فصل: تفسير الآيات رقم (51- 52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة‏.‏ وحكم هذه الآية باق‏.‏ وكل من اكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه منهم‏}‏، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً ورهنه درعه، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم‏:‏ سببها «أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفاً لهم، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي‏:‏ أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر، وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب درعه، وقال‏:‏ يا محمد أحسن في مواليَّ، فقال له رسول الله‏:‏ أرسل الدرع من يدك، فقال لا والله حتى تهبهم لي لأنهم ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسراً أفأدعك تحصدهم في غداة واحدة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد وهبتهم لك»، ونزلت الآية في ذلك، وقال السدي‏:‏ سبب هذه الآية أنه لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم وقال بعضهم لبعض نأخذ من اليهود عصماً ليعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش وسائر العرب فنزلت الآية في ذلك، وقال عكرمة‏:‏ سبب الآية أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم على حكم سعد بن معاذ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكل هذه الأقوال محتمل، وأوقات هذه النوازل مختلفة، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «لا تتخذوا اليهود والنصارى أرباباً بعضهم»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكل من اتصف بهذه الصفة من موالاتهم، ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه، وبهذه الآية جوز ابن عباس وغيره ذبائح النصارى من العرب وقال‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ فقال من دخل في دين قوم فهو منهم، وسئل ابن سيرين رحمه الله عن رجل أراد بيع داره من نصارى يتخذونها كنيسة فتلا هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض‏}‏ الآية، مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم والإشارة إلى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع، ويدخل في الآية من كان من مؤمني الخزرج يتابعه جهالة وعصبية، فهذا الصنف له حظه من مرض القلب، وقراءة جمهور الناس «ترى» بالتاء من فوق، فإن جعلت رؤية عين ‏{‏فيسارعون‏}‏ حال وفيها الفائدة المقصودة، وإن جعلت رؤية قلب ف ‏{‏يسارعون‏}‏ في موضع المفعول الثاني، ويقولون حال، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فيرى» بالياء من تحت والفاعل على هذه القراءة محذوف ولك أن تقدر فيرى الله أو فيرى الرأي و‏{‏الذين‏}‏ مفعول، ويحتمل أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ فاعل والمعنى أن يسارعوا فحذفت «أن» إيجازاً ‏{‏يسارعون فيهم‏}‏ معناه في نصرتهم وتأنيسهم وتجميل ذكرهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ لفظ محظوظ عن عبد الله بن أبيّ، ولا محالة أنه قال بقوله منافقون كثير، والآية تعطي ذلك، و‏{‏دائرة‏}‏ معناه نازلة من الزمان وحادثة من الحوادث تحوجنا إلى موالينا من اليهود، وتسمى هذه الأمور دوائر على قديم الزمان من حيث الليل والنهار في دوران، فكأن الحادث يدور بدورانها حتى ينزل فيمن نزل، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏دائرة السوء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 98، الفتح‏:‏ 6‏]‏ و‏{‏يتربص بكم الدوائر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 98‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

والدهر بالإنسان دواريّ *** وقول الآخر‏:‏

ويعلم أن النائبات تدور *** وقول الآخر‏:‏

يرد عنك القدر المقدورا *** ودائرات الدهر أن تدورا

ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفعل عبد الله بن أبيّ في هذه النازلة لم يكن ظاهره مغالبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو فعل ذلك لحاربه رسول الله، وإنما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستبقيهم لنصرة محمد ولأن ذلك هو الرأي، وقوله إني امرؤ أخشى الدوائر أي من العرب وممن يحارب المدينة وأهلها، وكان يبطن في ذلك كله التحرز من النبي والمؤمنين وآلفت في أعضادهم، وذلك هو الذي أسر هو في نفسه ومن معه على نفاقه ممن يفتضح بعضهم إلى بعض، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فعسى الله‏}‏ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ووعد لهم، و«عسى» من الله واجبة، واختلف المتأولون في معنى ‏{‏الفتح‏}‏ في هذه الآية فقال قتادة‏:‏ يعني به القضاء في هذه النوازل، والفتاح القاضي، فكان هذا الوعد هو مما نزل ببني قينقاع بعد ذلك وبقريظة والنضير، وقال السدي‏؟‏ يعني به فتح مكة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وظاهر الفتح في هذه الاية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته، أي فيبدو الاستغناء عن اليهود ويرى المنافق أن الله لم يوجد سبيلاً إلى ما كان يؤمل فيهم من المعونة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته فيندم حينئذ على ما حصل فيه من محادة الشرع، وتجلل ثوب المقت من الله تعالى ومن رسوله عليه السلام والمؤمنين كالذي وقع وظهر بعد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو أمر من عنده‏}‏ قال السدي المراد ضرب الجزية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو ما يتركب على سعي النبي وأصحاب ويسببه جدهم وعملهم، فوعد الله تعالى إما بفتح بمقتضى تلك الأفعال وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع هو أيضاً فتح لا يقع للبشر فيه تسبيب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيصبحوا‏}‏ معناه يكونون كذلك طول دهرهم، وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر متستر، فعند الصباح يرى بالحالة التي اقتضتها فكره أو أمراضه ونحو ذلك ومنه قول الشاعر‏:‏

أصبحت لا أحمل السلاح *** إلى غير هذا من الأمثلة، والذي أسروه هو ما ذكرناه من التمرس بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعداد اليهود للثورة عليه يوماً ما، وقرأ ابن الزهري «فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

اختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع «يقول» بغير واو عطف وبرفع اللام‏.‏ وكذلك ثبت في مصاحف المدينة ومكة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «ويقول» بإثبات الواو‏.‏ وكذلك ثبت في مصاحف الكوفيين‏.‏ وقال الطبري كذلك هي في مصاحف أهل الشرق‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده «ويقولَ» بإثبات الواو وبنصب اللام‏.‏ قال أبو علي وروى علي بن نصر عن أبي عمرو والنصب والرفع في اللام‏.‏ فأما قراءة ابن كثير ونافع فمتعاضدة مع قراءة حمزة والكسائي‏.‏ لأن الواو ليست عاطفة مفرد على مفرد مشركة في العامل وإنما هي عاطفة جملة على جملة وواصلة بينهما والجملتان متصلتان بغير واو‏.‏ إذ في الجملة الثانية ذكر من الجملة المعطوف عليها‏.‏ إذ الذين يسارعون وقالوا نخشى ويصبحون نادمين هم الذين قيل فيهم‏.‏ ‏{‏أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ فلما كانت الجملتان هكذا حسن العطف بالواو وبغير الواو‏.‏ كما أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم اكتفى بذلك عن الواو، وعلى هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 39 الأعراف‏:‏ 36 يونس‏:‏ 27‏]‏ ولو دخلت الواو فقيل «وهم فيها خالدون» كان حسناً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولكن براعة الفصاحة في الإيجاز، ويدل على حسن دخول الواو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ فحذف الواو من قوله ‏{‏ويقول الذين آمنوا‏}‏ كحذفها من هذه الآية، وإلحاقها في قوله ‏{‏ثامنهم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح حصلت ندامة المنافقين وفضحهم الله تعالى، فحينئذ يقول المؤمنون ‏{‏أهؤلاء الذين أقسموا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 53‏]‏ الآية‏.‏ وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض ‏{‏نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏ وعند أفعالهم ما فعلوا في حكاية بني قينقاع‏.‏ فظهر فيها سرهم وفهم منهم أن تمسكهم بهم إنما هو إرصاد لله ولرسوله‏.‏ فمقتهم النبي والمؤمنون، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ رغبة في المصلحة والألفة، وبحكم إظهار عبد الله أن ذلك هو الرأي من نفسه وأن الدوائر التي يخاف إنما هي ما يخرب المدينة وعلم المؤمنون وكل فطن أن عبد الله في ذلك بخلاف ما أبدى‏.‏ فصار ذلك موطناً يحسن أن يقول فيه المؤمنون ‏{‏أهؤلاء الذين أقسموا‏}‏ الآية، وأما قراءة أبي عمرو ويقول بنصب اللام فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح وظهور ندامة المنافقين وفضيحتهم، لأن الواو عاطفة فعل على فعل مشركة في العامل، وتوجه عطف ‏{‏ويقول‏}‏ مطرد على ثلاثة أوجه، أحدها على المعنى، وذلك أن قوله

‏{‏فعسى الله أن يأتي بالفتح‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏ إنما المعنى فيه فعسى الله أن يأتي بالفتح فعطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول‏}‏ على ‏{‏يأتي‏}‏ اعتماداً على المعنى، وإلا فلا يجوز أن يقال عسى الله أن يقول المؤمنون‏.‏ وهكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏ لما كان المعنى «أخرني إلى أجل قريب» أصدق وحمل ‏{‏أكن‏}‏ على الجزم الذي يقتضيه المعنى في قوله ‏{‏فأصدق‏}‏، والوجه الثاني أن يكون قوله ‏{‏أن يأتي بالفتح‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏ بدلاً من اسم الله عز وجل كما أبدل من الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏ ثم يعطف ‏{‏ويقول‏}‏ على أن يأتي لأنه حينئذ كأنك قلت عسى أن يأتي، والوجه الثالث أن يعطف قوله ‏{‏ويقول‏}‏ على ‏{‏فيصبحوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏ إذ هو فعل منصوب بالفاء في جواب التمني، إذ قوله عسى الله تمن وترج في حق البشر، وفي هذا الوجه نظر وكذلك عندي في منعهم جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الله تعالى يصيرهم يقولون بنصره وإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك اعتماداً على المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ نصب جهد على المصدر المؤكد والمعنى أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان ‏{‏أنهم لمعكم‏}‏ ثم قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود وخذل الشريعة ما يكذب إيمانهم، ويحتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ أن يكون إخباراً من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين على جهة الإخبار بما حصل في اعتقادهم إذ رأوا المنافقين في هذه الأحوال، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ على جهة الدعاء إما من الله تعالى عليهم وإما من المؤمنين، وحبط العمل إذا بطل بعد أن كان حاصلاً، وقد يقال حبط في عمل الكفار وإن كان لم يتحصل على جهة التشبيه، وقرأ جمهور الناس «حبِطت بكسر الباء وقرأ أبو واقد والجراح» حبَطت «بفتح الباء وهي لغة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه‏}‏ الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، وقال هذا القول ابن جريج وغيره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري وقال هذا القول عياض، وقال شريح بن عبيد‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا ولكنهم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضاً‏:‏ الإشارة إلى أهل اليمن، وقاله شهر بن حوشب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله عندي قول واحد، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي صلى الله عليه وسلم على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا على أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ خطاباً للمؤمنين الحاضرين يعم مؤمنهم ومنافقهم‏.‏ لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان، والإشارة بالارتداد إلى المنافقين، والمعنى أن من نافق وارتد فإن المحققين من الأنصار يحمون الشريعة ويسد الله بهم كل ثلم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم «يرتد» بإدغام الدال في الدال، وقرأ نافع وابن عامر «يرتدد» بترك الإدغام، وهذه لغة الحجاز، مكة وما جاورها، والإدغام لغة تميم، وقوله تعالى ‏{‏أذلة على المؤمنين‏}‏ معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أشداء على الكفار رحماء بينهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وكقوله عليه السلام «المؤمن هين لين»، وفي قراءة ابن مسعود «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يخافون لومة لائم‏}‏ إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم كانوا يعتذرون بملامة الأخلاق والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك فضل الله‏}‏ الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون الله ويحبهم، وقد تقدم القول غير مرة في معنى محبة الله للعبد وأنها إظهار النعم المنبئة عن رضاه عنه وإلباسه إياها‏.‏ و‏{‏واسع‏}‏ معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏إنما وليكم الله‏}‏ الآية للقوم الذين قيل لهم ‏{‏لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏، و‏{‏إنما‏}‏ في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى، وولي اسم جنس، وقرأ ابن مسعود «إنما موليكم الله» وقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقاً وهم ‏{‏الذين يقيمون الصلاة‏}‏ المفروضة بجميع شروطها ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته، وقرأ ابن مسعود «آمنوا والذين يقيمون» بواو، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم راكعون‏}‏ جملة معطوفة على جملة، ومعناها وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع، الصلاة، كما قال ‏{‏والركع السجود‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ وهي عبارة عن المصلين، وهذا قول جمهور المفسرين، ولكن اتفق أن علياً بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع، قال السدي‏:‏ هذه الآية في جمع المؤمنين ولكن علياً بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وروي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكيناً فقال له هل أعطاك أحد شيئاً فقال نعم، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتماً من فضة، وأعطانيه وهو راكع، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر وتلا الآية على الناس‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع، وفي هذا القول نظر، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي، فقال علي من المؤمنين، والواو على هذا القول في قوله ‏{‏وهم‏}‏ واو الحال، وقام قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا، فنزلت الآية مؤنسة لهم‏.‏

ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة ‏{‏فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏ اختصاراً لأن المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب، و‏{‏من‏}‏ يراد بها الجنس لا مفرد بعينه، و«الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعانون فيما يحزب، ومنه قول عائشة في حمنة‏:‏ وكانت تحارب في امر الإفك فهلكت فيمن هلك، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين ‏{‏هزواً ولعباً‏}‏ والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزُؤاً» بضم الزاي والهمز، و«هزْؤاً» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزاً بتشديد الزاي المفتوحة و«هزُواً» بضم الزاي وتنوين الواو و«هزاً» بزاي مفتوحة منونة، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلف القراء في إعراب ‏{‏الكفار‏}‏ فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة‏:‏ «والكفارَ» نصباً، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفارِ» خفضاً، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب، قال أبو علي‏:‏ حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤاً، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله‏:‏ ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95‏]‏ وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم ‏{‏إنا معكم إنما نحن مستهزئون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏، ومن قرأ «الكفارَ» بالنصب حمل على الفعل الذي هو ‏{‏لا تتخذوا‏}‏، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا» وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان، لأنهم أبعد شأواً في الكفر، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏ ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء، والمنافقون بألسنتهم، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي حق مؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ناديتم‏}‏ الآية إنحاء على اليهود وتبين لسوء فعلهم فإنهم كانوا إذا سمعوا قيام المؤمنين إلى الصلاة قال بعضهم لبعض، قد قاموا لا قاموا، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفون بها في وقت الأذان وغيره، وكل ما ذكر من ذلك فهو مثال، وقد ذكر السدي أنه كان رجل من النصارة بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله، قال حرق الله الكاذب، فما زال كذلك حتى سقط مصباح في بيته ليلة فأحرقه واحترق النصراني لعنه الله، ثم ذكر تعالى أن فعلهم هذا إنما هو لعدم عقولهم، وإنما عدموها إذ لم تتصرف كما ينبغي بها، فكأنها لم توجد‏.‏

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب ‏{‏هل تنقمون منا‏}‏ ومعناه هل تعدون علينا ذنباً أو نقيصة، يقال «نقَم» بفتح القاف ينقِم بكسرها، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور، ويقال «نقِم» بكسر القاف ينقَم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو البرهسم والنخعي، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة، ومثلها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم، إلا أن يؤمنوا بالله‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 8‏]‏ ونظير هذا الغرض في الاسثناء قول النابغة‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وقرأ الجمهور «أَنزل» بضم الهمزة، وكذلك في الثاني، وقرأ أبو نهيك «أَنزل» بفتح الهمزة والزاي فيهما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن أكثركم فاسقون‏}‏ هو عند أكثر المُتأولين معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏أن آمنا‏}‏ فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه، وهذا لا يتجه معناه، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون ‏{‏وأن أكثركم فاسقون‏}‏ مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك‏:‏ هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وقال بعض المتأولين قوله‏:‏ ‏{‏وأن أكثركم‏}‏ معطوف على ‏{‏ما‏}‏، كأنه قال ‏{‏إلا أن آمنا بالله‏}‏ ويكتبه وبأن أكثركم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مستقيم المعنى، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد فسقه هو مما ينقمونه، وذكر الله تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل أنبئكم‏}‏ قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء، وقرأ ابن وثاب والنخعي «انْبئكم» بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس‏:‏ «مثُوْبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ ابن بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثْوَبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذاً عن نظائره، ومثله قول العرب‏:‏ الفاكهة مقْوَدة إلى الأذى، بسكون القاف وفتح الواو، والقياس مثابة ومقادة، وأما مثُوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثوبة مثل مقولة، والمعنى في القراءتين مرجعاً عند الله أي في الحشر يوم القيامة، تقول العرب‏:‏ ثاب يثوب إذا رجع، منه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم ‏{‏هل أنبئكم‏}‏ هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤاً ولعباً، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئاً، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله ‏{‏شر وأضل‏}‏ صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب ‏{‏شر وأضل‏}‏ على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار، ويكون على هذا الاحتمال قوله‏:‏ ‏{‏من لعنه الله‏}‏ الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه، فهو في حكمه، وفي قراءة أبي كعب وعبد الله بن مسعود «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير»، واللعنة الإبعاد عن الخير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل‏}‏ هي بمعنى صير، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية، لأن قوله‏:‏ ‏{‏وعبد الطاغوت‏}‏ تقديره ومن عبد الطاغوت، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحداً عابد الطاغوت، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة، وأما مسخهم خنازير، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك بهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته، فدعت المرأة قوماً إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها، فيئست وباتت مهمومة، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة ينفقون في نواحيها خنازير فقالت‏:‏ الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعبد الطاغوت‏}‏ تقديره ومن عبد الطاغوت، وذلك عطف على قوله‏:‏ ‏{‏من لعنه الله‏}‏ أو معمول ل ‏{‏جعل‏}‏ وفي هذا يقول أبو علي‏:‏ إن ‏{‏جعل‏}‏ بمعنى خلق، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعَبُد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد» لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات، لأن «عبداً» في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏أوس بن حجر‏]‏‏.‏

أبني لبينى إن أمكم *** أمة وإن أباكم عبد

ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعَبَد الطاغوت» بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت»، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعَبُد الطاغوتُ» بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت، وذلك على أن يصير له أن «عبد» كالخلق والأمر المعتاد المعروف، فهي في معنى فقه وشرف وظرف، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعَبَد الطاغوتِ» بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفاً ومثله قول الزاجر‏:‏

قام ولاها فسقوها صرخدا *** أراد ولاتها فحذف تخفيفاً، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعَبْد الطاغوتِ» بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و«عبداً الطاغوت» فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر‏:‏

ولا ذاكر الله إلا قليلا *** والوجه الآخر أن يريد «عبد» الذي هو فعل ما ض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر‏:‏

وما كل مغبون ولو سلْف صفقة *** فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعْنوا بما قالوا» بسكون العين، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعُبَّادَ الطاغوتِ» بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضاً «وعابدُ الطاغوت» على وزن فاعل والدال مرفوعة، قال ابو عمرو تقديره وهم عابد الطاغوت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهو اسم جنس، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت» بضمير جمع، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة، وقرأ ابن بريدة «وعابِدِ الطاغوتِ» بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء، وقرأ بعض البصريين و«عباد الطاغوت» بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام، وقد يجوز أن يكون جمع عبد، وقل ما يأتي عباد مضافاً إلى غير الله، وأنشد سيبويه‏:‏

أتوعدني بقومك يا ابن حجل *** أشابات يخالون العبادا

قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد، وجميع الخلق عباد الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التعليق بآدم صلى الله عليه وسلم شاذ بعيد والاعتراض فيه باق، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرة فدانتهم مملكة، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعَابِدَ الشيطان» بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعُبُدَ الطاغوتِ» بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف، وقال أحمد بن يحيى ثعلب هو جمع عابد كشارف وشرف، ومنه قول القينة‏:‏

ألا يا حمز للشرف النواء *** وهن معلقات بالفناء

وقال أبو الحسن الأخفش‏:‏ هو جمع عبيد وأنشد‏:‏

أنسب العبد إلى آبائه *** أسود الجلدة من قوم عبد

وقرأ الأعمش وغيره «وعُبَّدَ الطاغوتِ» بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب‏.‏ وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعُبِدَ الطاغوتُ» بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت» كما تقول ضربت المرأة، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعُبَدَ الطاغوتِ» بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء، وهذا أيضاً بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد، وروى عكرمة عن ابن عباس‏:‏ «وعُبَّدَ الطاغوت» على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبداً منوناً ثم حذف التنوين كما قال، ولا ذاكر الله، وقد تقدم نظيره و‏{‏الطاغوت‏}‏ كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة، و«مكان» يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة، و‏{‏سواء السبيل‏}‏ وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏ وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 64‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏جاؤوكم‏}‏ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وخاصة للمنافقين‏.‏ نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم قد خرجوا به‏}‏ أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما كانوا يكتمون‏}‏ أي من الكفر‏.‏

وقوله تعالى لنبيه‏:‏ ‏{‏وترى‏}‏ يحتمل أن يكون من رؤية البصر ويحتمل من رؤية القلب ويكون المفعول الثاني ‏{‏يسارعون‏}‏، وعلى الاحتمال الأول ‏{‏يسارعون‏}‏ حال، ‏{‏في الإثم‏}‏ معناه في موجبات هؤلاء كفرهم ‏{‏والعدوان‏}‏ مصدر من عدا الرجل إذا ظلم وتجاوز الحد، و‏{‏السحت‏}‏ هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث، واللام في ‏{‏لبئس‏}‏ لام قسم، وقرأ أبو حيوة «والعِدوان» بكسر العين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا ينهاهم الربانيون والأحبار‏}‏ تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم، قال الطبري‏:‏ كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها، وقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى، وقال نحو هذا ابن عباس، وقرأ الجراح وأبو واقد «الرِبانيون» بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني، وقال الحسن‏:‏ الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وقوله في الرباني شاذ بعيد‏.‏ و‏{‏الأحبار‏}‏ واحدهم جبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك، والرباني هو العالم المدير المصلح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن قولهم الإثم‏}‏ ظاهر أن ‏{‏الإثم‏}‏ هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون» بغير لام قسم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود‏}‏ إلى قوله ‏{‏لا يحب المفسدين‏}‏ هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏}‏

‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏ فإنما المراد لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مثل البخيل والمتصدق، الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها، وقال الحسن بن أبي الحسن قوله‏:‏ ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غلت أيديهم‏}‏ دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبراً، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبراً عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبراً عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه، وقرأ أبو السمال «ولعْنوا» بسكون العين، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ العقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون‏.‏

ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏بيدي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ و‏{‏عملت أيدينا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ و‏{‏يد الله فوق أيديهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ و‏{‏لتصنع على عيني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ و‏{‏تجري بأعيننا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 14‏]‏ و‏{‏اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏وكل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ ونحو هذا، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكون عن الأمر هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة‏.‏

وقال جمهور الأمة‏:‏ بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب‏.‏ فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع، إذا كان يعني بأموره وإن كان غائباً عنه، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالاً لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب‏:‏ هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد، وذكر هذا الطبري وغيره، وقال ابن عباس في هذه الآية، ‏{‏يداه‏}‏ نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ عبارة عن إنعامه على الجملة وعبر عنه بيدين جرياً على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى‏:‏

يداك يدا مجد فكفٌّ مفيدة *** وكفٌّ إذا ما ضنَّ بالمال تنفق

ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، قال أبو عمرو الداني‏:‏ وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان» يقال يد بسطة أي مطلقة، وروي عنه «بسطان»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً‏}‏ إعلام لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك، طغوا وكفروا، وكان عليهم أن يؤمنوا إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغياناً، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏ معطوف على قوله ‏{‏وقالت اليهود‏}‏ فهي قصص يعطف بعضها على بعض، و‏{‏العداوة‏}‏ أخص من ‏{‏البغضاء‏}‏ لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو، وكأن العدواة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله‏}‏ استعارة بليغة تنبئ عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم، والآية تحتمل أن تكون إخباراً عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعاً إلا في قرى محصنة، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معنى الآية كلما أوقدوا ناراً لحرب محمد أطفأها الله، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسعون‏}‏ معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ‏:‏ إن السعي في قوله‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ إنه العمل والفعل، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى»، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يحب المفسدين‏}‏ أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 68‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصرو محمد صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه يراد بها الأسلاف والمعاصرون داخلون في هذه الأحوال بالمعنى، والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم لو آمنوا بالله وكتابه واتقوا في امتثال أوامره ونواهيه لكفرت سيئاتهم أي تسرت وأذهبت ولأدخلوا الجنة‏.‏

‏{‏ولو أنهم أقاموا التوراة‏}‏ أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والإنجيل‏}‏ يقتضي دخول النصارى في لفظ ‏{‏أهل الكتاب‏}‏ في هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزل إليهم من ربهم‏}‏ معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء، واختلف المفسرون في معنى ‏{‏من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي‏:‏ المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى‏.‏ وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه، وذكر النقاش أن المعنى‏:‏ لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض‏.‏ قوله تعالى ‏{‏منهم أمة مقتصدة‏}‏ معناه‏:‏ معتدلة، والقصد والاقتصاد‏:‏ الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال الطبري‏:‏ معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة في ملة عيسى عليه السلام، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل‏:‏ هو آدمي لغير رشدة، فكفر الطرفان، وقال مجاهد‏:‏ المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذا يتخرج قول الطبري‏:‏ ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم، وقال ابن زيد‏:‏ هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب، وهذا هو المترجح، وقد ذكر الزجّاج أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البحتري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموماً، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ساء‏}‏ في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء، وقد تستعمل ‏{‏ساء‏}‏ استعمال نعم وبئس، كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ساء مثلاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 177‏]‏ فتلك غير هذه، يحتاج في هذه التي في قوله ‏{‏ساء مثلاً‏}‏ من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس، وفي هذا نظر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ إلى قوله ‏{‏على القوم الكافرين‏}‏ هذه الآية أمر من الله ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال‏.‏ لأنه قد كان بلغ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد حالهم فكان يلقى منهم عنتاً وربما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية، فقال الله له ‏{‏بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ أي كاملاً متمماً، ثم توعده تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته‏}‏، أي إنك إن تركت شيئاً فكأنما قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتدّ به، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل‏}‏ معناه وإن لم تستوف، ونحو هذا قول الشاعر‏:‏

سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلاً *** فسيان لا ذم عليك ولا حمد

أي ولم تعط ما يعد نائلاً وإلا فيتكاذب البيت، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «فما بلغت رسالته» على الإفراد، وقرؤوا في الأنعام ‏{‏حيث يجعل رسالته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ على الجمع، وكذلك في الأعراف ‏{‏برسالاتي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏، وقرأ ابن كثير في المواضع الثلاثة بإفراد الرسالة، وقرأ نافع «رسالاته» بالجمع، وكذلك في الأنعام وأفرد في الأعراف وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بجمع الرسالة في المواضع الثلاثة، وروى حفص عن عاصم الإفراد في العقود والأنعام، والجمع في الأعراف، فمن أفرد الرسالة فلأن الشرع كله شيء واحد وجملة بعضها من بعض، ومن جمع فمن حيث الشرع معان كثيرة وورد دفعاً في أزمان مختلفة، وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها‏:‏ من زعم أن محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول‏}‏ الآية، وقال عبدالله بن شفيق‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعقبه أصحابه يحرسونه، فلما نزلت ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ خرج فقال‏:‏ يا أيها الناس ألحقوا الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هو غورث بن الحارث، والقصة في غزوة ذات الرقاع، وقال ابن جريج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فلما نزلت هذه الآية إلى قوله ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ استلقى وقال‏:‏ من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثاً، و‏{‏يعصمك‏}‏ معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعصمني من الماء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

فقلت عليكم مالكاً إن مالكاً *** سيعصمكم إن كان في الناس عاصم

وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ إما على الخصوص فيمن سبق في علم لا يؤمن، وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره‏.‏

ثم أمر تعالى نبيه محمداً عليه السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه ‏{‏لستم على شيء‏}‏ أي على شيء مستقيم حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وفي إقامة هذين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ يعني به القرآن، قاله ابن عباس وغيره ثم أخبر تعالى نبيه أنه سيطغى كثير منهم بسبب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويزيده نزول القرآن والشرع كفراً وحسداً، ثم سلاه عنهم وحقرهم بقوله ‏{‏فلا تأس على القوم الكافرين‏}‏ أي لا تحزن إذ لم يؤمنوا ولا تبال عنهم، والأسى الحزن يقال أسي الرجل يأسى أسىً إذا حزن، ومنه قول الراجز‏:‏

وانحلبت عيناه من فرط الأسى *** وأسند الطبري إلى ابن عباس قال‏:‏ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن جارية وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا‏:‏ يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة وبنبوة موسى وأن جميع ذلك حق‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم، فقالوا‏:‏ إنّا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ولا نصدقك ولا نبتعك، فنزلت الآية بسبب ذلك ‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا تأويل جمهور المفسرين، وقال الزجاج المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ المنافقون، فالمعنى أن الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى التأويل الأول ويكون قوله ‏{‏من آمن‏}‏ في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر، وقد تقدم تفسير ‏{‏هادوا‏}‏ وتفسير «الصائبين» وتفسير ‏{‏النصارى‏}‏ في سورة البقرة، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و«الصابئون» بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين» وهذه قراءة بينة الإعراب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون» بكسر الباء وضم الياء دون همز وقد تقدم في سورة البقرة وأما قراءة الجمهور «والصابئون» فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى» كذلك، وأنشد الزجاج نظيراً في ذلك‏:‏

وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق

فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا‏:‏ و‏{‏الصابئون‏}‏ عطف على ‏{‏الذين‏}‏، إذ الأصل في ‏{‏الذين‏}‏ الرفع وإذ نصب ‏{‏إن‏}‏ ضعيف وخطأ الزجّاج هذا القول وقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أقوى النواصب، وحكي أيضاً عن الكسائي أنه قال و‏{‏الصابئون‏}‏ عطف على الضمير في ‏{‏هادوا‏}‏ والتقدير هادوا هم الصابئون، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا، وقيل إن معنى نعم، وما بعدها مرفوع بالابتداء، وروي عن بعضهم أنه قرأ «والصابئون» بالهمز، واتصال هذه الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل‏}‏ الآية، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم، أي إن العصا من العصية، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع، و‏{‏كلما‏}‏ ظرف والعالم فيه كذبوا ويقتلون‏.‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما لا تهوى أنفسهم‏}‏ يقتضي أن هواهم كان غير الحق وهو ظاهر هوى النفس متى أطلق، فمتى قيد بالخير ساغ ذلك، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسارى بدر‏:‏ فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فريقاً كذبوا‏}‏ معناه كذبوه فقط، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه، وفريقاً من الرسل كذبوه وقتلوه، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏‏}‏

المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم تاب الله عليهم‏}‏ قالت جماعة من المفسرين‏:‏ هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبداً وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم، وقالت جماعة‏:‏ توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا المعنى كثيراً منهم لأن منهم قليلاً آمن، ثم توعدهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بصير بما يعملون‏}‏ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكونَ» بنصب النون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكونُ» برفع النون، ولم يختلفوا في رفع ‏{‏فتنةٌ‏}‏ لأن «كان» هنا هي التامة، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن» هي الخفيفة الناصبة، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة، وحسن دخولها لأن «لا» قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضاً منه، ولا بد في مثل هذا من عوض، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد، وقوله عز وجل ‏{‏علم أن سيكون منكم مرضى‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة، وقوله تعالى ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏ حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ليس بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن» الثقيلة التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع، فهذا الضرب تليه «أنْ» الخفيفة إذ هي تناسبه، كقوله تعالى، ‏{‏والذي أطمع أن يغفر لي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 82‏]‏ ‏{‏وتخافون أن يتخطفكم الناس‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏فإن خفتم ألا يقيما حدود الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ و‏{‏فخشينا أن يرهقهما طغياناً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 80‏]‏ أشفقتم نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يظنون أنهم ملاقو ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 46‏]‏ وقوله ‏{‏إني ظننت أني ملاق حسابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 20‏]‏ وقرأ جمهور الناس «عَموا وصَموا» بفتح العين والصاد، وقرأ ابن وثاب والنخعي «عُموا وصُموا» بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره، وصم وأصمه غيره، ولا يقال عميته ولا صممته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم تاب الله عليهم‏}‏ أي رجع بهم إلى الطاعة والحق، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم، وقوله تعالى ‏{‏كثير‏}‏ يرتفع من إحدى ثلاث جهات، إما على البدل من الواو في قوله ‏{‏عموا وصموا‏}‏ وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال‏:‏ أكلوني البراغيث، وإما على أن يكون ‏{‏كثير‏}‏ خبر ابتداء مضمر ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكداً بلام القسم عن كفر القائلين‏:‏ ‏{‏إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ وهذا قول اليعقوبية من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم وتبليغه كيف كان‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏وقال المسيح يا بني إسرائيل‏}‏ الآية، وهذه المعاني قول المسيح بألفاظ لغته، وهي بعينها موجودة في تبليغ محمد صلى الله عليه وسلم في قوله

‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48- 116‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات، وأخبرهم عيسى عليه السلام أن الله تعالى هو ربه وربهم فضلوا هم وكفروا بسبب ما رأوا على يديه من الآيات، و«المأوى» هو المحل الذي يسكنه المرء ويرجع لغيه، وقوله تعالى ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام لبين إسرائيل، ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم القول في تفسير لفظة المسيح في سورة آل عمران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 75‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏74‏)‏ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذه الآية إخبار مؤكد كالذي قبله، وهو عن هذه الفرقة الناطقة بالتثليت وهي فيما يقال الملكية وهم فرق منهم النسطورية وغيرهم، ولا معنى لذكر أقوالهم في كتاب تفسير، إنما الحق أنهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الألوهية عدداً ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكماً إلهياً، وقوله تعالى ‏{‏ثالث ثلاثة‏}‏ لا يجوز فيه إلا الإضافة وخفض ‏{‏ثلاثةٍ‏}‏ لأن المعنى أحد ثلاثة فإن قلت زيد ثالث اثنين أو رابع ثلاثة جازلك أن تضيف كما تقدم وجاز أن لا تضيف وتنصب ثلاثة على معنى زيد يربع ثلاثة، وقوله تعالى ‏{‏وما من إله إلا إله واحد‏}‏ خبر صادع بالحق، وهوالخالق المبتدع المتصف بالصفات العلى تعالى عما يقول المبطلون، ثم توعد تبارك وتعالى هؤلاء القائلين هذه العظيمة بمس العذاب، وذلك وعيد بعذاب الدنيا من القتل والسبي وبعذاب الآخرة بعد لا يفلت منه أحد منهم‏.‏

ثم رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة، ثم وصف نفسه بالغفران والرحمة استجلاباً للتائبين وتأنيساً لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم‏.‏

ثم أخبر تعالى عن حقيقة أمر المسيح وأنه رسول بشر كالرسل المتقدمة قبله، و‏{‏خلت‏}‏ معناه مضت وتقدمت في الخلاء من الأرض، وقرأ حطان بن عبد الله الرقاشي «قد خلت من قبله رسل» بتنكير الرسل، وكذلك قرأ ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ وقد مضى القول على وجه هذه القراءة هناك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمه صديقة‏}‏ صفة ببناء مبالغة من الصدق، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم، ولا تكون هنالك نبوة، فكذلك أمر مريم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ تنبيه على نقص البشرية على حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية، وذكر مكي والمهدي وغيرهما أنها عبارة عن الاحتياج إلى الغائط وهذا قول بشع ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي ولا محالة أن الناظر إذا تأمل بذهنه لواحق التغذي وجد ذلك وغيره، ثم أمر تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق، و‏{‏كيف‏}‏ في هذه الآية ليست سؤالاً عن حال لكنها عبارة عن حال شأنها أن يسأل عنها بكيف، وهذا كقولك‏:‏ كن كيف شئت فأنت صديق، و‏{‏أنى‏}‏ معناها من أي جهة، قال سيبويه معناها كيف ومن أين، و‏{‏يؤفكون‏}‏ معناه‏:‏ يصرفون، ومنه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يؤفك عنه من أفك‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 9‏]‏ والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر، والمطر في الحقيقة هو المصروف، ولكن قيل أرض مأفوكة لما كانت مأفوكة عنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 78‏]‏

‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

أمر الله نبيه أن يوقفهم على عبادتهم شخصاً من البشر لا يملك أن يضرهم ولا أن ينفعهم، و‏{‏من دون‏}‏ ودون فلان وما جاء من هذه اللفظة فإنما تضاف إلى من ليس في النازلة التي فيها القول، وتفسيرها بغير أمر غير مطرد، و«الضَّر» بفتح الضاد المصدر، و«الضَّر» بضمها الاسم وهو عدم الخير، و‏{‏السميع‏}‏ هنا إشارة إلى تحصيل أقوالهم والعليم بنياتهم، وقال بعض المفسرين‏:‏ هاتان الصفتان منبهتان على قصور البشر، أي والله تعالى هو السميع العليم بالإطلاق لا عيسى ولا غيره، وهم مقرون أن عيسى قد كان مدة لا يسمع ولا يعلم، وقال نحوه مكي‏.‏

ثم أمر تعالى نبيه محمداً أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله ‏{‏لا تغلوا‏}‏ بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب ‏{‏غير‏}‏ وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعاً آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضلوا عن سواء السبيل‏}‏ وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد، وأضلوا كثيراً من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل‏}‏ الآية‏.‏ قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم، وكذلك أمرهم مع محمد عليه السلام كان مشاهداً في وقت نزول القرآن، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاماً بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما السلام، وقال ابن عباس رحمه الله‏:‏ لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، وروى ابن جريج أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود عليه السلام مر على نفر وهم في بيت فقال من في البيت‏؟‏ قالوا‏:‏ خنازير على معنى الانحجاب، قال‏:‏ اللهم اجعلهم خنازير، فكانوا خنازير، ثم دعا عيسى على من افترى عليه على أن يكونوا قردة فكانوا قردة، وقال مجاهد وقتادة‏:‏ بل مسخوا في زمن داود قردة وفي زمن عيسى خنازير، وحكى الزجّاج نحوه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر المسخ ليس مما تعطيه ألفاظ الآية، وإنما تعطي ألفاظ الآية أنهم لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وأعلم بذلك العباد المؤمنون على لسان داود النبي في زمنه وعلى لسان عيسى في زمنه، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى لعنتهم وباقي الآية بيّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 81‏]‏

‏{‏كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم ‏{‏كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه‏}‏ أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته، وروى ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيراً، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى، قال ابن مسعود‏:‏ وكان رسول الله متكئاً فجلس، وقال‏:‏ لا والله حتى تأخذوا على على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم‏:‏ ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية، بل ينهي العصاة بعضهم بعضاً، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً‏.‏ واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله ‏{‏يتناهون‏}‏ و‏{‏فعلوه‏}‏ يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏لبئس ما كانوا يفعلون‏}‏ اللام لام قسم، جعل الزجاج ‏{‏ما‏}‏ مصدرية وقال‏:‏ التقدير لبئس شيئاً فعلهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، وقال غيره ‏{‏ما‏}‏ نكرة موصوفة، التقدير‏:‏ لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلاً‏.‏

وقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ترى كثيراً‏}‏ يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين، أي ترى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لبئس ما قدمت لهم أنفسهم‏}‏ أي قدمته للآخرة واجترحته، ثم فسر ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن سخط الله عليهم‏}‏ ف ‏{‏أن سخط‏}‏ في موضع رفع بدل من ‏{‏ما‏}‏، ويحتمل أن يكون التقدير هو أن سخط الله عليهم، وقال الزجاج‏:‏ «أن» في موضع نصب ب ‏{‏أن سخط الله عليهم‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ و‏{‏النبي‏}‏ إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد عليه السلام، والذين كفروا هم عبدة الأوثان، وخص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن‏.‏

وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترى كثيراً منهم‏}‏ كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين، وقال مجاهد رحمه الله‏:‏ ‏{‏ولو كانوا يؤمنون‏}‏ آية يعني بها المنافقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

اللام في قوله ‏{‏لتجدن‏}‏ لام الابتداء، وقال الزجّاج هي لام قسم، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار العنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة، والنصارة أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا‏.‏ ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قالوا إنا نصارى‏}‏ إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً‏}‏ معناه ذلك بأن منهم بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد، ويقال «قس» بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا، وأما الرهبان فجمع راهب‏.‏

وهذه تسمية عربية والرهب الخوف، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير‏:‏

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا *** والعصم من شغف العقول الفادر

وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر‏:‏

لو عاينت رهبان دير في القلل *** تحدَّر الرهبان يمشي ونزل

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويروى و«يزل» بالياء من الزلل، وهذه الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون وهذا بين موجود فيهم حتى الآن، واليهودي متى وجد غروراً طغى وتكبر وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن، ولم يزل مؤمناً حتى مات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وذكر السدي‏:‏ أنهم كانوا اثني عشر سبعة عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخير بالخير، وذكر السدي‏:‏ أن النجاشي خرج مهاجراً فمات في الطريق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة، وقال قتادة‏:‏ نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد، وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم‏}‏ الآية الضمير في ‏{‏سمعوا‏}‏ ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا، وليس كل النصارى يفعل ذلك، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصاً فيمن آمن لأن من فهو من الذين آمنوا وليس يقال فيه قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين‏:‏ ‏{‏ذلك بأن منهم قسيسين‏}‏ ولا يقال إنهم أقرب مودة، بل من آمن فهو أهل مودة محضة، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا‏}‏ وجاء الضمير عاماً إذ قد تحمد الجامعة بفعل واحد منها، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم، ولقد يوجد فيض الدموع غالباً فيهم وإن لم يؤمنوا، وروي أن وفداً من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاء شديداً فقال أبو بكر‏:‏ هكذا كنا ولكن قست القلوب، وروي أن راهباً من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى عبادتهم وجدهم في قتال عدوهم فعجب من حالهم، وبكى، وقال‏:‏ ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء ولا أجدّ في دينهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أنزل إلى الرسول‏}‏ فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب‏.‏ والرؤية رؤية العين، و‏{‏تفيض‏}‏ حال من الأعين، و‏{‏يقولون‏}‏ حال أيضاً و‏{‏آمنا‏}‏ معناه صدقنا أن هذا رسولك والمسموع كتابك والشاهدون محمد وأمته، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما، وقال الطبري‏:‏ لو قال قائل معنى ذلك مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صواباً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه السلام لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قولهم ‏{‏وما لنا‏}‏ توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم‏.‏ فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير ‏{‏وما لنا‏}‏ ابتداء وخبر، و‏{‏لا نؤمن‏}‏ في موضع الحال، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة‏:‏ كما تقول جاء زيد راكباً وأنت قد سئلت هل جاء ماشياً أو راكباً‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا»‏.‏ ‏{‏ونطمع‏}‏ تقديره ونحن نطمع‏.‏ فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و«القوم الصالحون» محمد وأصحابه، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين‏.‏

ثم ذكر الله تعالى ما أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم‏.‏

ثم ذكر حال الكافرين المكذبين وأنهم قرناء الجحيم، والمعنى قد علم من غير ما آية من كتاب الله أنه اقتران لازم دائم أبدي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم‏:‏ إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى إن حرم بعضهم النساء وبعضهم النوم بالليل والطيب وهمَّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون، قال عكرمة‏:‏ ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع، وقال ابن عباس أخذوا الشفار ليقطعوا مذاكرهم، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإخبارها بأنه لم يلم بها، فلما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالهم قال‏:‏ «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب، فمن رغب عن سنتي فليس مني» قال الطبري‏:‏ وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك، وقد ضل سواء السبيل، وقال ابن زيد‏:‏ سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يعشَّ فقال لزوجه ما عشيته‏؟‏ قالت‏:‏ كان الطعام قليلاً فانتظرتك، فقال‏:‏ حبست ضيفي من أجلي، طعامك علي حرام إن ذقته فقالت هي‏:‏ وهو علي حرام إن ذقته وإن لم تذقه، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال‏:‏ قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعاً‏.‏ ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ و«الطيبات» في هذه الآية المسستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية، واختلف المتأولون في معنى قوله ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ فقال السدي وعكرمة وغيرهما‏.‏ وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به، فقوله ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ تأكيد لقوله ‏{‏لا تحرموا‏}‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين كأنه لا تشددوا فتحرموا حلالاً ولا تترخصوا فتحلوا حراماً وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة‏.‏