فصل: تفسير الآيات رقم (68- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، واختلف في معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو الصحيح، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تسلهم وإياه وقيل‏:‏ بل بالمعنى أيضاً إنما أريد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمه الله، والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيهاً بغمرات الماء، ‏{‏وإما‏}‏ شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب، وقد لا تلزم كما قال‏:‏

إمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ في مُنَاوَأةٍ *** إلى غير ذلك من الأمثلة، وقرأ ابن عامر وحده «ينسّنَك» بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد، إلا أن التشديد أكثر مبالغة، و‏{‏الذكرى‏}‏ والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي، ووضفهم هنا ب ‏{‏الظالمين‏}‏ متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، و‏{‏أعرض‏}‏ في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه، ويدل على ذلك ‏{‏فلا تقعد‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم‏}‏ الآية، والمراد ب ‏{‏الذين‏}‏ هم المؤمنون‏.‏ والضمير في ‏{‏حسابهم‏}‏ عائد على ‏{‏الذين يخوضون‏}‏ ومن قال إن المؤمنين داخلون في قوله‏:‏ ‏{‏فأعرض‏}‏ قال إن النبي عليه السلام داخل في هذا القصد ب ‏{‏الذين يتقون‏}‏، والمعنى عندهم على ما روي أن المؤمنين قالوا لما نزلت فلا تقعد معهم قالوا‏:‏ إذا كنا لا نضرب المشركين ولا نسمع أقوالهم فما يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم فنزلت لذلك ‏{‏وما على الذين يتقون‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها، وقال بعض من يقول إن النبي عليه السلام داخل في ‏{‏الذين يتقون‏}‏ وإن المؤمنين داخلون في الخطاب الأول أن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه، وإنما معناها لا تقعدوا ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئاً من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم، ويحتمل المعنى أن يكون لهم لعلهم إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء، وأما من قال إن الخطاب الأول هو مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم لثقل مفارقته مغضباً على الكفار فإنه قال في هذه الآية الثانية إنها مختصة بالمؤمنين، ومعناها الإباحة، فكأنه قال فلا تقعد معهم يا محمد وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم لعلهم يتقون الله في ترك ما هم فيه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القول أشار إليه النقاش ولم يوضحه، وفيه عندي نظر، وقال قائل هذه المقالة‏:‏ إن هذه الإباحة للمؤمنين نسخت بآية النساء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ وكذلك أيضاً من قال أولاً إلا أن الإباحة كانت بحسب العبادات يقول إن هذه الآية التي في النساء ناسخة لذلك إذ هي مدنية، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وقد نزل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ إليها بنفسها فتأمله، وإلا فيجب أن يكون الناسخ غيرها، و‏{‏ذكرى‏}‏ على هذا القول يحتمل أن يكون ذكر وهم ذكرى، ويحتمل ولكن أعرضوا متى أعرضتم في غير وقت العبادة ذكرى، و‏{‏ذكرى‏}‏ على كل قول يحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل أو رفع وإضمار مبتدأ، وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدال والخوض فيه، حكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

هذا أمر بالمشاركة وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ، قال قتادة‏:‏ ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال، وقال مجاهد‏:‏ الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيدأ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد، وقوله ‏{‏لعباً ولهواً‏}‏ يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي، ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتخرج في ‏{‏غرتهم‏}‏ هنا وجه آخر من الغَرور بفتح العين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ولما التَقَيْنَا بالحَنِيَّةِ غَرَّنِي *** بِمَعْروفِهِ حتّى خَرَجَتُ أُفَوِّقُ

ومنه غر الطائر فرخه، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر» وفي كل موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً، والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على الدين، وقيل‏:‏ على القرآن، و‏{‏أن تبسل‏}‏ في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو كراهية أن تبسل، ومعناه تسلم، قال الحسن وعكرمة، وقال قتادة‏:‏ تحبس وترتهن، وقال ابن عباس‏:‏ تفضي وقال الكلبي وابن زيد‏:‏ تجزى، وهذه كلها متقاربة بالمعنى، ومنه قول الشنفرة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

هنالك لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي *** سَمِيرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِرِ

وقال بعض الناس هو مأخوذ من البَسَل أي من الحرام كما قال الشاعر ‏[‏ضمرة النهشاني‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

بَكَرَتْ تَلُومُكَ بِعْدَ وَهْنٍ في النَّدَى *** بَسل عَلَيْك مَلامَتِي وعِتابي

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بعيد، و‏{‏نفس‏}‏ تدل على الجنس، ومعنى الآية وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لها من دون الله‏}‏ في موضع الحال، و‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة و‏{‏دون‏}‏ ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك، وهي في هذه الآية الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل‏:‏

وأمر دون عبيدة الودم *** والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث في جميع الأمور ‏{‏وإن تعدل كل عدل‏}‏ أي وإن تعط كل فدية، وإن عظمت فتجعلها عدلاً لها لا يقبل منها، وحكى الطبري عن قائل ان المعنى وإن تعدل من العدل المضاد للجور، ورد عليه وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل، والقول نص لأبي عبيدة، و«العدل» في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه، وقبل‏:‏ العِدل بالكسر المثل والعَدل بالفتح القيمة، و‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله ‏{‏تبسل نفس‏}‏، و‏{‏ابسلوا‏}‏ معناه أسلموا بما اجترحوه من الكفر، و«الحميم» الماء الحار، ومنه الحمام والحمة ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

إلا الحَميمَ فإنَّه يَتَبَصَّعُ *** «وأليم» فعيل بمعنى أي مؤلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ قل في احتجاجك‏:‏ أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئاً موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل ‏{‏ما لا ينفعنا ولا يضرنا‏}‏ يعني الأصنام، إذ هي جمادات حجارة وخشب ونحوه، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال‏:‏ ‏{‏ولا يضرنا‏}‏ إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية، ‏{‏ونرد على أعقابنا‏}‏ تشبيه، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدماً وهي المشية الجيدة فيرد يمشي القهقرى، وهي المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدي إلى عبادة الأصنام، و‏{‏هدانا‏}‏ بمعنى أرشدنا، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمراً فخاب أمله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول قلق وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذي استهوته الشياطين‏}‏ الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رداً كرد الذي و‏{‏استهوته‏}‏ استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته، قال أبو عبيدة‏:‏ ويحتمل هويه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم، والهوى من هوى يهوى يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل، ومنه قول الشاعر‏:‏

هوى ابْنِي مِنْ دَار أشرف *** فَزَلَّتْ رِجُلُهُ ويَدُه

وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه أبو علي وقال‏:‏ هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتحرير‏:‏ أن العرب تقول‏:‏ هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئاً، وبيستعمل الهوى أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏، ومنه قول شاعر الجن‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

تهوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى *** ما مؤمنُ آلجِنّ كأنجاسِها

وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية، وقرأ الجمهور من الناس «استهوته الشياطين» وقرأ الحسن «استهوته الشياطون»‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ هو لحن، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين» وأمال استهواه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه الشيطان» بالياء وإفراد الشيطان، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، وقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ يحكم بأن ‏{‏استهوته‏}‏ إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع و‏{‏حيران‏}‏ في موضع الحال، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ومعناه ضالاً متحيراً وهو حال من الضمير في ‏{‏استهوته‏}‏ والعامل فيه ‏{‏استهوته‏}‏، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف، وقوله ‏{‏استهوته‏}‏ يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدي نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتداداً على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائراً وقوله‏:‏ ‏{‏وله أصحاب‏}‏ يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولاً يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً، و‏{‏ائتنا‏}‏ من الإتيان بمعنى المجيء، وفي مصحف عبد الله «إلى الهدي بيناً» وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله، حكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي» في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وب «الأصحاب» أبوه وأمه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أف لكما‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏ نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت‏:‏ كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ حدثني أبي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول‏:‏ من نازع أحداً من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله‏:‏ ‏{‏ائتنا‏}‏، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا انتزاع حسن جداً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن هدى الله‏}‏ الآية، من قال إن «الأصحاب» هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏قل إن هدى الله هو الهدى‏}‏ رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحاً وليس بهدي بل هو نفسه كفر وضلال، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان، ومن قال‏:‏ إن «الأصحاب» هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله‏:‏ ‏{‏قل إن هدى الله‏}‏ بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه، ‏{‏وأمرنا لنسلم‏}‏ اللام لام كي ومعها أن مقدرة ويقدر مفعول ل ‏{‏أمرنا‏}‏ مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم، ومذهب سيبويه في هذه أن ‏{‏لنسلم‏}‏ هو موضع المفعول وأن قولك‏:‏ أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أردت لأنسى ذكرها *** إلى غير ذلك من الأمثلة، «ونسلم» يعم الدين والاستسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وأن أقيموا‏}‏ يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدر في ‏{‏أمرنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏، وقيل بل هو معطوف على قوله ‏{‏لنسلم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏ تقديره لأن نسلم ‏{‏وأن أقيموا‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن قوله «لأن نسلم» معرب، وقوله ‏{‏أن أقيموا‏}‏ مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم إلا أن تجعل العطف في «أن» وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله ‏{‏وأن أقيموا‏}‏ بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى، ويشبه هذا من جهة «ما» ما حكاه يونس عن العرب‏:‏ أدخلوا الأول فالأول بالنصب، وقال الزجّاج أيضاً‏:‏ يحتمل أن يكون ‏{‏وأن أقيموا‏}‏ معطوفاً على ‏{‏ائتنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفيه بعد، والضمير في قوله ‏{‏واتقوه‏}‏ عائد على رب العالمين ‏{‏وهو‏}‏ ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر يتضمن التنبيه والتخويف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي خلق‏}‏ الآية، ‏{‏خلق‏}‏ ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، و‏{‏بالحق‏}‏، أي لم يخلقها باطلاً بغير معنى بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق وغير ذلك، وقيل المعنى بأن حق له أن يفعل ذلك، وقيل ‏{‏بالحق‏}‏ معناه بكلامه في قوله للمخلوقات ‏{‏كن‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ائتيا طوعاً أوكرهاً‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام، واقتران «كن» بحالة إيجاد المخلوق فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئاً فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه‏:‏ انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد، ولله المثل الأعلى، لا تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير، أمره واحدة كلمح البصر فكأن معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله ‏{‏كن‏}‏ المقترنه بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه فعبر عن ذلك ‏{‏بالحق‏}‏، ‏{‏ويوم يقول‏}‏ نصب على الظرف وهو معلق بمعمول فعل مضمر، تقديره‏:‏ واذكر الخلق والإعادة يوم، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها‏:‏ واذكر الإعادة يوم يقول الله للأجساد كن معادة، ثم يحتمل أن يتم الكلام هنا ثم يبدأ بإخبار أن يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخباراً بالإعادة، ويحتمل أن يكون تمام الكلام في قوله ‏{‏فيكون‏}‏ ويكون ‏{‏قوله الحق‏}‏ ابتداء وخبر أو على الاحتمال الذي قبل ف ‏{‏قوله‏}‏ فاعل، قال الزجّاج قوله ‏{‏يوم‏}‏ معطوف على الضمير من قوله ‏{‏واتقوه‏}‏ فالتقدير هنا على هذا القول واتقوا العقاب أو الأهوال والشدائد يوم، وقيل‏:‏ إن الكلام معطوف على قوله ‏{‏خلق السماوات‏}‏ والتقدير على هذا‏:‏ وهو الذي خلق السماوات والأرض والمعادات إلى الحشر يوم، ولا يجوز أن تعمل هذه الأفعال لا تقديرك اذكر ولا اتقوا ولا خلق في يوم لأن أسماء الزمان إذا بنيت مع الأفعال فلا يجوز أن تنصب إلا على الظرف، ولا يجوز أن يتعلق ‏{‏يوم‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏قوله الحق‏}‏ لأن المصدر لا يعمل فيما تقدمه، وقد أطلق قوم أن العامل اذكر أو خلق، ويحتمل أن يريد ب «يقول» معنى المضي كأنه قال‏:‏ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق يوم يقول بمعنى قال لها «كن»، ف ‏{‏يوم‏}‏ ظرف معطوف على موضع ‏{‏قوله الحق‏}‏ إذ هو في موضع نصب، ويجيء تمام الكلام في قوله ‏{‏فيكون‏}‏، ويجيء ‏{‏قوله الحق‏}‏ ابتداء وخبراً ويحتمل أن يتم الكلام في ‏{‏كن‏}‏، ويبتدأ ‏{‏فيكون قوله الحق‏}‏ وتكون «يكون» تامة بمعنى يظهر، و‏{‏الحق‏}‏ صفة للقول و‏{‏قوله‏}‏ فاعل، وقرأ الحسن «قُوله» بضم القاف، ‏{‏وله الملك‏}‏ ابتداء وخبر ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏}‏ «يوم» بدل من الأولى على أن «يقول» مستقبل لا على تقدير مضيه، وقيل‏:‏ بل متعلق بما تضمن الملك من معنى الفعل او بتقدير ثابت أو مستقر يوم، و‏{‏في الصور‏}‏ قال أبو عبيدة هو جمع صورة فالمعنى يوم تعاد العوالم وقال الجمهور هو الصور القرن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث ورجحه الطبري بقول النبي عليه السلام‏:‏

«إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ»، وقرأ الحسن «في الصوَر» يفتح الواو وهذه تؤيد التأويل الأول وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض ‏{‏عالم‏}‏ رفع بإضمار مبتدأ وقيل نعت ل ‏{‏الذي‏}‏ وقرأ الحسن والأعمش «عالمٍ» بالخفض على النعت للضمير الذي في ‏{‏له‏}‏، أو على البدل منه من قوله ‏{‏له الملك‏}‏، وقد رويت عن عاصم، وقيل ارتفع «عالم» بفعل مضمر من لفظ الفعل المبني للمفعول تقديره ينفخ فيه عالم على ما أنشد سيبويه‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لِيَبْكِ يزيدَ ضارعٌ لخصومةٍ *** وآخرُ مِمّنْ طَوّحَتْهُ الطَّوائِحُ

التقدير يبكيه ضارع، وحكى الطبري هذا التأويل الذي يشبه ليبك يزيد عن ابن عباس ونظيرها من القرآن قراءة من قرأ ‏{‏زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 137‏]‏ بضم الزاي ورفع الشركاء وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو «يوم ننفخ في الصور» بنون العظمة، و‏{‏الغيب والشهادة‏}‏ معناه ما غاب عنا وما حضر، وهذا يعم جميع الموجودات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

العامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مضمر تقديره‏:‏ واذكر أو قص، قال الطبري‏:‏ نبه الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بإبراهيم في محاجته قومه إذ كانوا أهل أصنام وكان قوم محمد أهل أصنام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس يلزم هذا من لفظ الآية، أما أن جميع ما يجيء من مثل هذا عرضه للاقتداء، وقرأ السبعة وجمهور الناس «آزَرَ» بفتح الهمزة التي قبل الألف وفتح الزاي والراء، قال السدي وابن إسحاق وسعيد بن عبد العزيز‏:‏ هو اسم أبي إبراهيم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد ثبت أن اسمه تارح فله على هذا القول اسمان كيعقوب وإسرائيل، وهو في الإعراب على هذا بدل من الأب المضاف في موضع خفض وهو اسم علم، وقال مجاهد بل هو اسم صنم وهو في موضع نصب بفعل مضمر تقديره‏:‏ أتتخذ أصناماً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا ضعف، وقال بعضهم بل هو صفة ومعناه هو المعوج المخطئ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويعترض هذا بأن «آزر» إذا كان صفة فهو نكرة ولا يجوز أن تنعت المعرفة بالنكرة ويوجه ذلك على تحامل بأن يقال أريدت فيه الألف واللام وإن لم يلفظها، وإلى هذا أشار الزجّاج لأنه قدر ذلك فقال لأبيه المخطئ، وبأن يقال إن ذلك مقطوع منصوب بفعل تقديره اذن المعوج أو المخطئ، وإلا تبقى فيه الصفة بهذه الحال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وقيل نصبه على الحال كأنه قال‏:‏ وإذ قال إبراهيم لأبيه وهو في حال عوج وخطأ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء ويصح مع هذا ان يكون ‏{‏آزر‏}‏ اسم أبي إبراهيم، ويصح أن يكون بمعنى المعوج والمخطئ، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏آزر‏}‏ بمعنى شيء، ولا يصح مع هذه القراءة أن يكون ‏{‏آزر‏}‏ صفة، وفي مصحف أبيّ «يا أزر» بثبوت حرف النداء «اتخذت أصناماً» بالفعل الماضي، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه أيضاً‏:‏ «أَزْراً تتخذ» بألف الاستفهام وفتح الهمزة من آزر وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وإسقاط ألف الاستفهام من «اتخذ» ومعنى هذه القراءة عضداً وقوة مظاهرة على الله تعالى تتخذ، وهو من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أشدد به أزري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 31‏]‏ وقرأ أبو اسماعيل رجل من أهل الشام بكسر الهمزة من هذا الترتيب ذكرها أبو الفتح، ومعناها‏:‏ أنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة فكأنه قال‏:‏ أوزراً ومأثماً تتخذ أصناماً، ونصبه على هذا بفعل مضمر، ورويت أيضاً عن ابن عباس، وقرأ الأعمش‏:‏ «إزْراً تتخذ» بكسر الهمزة وسكون الزاي دون ألف توقيف، و‏{‏أصناماً آلهة‏}‏ مفعولان، وذكر‏:‏ أن «آزر» أبا إبراهيم كان نجاراً محسناً ومهندساً وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظي عنده آزر لذلك، وكان على خطة عمل الأصنام تعمل بأمره وتدبيره ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده، وحينئذ يعبد ذلك الصنم، فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد كان أبوه يكلفه بيعها، فكان إبراهيم ينادي عليها‏:‏ من يشتري ما يضره ولا ينفعه‏؟‏ ويستخف بها ويجعلها في الماء منكوسة، ويقول اشربي، فلما شهر أمره بذلك وأخذ في الدعاء إلى الله تعالى قال لأبيه هذه المقالة، و‏{‏أراك‏}‏ في هذا الموضع يشترك فيها البصر والقلب لأنها رؤية قلب ومعرفته وهي متركبة على رؤية بصر، و‏{‏مبين‏}‏ بمعنى واضح ظاهر، وهو من أبان الشيء، إذا ظهر ليس بالفعل المتعدي المنقول من باب يبين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويصح أن يكون المفعول مقدراً تقديره‏:‏ في ضلال مبين كفركم، وقيل كان آزر رجلاً من أهل كوثا من سواد الكوفة، قال النقاش وبها ولد إبراهيم عليه السلام، وقيل كان من أهل حران، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض‏}‏ الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت، و‏{‏نُري‏}‏ لفظها الاستقبال ومعناها المضي، وحكى المهدوي‏:‏ أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه، و‏{‏نُرِي‏}‏ هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى ثلاثة مفاعيل، وليس كذلك ولا يصح أن يقال‏:‏ إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي يدخل عليها علمت في هذا الموضع، وإنما هي من علم بمعنى عرف، ثم نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت «أرى» بمنزلتها في هذه الحال، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر، وروي في ذلك أن الله عز وجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص لإبراهيم عليه السلام بما لم يدركه غيره، قبله ولا بعده، وهذا هو قول مجاهد قال‏:‏ تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي، وقيل‏:‏ هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره، وذلك ولا بد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القولان الأخيران يناسبان الآية، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنين وبعده واليقين يقع له ولغيره وبالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو، و‏{‏ملكوت‏}‏ بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت، وقال عكرمة هو ملكوتي باليونانية أو بالنبطية، وقرأ «ملكوث» بالثاء مثلثة وقرأ أبو السمال «مَلْكوت» بإسكان اللام وهي لغة، و‏{‏ملكوت‏}‏ بمعنى الملك، والعرب تقول لفلان ملكوت اليمن أي ملكه، واللام في ‏{‏ليكون‏}‏ متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من المؤقنين أريناه، والموقن‏:‏ العالم بالشيء علماً لا يمكن أن يطرأ له فيك شك، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً إن الإشارة ها هنا ‏{‏بملكوت السماوات‏}‏ هي إلى الكواكب والقمر والشمس، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها رؤية بصر في ظاهر الملكوت، وروي عن ابن عباس في تفسير ‏{‏وليكون من الموقنين‏}‏ قال جلى له الأمور سرها وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا، فرده لا يرى أعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

هذه الفاء في قوله ‏{‏فلما‏}‏ رابطة جملة ما بعدها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية، و«جن الليل»‏:‏ ستر وغطى بظلامه، ويقال الجن، والأول أكثر، ويشبه أن يكون الجن والمجن والجنة والجنن وهو القبر مشتقة من جن إذا ستر، ولفظ هذه القصة يحتمل أن تكون وقعت له في حال صباه وقيل بلوغه كما ذهب إليه ابن عباس‏.‏ فإنه قال‏:‏ رأى كوكباً فعبده، وقاله ناس كثير إن النازلة قبل البلوغ والتكليف، ويحتمل أن تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفاً، وحكى الطبري هذا عن فرقة وقالت إنه استفهم على جهة التوقيف بغير ألف، قال وهذا كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

رَقوني وقالوا يا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ *** فَقَلْتُ وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ

يريد أهم هم وكما قال الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وإنْ كُنْتُ دَارِياً *** شَعِيثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شَعِيثُ بْنُ منْقرِ

يريد أشعيث‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والبيت الأول لا حجة فيه عندي وقد حكي أن نمرود جبار ذلك الزمن رأى منجموه أن مولوداً ولد في سنة كذا في عمله، يكون خراب الملك على يديه فجعل يتبع الحبالى ويوكل بهن حراساً فمن وضعت أنثى تركت ومن وضعت ذكراً حمل إلى الملك فذبحه وأن أم إبراهيم حملت وكانت شابة قوية فسترت حملها فلما قربت ولادتها بعثت تارخ أبا إبراهيم إلى سفر وتحيلت لمضيه إليه ثم خرجت هي إلى غار فولدت فيه إبراهيم وتركته في الغار وقد هيأت عليه، وكانت تقتقده فتجده يغتذي بأن يمص أصابعه فيخرج له منها عسل وسمن ونحوها، وحكى بل كان يغذيه ملك وحكي بل كانت تأتيه بألبان النساء اللاتي ذبح أبناؤهن، فشب إبراهيم أضعاف ما يشب غيره، والملك في خلال ذلك يحس بولادته ويشدد في طلبه فمكث في الغار عشرة أعوام وقيل خمس عشرة سنة، وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب وجرت قصة الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وجلبت هذه القصص بغاية الاختصار في اللفظ وقصدت استيفاء المعاني التي تخص الآية ويضعف عندي أن تكون هذه القصة في الغار لقوله في آخرها ‏{‏إني بريء مما تشركون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏ وهي ألفاظ تقتضي محاجة ورداً على قوم، وحاله في الغار بعيدة عن مثل هذا اللهم إلا أن يتأول في ذلك أنه قالها بينه وبين نفسه، أي قال في نفسه معنى العبارة عنه‏:‏ يا قوم إني بريء مما تشركون، وهذا كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

ثم انثنى وَقَالَ في التّفِكيرِ *** إنَّ الحياةَ اليومَ في الكُرُورِ

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومع هذا فالمخاطبة تبعده، ولو قال يا قوم إني بريء من الإشراك لصح هذا التأويل وقوي، فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبوة عدم التكليف على ما ذهب إليه بعض المفسرين ويحتمله اللفظ فذلك ينقسم على وجهين‏:‏ إما أن يجعل قوله ‏{‏هذا ربي‏}‏ تصميماً واعتقاداً وهذا باطل لأن التصميم لم يقع من الأنبياء صلوات الله عليهم وإما أن يجعله تعريضاً للنظر والاستدلال كأنه قال هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل ويجيء إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى لمحمد عليه السلام‏:‏

‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏ أي مهمل المعتقد، وإن قلنا بأن القصة وقعت له في حال كفره وهو مكلف فلا يجوز أن يقول ‏{‏هذا ربي‏}‏ مصمماً ولا معرضاً للنظر، لأنها رتبة جهل أو شك وهو عليه السلام منزه معصوم من ذلك كله، فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام، كأنه قال لهم‏:‏ أهذا المنير ربي‏؟‏ أو هذا ربي وهو يريد على زعمكم‏؟‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أين شركائي‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27، القصص‏:‏ 62-74، فصلت‏:‏ 47‏]‏ فإنما المعنى على زعمكم، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركته وأفوله أمارة الحدوث، وأنه لا يصلح أن يكون ربّاً ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ثم في الشمس كذلك، فكأنه يقول‏:‏ فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها، ويعضد عندي هذا التأويل قوله‏:‏ ‏{‏إني بريء مما تشركون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏ ومثل لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك، وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة والكوكب وهو الزهرة، في قول قتادة وقال السدي وهو المشتري جانحاً للغروب، فلما أفل بزغ القمر وهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضاً من مغربه فسمي ذلك أفولاً لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية، ثم بزغت الشمس على ذلك، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشرة من الشهر إلى ليلة عشرين، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي، وبذلك التجوز في أفول القمر، و‏{‏أفل‏}‏ في كلام العرب معناه غاب، يقال‏:‏ أين أفلت عنّا يا فلان، وقيل معناه ذهب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا خلاف في عبارة فقط، وقال ذو الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

مصابيحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُودُها *** نُجُومٌ ولا بالآفِلاتِ الدّوالِكِ

وقال ‏{‏الآفلين‏}‏ فجمع بالياء والنون لما قصد الأرباب ونحو ذلك وعلى هذا يخرج قوله في الشمس ‏{‏هذا ربي‏}‏ فذكر الإشارة إليها لما قصد ربه وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص‏:‏ «رَأَى» بفتح الراء والهمزة، وقرأ نافع بين الفتح والكسر، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما، وقرأ أبو عمرو بن العلاء، بفتح الراء وكسر الهمزة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأى القمر بازغاً‏}‏ الآية، البزوغ في هذه الأنوار‏:‏ أول الطلوع، وقد تقدم القول فيما تدعو إليه ألفاظ الآية وكون هذا الترتيب في ليلة واحدة من التجوز في أفول القمر لأن أفوله لو قدرناه مغيبه في المغرب لكان ذلك بعد بزوغ الشمس وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار و‏{‏يهدني‏}‏ يرشدني وهذا اللفظ قول من قال‏:‏ النازلة في حال الصغر، و«القوم الضالون» عبدة المخلوقات، كالأصنام وغيرها وإن كان الضلال أعمّ من هذا فهذا هو المقصود في هذا الموضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 80‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

لما قصد قصد ربه قال هذا فذكر أي هذا المرئيّ أو المنير ونحو هذا، فما أفلت الشمس لم يبق شيء يمثل لهم به، فظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم والتبري من إشراكهم، وقوله‏:‏ ‏{‏إني بريء مما تشركون‏}‏ يؤيد قول من قال‏:‏ النازلة في حال الكبر والتكليف‏:‏ و‏{‏وجهت وجهي‏}‏ أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ب ‏{‏وجهي‏}‏، و‏{‏فطر‏}‏ معناه‏:‏ ابتدع في أجرام، و‏{‏حنيفاً‏}‏ معناه مستقيماً، والحنف الميل في كلام العرب، وأصله في الأشخاص وهو في المعاني مستعار، فالمعوج في الأجرام أحنف على الحقيقة أي مائل والمستقيم فيها أحنف على تجوز كأنه مال عن كل جهة إلى القوام و‏{‏حاجه‏}‏ فاعله من الحجة، قال أتراجعوني في الحجة في توحيد الله، وقرأت فرقة «أتحاجونني» بإظهار النونين وهو الأصل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أتحاجوني» بإدغام النون الأولى في الثانية، وقرأ نافع وابن عامر «أتحاجوني» بحذف النون الواحدة فقيل‏:‏ هي الثانية وقيل هي الأولى ويدل على ذلك أنها بقيت مكسورة قال أبو علي الفارسي‏:‏ لا يجوز أن تحذف الأولى لأنها للإعراب وإنما حذفت الثانية التي هي توطئة لياء المتكلم كما حذفت في «ليتي» وفي قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافرُ‏]‏

يسوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي *** وكسرت بعد ذلك الأولى الباقية لمجاورتها للياء ‏{‏وقد هداني‏}‏ أي أرشدني إلى معرفته وتوحيده، وأمال الكسائي «هدانِ» والإمالة في ذلك حسنة وإذا جازت الإمالة في غزا ودعا هما من ذوات الواو فهي في «هدانِ» التي هي من ذوات الياء أجوز وأحسن، وحكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام خف أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقصك، فقال لهم لست أخاف الذي تشركون به، لأنه لا قدرة له ولا غناء عنده و‏{‏ما‏}‏ في هذا الموضع بمعنى الذي، والضمير في ‏{‏به‏}‏ يحتمل أن يعود على الله عز وجل فيكون على هذا في قوله ‏{‏تشركون‏}‏ ضمير عائد على ‏{‏ما‏}‏ تقدير الكلام ولا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله في الربوبية، ويحتمل أن يعود الضمير على ‏{‏ما‏}‏ فلا يحتاج إلى غيره، كأن التقدير ما تشركون بسببه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء ربي شيئاً‏}‏ استثناء ليس من لأول و‏{‏شيئاً‏}‏ منصوب ب ‏{‏يشاء‏}‏، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئتة ربه تعالى في أن يريده بضر، و‏{‏علماً‏}‏ نصب على التمييز وهو مصدر بمعنى الفاعل، كما تقول العرب‏:‏ تصبب زيد عرقاً، المعنى تصبب عرق زيد فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏ توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏‏}‏

هذه الآية إلى ‏{‏تعلمون‏}‏ هي كلها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، المعنى‏:‏ وكيف أخاف الأصنام التي لا خطب لها وهي حجارة وخشب إذا أنا نبذتها ولم أعظمها، ولا تخافون أنتم الله عز وجل وقد أشركتم به في الربوبية أشياء لم ينزل بها عليكم حجة، و«السلطان»‏:‏ الحجة، ثم استفهم على جهة التقرير ‏{‏فأي الفريقين أحق بالأمن‏}‏ أي من لم يشرك بالقادر العالم أحق أن يأمن وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ الآية، ‏{‏الذين‏}‏ رفع بالابتداء، و‏{‏يلبسوا‏}‏ معناه يخلطوا، و«الظلم» في هذه الآية الشرك تظاهرت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت هذه الآية أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ أيّنا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما ذلك كما قال لقمان‏:‏ إن الشرك لظلم عظيم» وروي أن عمر بن الخطاب قرأ في المصحف فلما أتى عليها عظمت عليه، فلبس رداءه ومر إلى أبي بن كعب، فقال‏:‏ يا أبا المنذر وسأله عنها، فقال له إنه الشرك يا أمير المؤمنين، فسري عن عمر، وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي بن كعب رضي الله عنهم، وقرأ مجاهد، «ولم يلبسوا إيمانهم بشرك» وقرأ عكرمة «يُلبسوا» بضم الياء، و‏{‏الأمن‏}‏ رفع بالابتداء وخبره في المجرور والجملة خبر ‏{‏أولئك‏}‏، ‏{‏وهم مهتدون‏}‏ أي راشدون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ المراد بهذه الآية إبراهيم خاصة، وقال عكرمة‏:‏ نزلت في مهاجري أصحاب محمد عليه السلام خاصة، وقالت فرقة‏:‏ هي من قول إبراهيم لقومه فهي من الحجة التي أوتيها، وقال ابن جريج هي من قول قوم إبراهيم ويجيء هذا من الحجة أيضاً أن أقروا بالحق وهم قد ظلموا في الإشراك، وقال ابن إسحاق وابن زيد وغيرهما‏:‏ بل ذلك قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره ولكل مؤمن تقدم أو تأخر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن ورصفها، وهو خبر من الله تعالى ‏{‏وتلك‏}‏ إشارة إلى هذه الحدة المتقدمة وهي رفع بالابتداء و‏{‏حجتنا‏}‏ خبره و‏{‏آتيناها‏}‏ في موضع الحال، ويجوز أن تكون ‏{‏حجتنا‏}‏ بدلاً من تلك وآتيناها خبر «تلك» «وإبراهيم» مفعول ب «آتيناها» والضمير مفعول أيضاً ب ‏{‏آتيناها‏}‏ مقدم و‏{‏على‏}‏ متعلقة بقوله ‏{‏حجتنا‏}‏ وفي ذلك فصل كثير، ويجوز أن تتعلق على ب «آتيناها» على المعنى إذ أظهرناها لإبراهيم على قومه ونحو هذا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «نرفع درجاتِ من نشاء» بإضافة الدرجات إلى ‏{‏من‏}‏، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «نرفع درجاتٍ من نشاء»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهما مأخذان من الكلام، والمعنى المقصود بهما واحد، و‏{‏درجات‏}‏ على قراءة من نون نصب على الظرف، و‏{‏عليم حكيم‏}‏ صفتان تليق بهذا الموضع إذ هو موضع مشيئة واختيار فيجتاج ذلك إلى العلم والإحكام، والدرجات أصلها في الأجسام ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏ووهبنا‏}‏ عطف على ‏{‏آتينا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏ و‏{‏إسحاق‏}‏ ابنه من سارة، ‏{‏ويعقوب‏}‏ هو ابن إسحاق، و‏{‏كلاً‏}‏ و‏{‏نوحاً‏}‏ منصوبان على المفعول مقدمان على الفعل، وقوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ لقومه صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن ذريته‏}‏ المعنى وهدينا من ذريته، والضمير في ‏{‏ذريته‏}‏ قال الزجّاج جائز أن يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكر «لوط» عليه السلام وهو ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن أخته ويتخرج عند من يرى الخال أباً وقيل‏:‏ يعود الضمير على نوح وهذا هو الجيد، و‏{‏داود‏}‏ يقال هو ابن إيشى ‏{‏وسليمان‏}‏ ابنه، ‏{‏وأيوب‏}‏ هما فيما يقال أيوب بن رازح بن عيصو بن إسحاق بن إيراهيم، ‏{‏ويوسف‏}‏ هو ابن يعقوب بن إسحق، ‏{‏وموسى وهارون‏}‏ ها ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، ونصب ‏{‏دواد‏}‏ يحتمل أن يكون ب ‏{‏وهبنا‏}‏ ويحتمل أن يكون ب ‏{‏هدينا‏}‏ وهذه الأسماء كلها فيها العجمة والتعريف، فهي غير مصروفة، ‏{‏وموسى‏}‏ عند سيبويه وزنه مفعل فعلى هذا يتصرف في النكرة، وقيل وزنه فعلى، فعلى هذا لا يتصرف في معرفة ولا نكرة، ‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عمله وترغيب في الإحسان، ‏{‏وزكريا‏}‏ فيما يقال هو ابن آذر بن بركنا، ‏{‏وعيسى‏}‏ ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزينا، ‏{‏والياس‏}‏ هو ابن نسي بن فنحاص بن العيزان بن هارون بن عمران، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إدريس هو الياس ورد ذلك الطبري وغيره بأن إدريس هو جد نوح تظاهرت بذلك الروايات «وزكرياء» قرأته طائفة بالمد وقرأته طائفة بالقصر «زكريا»، وقرأ ابن عامر باختلاف عنه، والحسن وقتادة بتسهيل الهمزة من الياس، وفي هذه الآية أن عيسى عليه السلام من ذرية نوح أو إبراهيم بحسب الاختلاف في عود الضمير من ذريته، وهو ابن ابنته، وبهذا يستدل في الأحباس على أن ولد البنت من الذرية، وإسماعيل هو أكبر ولدي إبراهيم عليه السلام وهو من هاجر واليسع قال زيد بن أسلم وهو يوشع بن نون، وقال غيره‏:‏ هو أليسع بن أخطوب بن العجوز، وقرأ جمهور الناس «وأليسع» وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» كأن الألف واللام دخلت على فيعل، قال أبو علي الفارسي‏:‏ فالألف واللام في «اليسع» زائدة لا تؤثر معنى تعريف لأنها ليست للعهد كالرجل والغلام ولا للجنس كالإنسان والبهائم ولا صفة غالبة كالعباس والحارث لأن ذلك يلزم عليه أن يكون «اليسع» فعلاً، وحينئذ يجري صفة‏.‏ وإذا كان فعلاً وجب أن يلزمه الفاعل ووجب أن يحكى إذ هي جملة ولو كان كذلك لم يجز لحاق اللام له إذ اللام لا تدخل على الفعل فلم يبق إلا أن تكون الألف واللام زائدة كما هي زائدة في قولهم الخمسة العشر درهماً، وفي قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يا ليت أمَّ العمرِ كَانَتْ صَاحبي *** بالعين غير منقوطة، وفي قوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَجَدْنَا الوليدَ بْنَ اليزيدِ مُبَارَكاً *** شديداً بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُهْ

قال وأما الليسع فالألف واللام فيه بمنزلتها في الحارث والعباس لأنه من أبنية الصفات لكنها بمنزلة «اليسع» في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجئ فيها شيء هو على هذا الوزن كما لم يجئ منها شيء فيه لام تعريف فهما من الأسماء الأعجمية إلا أنهما مخالفات للأسماء فيما ذكر‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وأما اليزيد فإنه لما سمي به أزيل منه معنى الفعل وأفردت فيه الاسمية فحصل علماً وزيدت فيه الألف واللام لا لتعريف، وقال الطبري دخلت الألف واللام إتباعاً للفظ الوليد، ‏{‏ويونس‏}‏ هو ابن متَّى ويقال يونس ويونَس ويونُس وكذلك يوسِف ويوسَف ويوسُف وبكسر النون من يونِس والسين من يوسِف قرأ الحسن وابن مصرف وابن وثاب وعيسى بن عمر والأعمش في جميع القرآن و‏{‏العالمين‏}‏ معناه عالمي زمانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 90‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

والمعنى وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات، ف ‏{‏من‏}‏ للتبيعض؛ والمراد من آمن منهم نبياً كان أو غير نبي، ويدخل عيسى عليه السلام في ضمير قوله‏:‏ ‏{‏ومن آبائهم‏}‏، ولهذا قال محمد بن كعب الخال أب والخالة أم، ‏{‏واجتبيناهم‏}‏ معناه تخيرناهم وأرشدناهم وضممناهم إلى خاصتنا وأرشدناهم إلى الإيمان والفوز برضى الله تعالى‏.‏ قال مجاهد معناه أخلصناهم، و«الذرية» الأبناء وينطلق على جميع البشر ذرية لأنهم أبناء، وقال قوم‏:‏ إن الذرية تقع على الآباء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏ يراد به نوع البشر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هدى الله يهدي به‏}‏ الآية، ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى النعمة في قوله‏:‏ ‏{‏واجتنبناهم‏}‏ وإضافة الهدى إلى الله إضافة ملك، و‏{‏حبط‏}‏ معناه تلف وذهب لسوء غلب عليه، و‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى من تقدم ذكره و‏{‏الكتاب‏}‏ يراد به المصحف والتوراة والإنجيل والزبور، و‏{‏الحكم‏}‏ يراد به اللب والفطنة والفقه في دين الله، و‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كل كفار في ذلك العصر، قاله قتادة وابن عباس والسدي وغيرهم، و‏{‏قوماً‏}‏ يراد به مؤمنوا أهل المدينة، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم، فالآية على هذا التأويل وإن كان القصد في نزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال قتادة أيضاً والحسن بن أبي الحسن المراد ب «القوم» من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقال أبو رجاء‏:‏ المراد الملائكة، والباء في ‏{‏به‏}‏ متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏بكافرين‏}‏ والباء في قوله ‏{‏بكافرين‏}‏ زائدة للتأكيد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله‏}‏ الآية، الظاهر في الإشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ أنها إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين ومعنى الاقتداء اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة، وإنما يصح اقتداؤه بجميعهم في العقود والإيمان والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف وأما أعمال الشرائع فمختلفة، وقد قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ ويحتمل أن تكون الإشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى قوله ‏{‏قوماً‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم ويقلق بعضها، قال القاضي ابن الباقلاني‏:‏ واختلف الناس هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه متعبداً بشرع من كان قبله، فقالت طائفة كان متعبداً، واختلف بشرع من‏؟‏ فقالت فرقة بشرع إبراهيم، وفرقة بشرع موسى، وفرقة بشرع عيسى، وقالت طائفة بالوقف في ذلك، وقالت طائفة لم يكن متعبداً بشرع من كان قبله وهو الذي يترجح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يحمل كلام القاضي على أنه لم يكن متعبداً بشرع من كان قبله في توحيد ولا معتقد لأنَّا نجد شرعنا ينبئ أن الكفار الذين كانوا قبل النبي عليه السلام كأبويه وغيرهما في النار ولا يدخل الله تعالى أحداً النار إلا بترك ما كلف، وذلك في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وغير ذلك وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب ولا يكلف وإنما يوجب الشرع، فالوجه في هذا أن يقال إن آدم عليه السلام فمن بعده دعا إلى توحيد الله دعاء عاماً واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي البالغ أن يبحث على الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن ولا يعبد غير الله، فمن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله وهو مع ذلك لم يكفر ولا عبد صنماً بل تخلى فأولئك أهل الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث فعبد صنماً وكفر فهذا تارك للواجب عليه مستوجب العقاب بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل بتوحيد الله عز وجل، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم إذ هي مختلفة وإذ لم يدعهم إليها نبي، وأما بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهل هو وأمته مخاطبون بشرع من تقدم فقالت فرقة لسنا مخاطبين بشيء من ذلك وقالت فرقة نحن مخاطبون بشرع من قبلنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن قال من هذه الطائفة إن محمداً عليه السلام وأمته مخاطبون بكل شرائع من تقدم على الإطلاق فقد أحال لأن أحكام الشرائع تأتي مختلفة وإنما يتحدق قول من قال منها إنَّا متعبدون بما صح نقله من شرائع من قبلنا ولم تختلف فيه الشرائع وبالآخر مما اختلفت فيه لأنه الناسخ المتقدم ويرتبط في صحة نقل ذلك إلى ما وقع في القرآن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حكاية أحكام سالفة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة لذكري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ وكحكاية تزويج شعيب ابنته بموسى عليهما السلام، وكحديث النبي عليه السلام في قضية سليمان بين المرأتين في الولد ونحو ذلك، ولا يقتضي قولهم أكثر من جواز أن يتعبد بذلك وأما وجوب أن تعبد فغير لازم، ولا يتعلق عندي أشبه في ذلك من أن يقال إن النبي عليه السلام شرع لأمته أن يصلي الناس صلاته إذا ذكرها، ثم مثل في ذلك لا على طريق التعليل بقوله عز وجل لموسى ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ فننقل نحن هذا إلى غير ذلك من النوازل ونقول إنه كما شرع عندنا المثال في نسيان الصلاة كذلك نشرع هذه الأمثلة كلها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قياس ضعيف، ولو ذكر النبي عليه السلام قوله تعالى‏:‏

‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ على جهة التعليل لكانت الحجة به قوية، ولا يصح أن يقال يصح عندنا نقل ما في الشرائع من جهة من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره صحة ننقلها، وكذلك ما شرعه الحواريون لا سبيل إلى صحة شرع عيسى عليه السلام له، وقرأ ابن كثير وأهل مكة ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة وعاصم «اقتده» بهاء السكت ثابتة في الوقف والوصل، وقرأ حمزة والكسائي «اقتد» قال بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف، وهذا هو القياس، وهي تشبه ألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء وتوصل غير مبتدأ بها، فكذلك هذه تثبت في الوقف وتحذف في الوصل، وقرأ ابن عامر «اقتدهِ» بكسر الهاء دون بلوغ الياء، قال ابن مجاهد وهذا غلط لأنها هاء وقف لا تعرب على حال، قال أبو علي ووجه ذلك أن تكون ضمير المصدر كأنه قال اقتد الاقتداء، وقرأ ابن ذكوان على هذه «اقتدهِ» بإشباع الياء بعد الهاء، وقالت فرقة إن كسر الهاء إنما هو في هاء السكت كما قد تسكن هاء الضمير أحياناً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، ولا تجوز عليه القراءة بإشباع الياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم‏}‏ الآية، المعنى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله وتوحيده أستكثر بها وأختص بدنياها، إن القرآن إلا موعظة، وذكرى ودعاء لجميع العالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏قدروا‏}‏ و‏{‏قالوا‏}‏ قيل يراد به العرب قاله مجاهد وغيره، وقيل يراد به بنو إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل رجل مخصوص منهم يقال له مالك بن الصيف قاله سعيد بن جبير، وقيل في فنحاص قاله السدي، ‏{‏قدروا‏}‏ هو من توفية القدر والمنزلة فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك، غير أن تعليله بقولهم ‏{‏ما أنزل الله‏}‏ يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثه الرسل و‏{‏حق‏}‏ نصب على المصدر، ومن قال إن المراد كفار العرب فيجيء الاحتجاج عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ احتجاجاً بأمر مشهور منقول بكافة قوم لم تكن العرب مكذبة لهم، ومن قال إن المراد بني إسرائيل فيجيء الاحتْجاج عليهم مستقيماً لأنهم يلتزمون صحة نزول الكتاب على موسى عليه السلام، وروي أن مالك بن الصيف كان سميناً فجاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله ألست تقرأ فيما أنزل على موسى أن الله يبغض الحبر السمين» فغضب وقال والله ‏{‏ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ والآية على قول من قال نزلت في قول بني إسرائيل تلزم أن تكون مدنية، وكذلك حكى النقاش أنها مدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وغيرهما «وما قدّروا» بتشديد الدال «الله حق قدره» بفتح الدال، وقرأ الجمهور في الأول بالتخفيف وفي الثاني بإسكانه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

‏{‏قل من أنزل الكتاب‏}‏ الآية، أمره الله تعالى أن يستفهم على جهة التقرير على موضع الحجة، والمراد ب ‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة، و‏{‏نوراً وهدى‏}‏ اسمان في موضع الحال بمعنى نيراً وهادياً، فإن جعلناه حالاً من ‏{‏الكتاب‏}‏ فالعامل فيه ‏{‏أنزل‏}‏، وإن جعلناه حالاً من الضمير في ‏{‏به‏}‏ فالعامل فيه ‏{‏جاء‏}‏، وقرأ جمهور الناس «تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون» بالتاء من فوق في الأفعال الثلاثة، فمن رأى أن الاحتجاج على بني إسرائيل استقامت له هذه القراءة وتناسقت مع قوله‏:‏ ‏{‏وعلمتم ما لم تعلموا‏}‏ ومن رأي أن الاحتجاج إنما هو على كفار العرب فيضطر في هذه القراءة إذا لا يمكن دفعها إلى أن يقول إنه خرج من مخاطبة قريش في استفهامهم وتقريرهم إبى مخاطبة بني إسرائيل بتوبيخهم وتوبيخ أفعالهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مع بعده أسهل من دفع القراءة، فكأنه على هذا التأويل قال لقريش من أنزل الكتاب على موسى، ثم اعترض على بني إسرائيل فقال لهم خلال الكلام تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً» بالياء في الأفعال الثلاثة، فمن رأى الاحتجاج على قريش رآه إخباراً من الله عز جل بما فعلته اليهود من الكتاب، ويحتمل أن يكون الإخبار بذلك لقريش أو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن فأمته متلقية ذلك، و‏{‏قراطيس‏}‏ جمع قرطاس أي بطائق وأوراقاً والمعنى يجعلونه ذا قراطيس من حيث يكتب فيها، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم آيات محمد عليه السلام والإخبار بنبوته وجميع ما عليهم فيه حجة وقوله‏:‏ ‏{‏وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم‏}‏ قال مجاهد وغيره هي مخاطبة للعرب، فالمعنى على هذا قصد ذكر منة الله عليهم بذلك أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعلمتم ما لم تعلموا‏}‏ يصلح على هذا المعنى لمخاطبة من انتفع بالتعليم ومن لم ينتفع به، ويصح الامتنان بتعليم الصنفين، وليس من شرط من علم أن يعلم ولا بد، اما أن التعليم الكامل هو الذي يقع معه التعلم، وقالت فرقة بل هي مخاطبة لبني إسرائيل، والمعنى على هذا يترتب على وجهين، أحدهما أن يقصد به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به، لأن آباء المخاطبين من بني إسرائيل كانوا علموا أيضاً وعلم بعضهم، وليس ذلك في آباء العرب، والوجه الآخر أن يكون المقصود منهم أي وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه بعد التعليم ولا انتفعتم به لإعراضكم وضلالكم ثم أمره تعالى بالمبادرة إلى موضع الحجة أي قل‏:‏ الله هو الذي أنزل الكتاب على موسى ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا أو نحو هذا فقل الله ثم أمره بترك من كفر وأعرض، وهذه آية منسوخة بآية القتال إن تأولت موادعة، وقد يحتمل أن لا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديداً ووعيداً مجرداً من موادعة، و«الخوض» الذهاب فيما لا تسبر حقائقه، وأصله في الماء ثم يستعمل في المعاني المشكلة الملتبسة، و‏{‏يلعبون‏}‏ في موضع الحال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى القرآن، و‏{‏مبارك‏}‏ صفة له، و‏{‏مصدق‏}‏ كذلك وحذف التنوين من ‏{‏مصدق‏}‏ للإضافة وهي إضافة غير محضة لم يتعرف بها مصدق ولذلك ساغ أن يكون وصفاً لنكرة، و‏{‏الذي‏}‏ في موضع المفعول، والعامل فيه مصدر، ولا يصلح أن يكون ‏{‏مصدق‏}‏ مع حذف التنوين منه يتسلط على ‏{‏الذي‏}‏، ويقدر حذف التنوين للالتقاء وإنما جاء ذلك شاذاً في الشعر في قوله‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فألْفَيْتُهُ غيْرَ مُسْتَعْتِبٍ *** ولا ذَاكِر الله إلاَّ قَليلا

ولا يقاس عليه، و‏{‏بين يديه‏}‏ هي حال التوراة والإنجيل لأن ما تقدم فهو بين يدي ما تأخر، وقالت فرقة ‏{‏الذي بين يديه‏}‏ القيامة‏.‏

قال القاضي أو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة، وقرأ الجمهور «ولتنذر أم القرى» أي أنت يا محمد، وقرأ أبو بكر عن عاصم «ولينذر» أي القرآن بمواعظة وأوامره، واللام في ‏{‏لتنذر‏}‏ متعلقة بفعل متأخر تقديره ولتنذر أم القرى أو من حولها أنزلناه، و‏{‏أم القرى‏}‏ مكة سميت بذلك لوجوه أربعة، منها أنها منشأ الدين والشرع ومنها ما روي أن الأرض منها دحية ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى، ومنه ما لحق عن الشرع من أنها قبلة كل قرية فهي لهذا كله أم وسائر القرى بنات، وتقدير الآية لتنذر أهل أم القرى، ‏{‏ومن حولها‏}‏ يريد أهل سائر الأرض، و‏{‏حولها‏}‏ ظرف العامل فيه فعل مضمر تقديره من استقر حولها، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح وصفهم وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور، و‏{‏يؤمنون‏}‏ بالقرآن ويصدقون بحقيقته، ثم قوى عز وجل مدحهم بأنهم «يحافظون على صلاتهم» التي هي قاعدة العبادات وأم الطاعات، وقرأت الحست بن أبي الحسن وأبو بكر عن عاصم «صلواتهم» بالجمع، ومن قرأ بالإفراد فإنه مفرد يدل على الجميع وإذا انضاقت الصلاة إلى ضمير لم تكتب إلا بالألف ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تنضف إلى ضمير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

هذه الفاظ عامة فكل من واقع شيئاً مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقول‏:‏ ‏{‏ومن أظلم‏}‏ أي لا أحد أظلم وقال قتادة وغيره‏:‏ المراد بهذه الآيات مسيلمة والأسود العنسي، وذكروا برؤية النبي عليه السلام للسوارين وقال السدي‏:‏ المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الغامدي وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فلما نزلت ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ فقال عبد الله بن سعد من تلقاء نفسه ‏{‏فتبارك الله أحسن الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 23‏]‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اكتبها فهكذا أنزلت»، فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتداً وقال أنا أنزل مثل ما أنزل الله، وروي عنه أيضاً أن النبي عليه السلام ربما أملى عليه «والله غفور رحيم» فبدلها هو «والله سميع عليم» فقال النبي عليه السلام‏:‏ «ذلك سواء ونحو هذا»، وقال عكرمة‏:‏ أولها في مسيلمة والأخر في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن بقوله والزارعات زرعاً والخابزات خبزاً إلى غير ذلك من السخافات‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ فخصص المتأولون في هذه الآيات ذكر قومٍ قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئاً من معانيها كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما وقرأ الجمهور «سأنزل مثل ما أنزل» بتخفيف وقرأ أبو حيوة «سأنَزّل» بفتح النون وتشديد الزاي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون‏}‏ الآية، جواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف تقديره لرأيت عجباً أو هولاً ونحو هذا وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله و‏{‏الظالمون‏}‏ لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره وغير ذلك من أنواع الظلم الذي هو كفر و«الغمرات» جمع غمرة وهي المصيبة المبهمة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء، ومنه قول الشاعر ‏[‏بشر بن أبي خازم‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وَلاَ يُنْجِي مِنَ الغَمَرَاتِ إلاّ *** بَراكاءُ القِتَالِ أوِ الْفرَارُ

‏{‏والملائكة‏}‏ ملائكة قبض الروح، و‏{‏باسطو أيديهم‏}‏ كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم‏:‏ ‏{‏لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته، قال ابن عباس‏:‏ يضربون وجوههم وأدبارهم، وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة، وقيل إن المراد بسط الأيدي في جهنم، والغمرات كذلك لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، وقوله ‏{‏أخرجوا أنفسكم‏}‏ حكاية لما تقولة الملائكة، والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم، ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا فأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقاً في الدنيا، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح، قال الحسن‏:‏ هذا التوبيخ على هذا الوجه هو في جهنم، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر والإهانة كما يقول الرجل لمن يقهره بنفسه على أمر ما أفعل كذا، لذلك الأمر الذي هو يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم تجزون عذاب الهون‏}‏ الآية، هذه حكاية عن قول الملائكة للكفرة عند قبض أرواحهم، و‏{‏الهون‏}‏ الهوان ومنه قول ذي الصبع‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إلَيْكَ عني فما ألمى براعية *** تَرْعَى المخَاضَ ولا أفضى على الهُونِ

وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة «عذاب الهوان» بالألف‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏تقولون على الله غير الحق‏}‏ لفظ جامع لكل نوع من الكفر ولكنه يظهر منه ومن قوله ‏{‏وكنتم عن آياته تستكبرون‏}‏ الإنحاء على من قرب ذكره من هؤلاء الذين ادعوا الوحي وأن ينزلوا مثل ما أنزل الله، فإنها أفعال بين فيها «قول غير الحق على الله» وبين فيها الاستكبار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل، و‏{‏فرادى‏}‏ معناه فرداً فرداً، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر ‏[‏ابن مقبل‏]‏‏:‏

ترى النعرات الزرق تحت لبانه *** فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقرأ أبو حيوة «فرادىً» منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم، و‏{‏فرادى‏}‏ قيل هو جمع فرَد بفتح الراء، وقيل جمع فرْد بإسكان الراء والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏كما خلقناكم أول مرة‏}‏ تشبيهاً بالانفراد الأول في وقت الخلقة، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله‏:‏ ‏{‏كما خلقناكم‏}‏ زيادة معان على الانفراد كأنه قال ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً، و‏{‏خولناكم‏}‏ معناه أعطيناكم، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏:‏

هنالك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالَ يُخْوِلُوا *** وإن يُسْألوا يُعْطُوا وإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا

‏{‏وراء ظهوركم‏}‏ إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجوداً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم‏}‏ الآية، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها، قال الطبري‏:‏ وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر، وحمزة «بينُكم» بالرفع، وقرأ نافع والكساء «بينَكم» بالنصب أما الرفع فعلى وجوه، أولاها أنه الظرف استعمل اسماً وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه، اسماً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فُصّلت‏:‏ 5‏]‏ وكقولهم فيما حكى سيبويه أحمر بن بين العينين، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين» في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعاً عن العرب وإنما انتزع من الآية، والآية محتملة، قال الخليل في العين «والبين» الوصل‏.‏

لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ فعلل سوق اللفظة بالآية، والآية معرضة لغير ذلك، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين» الوصل وقال‏:‏ «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله‏:‏ قد أنصف البين من البين»‏.‏

والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين» على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد، ويكون في قوله‏:‏ ‏{‏تقطع‏}‏ تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد ذلك، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك «بالبين» الذي هو الفرقة، وأما وجه قراءة النصب فأن يكون ظرفاً ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف وتقديره لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس‏:‏ مجاهد والسدي وغيرهما، وجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش وهو أن يكون الفعل مسنداً إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه وهو في النية مرفوع، ومثل هذا عنده قوله ‏{‏وإنّا منا الصالحون ومنا دون ذلك‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 11‏]‏ وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم» بزيادة ما و‏{‏ضل‏}‏ معناه تلف وذهب، و‏{‏ما كنتم تزعمون‏}‏ يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك الله في الألوهية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

هذا ابتداء تنبيه على العبرة والنظر، ويتصل المعنى بما قبله لأن القصد أن الله لا هذه الأصنام، وقال مجاهد وأبو مالك هذه إشارة إلى الشق الذي في حبة البر ونواة التمر‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ والعبرة على هذا القول مخصوصة في بعض الحب وبعض النوى، وليس لذلك وجه، وقال الضحاك وقتادة والسدي وغيرهما هذه إشارة إلى فعل الله في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا هو الظاهر الذي يعطي العبرة التامة، فسبحان الخلاق العليم، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏فالق‏}‏ بمعنى خالق، وقال السدي وأبو مالك‏:‏ ‏{‏يخرج الحي من الميت‏}‏ إشارة إلى إخراج النبات الأخضر والشجر الأخضر من الحب اليابس والنوى اليابس، فكأنه جعل الخضرة والنضارة حياة واليبس موتاً و‏{‏مخرج الميت من الحي‏}‏ إشارة إلى إخراج اليابس من النبات والشجر، وقال ابن عباس وغيره، بل ذلك كله إشارة إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وإخراج النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك سائر الحيوان والطير من البيض والحوت وجميع الحيوان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القول أرجح وإنما تعلق قائلو القول الأول بتناسب تأويلهم مع قوله‏:‏ ‏{‏فالق الحب والنوى‏}‏ وهما على هذا التأويل الراجح معنيان متباينان فيهما معتبر، وقال الحسن‏:‏ المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ ابتداء وخبر متضمن التنبيه، ‏{‏فأنّى تؤفكون‏}‏ أي تصرفون وتصدون و‏{‏فالق الإصباح‏}‏ أي شاقه ومظهره، والفلق الصبح، وقرأ الجمهور «فالق الإصباح» بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء «فالق الإصباح» بفتح الهمزة جمع صبح، وقرأت فرقة «فالق الإصباح» بحذف التنوين «فالقُ» لالتقاء الساكنين، ونصب «الإصباحَ» ب «فالقٌ» كأنه أراد «فالق الإصباح» بتنوين القاف، وهذه قراءة شاذة، وإنما جوز سيبويه مثل هذا في الشعر وأنشد عليها‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فَألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ *** وَلاَ ذاكِرَ الله إلاَّ قليلا

وحكى النحاس عن المبرد جواز ذلك في الكلام، وقرأ أبو حيوة وإبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فلق الإصباح» بفعل ماض، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وجاعل الليل» وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وجعل الليل»، وهذا لما كان «فالق» بمعنى الماضي فكأن اللفظ «فلق الإصباح» وجعل، ويؤيد ذلك نصب ‏{‏الشمسَ والقمرَ‏}‏، وقرأ الجمهور «سكناً» وروي عن يعقوب «ساكناً» قال أبو عمرو الداني ولا يصح ذلك عنه، ونصبه بفعل مضمر إذا قرأنا «وجاعل» لأنه بمعنى المضي، وتقدير الفعل المضمر وجاعل الليل يجعله سكناً، وهذا مثل قولك هذا معطي زيد أمس درهماً، والذي حكاه أبو علي في هذا أن ينتصب بما في الكلام من معنى معطي، وقرأ أبو حيوة «والشمسِ والقمرِ» بالخفض عطفاً على لفظ «الليل» و‏{‏حسباناً‏}‏ جمع حساب كشهبان في جمع شهاب، أي تجري بحساب، هذا قول ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد، وقال مجاهد في صحيح البخاري المراد حسبان كحسبان إلى حي وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين، فالحجة بها على الكافرين قائمة والعبرة بها للمؤمنين ممكنة متعرضة، و‏{‏جعل‏}‏ هنا بمعنى خلق لدخولها على مفعول واحد، وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني في ‏{‏لتهتدوا‏}‏ لأنه يقدر وهو الذي جعل لكم النجوم هداية، و‏{‏في ظلمات‏}‏ هي ها هنا على حقيقتها في ظلمة الليل بقرينة النجوم التي لا تكون إلا بالليل، ويصح أن تكون «الظلمات» ها هنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدي فيها الشمس، وذكر الله تعالى النجوم في ثلاث منافع وهي قوله‏:‏ ‏{‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ ‏[‏المُلك‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلناها رجوماً للشياطين‏}‏ ‏[‏المُلك‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر‏}‏ فالواجب أن يعتقد أن ما عدا هذه الوجوه من قول أهل التأثير باطل واختلاق على الله وكفر به، و‏{‏فصلنا‏}‏ معناه بينا وقسمنا و‏{‏الآيات‏}‏ الدلائل و‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ تخصيص لهم بالذكر وتنبيه منهم لتحصلهم الآية المفصلة المنصوبة، وغيرهم تمر عليهم الآيات وهم معرضون عنها، وقوله ‏{‏وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع‏}‏ الآية، الإنشاء فعل الشيء، و‏{‏من نفس واحدة‏}‏ يريد آدم عليه السلام، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «فمستقَر» بفتح القاف على أنه موضع استقرار، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقِر» بكسر القاف على أنه اسم فاعل، وأجمعوا على فتح الدال من «مستودَع» بأن يقدر موضع استيداع، وأن يقدر أيضاً مفعولاً ولا يصح ذلك في مستقر لأن استقر لا يتعدى فيبنى منه مفعول أما أنه روى هارون الأعور عن أبي عمرو «ومستودِع» بكسر الدال، فمن قرأ «فمستقَر ومستودِع» على أنها موضع استقرار وموضع استيداع علقها بمجرور تقديره فلكم مستقر ومستودع، ومن قرأ «فمستقِر ومستودع» على اسم الفاعل في «مستقِر» واسم المفعول في «مستودَع» علقها بمجرور تقديره فمنكم مستقر ومستودع واضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع، فقال الجمهور مستقر في الرحم ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم، وقال ابن عون‏:‏ مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالو قد توفي فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن «مستقر ومستودع» فقال‏:‏ مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ مستقر في القبور ومستودع في الدنيا، وقال ابن عباس‏:‏ المستقر الأرض والمستودع عند الرحم، وقال ابن جبير‏:‏ المستودع في الصلب والمستقر في الآخرة والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقراراً مطلقاً لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقراراً مطلقاً، وليس فيها مستودع لأنه لا نقله له بعد وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر» بالإضافة إلى التي قبلها و«مستودع» بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد، و‏{‏يفقهون‏}‏ معناه يفهمون وقد تقدم تفسير مثل هذا آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏السماء‏}‏ في هذا الموضع السحاب، وكل ما أظلك فهو سماء، و‏{‏ماء‏}‏ أصله موه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فجاء ماه فبدلت الهاء بالهمزة لأن الألف والهاء ضعيفان مهموسان، وقوله‏:‏ ‏{‏نبات كل شيء‏}‏ قال بعض المفسرين أي مما ينبت، وحسن إطلاق العموم في ‏{‏كل شيء‏}‏ لأن ذكر النبات قبله قد قيد المقصد وقال الطبري والمراد ب ‏{‏كل شيء‏}‏ ما ينمو من جميع الحيوانات والنبات والمعادن وغير ذلك، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء، والضمير في ‏{‏منه‏}‏ يعود على النبات، وفي الثاني يعود على الخضر، و‏{‏خضراً‏}‏ بمعنى أخضر، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «الدنيا خضرة حلوة» بمعنى خضراء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكأن «خضراً» إنما يأتي أبداً لمعنى النضارة وليس للون فيه مدخل، وأخضر إنما تمكنه في اللون، وهو في النضارة تجوز، وقوله‏:‏ ‏{‏حباً متراكباً‏}‏ يعم جميع السنابل وما شاكلها كالصنوبر، والرمان وغيرها من جميع النبات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النخل‏}‏ تقديره ونخرج من النخل و‏{‏من طلعها قنوان‏}‏ ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول بنخرج، و«الطلع» أول ما يخرج من النخلة في أكمامه، و‏{‏قنوان‏}‏ جمع قنو وهو العِذق بكسر العين وهي الكباسة، والعرجون عوده الذي ينتظم التمر، قرأ الأعرج «قنوان» بفتح القاف، وقال أبو الفتح ينبغي أن يكون اسماً للجمع غير مكسر لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع قال المهدوي وروي عن الأعرج ضم القاف، وكذلك أنه جمع «قُنو» بضم القاف، قال الفراء وهي لغة قيس وأهل الحجاز، والكسر أشهر في العرب، وقنو يثنى قنوان منصرفة النون، و‏{‏دانية‏}‏ معناه قريبة من المتناول، قاله ابن عباس والبراء بن عازب والضحاك وقيل قريبة بعضها من بعض، وقرأ الجمهور «وجناتٍ» بنصب جَنات عطفاً على قوله نبات، وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى ورويت عن أبي بكر عن عاصم «وجناتٌ» بالرفع على تقدير ولكم جنات أو نحو هذا، وقال الطبري وهو عطف على قنوان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله ضعيف و‏{‏الزيتون والرمان‏}‏ بالنصب إجماعاً عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏حباً‏}‏، ‏{‏ومشتبها وغير متشابه‏}‏ قال قتادة‏:‏ معناه تتشابه في اللون وتتباين في الثمر، وقال الطبري‏:‏ جائز أن تتشابه في الثمر وتتباين في الطعم، ويحتمل أن يريد تتشابه في الطعم وتتباين في المنظر، وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظروا‏}‏ وهو نظر بصر يترتب عليه فكرة قلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم «إلى ثَمَره» بفتح الثاء والميم وهو جمع ثمرة كبقرة وبقر وشجرة وشجر، وقرأ يحيى بن وثاب ومجاهد «ثُمُره» بضم الثاء والميم قالا وهي أصناف المال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأن المعنى انظروا إلى الأموال التي تتحصل منه، وهي قراءة حمزة والكسائي، قال أبو علي والأحسن فيه أن يكون جمع ثمره كخشبة وخشب وأكمة وأكم، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَرَى الأكْمَ فيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ *** نظيره في المعتل لابة ولوب وناقة ونوق وساحة وسوح‏.‏

ويجوز أن يكون جمع جمع فتقول ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر، وقرأت فرقة «إلى ثُمْره» بضم الثاء وإسكان الميم كأنها ذهبت إلى طلب الخفة في تسكين الميم، والثمر في اللغة جنى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر ثماراً فتجوز، وقرأ جمهور الناس و«يَنعه» بفتح الياء وهو مصدر ينع يينع إذا نضج، يقال ينع وأينع وبالنضج فسر ابن عباس هذه الآية ومنه قول الحجاج «إني لأرى رؤوساً قد أينعت» ويستعمل ينع بمعنى استقل واخضر ناضراً، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المديد‏]‏

في قبابٍ حَوْلَ دَسْكَرَة *** حَوْلَها الزّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا

وقيل في ‏{‏ينعه‏}‏ إنه جمع يانع مثل في تاجر وتجر وراكب وركب ذكره الطبري، وقرأ ابن محيصن وقتادة والضحاك «ويُنعه» بضم الياء أي نضجه، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني‏.‏ «ويانعه»، وقوله ‏{‏إن في ذلكم لآيات‏}‏ إيجاب تنبيه وتذكير وتقدم تفسير مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏جعلوا‏}‏ بمعنى صيروا، و‏{‏الجن‏}‏ مفعول و‏{‏شركاء‏}‏ مفعول ثان مقدم، ويصح أن يكون قوله ‏{‏شركاء‏}‏ مفعولاً أولاً و‏{‏لله‏}‏ في موضع المفعول الثاني و‏{‏الجن‏}‏ بدل من قوله ‏{‏شركاء‏}‏ وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا، أما الذين «خرقوا البنين» فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالول للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في ‏{‏جعلوا‏}‏ و‏{‏خرقوا‏}‏ لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء الجنِّ» بخفض النون، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجن والجن» بالخفض والرفع على تقديرهم الجن، وقرأ الجمهور «وخلَقهم» بفتح اللام على معنى وهو خلقهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو خلقهم» يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين، وقرأ يحيى بن يعمر «وخلْقهم» بسكون اللام عطفاً على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناماً شركاء بالله، وقرأ السبعة سوى نافع «وخرَقوا» بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء على المبالغة، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا» مشددة الراء، وقوله ‏{‏بغير علم‏}‏ نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى، ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى و‏{‏بديع‏}‏ بمعنى‏:‏ مبدع ومخترع وخالق، فهو بناء اسم فاعل كما جاء‏:‏ سميع بمعنى مسمع و‏{‏أنى‏}‏ بمعنى كيف ومن أين، فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير، وقرأ جمهور الناس «ولم تكن» بالتاء على تأنيث علامة الفعل، وقرأ إبراهيم النخعي‏:‏ بالياء على تذكيرها وتذكير كان وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال، فقولك‏:‏ كان في الدار هند أسوغ من قام في الدار هند، وحسن القراءة الفصل بالظرف الذي هو الخبر ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون في ‏{‏تكن‏}‏ ضمير اسم الله تعالى، وتكون الجملة التي هي ‏{‏له صاحبة‏}‏ خبر كان، ويتجه أن يكون في «يكن» ضمير أمر وشأن وتكون الجملة بعد تفسيراً له وخبراً، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد، وقوله ‏{‏وخلق كل شيء‏}‏ لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه، فليس هو عموماً مخصصاً على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئاً ثم يخرجه التخصيص، وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان‏:‏ قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه، وأما قوله ‏{‏وهو بكل شيء عليم‏}‏ فهذا عموم على الإطلاق ولأن الله عز وجل يعلم كل شيء لا رب غيره ولا معبود سواه، ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ الآية تتضمن تقريراً وحكماً إخلاصاً أمراً بالعبادة وإعلاماً بأنه حفيظ رقيب على كل فعل وقول وفي هذا الإعلام تخويف وتحذير‏.‏