«فرس عرضة للجري»، ومنه قول كعب بن زهير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت *** عرضتها طامس الاعلام مجهول

ومقصد الآية‏:‏ ولا تعرضوا اسم الله تعالى للأيمان به، ولا تكثروا من الأيمان فإن الحنث مع الإكثار، وفيه قلة رعي لحق الله تعالى، ثم اختلف المتأولون‏:‏ فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والربيع وغيرهم‏:‏ المعنى فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم والبر والإصلاح‏.‏ قال الطبري‏:‏ «التقدير لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا»، وقدره المهدوي‏:‏ كراهة أن تبروا، وقال بعض المتأولين‏:‏ المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير «لا» بعد «أن»، ويحتمل أن يكون هذا التأويل في الذي يريد الإصلاح بين الناس، فيحلف حانثاً ليكمل غرضه، ويحتمل أن يكون على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ «نزلت في تكثير اليمين بالله نهياً أن يحلف الرجل به براً فكيف فاجراً»، فالمعنى‏:‏ إذا أردتم لأنفسكم البر وقالت الزجاج وغيره‏:‏ معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله تعالى، فقال عليّ يمين، وهو لم يحلف، و‏{‏أن تبروا‏}‏ مفعول من أجله، والبر جميع وجوه الخير‏.‏ «بر الرجل» إذا تعلق به حكمها ونسبها كالحاج والمجاهد والعالم وغير ذلك‏.‏ وهو مضاد للإثم، إذ هو الحكم اللاحق عن المعاصي‏.‏ و‏{‏سميع‏}‏ أي لأقوال العباد ‏{‏عليم‏}‏ بنياتهم، وهو مجاز على الجميع‏.‏

وأما سبب الآية فقال ابن جريج‏:‏ «نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ حلف أن يقطع إنفاقه عن مسطح بن أثاثة حين تكلم مسطح في حديث الإفك»، وقيل‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق مع ابنه عبد الرحمن في حديث الضيافة حين حلف أبو بكر أن لا يأكل الطعام، وقيل‏:‏ نزلت في عبد الله بن رواحة مع بشير بن سعد حين حلف أن لا يكلمه، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاهدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يميناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏225- 227‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏‏}‏

‏{‏اللغو‏}‏ سقط الكلام الذي لا حكم له، ويستعمل في الهجر والرفث وما لا حكم له من الإيمان، تشبيهاً بالسقط من القول، يقال منه لغا يلغو لغواً ولغى يلغي لغياً، ولغة القرآن بالواو، والمؤاخذة هي التناول بالعقوبة، واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس وعائشة وعامر الشعبي وأبو صالح ومجاهد‏:‏ لغو اليمين قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة‏:‏ لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين، وروي أن قوماً تراجعوا القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فحلف أحدهم‏:‏ لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلافه، فقال رجل‏:‏ حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيمان الرماة لغة لا إثم فيها ولا كفارة»، وقال أبو هريرة وابن عباس أيضاً والحسن ومالك بن أنس وجماعة من العلماء‏:‏ لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه فكشف الغيب خلاف ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا اليقين هو غلبة ظن أطلق الفقهاء عليه لفظة اليقين تجوزاً، قال مالك‏:‏ «مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان لا يشك، فيحلف، ثم يجيء غير المحلوف عليه»، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله وعروة ابنا الزبير‏:‏ لغو اليمين الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر أو ليقطعن الحرم، فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه قال‏:‏ يكفر، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغواً، وقال ابن عباس أيضاً وطاوس‏:‏ لغو اليمين الحلف في حال الغضب، وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يمين في غضب»، وقال مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء‏:‏ لغو اليمين أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله فيقول مالي عليّ حرام إن فعلت كذا، أو الحلال عليَّ حرام، وقال بهذا القول مالك بن أنس إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه، وقال زيد بن أسلم وابنه‏:‏ لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغيّة إن فعل كذا، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك‏:‏ لغو اليمين هو المكفرة، أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغواً، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ «لغو اليمن ما حنث فيه الرجل ناسياً»، وحكى ابن عبد البر قولاً إن اللغو أيمان المكره‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وطريقة النظر أن يتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب، ويحكم موقعهما في اللغة، فكسب المرء ما قصده ونواه، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذاة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسب قلوبكم‏}‏ قال ابن عباس والنخعي وغيرهما‏:‏ ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة، والكفارة إنما هي فيما يكون لغواً إذا كفر، وقال مالك وجماعة من العلماء‏:‏ الغموس لا تكفر، هي أعظم ذنباً من ذلك، وقال الشافعي وقتادة وعطاء والربيع‏:‏ اليمين الغموس تكفر، والكفارة مؤاخذة، والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب، وكذلك اليمين المصبورة‏:‏ المعنى فيهما واحد، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم، المصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي، وقال زيد بن أسلم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏ هو في الرجل يقول هو مشرك إن فعل، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويسكبه، و‏{‏غفور حليم‏}‏ صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ الآية، قرأ أبي بن كعب وابن عباس «للذين يقسمون»، و‏{‏يولون‏}‏ معناه يحلفون، يقال آلى الرجل يولي إيلاء، والألية اليمين، ويقال فيها أيضاً ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها، والتربّص التأنّي والتأخر، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، يقصد بذلك الأذى عند المشارّة ونحوها، فجعل الله تعالى في ذلك هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء، وبقي للحالف على هذا المعنى فسحة فيما دون الأربعة الأشهر، واختلف من المراد أن يلزمه حكم الإيلاء فقال مالك رحمه الله‏:‏ «هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم، أن لا يطأها، ضرراً منه، أكثر من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه»، وقال بن عطاء وغيره، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن بن أبي الحسن‏:‏ هو الرجل يحلف أن لا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أو لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ «لا إيلاء إلا بغضب»، وقال ابن سيرين‏:‏ «سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء»‏.‏

وقاله ابن مسعود والثوري ومالك والشافعي وأهل العراق، إلا أن مالكاً قال‏:‏ ما لم يرد إصلاح ولد‏.‏ وقال الشعبي والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن المسيب‏:‏ كل يمين حلفها الرجل أن لا يطأ امرأته أو أن لا يكلمها أو أن يضارها أو أن يغاضبها فذلك كله إيلاء، وقال ابن المسيب منهم‏:‏ إلا أنه إن حلف أن لا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما تكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأقوال من ذكرناه مع سعيد مسجلة محتملة ما قال سعيد ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء، وذهب إلى هذا الاحتمال الأخير الطبري، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ لا يسمى مولياً إلا الذي يحلف أن لا يطأ أبداً، حكاه ابن المنذر، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور‏:‏ لا يكون مولياً إلا أن زاد على الأربعة الأشهر، وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي‏:‏ الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعداً، وقال قتادة والنخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وابن أبي ليلى‏:‏ من حلف على قليل من الوقت أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏من نسائهم‏}‏ يدخل فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن، والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور‏:‏ أجله أربعة أشهر، وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق‏:‏ أجله شهران، وقال الحسن‏:‏ أجله من حرة أربعة أشهر ومن أمة زوجة شهران، وقاله النخعي، وقال الشعبي‏:‏ «الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة»، وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي والأوزاعي والنخعي وغيرهم‏:‏ المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما، وقال الزهري وعطاء والثوري‏:‏ لا إيلاء إلا بعد الدخول، قال مالك‏:‏ «ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم بلوغها»، وقال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبو الدرداء وابن عمر وابن المسيب ومجاهد وطاوس ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد‏:‏ إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف‏:‏ فإما فاء، وإما طلق، وإلا طلق عليه، وقال ابن مسعود وابن عباس وعثمان وعلي أيضاً وزيد بن ثابت وجابر بن زيد والحسن ومسروق بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيت، واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي، فقال عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وعطاء والنخعي والأوزاعي وغيرهم‏:‏ هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري ومالك‏:‏ هي رجعية، و‏{‏فاؤوا‏}‏ معناه رجعوا، ومنه

‏{‏حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، والفيء الظل الراجع عشياً، وقال الحسن وإبراهيم‏:‏ إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه، لقوله تعالى ‏{‏فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في معصية، وترك وطء الزوجة معصية، وقال الجمهور‏:‏ إذا فاء كفر، والفيء عند ابن المسيب وابن جبير لا يكون إلا بالجماع، وإن كان مسجوناً أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ ولا عذر له ولا فيء بقول، وقال مالك رحمه الله، «لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتفكير في حال العذر كالغائب والمسجون»، قال ابن القاسم في المدونة‏:‏ «إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد الحنث، فإن القول يكفيه ما دام معذوراً»، واختلف القول في المدونة في اليمين بالله تعالى هل يكتفى فيه بالفيء بالقول والعزم على التكفير أم لا بد، من التفكير وإلا فلا فيء، وقال الحسن وعكرمة والنخعي وغيرهم‏:‏ الفيء من غير المعذور الجماع ولا بد، ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه، وقال النخعي أيضاً‏:‏ يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء‏.‏ أرأيت إن لم ينتشر للوطء‏؟‏‏.‏

وقال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ويرجع في هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر، وقرأ أبي بن كعب «فإن فاؤوا فيهن» وروي عنه «فإن فاؤوا فيها»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ الآية، قال القائلون إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق‏:‏ عزيمة الطلاق هي ترك الفيء حتى تنصرم الأشهر، وقال القائلون لا بد من التوقيف بعد تمام الأشهر‏:‏ العزيمة هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف حتى يطلق الحاكم، واستدل من قال بالتوقيف بقوله ‏{‏سميع‏}‏، لأن هذا الإدراك إنما هو في المقولات، وقرأ ابن عباس «وإن عزموا السراح»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏228‏]‏

‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏‏}‏

قرأ جمهور الناس «قروء» على وزن فعول، اللام همزة، وروي عن نافع شد الواو دون همز، وقرأ الحسن «ثلاثة قَرْوٍ» بفتح القاف وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة، وحكم هذه الآية مقصده الاستبراء لا أنه عباة، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها‏.‏ بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة، و‏{‏المطلقات‏}‏ لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد، وقال قوم‏:‏ تناولهن العموم ثم نسخن، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض، وهو عرف النساء وعليه معظمهن، فأغنى ذلك عن النص عليه، والقرء في اللغة الوقت المعتاد تردده، وقرء النجم وقت طلوعه، وكذلك وقت أفوله وقرء الريح وقت هبوبها، ومنه قول الراجز‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يا رب ذي ضغن على فارض *** له قروء كقروء الحائض

أراد وقت غضبه، فالحيض على هذا يسمى قرءاً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اتركي الصلاة أيام اقرائك»، أي أيام حيضك، وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءاً، لأنه وقت معتاد تردده يعاقب الحيض، ومنه قول الأعشى‏:‏

أفي كلّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غزوةِ *** تَشُدُّ لأقْصَاها عَزِيمَ عَزَائِكَا

مورثة مالاً وفي الحي رفعة *** بما ضاع فيها من قروء نسائكا

أي من أطهارهن، وقال قوم‏:‏ القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، فكأن الحرم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها للمطلقة، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم‏:‏ المراد الحيض، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة، وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل، هذا قول سعيد بن جبير وغيره، وقالت عائشة وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان بن يسار ومالك‏:‏ المراد الاطهار، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة، وثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة ثم ثالثاً بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر‏.‏ وقول ابن القاسم ومالك إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة‏.‏ وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره، وقال أشهب‏:‏ لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم من غير الحيض، واختلف المتأولون في المراد بقوله ‏{‏ما خلق‏}‏ فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك وهو الحيض والحبل جميعاً، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه، فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع، وقال قتادة‏:‏ «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية»، وقال السدي‏:‏ «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل‏؟‏ مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله بالصدق في ذلك»‏.‏

وقال إبراهيم النخعي وعكرمة‏:‏ المراد ب ‏{‏ما خلق‏}‏ الحيض، وروي عن عمر وابن عباس أن المراد الحبل، والعموم راجح، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لهن‏}‏ ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحاً لم يكن كتم، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهُن» بضم الهاء، وقوله ‏{‏إن كان يؤمنّ بالله واليوم الآخر‏}‏ الآية، أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق، وهذا كما تقول‏:‏ إن كنت حرً فانتصر، وأنت تخاطب حراً، وقوله ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً‏}‏، البعل‏:‏ الزوج، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس‏.‏ لكن هو المسموع‏.‏ وقال قوم‏:‏ الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة، وقيل‏:‏ هي هاء تأنيث دخلت على بعول‏.‏ وبعول لا شذوذ فيه‏.‏ وقرأ مسعود «بردتهن» بزيادة تاء، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهُن» بضم الهاء، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة ما دامت في العدة، والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ هي إلى المدة، ثم اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن، وهذا بيان الأحكام التي بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة الرجال الإصلاح، فإن قصد أحد بعد هذا إفساداً أو كتمت امرأة ما في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر، والبواطن إلى الله تعالى يتولى جزاء كل ذي عمل‏.‏

وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي‏:‏ إن بانقضاء الأشهر الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها، لأن أكثر ما تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم الطلاق، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن وبعولتهن أحق بردهن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ «ذلك في التزين والتصنع والمؤاتاة»، وقال الضحاك وابن زيد‏:‏ ذلك في حسن العشرة وحفظ بعضهم لبعض وتقوى الله فيه، والآية تعم جميع حقوق الزوجية، وقوله ‏{‏وللرجل عليهن درجة‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه، وقال زيد بن أسلم وابنه‏:‏ ذلك في الطاعة، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها، وقال عامر الشعبي‏:‏ «ذلك الصداق الذي يعطي الرجل، وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت»، فقال ابن عباس‏:‏ «تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشر والتوسع للنساء في المال والخلق»، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه، وهذا قول حسن بارع، وقال ابن إسحاق‏:‏ «الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها»، وقال ابن زيد‏:‏ «الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده»، وقال حميد‏:‏ «الدرجة اللحية»‏.‏

وقال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل، و‏{‏عزيز‏}‏ لا يعجزه أحد، و‏{‏حكيم‏}‏ فيما ينفذه من الأحكام والأمور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏229‏]‏

‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏229‏)‏‏}‏

قال عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم‏:‏ نزلت هذه الآية بياناً لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير غاية، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أؤويك ولا أدعك تحلين، قالت‏:‏ وكيف‏؟‏ قال‏:‏ أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك، فنزلت الآية، وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم‏:‏ المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة فإما تركها غير مظلومة شيئاً من حقها وإما أمسكها محسناً عشرتها‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ والآية تتضمن هذين المعنيين، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية‏.‏ والتسريح يحتمل لفظه معنيين‏:‏ أحدهما تركها تتم العدة من الثانية وتكون أملك بنفسها، وهذا قول السدي والضحاك، والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها بذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، ويقوى عندي هذا القول من ثلاثة وجوه‏:‏ أولها أنه روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة‏؟‏، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هي قوله‏:‏ ‏{‏أو تسريح بإحسان‏}‏، والوجه الثاني أن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ ‏{‏وإن عزموا السراح‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 227‏]‏، والوجه الثالث أن فعّل تفعيلاً بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلاً مكرراً على الطلقة الثانية، وليس في ترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، و‏{‏إمساك‏}‏ مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره فالواجب إمساك، وقوله ‏{‏بإحسان‏}‏ معناه أن لا يظلمها شيئاً من حقها ولا يتعدى في قول‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا‏}‏ الآية خطاب للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئاً على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم؛ لأن العرف من الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده، هذا وكدهم في الأغلب؛ فلذلك خص بالذكر‏.‏ وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «يخافا» بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، فهذا باب خاف في التعدي إلى مفعول واحد وهو ‏{‏أن‏}‏، وقرأ حمزة وحده «يُخافا» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، فهذا على تعدية خاف إلى مفعولين، أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر ‏{‏أن‏}‏ بتقدير حرف جر محذوف، فموضع ‏{‏أن‏}‏‏:‏ خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي، ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصار الفعل إلى المفعول الثاني، مثل استغفر الله ذنباً، وأمرتك الخير، وفي مصحف ابن مسعود «إلا أن يخافوا» بالياء وواو الجمع، والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور الناس‏.‏

وحرم الله- تعالى- على الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا بعد الخوف أن لا يقيما، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ «روينا معنى ذلك عن ابن عباس والشعبي ومجاهد وعطاء والنخعي وابن سيرين والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة وسفيان الثوري ومالك وإسحاق وأبي ثور»، وقال مالك- رحمه الله- والشعبي وجماعة معهما‏:‏ فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ومعنى ذلك أن يكون الزوج لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحداً يجيز له الفدية، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال‏:‏ «إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته فهو جائز ماض وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما اخذ»، قال ابن المنذر‏:‏ «وهذا خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قيل لأحد‏:‏ اجهد نفسك في طلب الخطأ، ما وجد أمراً أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه»، و‏{‏حدود الله‏}‏ في الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة وحقوق العصمة‏.‏

ونازلة حبيبة بنت سهل- وقيل جميلة بنت أبي ابن سلول والأول أصح- مع ثابت بن قيس حين أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الفدية منها إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل خير وأنها لا تحب البقاء معه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا يقيما حدود الله‏}‏ المخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حكاماً، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء، وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه‏:‏ إذا قالت له‏:‏ لا أطيع لك أمراً ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسماً، حل الخلع، وقال الشعبي‏:‏ ‏{‏ألا يقيما حدود الله‏}‏‏:‏ معناه أن لا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة «، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏» يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبُّك ونحو هذا «‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فال جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ إباحة للفدية، وشركهما في ارتفاع الجناح لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه وهي تقدر على المخاصمة، فإذا كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي، ومتى لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق، وقال ابن عمر والنخعي وابن عباس ومجاهد وعثمان بن عفان رضي الله عنه ومالك والشافعي وأبو حنيفة وعكرمة وقبيصة بن ذؤيب وأبو ثور وغيرهم‏:‏ مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه، وقضى بذلك عمر بن الخطاب، وقال طاوس والزهري وعطاء وعمرو بن شعيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وأحمد وإسحاق‏:‏ لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها‏.‏

وبه قال الربيع، وكان يقرأ هو والحسن بن أبي الحسن «فيما افتدت به منه» بزيادة «منه»، يعني مما آتيتموهن وهو المهر‏.‏ وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة، وابن المنذر أثبت‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ «لا أرى أن يأخذ منها كل مالها ولكن ليدع لها شيئاً»‏.‏ وقال بكر بن عبد الله المزني‏:‏ «لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئاً خلعاً قليلاً ولا كثيراً»؛ قال‏:‏ «وهذه الآية منسوخة بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، لأن الأمة مجمعة على إجازة الفدية، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله‏}‏ الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا تتجاوزوها، ثم توعد- تعالى- على تجاوز الحد ووصف المتعدي بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏» الظلم ظلمات يوم القيامة «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏230- 232‏]‏

‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي‏:‏ هذا ابتداء الطلقة الثالثة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق»، واحتج من هذه الآية بذكر الله-تعالى- الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف» عنه وعن وعكرمة وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم، وقال مجاهد‏:‏ «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح، والتسريح هو الطلقة الثالثة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تسريح‏}‏ يحتمل الوجهين‏:‏ إما تركها تتم العدة، وإما إرداف الثالثة‏.‏ ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة‏.‏ و‏{‏تنكح‏}‏ في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت سموأل امرأة رفاعه حين تزوجها عبد الرحمن بن الزبير وكان رفاعة قد طلقها ثلاثاً، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن، ما معه إلا مثل الهدبة»، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعه، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته»، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال‏:‏ «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة»، وقال بعض الفقهاء‏:‏ التقاء الختانين يحل‏.‏

قال القاضي أبو محمد والمعنى واحد، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول، وخطئ هذا القول لخلافه الحديث الصحيح، ويتأول على سعيد- رحمه الله- أن الحديث لم يبلغه، ولما رأى العقد عاملاً في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحليل المطلقة ترخيص يتم إلا بالأوفى، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث‏.‏

والذي يحل عند مالك- رحمه الله- النكاح الصحيح والوطء المباح، والمحلل إذا وافق المرأة‏:‏ فلم تنكح زوجاً، ولا يحل ذلك، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافاً، وقال عثمان بن عفان‏:‏ «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها»‏.‏ ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول»، وهذا شاذ، وقال سالم والقاسم‏:‏ لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طلقها فلا جناح عليهما‏}‏ الآية، المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين، وقال أبو عبيدة‏:‏ «المعنى أيقنا»، وقوله في ذلك ضعيف، و‏{‏حدود الله‏}‏ الأمور التي أمر أن لا تتعدى، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفاً لهم، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين‏.‏ أي نصب للعبرة من قول أو صنعة، وأما إن أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء، وقرأ السبعة «يبينها» بالياء، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها» بالنون‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء‏}‏ الآية خطاب للرجال لا يختص بحكمه إلا الأزواج، وذلك نهي للرجل أن يطول العدة على المرأة مضارّة منه لها، بأن يرتجع قرب انقضائها ثم ثطلق بعد ذلك، قاله الضحاك وغيره، ولا خلاف فيه، ومعنى ‏{‏بلغنا أجلهن‏}‏ قاربن، لأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، ومعنى ‏{‏أمسكوهن‏}‏ راجعوهن، و‏{‏بمعروف‏}‏ قيل هو الإشهاد، و‏{‏لا تمسكوهن‏}‏ أي لا تراجعوهن ضراراً، وباقي الآية بيِّن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏

المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي، وقال الحسن‏:‏ «نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً أو هازلاً أو راجع كذلك»، وقالته عائشة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد‏:‏ النكاح والطلاق والرجعة»‏.‏ ووقع هذا الحديث في المدونة من كلام ابن المسيب، النكاح والطلاق والعتق، ثم ذكر الله عباده بإنعامه عليهم بالقرآن والسنة، و‏{‏الحكمة‏}‏ هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب‏:‏ والوصف ب ‏{‏عليم‏}‏ يقتضيه ما تقدم من الأفعال التي ظاهرها خلاف النية فيها، كالمحلل والمرتجع مضارة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن‏}‏ الآية خطاب للمؤمنين الذين منهم الأزواج ومنهم الأولياء، لأنهم المراد في ‏{‏تعضلوهن‏}‏، وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه، لأن المعنى يقتضي ذلك، وقد قال بعض الناس في هذا الموضع‏:‏ إن المراد ب ‏{‏تعضلوهنّ‏}‏، الأزواج، وذلك بأن يكون الأرتجاع مضارة عضلاً عن نكاح الغير، فقوله ‏{‏أزواجهن‏}‏ على هذا يعني به الرجال، إذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد ب ‏{‏تعضلوهن‏}‏ الأولياء فالأزواج هم الذين كنَّ في عصمتهم، والعضل المنع من الزواج، وهو من معنى التضييق والتعسير، كما يقال أعضلت الدجاجة إذا عسر بيضها، والداء العضال العسير البرء، وقيل‏:‏ نزلت هذه الآية في معقل بن يسار وأخته، وقيل‏:‏ في جابر بن عبد الله، وذلك أن رجلاً طلق أخته، وقيل بنته، وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد ارتجاعها فغار جابر، وقال‏:‏ «تركتها وأنت أملك بها، لا زوجتكما أبداً»، فنزلت الآية، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته، وأن النكاح يفتقر إلى ولي، خلاف قول أبي حنيفة إن الولي ليس من شروط النكاح، وقوله ‏{‏بالمعروف‏}‏ معناه المهر والإشهاد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك يوعط به من كان منكم‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثم رجوع إلى خطاب الجماعة‏:‏ والإشارة في ‏{‏ذلكم أزكى‏}‏ إلى ترك العضل، و‏{‏أزكى‏}‏ و‏{‏أطهر‏}‏ معناه أطيب للنفس وأطهر للعرض والدين، بسبب العلاقات التي تكون بين الأزواج، وربما لم يعلمها الولي فيؤدي العضل إلى الفساد والمخالطة على ما لا ينبغي، والله- تعالى- يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏233‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏}‏

‏{‏يرضعن أولادهن‏}‏ خبر، معناه‏:‏ الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على جهة الندب والتخيير لبعضهن، فأما المرأة التي في العصمة فعليها الإرضاع، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط، فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم، بخلاف النفقة، وفي كتاب ابن الجلاب‏:‏ رضاعه في بيت المال، وقال عبد الوهاب‏:‏ هو من فقراء المسلمين، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق به بأجرة المثل‏.‏ هذا مع يسر الزوج، فإن كان معدماً لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع، ولها أجر مثلها في يسر الزوج، وكل ما يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب، وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدماً ولا مال للصبي فإن الرضاع على الأم، فإن كان بها عذر ولها مال فالإرضاع عليها في مالها‏.‏ وهذه الآية هي في المطلقات، قاله السدي والضحاك وغيرهما، جعلها الله حداً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له، وقال جمهور المفسرين‏:‏ إن هذين الحولين لكل واحد، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «هي في الولد الذي يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهراً، فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهراً، فإن مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهراً»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأن هذا القول انبنى على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏، لأن ذلك حكم على الإنسان عموماً، وسمي العام حولاً لاسحالة الأمور فيه في الأغلب، ووصفهما ‏{‏بكاملين‏}‏ إذ مما قد اعتيد تجوزاً أن يقال في حول وبعض آخر حولين، وفي يوم وبعض آخر مشيت يومين وصبرت عليك في ديني يومين وشهرين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن أراد أن يتم الرضاعة‏}‏ مبني على أن الحولين ليسا بفرض لا يتجاوز، وقرأ السبعة «أن يُتم الرضاعةَ» بضم الياء ونصب الرضاعة، وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد والحسن وأبو رجاء «تَتم الرضاعةُ» بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة كذلك، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة، وهي لغة كالحَضارة والحِضارة، وغير ذلك‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قرأ «الرضعة» على وزن الفعلة، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أن يكمل الرضاعة» بالياء المضمومة، وانتزع مالك رحمه الله وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجارى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة، وروي عن قتادة أنه قال‏:‏ «هذه الآية تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات، ثم يسر ذلك وخفف بالتخيير الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لمن أراد‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول متداع‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدَهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ‏}‏

‏{‏المولود له‏}‏ اسم جنس وصنف من الرجال، والرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وقوله ‏{‏بالمعروف‏}‏ يجمع حسن القدر في الطعام وجودة الأداء له وحسن الاقتضاء من المرأة، ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها بقوله‏:‏ ‏{‏لا تكلف نفس إلا وسعها‏}‏، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «تُكلف» بضم التاء «نفسٌ» على ما لم يُسمَّ فاعله، وقرأ أبو رجاء «تَكَلَّفُ» بفتح التاء بمعنى تتكلف «نفسٌ» فاعله، وروى عنه أبو الأشهب «لا نُكَلِّف» بالنون «نفساً» بالنصب، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم «لا تضارُ والدة» بالرفع في الراء، وهو خبر معناه الأمر، ويحتمل أن يكون الأصل «تضارِر» بكسر الراء الأولى فوالدة فاعل، ويحتمل أن يكون «تضارَر» بفتح الراء الأولى فوالدة مفعول لم يسم فاعله، ويعطف مولد له على هذا الحد في الاحتمالين، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم ‏{‏لا تضارَّ‏}‏ بفتح الراء المشددة، وهذا على النهي، ويحتملَ أصله ما ذكرنا في الأولى، ومعنى الآية في كل قراءة‏:‏ النهي عن أن تضار الوالدة زوجها المطلق بسبب ولدها، وأن يضارها هو بسبب الولد، أو يضار الظئر، لأن لفظة نهيه تعم الظئر، وقد قال عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏لا تضار والدة‏}‏‏:‏ معناه الظئر، ووجوده الضرر لا تنحصر، وكل ما ذكر منها في التفاسير فهو مثال‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ «لا تضارَرُ» براءين الأولى مفتوحة‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لا تضارْ» بإسكان الراء وتخفيفها، وروي عنه الإسكان والتشديد، وروي عن ابن عباس «لا تضارِر» بكسر الراء الأولى‏.‏

واختلف العلماء في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏}‏‏.‏ فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهم‏:‏ هو وارث الصبي إن لو مات، قال بعضهم‏:‏ وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حياً، وقاله مجاهد وعطاء، وقال قتادة أيضاً وغيره‏:‏ هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه قدر مواريثهم منه‏.‏

وحكى الطبري عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهم قالوا‏:‏ الوارث الذي يلزمه إرضاع المولود هو وليه ووارثه إذا كان ذا رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره وليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا القول تحكم، وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز‏:‏ الوارث وهو الصبي نفسه، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه، وقال سفيان رحمه الله‏:‏ «الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما»، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث‏.‏ ونص هؤلاء الذين ذكرت أقوالهم على أن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل ذلك‏}‏ الرزق والكسوة، وذكر ذلك أيضاً من العلماء إبراهيم النخعي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والشعبي والحسن وابن عباس وغيرهم وقال مالك رحمه الله في المدونة وجميع أصحابه والشعبي أيضاً والزهري والضحاك وجماعة من العلماء‏:‏ المراد بقوله ‏{‏مثل ذلك‏}‏ أن لا يضار، وأما الرزق والكسوة فلا شيء عليه منه، وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ثم نسخ ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالإجماع من الأمة في أن لا يضار الوارث، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا‏؟‏، وقرأ يحيى بن يعمر «وعلى الورثة مثل ذلك» بالجمع‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏

الضمير في ‏{‏أرادا‏}‏ للوالدين، و‏{‏فصالاً‏}‏ معناه «فطاماً» عن الرضاع، ولا يقع التشاور ولا يجوز التراضي إلا بما لا ضرر فيه على المولد، فإذا ظهر من حاله الاستغناء عن اللبن قبل تمام الحولين فلا جناح على الأبوين في فصله، هذا معنى الآية، وقاله مجاهد وقتادة وابن زيد سفيان وغيرهم، وقال ابن عباس‏:‏ «لا جناح مع التراضي في فصله قبل الحولين وبعدهما»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحرير القول في هذا أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وأن لا يكون على المولود ضرر، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فذلك له إلا أن يكون في ذلك على الصبي ضرر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أردتم أن تسترضعوا‏}‏ مخاطبة لجميع الناس تجمع الآباء والأمهات، أي لهم اتخاذ الظئر مع الاتفاق على ذلك، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا أسلمتم‏}‏ فمخاطبة للرجال خاصة، إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ «أتيتم»، وقرأ الستة من السبعة «آتيتم» بالمد، المعنى أعطيتم، وقرأ ابن كثير «أتيتم» بمعنى ما جئتم وفعلتم كما قال زهير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

وما كان من خير أتوه فإنما *** توارثه آباء آبائهم قبلُ

قال أبو علي‏:‏ «المعنى إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو إعطاءه أو سوقه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه فكان التقدير ما أتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل اللفظ معنى آخر قاله قتادة، وهو إذا سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر‏.‏ وعلى هذا الاحتمال‏.‏ فيدخل في الخطاب ب ‏{‏سلمتم‏}‏ الرجال والنساء، وعلى التأويل الذي ذكره أبو علي وغيره‏:‏ فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع، قال أبو علي‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغنى عن الصنعة من حذف المضاف، ثم حذف الضمير، قال مجاهد‏:‏ «المعنى إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع»، وقال سفيان‏:‏ «المعنى إذا سلمتم إلى المستعرضة وهي الظئر أجرها بالمعروف»‏.‏ وباقي الآية أمر بالتقوى وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل، وفي هذا وعيد وتحذير، أي فهو مجاز بحسب عملكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏234‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالذَّيِنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجاً يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً‏}‏

قال بعض نحاه الكوفيين‏:‏ الخبر عن ‏{‏الذين‏}‏ متروك والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن، ومذهب نحاة البصرة أن خبر ‏{‏الذين‏}‏ مترتب بالمعنى، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص أزواجهم، وإن شئت قدرته‏.‏ وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز، وإعرابها مترتب على هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى‏:‏ وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد‏.‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه فيحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليكم‏}‏، إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم الحكام والنظرة، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه، وهذه الآية هي في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، وعدة الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء، وروي عن علي بن ابي طالب وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين، والتربص الصبر والتأني بالشخص في مكان أو حال، وقد بين تعالى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بأنفسهن‏}‏، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، والتزام المبيت مسكنها حيث كانت وقت وفاة الزوج‏.‏ وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه‏.‏ وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روت عنه وغيرهما‏:‏ ليس المبيت بمراعى، تبيت حيث شاءت‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزواج، ولها أن تتزين وتتطيب»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏ وقرأ جمهور الناس «يُتوفون» بضم الياء، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يَتوفون» بفتح الياء، وكذلك روى المفضل عن عاصم، ومعناه يستوفون آجالهم، وجعل الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء للحمل، إذ فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره ثم ينفخ الروح، وجعل الله تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها، قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏عشراً‏}‏، ولم يقل عشرة تغليباً لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها، وعشر أخف في اللفظ، قال جمهور أهل العلم‏:‏ ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي، وحكى منذر بن سعيد- وروي أيضاً عن الأوزاعي-‏:‏ أن اليوم العاشر ليس من العدة بل انقضت بتمام عشر ليالٍ، قال المهدوي‏:‏ «وقيل المعنى وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة»، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أربعة أشهر وعشر ليال»‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏

أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن، والمخاطبة بقوله ‏{‏فلا جناح عليكم‏}‏ عامة لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين والنساء المعتدات، وقوله عز وجل ‏{‏فيما فعلن‏}‏ يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد‏.‏ قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما‏:‏ أراد بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفاً غير منكر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ووجوه المنكر في هذا كثيرة، وقال بعض المفسرين‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ معناه بالإشهاد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ وعيد يتضمن التحذير، و‏{‏خبير‏}‏ اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏235‏]‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏

المخاطبة بهذه الآية لجميع الناس، والمباشر لحكمها هو الرجل في نفسه تزويج معتدة، والتعريض هو الكلام الذي لا تصريح فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به، وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز‏.‏ وجوز ما عدا ذلك، ومن أعظمه قرباً إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس‏:‏ «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك»‏.‏ ومن المجوز قول الرجل‏:‏ إنك لإلى خير، وإنك لمرغوب فيك، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإن يقدر أمر يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة، والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سراً، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه، وإلا فهو خلاف لقوله صلى لله عليه وسلم، والخطبة بكسر الخاء فعل الخطاب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول، يقال خطبها يخطبها خطباً وخطبة ورجل خطّاب كثير التصرف في الخطبة، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

برح بالعينين خطّاب الكثبْ *** يقول إني خاطب وقد كذبْ

وإنما يخطب عساً من حلبْ *** والخطبة «فِعلة» كجلسة «وقِعدة»، والخُطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره، ‏{‏أو أكنتم‏}‏ معناه سترتم وأخفيتم، تقول العرب‏:‏ كننت الشيء من الأجرام، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه، وأكننت الأمر في نفسي، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي، وتقول أكن البيت الإنسان ونحو هذا، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد، فرخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحانها وضعف البشر عن ملكها، وقوله تعالى ‏{‏ستذكرونهن‏}‏، قال الحسن‏:‏ معناه ستخطبونهن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأنه قال إن لم تنهوا، وقال غير الحسن‏:‏ معناه علم الله أنك ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن يوصل إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سراً‏}‏ ذهب ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية، ف ‏{‏سراً‏}‏ على هذا التأويل نصب على الحال أي مستسرين‏.‏

وقال جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد والحسن بن أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي‏:‏ السر في هذه الآية الزنا أي لا تواعدوهن زنى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي ذلك عندي نظر، وذلك أن السر في اللغة يقع على الوطء حلاله وحرامه، لكن معنى الكلام وقرينته ترد إلى أحد الوجهين، فمن الشواهد قول الحطيئة‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارتِهِمْ عَلَيْهِمْ *** وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ القِصَاعِ

فقرينة هذا البيت تعطي أن السر أراد به الوطء حراماً، وإلا فلو تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن في ذلك عار، ومن الشواهد قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أَخَالَتَنَا سِرُّ النّساءِ مُحَرَّمٌ *** عليَّ، وَتَشْهَادُ النَّدامى مَعَ الْخَمْرِ

لئن لم أصبّحْ داهناً ولفيفَها *** وناعبَها يوماً براغيةِ البكْرِ

فقرينة هذا الشعر تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموماً في حرام وحلال حتى ينال ثأره، والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج، وأما المواعدة في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها، وحكى مكي عن ابن جبير أنه قال‏:‏ «سراً‏:‏ نكاحاً»، وهذه عبارة مخلصة، وقال ابن زيد‏:‏ «معنى قوله ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سراً‏}‏ أي لا تنكحوهن وتكتمون ذلك فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي خفية، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق لأن العقد متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم العقدة، وحكى مكي عنه أنه قال‏:‏ «الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏}‏ وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته، قال ابن المواز‏:‏» فأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه، وإن نزل لم افسخه «، وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها‏:‏» فراقها أحب إليّ دَخَلَ بها أو لم يدخل وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب «، هذه رواية ابن وهب، وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجاباً، وقاله ابن القاسم، وحكى ابن حارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تقولوا قولاً معروفاً‏}‏ استثناء، منقطع، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليَّ نفسك فإن لي بك رغبة، فتقول هي وأنا مثل ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه عندي مواعدة، وإنما التعريض قول الرجل‏:‏ إنكم لأكفاء كرام، وما قدر كان، وإنك لمعجبة، ونحو هذا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏

عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وحينئذ تسمى ‏{‏عقدة‏}‏، وقوله تعالى ‏{‏حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ يريد تمام العدة، و‏{‏الكتاب‏}‏ هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة، سماه كتاباً إذ قد حده وفرضه كتاب الله، كما قال‏:‏ ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف، وقد قدر إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن، واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى، أما إن عقد العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل الدخول‏:‏ فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء إن ذلك لا يؤبد تحريماً، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود، وقال الجميع‏:‏ يكون خاطباً من الخطّاب، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد في العدة وإن فسخ قبل الدخول، وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم‏:‏ ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما، وقال قوم من أهل العلم‏:‏ لا يتأبد بذلك تحريم، وقال مالك مرة‏:‏ يتأبد التحريم، وقال مرة‏:‏ وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في طلاق السنة، وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل العلم‏:‏ إن التحريم يتأبد، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز بن أبي سلمة‏:‏ إن التحريم لا يتأبد وإن وطئ في العدة، بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ثم يكون خاطباً من الخطاب، قال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ تعتد من الأول فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر، وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة، ذكرها في العالم بالتحريم المجترئ لأنه زان، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافاً في المذهب‏.‏

حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة، قال ن أبو عمر بن عبد البر، ن عبد الوارث بن سفيان، ن قاسم بن أصبغ، عن محمد بن إسماعيل، عن نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن أشعث، عن العشبي، عن مسروق، قال‏:‏ بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما، وقال‏:‏ «لا تنكحها أبداً»‏.‏ وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس، فبلغ علياً فقال‏:‏ «يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال‏؟‏ إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة»، قيل‏:‏ فما تقول أنت فيها‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا حد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء «فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب الناس فقال‏:‏» يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة «، وهذا قول الشافعي والليث في العدة من اثنين، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري‏:‏ عدة واحدة تكفيهما جميعاً سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالأشهر، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن أبي طالب والشافعي في إكمال العدتين، واختلف قول مالك رحمه الله في الذي يدخل في العدة عالماً بالتحريم مجترماً، فمرة قال‏:‏ العلم والجاهل فيه سواء لا حد عليه، والصداق له لازم، والولد لاحق، ويعاقبان ولا يتناحكان أبداً، ومرة قال‏:‏ العالم بالتحريم كالزاني يحد، ولا يلحق به الولد، وينكحها بعد الاستبراء، والقول الأول أشهر عن مالك رحمه الله‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏واعلموا‏}‏ إلى آخر الآية‏:‏ تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيَّنَ ووسَّعَ فيها من إباحة التعريض ونحوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏236‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏‏}‏

هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهراً أو لم يفرض، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج طلباً للعصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءاً من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن‏.‏ وقال قوم‏:‏ ‏{‏لا جناح عليكم‏}‏ معناه لا طلب بجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة لمن لم يفرض لها، وقال قوم‏:‏ ‏{‏لا جناح عليكم‏}‏ معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت حيض بخلاف المدخول بها، وقال مكي‏:‏ «المعنى لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق، وذلك مأمون قبل المسيس»، والخطاب بالآية لجميع الناس، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «تمسوهن» بغير ألف، وقرأ الكسائي وحمزة «تُماسوهن» بألف وضم التاء، وهذه القراءة الأخيرة تعطي المس من الزوجين، والقراءة الأولى تقتضي ذلك بالمعنى المفهوم من المس، ورجحها أبو علي لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن‏:‏ نكح وسفد وقرع وذقط وضرب الفحل، والقراءتان حسنتان، و‏{‏تفرضوا‏}‏ عطف على «تمسوا»، وفرض المهر إثباته وتحديده، وهذه الآية تعطي جواز العقد على التفويض لأنه نكاح مقرر في الآية مبين حكم الطلاق فيه، قاله مالك في المدونة، والفريضة الصداق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومتعوهن‏}‏ معناه أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن، وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب، وحمله أبو عبيدة ومالك بن أنس وأصحابه وشريح وغيرهم على الندب، ثم اختلفوا في الضمير المتصل ب «متعوا» من المراد به من النساء‏؟‏، فقال ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي‏:‏ المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في غيرها، وقال مالك وأصحابه‏:‏ المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها، فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها، وقال أبو ثور‏:‏ لها المتعة ولكل مطلقة، وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة، فقال الزهري‏:‏ يقضي لها بها القاضي، وقال جمهور الناس‏:‏ لا يقضي بها، قاله شريح، ويقال للزوج‏:‏ إن كنت من المتقين والمحسنين فمتع ولم يقض عليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا مع إطلاق لفظ الوجوب عند بعضهم، وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان‏:‏ المتعة بإزاء غم الطلاق ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة، وقال الترمذي وعطاء والنخعي‏:‏ للمختلعة متعة، وقال أصحاب الرأي‏:‏ للملاعنة متعة، قال ابن القاسم‏:‏ ولا متعة في نكاح مفسوخ، قال ابن المواز‏:‏ ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد مثل ملك أحد الزوجين صاحبه، وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار، فهذه لا متعة لها، وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذاك كله فلها المتعة، لأن الزوج سبب الفراق، وعليها هي غضاضة في أن لا تختار نفسها‏.‏

واختلف الناس في مقدار المتعة، فقال ابن عمر‏:‏ «أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهماً أو شبهها»، وروي أن ابن حجيرة كان يقضي على صاحب الديوان بثلاثة دنانير، وقال ابن عباس‏:‏ «أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة»، وقال عطاء‏:‏ «من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة»، وقال الحسن‏:‏ «يمتع كل على قدره‏:‏ هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب وهذا بنفقة»، وكذلك يقول مالك بن أنس، ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفاً وزقاق من عسل، ومتع شريح بخمسمائة درهم، وقالت أم حميد بن عبد الرحمن بن عوف‏:‏ «كأني انظر إلى خادم سوداء متع بها عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة»، وقال أصحاب الرأي وغيرهم‏:‏ متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير، وقوله تعالى ‏{‏على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‏}‏ دليل على رفض التحديد، وقرأ الجمهور «على الموْسِع» بسكون الواو وكسر السين بمعنى الذي أوسع أي اتسعت حاله، وقرأ أبو حيوة‏:‏ «الموسَّع» بفتح الواو وشد السين وفتحها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «قدْره» بسكون الدال في الموضعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «قدَره» بفتح الدال فيهما، قال أبو الحسن الأخفش وغيره‏:‏ هما بمعنى لغتان فصيحتان، وكذلك حتى أبو زيد، تقول‏:‏ خذ قدر كذا وقدر كذا بمعنى، ويقرأ في كتاب الله ‏{‏فسالت أودية بقدرها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏ وقدرها، وقال‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، ولو حركت الدال لكان جائزاً، و‏{‏المقتر‏}‏‏:‏ المقل القليل المال، و‏{‏متاعاً‏}‏ نصب على المصدر وقوله تعالى ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين، فهو تأكيد لمعنى قوله ‏{‏على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‏}‏، ثم أكد تعالى الندب بقوله ‏{‏حقاً على المحسنين‏}‏ أي في هذه النازلة من التمتيع هم محسنون، ومن قال بأن المتعة واجبة قال‏:‏ هذا تأكيد الوجوب، أي على المحسنين بالإيمان والإسلام، فليس لأحد أن يقول لست بمحسن على هذا التأويل، و‏{‏حقاً‏}‏ صفة لقوله ‏{‏متاعاً‏}‏، أو نصب على المصدر وذلك أدخل في التأكيد للأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏237‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏‏}‏

اختلف الناس في هذه الآية، فقالت فرقة فيها مالك وغيره‏:‏ إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع، إذ يتناولها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومتعوهنَّ‏}‏، وقال ابن المسيب‏:‏ نسخت هذه الآية التي في الأحزاب، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نسخت هذه الآية الآية التي قبلها‏.‏ وقال ابن القاسم في المدونة‏:‏ كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 241‏]‏ ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب، الآية‏:‏ 49 فاستثنى الله المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة بهذه الآية، حكى ذلك في المدونة عن زيد بن أسلم زعماً، وقال ابن القاسم‏:‏ إنه استثناء، والتحرير برد ذلك إلى النسخ الذي قال زيد، لأن ابن القاسم قال‏:‏ إن قوله تعالى ‏{‏وللمطلقات متاع‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 241‏]‏ عم الجميع، ثم استثنى الله منه هذه التي فرض لها قبل المسيس، وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور‏:‏ المتعة لكل مطلقة عموماً، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، ولم تعن الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض، وقرأ الجمهور «فنصفُ» بالرفع، والمعنى فالواجب نصف ما فرضتم، وقرأت فرقة «فنصفَ» بنصب الفاء، المعنى فادفعوا نصف، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت «فنُصف» بضم النون في جميع القرآن، وهي لغة، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يعفون‏}‏ استثناء منقطع لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، و‏{‏يعفون‏}‏ معناه يتركن ويصفحن، وزنه يفعلن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج، والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها‏.‏ وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين‏:‏ ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها، وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز، وأما التي في حجر أب وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولاً واحداً فيما أحفظ‏.‏

واختلف الناس في المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ فقال ابن عباس وعلقمة وطاوس ومجاهد وشريح والحسن وإبراهيم والشعبي وأبو صالح وعكرمة والزهري ومالك وغيرهم‏:‏ هو الولي الذي المرأة في حجره، فهو الأب في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته، وأما شريح فإنه جوز عفو الأخ عن نصف المهر، وقال وأنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن، وكذلك قال عكرمة‏:‏ يجوز عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما، كان عماً أو أخاً أو أباً وإن كرهت، وقالت فرقة من العلماء‏:‏ الذي بيده عقدة النكاح الزوج، قاله علي بن أبي طالب وقاله ابن عباس أيضاً، وشريح أيضاً رجع إليه، وقاله سعيد ابن جبير وكثير من فقهاء الأمصار، فعلى القول الأول‏:‏ الندب لهما هو في النصف الذي يجب للمرأة فإما أن تعفو هي وإما أن يعفو وليها، وعلى القول الثاني‏:‏ فالندب في الجهتين إما أن تعفو هي عن نصفها فلا تأخذ من الزوج شيئاً، وإما أن يعفو الزوج عن النصف الذي يحط فيؤدي جميع المهر، وهذا هو الفضل منهما، وبحسب حال الزوجين يحسن التحمل والتجمل، ويروى أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليه بالصداق، فقيل له‏:‏ لم تزوجتها‏؟‏، فقال‏:‏ عرضها علي فكرهت رده، قيل‏:‏ فلم تبعث بالصداق‏؟‏ قال‏:‏ فأين الفضل‏؟‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتج القائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، بأن هذا الولي لا يجوز له ترك شيء من صداقها قبل الطلاق فلا فرق بعد الطلاق‏.‏

وأيضاً فإنه لايجوز له ترك شيء من مالها الذي ليس من الصداق فماله يترك نصف الصداق‏؟‏ وأيضاً فإنه إذا قيل الولي فما الذي يخصص بعض الأولياء دون بعض وكلهم بيده عقدة النكاح وإن كان كافلاً أو وصياً أو الحاكم أو الرجل من العشيرة‏؟‏، ويحتج من يقول إنه الولي الحاجر بعبارة الآية، لأن قوله ‏{‏الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ عبارة متمكنة في الولي، وهي في الزوج قلقة بعض القلق، وليس الأمر في ذلك كما قال الطبري ومكي من أن المطلق لا عقدة بيده بل نسبة العقدة إليه باقية من حيث كان عقدها قبل، وأيضاً فإن قوله ‏{‏إلا أن يعفون‏}‏ لا تدخل فيه من لا تملك أمرها لأنها لاعفو لها فكذلك لا يغبن النساء بعفو من يملك أمر التي لا تملك أمرها، وأيضاً فإن الآية إنما هي ندب إلى ترك شيء قد وجب في مال الزوج، يعطي ذلك لفظ العفو الذي هو الترك والاطراح وعطاء الزوج المهر كاملاً لا يقال فيه عفو، إنما هو انتداب إلى فضل، اللهم إلا أن تقدر المرأة قد قبضته، وهذا طارٍ لا يعتد به، قال مكي‏:‏ وأيضاً فقد ذكر الله الأزواج في قوله ‏{‏فنصف ما فرضتم‏}‏ ثم ذكر الزوجات بقوله ‏{‏يعفون‏}‏، فكيف يعبر عن الأزواج بعد بالذي بيده عقدة النكاح بل هي درجة ثالثة لم يبق لها الإ الولي‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وفي هذا نظر، وقرأ الجمهور «أو يعفوَ» بفتح الواو لأن الفعل منصوب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو يعفوْ الذي» بواو ساكنة، قال المهدوي‏:‏ ذلك على التشبيه بالألف، ومنه قول عامر بن الطفيل‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فما سوَّدَتْنِي عامِر عَنْ وِرَاثَةٍ *** أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُوْ بأُمٍّ ولاَ أبِ

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب، وقد قال الخليل رحمه الله‏:‏ لم يجئ في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم عفوة وهو جمع عفو وهو ولد الحمار، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو المفتوحة فإنها ثقيلة، ثم خاطب تعالى الجميع نادباً بقوله ‏{‏وأن تعفو أقرب للتقوى‏}‏ أي يا جميع الناس، وهذه قراءة الجمهور بالتاء باثنتين من فوق، وقرأ أبو نهيك والشعبي «وأن يعفو» بالياء، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح، وقرأ الجمهور «ولا تنسوا الفضل»، وقرأ علي بن أبي طالب ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولا تناسوا الفضل»، وهي قراءة متمكنة المعنى لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه، وقوله تعالى ‏{‏ولا تنسوا الفضل‏}‏ ندب إلى المجاملة، قال مجاهد‏:‏ الفضل إتمام الزوج الصداق كله أو ترك المرأة النصف الذي لها، وقوله ‏{‏إن الله بما تعملون بصير‏}‏ خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن‏.‏