فصل: تفسير الآيات رقم (103- 105)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 105‏]‏

‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلاً ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفاً ولا محدوداً، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول‏:‏ مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22‏]‏ وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة، وذكر هذا المذهب لمالك فقال‏:‏ فأين هم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏[‏المطفّفين‏:‏ 15‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فقال بدليل الخطاب ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله‏:‏ إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحال ذلك بآراء مجردة، وتمسكوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها، وانفصال آخر، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية، ونقول إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله ‏{‏وهو يدرك الأبصار‏}‏ ويحسن معناه، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي، فرقوا بين الرؤية والإدراك، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنَّا لمدركون فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو بإشتراك، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة، قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعاو لا تستند إلى قرآن ولا حديث، و‏{‏اللطيف‏}‏ المتلطف في خلقه واختراعه وإتقانه، وبخلقه وعباده و‏{‏الخبير‏}‏ المختبر لباطن أمورهم وظاهرها، و«البصائر» جمع بصيرة وهي ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها، بالاعتبار، فكأنه قال قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، والبصيرة أيضاً هي المعتقد المحصل في قول الشاعر ‏[‏الأسعر الجعفي‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

راحوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى اكْتَافِهِمْ *** وَبَصيِرَتي يَعْدُو بها عَتدٌ وَأَى

وقال بعض الناس في هذا البيت البصيرة طريقة الدم، والشاعر إنما يصف جماعة مشوا به في طلب دم ففتروا فجعلوا الأمر وراء ظهورهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أبصر ومن عمي‏}‏ عبارة مستعارة فيمن اهتدى ومن ضل، وقوله ‏{‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ كان في أول الأمر وقبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حفيظاً على العالم آخذاً لهم بالإسلام والسيف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست‏}‏ الآية، الكاف في قوله ‏{‏وكذلك‏}‏ في موضع نصب ب ‏{‏نصرف‏}‏ أي ومثل ما بينا البصائر وغير ذلك نصرف الآيات أي نرددها نوضحها وقرأت طائفة «ولْيقولوا درست» بسكون اللام على جهة الأمر ويتضمن التوبيخ والوعيد‏.‏ وقرأ الجمهور «ولِيقولوا» بكسر اللام على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ إلى ذلك، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «درست» أي يا محمد درست في الكتب القديمة ما تجيبنا به، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» أي أنت يا محمد دارست غيرك في هذه الأشياء أي قارأته وناظرته، وهذا إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود، وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة «درستْ» بإسناد الفعل إلى الآيات كأنهم أشاروا إلى أنها ترددت على أسماعهم حتى بليت في نفوسهم وامحت، قال أبو علي واللام في ‏{‏ليقولوا‏}‏ على هذه القراءة بمعنى لئلا يقولوا أي صرفت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه الأساطير قديمة قد بليت وتكررت على الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة، وقرأت فرقة «دارست» كأنهم أرادوا دراستك يا محمد أي الجماعة المشار إليها قبل من سلمان واليهود وغيرهم، وقرأت فرقة «درُست» بضم الراء وكأنها في معى درست أي بليت، وقرأ قتادة «دُرِست» بضم الدال وكسر الراء وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه ورويت عن الحسن، قال أبو الفتح في «درست» ضمير الآيات، ويحتمل أن يراد عفيت وتنوسيت، وقرأ أبي بن كعب «درس» وهي في مصحف عبد الله، قال المهدوي وفي بعض مصاحف عبد الله أيضاً «درس»، ورويت عن الحسن، وقرأت فرقة «درّس» بتشديد الراء على المبالغة في درس، وهذه الثلاثة الأخيرة مخالفة لخط المصحف، واللام في قوله و‏{‏ليقولوا‏}‏ وفي قوله ‏{‏ولنبينه‏}‏ متعلقان بفعل متأخر تقديره صرفناها، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «ولتبينه» بالتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأه فرقة «وليبينه» بياء أي الله تعالى وذهب بعض الكوفيين إلى أن لا مضمرة بعد أن المقدرة في قوله ‏{‏وليقولوا‏}‏ فتقدير الكلام عندهم وأن لا يقولوا كما أضمروها في قوله ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا قلق ولا يجيز البصريون إضمار لا في موضع من المواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏106‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

هذان أمران للنبي صلى الله عليه وسلم مضمنهما الاقتصار على اتباع الوحي وموادعة الكفار، وذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ الإعراض عنهم بالقتال والسوق إلى الدين طوعاً أو كرهاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما أشركوا‏}‏ في ظاهرها رد على المعتزلة القائلين إنه ليس عند الله لطف يؤمن به الكافر وإن الكافر والإنسان في الجملة يخلق أفعاله، وهي متضمنه أن إشراكهم وغيره وقف على مشيئة الله عز وجل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلناك عليهم حفيظاً‏}‏ كان في أول الإسلام، وكذلك ‏{‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله‏}‏ الآية، مخاطبة للمؤمنين والنبي عليه السلام، وقال ابن عباس وسببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إلهة ونهجوه فنزلت الآية، وحكمها على كل حال باق في الأمة، فمتى كان الكافر في منعه وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل فلا يحل للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو نحوه، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب ‏{‏الذين‏}‏ وذلك على معتقد الكفرة فيها، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة‏.‏

وقرأ جمهور الناس «عَدْواً» بفتح العين وسكون الدال نصب على المصدر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن زيد «عُدُوّاً» بضم العين والدال وتشديد الواو، وهذا أيضاً نصب على المصدر وهو من الاعتداء، وقرأ بعض الكوفيين «عَدُواً» بفتح العين وضم الدال نصب على الحال أي في حال عداوة لله، وهو لفظ مفرد يدل على الجمع، وقوله ‏{‏بغير علم‏}‏ بيان لمعنى الاعتداء المتقدم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك زينا لكل أمة‏}‏ إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء، وقوله ‏{‏ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم‏}‏ يتضمن وعداً جميلاً للمحسنين ووعيداً ثقيلاً للمسيئين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏وأقسموا‏}‏ عائد على المشركين المتقدم ذكرهم و‏{‏جهد‏}‏ نصب على المصدر العامل فيه ‏{‏أقسموا‏}‏ على مذهب سيبويه لأنه في معناه، وعلى مذهب أبي العباس المبرد فعل من لفظة، واللام في قوله ‏{‏لئن‏}‏ لام موطئة للقسم مؤذنة به، وأما اللام المتلقية للقسم فهي قوله ‏{‏ليؤمن‏}‏ و‏{‏آية‏}‏ يريد علامة، وحكي أن الكفار لما نزلت ‏{‏إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 4‏]‏ أقسموا حينئذ أنها إن نزلت آمنوا فنزلت هذه الآية‏.‏

وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهباً وأقسموا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في ذلك فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح ذهباً فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم إذا لم تؤمن بالآيات المقترحة، وإن شئت أخروا حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل حتى يتوب تائبهم ونزلت هذه الآية، وقرأ ابن مصرف «ليؤَمنَنْ» بفتح الميم والنون وبالنون الخفيفة، ثم قال تعالى قل لهم يا محمد على جهة الرد والتخطية إنما الآيات بيد الله وعنده ليست عندي فتقترح عليّ ثم قال ‏{‏وما يشعركم‏}‏ فاختلف المتأولون فمن المخاطب بقوله ‏{‏وما يشعركم‏}‏ ومن المستفهم ب «ما» التي يعود عليها الضمير الفاعل في «يشعركم»، فقال مجاهد وابن زيد‏:‏ المخاطب بذلك الكفار، وقال الفراء وغيره المخاطب بها المؤمنون، ‏{‏وما يشعركم‏}‏ معناه وما يعلمكم وما يدريكم، وقرأ قوم «يشعرْكم» بسكون الراء، وهي على التخفيف، ويحسنها أن الخروج من كسرة إلى ضمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الأيادى «إنها» بكسر الألف على القطع واستئناف الإخبار، فمن قرأ «تؤمنون» بالتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة واستقامت له المخاطبة أولاً وآخراً للكفار، ومن قرأ «يؤمنون» بالياء وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي فيحتمل أن يخاطب أولاً وآخراً المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله ‏{‏وما يشعركم‏}‏ الكفار ثم يتسأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، ومفعول ‏{‏يشعركم‏}‏ الثاني محذوف ويختلف تقديره بحسب كل تأويل وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي وابن عامر «أنها» بفتح الألف، فمنهم من جعلها «أن» التي تدخل على الجمل وتأتي بعد الأفعال كعلمت وظننت وأعمل فيها ‏{‏يشعركم‏}‏، والتزم بعضهم «أن لا» زائدة في قوله ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ وأنّ معنى الكلام وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو تؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله ‏{‏وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏ لأن المعنى وحرام على قرية مهلكة رجوعهم، وكما جاءت في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ *** نَعَمْ مِنْ فَتىً لا يَمْنَعُ الجُود قاتِلُهْ

قال الزجاج أراد «أبى جوده البخل»، كما جاءَت زائدة في قول الشاعر‏:‏

أفمنك لا برق كان وميضه *** غاب تسنمه ضرام مثقب

ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى لأنها لو لم تكن زائدة لعاد الكلام عذراً للكفار وفسد المراد بالآية، وضعّف الزجّاج وغيره وزيادة لا وقال هذا غلط ومنهم من جعل «أنها» بمعنى لعلها وحكاها سيبويه عن الخليل وهو تأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة لا، وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب‏:‏ وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، ومن هذا المعنى قول الشاعر ‏[‏أبو النجم‏]‏‏:‏ ‏[‏الراجز‏]‏

قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهِ *** أنَّى تَغذّى القومُ من شوائِهِ

فهذه كلها بمعنى لعل وضعّف أبو علي هذا بأن التوقع الذي لا يناسب الآية بعد التي حكمت بأنهم لا يؤمنون، وترجح عنده في الآية أن تكون «أن» على بابها وأن يكون المعنى قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت «لا يؤمنون»، فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم، وتكون الآية نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ أي بالآيات المقترحة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ ويترتب على هذا التأويل أن تكون «ما» نافية، ذكر ذلك أبو علي فتأمل وترجح عنده أيضاً أن تكون لا زائدة، وبسط شواهده في ذلك، وحكى بعض المفسيرين أن في آخر الآية حذفاً يستغنى به عن زيادة لا، وعن تأويلها بمعنى لعل وتقديره عندهم أنها إذا جاءت «لا يؤمنون» أو يؤمنون‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا قول ضعيف لا يعضده لفظ الآية ولا يقتضيه وتحتمل الآية أن يكون المعنى يتضمن الإخبار أنهم لا يؤمنون، وقيل لهم وما يشعركم بهذه الحقيقة أي لا سبيل إلى شعوركم بها وهي حق في نفسها وهم لا يؤمنون أن لو جاءت، و‏{‏ما‏}‏ استفهام على هذا التأويل، وفي مصحف ابن مسعود «وما يشعركم إذا جاءتهم يؤمنون» بسقوط أنها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا‏}‏ المعنى على ما قالت فرقة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار وفي لهيبها في الآخرة لما لم يؤمنوا في الدنيا ثم استأنف على هذا ونذرهم في الدنيا ‏{‏في طغيانهم يعمهون‏}‏‏.‏

وقالت فرقة إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى، والترك في الضلالة والكفر، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لو يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة الله، فأخبر الله تعالى على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقرأ أبو رجاء «يذرهم» بالياء ورويت عن عاصم، وقرأ إبراهيم النخعي «ويقلب ويذرهم» بالياء فيهما كناية عن الله تبارك وتعالى وقرأ أيضاً فيما روى عنه مغيرة «وتَقلَب» بفتح التاء واللام بمعنى وتنقلب أفئدتهم وأبصارهم بالرفع فيهما، «ويذرْهم» بالياء وجزم الراء، وقالت فرقة قوله ‏{‏كما‏}‏ في هذه الآية إنما هي بمعنى المجازاة أي لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم فكأنه قال ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على الله عز وجل أو على القرآن أو على النبي عليه السلام، و‏{‏نذرهم‏}‏ معناه نتركهم، وقرأ الأعمش والهمداني «ويذرهم» بالياء وجزم الراء على وجه التخفيف، والطغيان‏:‏ التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء، والعمى التردد والحيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره، وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان، وقال ابن جريج‏:‏ نزلت هذه الآية في المستهزئين‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ لا يثبت إلا بسند، وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس، وغيره نصبه على الحال، وقال المبرد‏:‏ المعنى ناحية كما تقول له قبل فلان دين‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ فنصبه على هذا هو على الظرف، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم «قُبُلاً» بضم القاف والباء، وكذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا وقرأ ‏{‏العذاب قبلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 55‏]‏ مكسورة القاف واختلف في معناه فقال عبد الله بن زيد ومجاهد وابن زيد‏:‏ «قبل» جمع قبيل أي صنفاً صنفاً ونوعاً نوعاً كما يجمع قضيب على قضيب وغيره، وقال الفراء والزجّاج هو جميع قبيل وهو الكفيل «وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء» بصدق محمد وذكره الفارسي وضعفه، وقال بعضهم قبل الضم بمعنى قبل بكسر القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قدّ من قبل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 26‏]‏ ومنه قراءة ابن عمر ‏{‏لقبل عدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ أي لاستقبالها ومواجهتها في الزمن وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة «قُبْلاً» بضم القاف وسكون الباء، وذلك على جهة التخفيف‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف «قَبْلاً» بفتح القاف وإسكان الباء، وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلاً» بفتح القاف وكسر الباء وزيادة ياء، والنصب في هذه كله على الحال، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏ الضمير عائد إلى الكفار المتقدم ذكرهم، والمعنى يجهلون أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت «لم يؤمن إلا أن يشاء الله» له ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي‏}‏ الآية، تتضمن تسلية النبي عليه السلام وعرض القدوة عليه، أي إن هذا الذي امتحنت به يا محمد من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء ليبتلي الله أولي العزم منهم، و‏{‏عدواً‏}‏ مفرد في معنى الجمع، ونصبه على المفعول الأول ل ‏{‏جعلنا‏}‏ المفعول الثاني في قوله ‏{‏لكل نبي‏}‏، و‏{‏شياطين‏}‏ بدل من قوله ‏{‏عدواً‏}‏، ويصح أن يكون المفعول الأول ‏{‏شياطين‏}‏ والثاني ‏{‏عدواً‏}‏، وقوله ‏{‏شياطين الإنس والجن‏}‏ يريد به المتمردين من النوعين الذين هم من شيم السوء كالشياطين، وهذا قول جماعة من المفسرين ويؤيده حديث أبي ذر أنه صلى يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«تعوذ يا أبا ذر من شياطين الجن والإنس، قال وإن من الإنس لشياطين‏؟‏ قال‏:‏ نعم» قال السدي وعكرمة‏:‏ المراد بالشياطين الموكلون بالإنس والشياطين الموكلون بمؤمني الجن، وزعماً أن للجن شياطين موكلين بغوايتهم وأنهم يوحون إلى شياطين الإنس بالشر والوسوسة يتعلمها بعضهم من بعض، قالا‏:‏ ولا شياطين من الإنس‏.‏

قال القاضي أبن محمد‏:‏ وهذا قول لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر، و‏{‏يوحي‏}‏ معناه يلقيه في اختفاء فهو كالمناجاة والسرار، و‏{‏زخرف القول‏}‏ معناه محسنه ومزينه بالأباطيل، قاله عكرمة ومجاهد، و«الزخرفة» أكثر ذلك إنما يستعمل في الشر والباطل، و‏{‏غروراً‏}‏ نصب على المصدر ومعناه أنهم يغرون به المضللين ويوهمون لهم أنهم على شيء والأمر بخلاف، والضمير في قوله ‏{‏فعلوه‏}‏ عائد على اعتقادهم العداوة، ويحتمل على الوحي الذي تضمنته ‏{‏يوحي‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏فذرهم وما يفترون‏}‏ لفظ يتضمن الأمر بالموادعة منسوخ بآيات القتال، قال قتادة كل ذر في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال و‏{‏يفترون‏}‏ معناه يختلفون ويشتقون، وهو من الفرقة تشبيهاً بفري الأديم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 114‏]‏

‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏ولتصغى إليه‏}‏ معناه لتميل يقال صغى يصغى وأصلها يصغى بكسر العين لكن رده حرف الحلق إلى الفتح ويقال صغى يصغو وأصغى يصغي ويصغى و‏{‏أفئدة‏}‏ جمع فؤاد و«يقترفون» معناه يواقعون ويجترحون، وهي مستعملة أكثر ذلك في الشر والذنوب ونحوه، والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال على أنها لام كي، فإما أن تكون معطوفة على ‏{‏غروراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏، وإما أن تكون متعلقة بفعل مؤخر تقديره فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك، فهي لام صيرورة قاله الزجّاج، ولا يحتمل أن تكون هذه اللامات على هذه القراءة لام الأمر وضمنها الوعيد، وتبقى في «لتصغى» على نحو ما جاء من ذلك في قول الشاعر‏:‏

ألم يأتيك الخ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** إلى غير ذلك مما قد قرئ به، قال أبو الفتح قرأها الحسن بالتسكين في الثلاثة وهي لام كي وهي معطوفة على قوله ‏{‏غروراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ التقدير لأجل الغرور «ولْتصغى» وإسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال قوي في القياس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويظهر أن تحمل قراءة الحسن بسكون اللامات الثلاثة على أنها لام الأمر المضمن الوعيد والتهديد، والخط على هذه القراءة «ولتصغ» ذكر أبو عمر الداني أن تسكينه في اللامات الثلاثة وكذلك قال أبو الفتح وذكر أن الحسن إنما يسكن اللامين الثانية والثالثة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك يخالفه خط المصحف في «ولتصغى»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتحصل أن يسكن اللام في ‏{‏ولتصغى‏}‏ على ما ذكرناه في قراءة الجماعة، قال أبو عمرو‏:‏ وقراءة الحسن إنما هي «لتصغي» بكسر الغين، وقراءة إبراهيم النخعي «لتُصغي» بضم التاء وكسر الغين من أصغى يصغي، وكذلك قرأ الجراح بن عبد الله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفغير‏}‏ نصب ب ‏{‏أبتغي‏}‏، و‏{‏حكماً‏}‏ نصب على البيان والتمييز، و‏{‏مفصلاً‏}‏ معناه مزال الإشكال قد فصلت آياته، وإن كان معناها يعم في أن الله لا يبتغى سواه حَكماً في كل شيء وفي كل قضية فإنَّا نحتاج في وصف الكلام واتساق عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات‏.‏ وحكمه بأن جعل الأنبياء أعداء من الجن والإنس، و‏{‏حَكَماً‏}‏ أبلغ من حاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر، و‏{‏حَكَماً‏}‏ نصب على البيان أو الحال، وبهذه الآية خاصمت الخوارج علياً رضي الله عنه في تكفيره بالتحكيم، ولا حجة لها لأن الله تعالى حكم في الصيد وبين الزوجين فتحكيم المؤمنين من حكمه تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق‏}‏‏.‏

يتضمن الإشهاد بمؤمنيهم والطعن والتنبيه على مشركيهم وحسدتهم، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «منزّل» بالتشديد، والباقون بالتخفيف، «والكتاب» أولاً هو القرآن، وثانياً اسم جنس التوارة والإنجيل والزبور والصحف، ووصفه أهل الكتاب بالعلم عموم بمعنى الخصوص وإنما يريد علماؤهم وأحبارهم، وقوله ‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏ تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 117‏]‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏تمت‏}‏ في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقاً وعدلاً، وليس بتمام من نقص، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل، و«الكلمات» ما نزل على عباده، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة» بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك «كلماتُ» بالجمع‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات» بالجمع، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا عندي بعيد معترض، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صدقاً‏}‏ فيما تضمنه من خبر ‏{‏وعدلاً‏}‏ فيما تضمنه من حكم، هما مصدران في موضع الحال، قال الطبري نصباً على التمييز وهذا غير صواب، و‏{‏لا مبدل لكلماته‏}‏ معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام ‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏ إلى الخالفين، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه‏:‏ ‏{‏يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏ أو في قوله ‏{‏فقل لن تخرجوا معي أبداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏ لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها، هذا مذهب جماعة من العلماء، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح، وفي حرف أبي بن كعب، «لا مبدل لكلمات الله»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض‏}‏ الآية، المعنى فامض يا محمد لما أمرت به وانفذ لرسالتك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك وذكر ‏{‏أكثر‏}‏ لأن أهل الأرض حينئذ كان أكثرهم كافرين ولم يكن المؤمنون إلا قلة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الأرض‏}‏ هنا الدنيا، وحكي أن سبب هذه الآية أن المشركين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في امر الذبائح وقالوا‏:‏ تأكل ما تقتل وتترك ما قتل الله‏؟‏، فنزلت الآية، ووصفهم عز وجل بأنهم يقتدون بظنونهم ويتبعون تخرصهم، والخرص الحزر والظن وقرأ جمهور الناس «يضل» بفتح الياء‏.‏

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يُضل» بضم الياء، ورواه أحمد بن أبي شريح عن الكسائي، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من يضل‏}‏ في موضع نصب بفعل مضمر تقديره يعلم من، وقيل في موضع رفع كأنه قال أي يضل عن سبيله؛ ذكره أبو الفتح وضعفه أبوعلي وقيل في موضع خفض بإضمار باء الجر كأنه قال‏:‏ بمن يضل عن سبيله، وهذا ضعيف، قال أبو الفتح هذا هو المراد فحذفت باء الجر ووصل ‏{‏أعلم‏}‏ بنفسه، قال ولا يجوز أن يكون ‏{‏أعلم‏}‏ مضافاً إلى ‏{‏من‏}‏ لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه، وهذه الآية خبر في ضمنه وعيد للضالين ووعد للمهتدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

القصد بهذه الآية النهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة وأنواعها، فجاءت العبارة أمراً بما يضاد ما قصد النهي عنه، ولا قصد في الآية إلى ما نسي فيه المؤمن التسمية أو تعمدها بالترك، وقال عطاء‏:‏ هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والطعام والذبح وكل مطعوم وقوله ‏{‏إن كنتم بآياته مؤمنين‏}‏ أي إن كنتم بأحكامه وأوامره آخذين، فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم ألا تأكلوا‏}‏ الآية، ‏{‏ما‏}‏ استفهام يتضمن التقرير، وتقدير هذا الكلام أي شيء لكم في أن لا تأكلوا، ف «أن» في موضع خفض بتقدير حرف الجر، ويصح أن تكون في موضع نصب على أن لا يقدر حرف جر ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله ‏{‏ما لكم‏}‏ تقديره ما يجعلكم ‏{‏وقد فصل لكم ما حرم‏}‏ أي قد بين لكم الحرام من الحلال وأزيل عنكم اللبس والشك‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «وقد فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم» على بناء الفعل للمفعول في الفعلين وقرأ نافع وحفص عن عاصم «وقد فَصَّل لكم ما حُرِّم عليكم» على بناء الفعل للفاعل قي الفعلين، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي «وقد فُصِّل» على بناء الفعل إلى المفعول، وقرأ عطية العوفي «وقد فصَل» على بناء الفعل للفاعل وفتح الصاد وتخفيفها، «ما حُرَّم» على بناء الفعل للمفعول، والمعنى قد فصل الحرام من الحلال وانتزعه بالنبيين، و‏{‏ما‏}‏ في قوله ‏{‏إلا ما اضطررتم‏}‏ يريد بها من جميع ما حرم كالميتة وغيرها، وهي في موضع نصب بالاستثناء والاستثناء منقطع، وقوله تعالى ‏{‏وإن كثيراً‏}‏ يريد الكفرة المحادين المجادلين في المطاعم بما ذكرناه من قولهم‏:‏ تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليَضلون» بفتح الياء على معنى إسناد الضلال إليهم في هذه السورة وفي يونس ‏{‏ربنا ليضلوا‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 88‏]‏ وفي سورة إبراهيم ‏{‏أنداداً ليضلوا‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 30‏]‏ وفي الحج ‏{‏ثاني عطفه ليضل‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 9‏]‏ وفي لقمان ‏{‏ليضل عن سبيل الله بغير علم‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 6‏]‏ وفي الزمر ‏{‏أنداداً ليضل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر كذلك في هذه وفي يونس وفي الأربعة التي بعد هذه يضمان الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم، وهذه أبلغ في ذمهم لأن كل مضل ضال وليس كل ضال مضلاً، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي في المواضع الستة «ليضُلون» بضم الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم، ثم بين عز وجل في ضلالهم أنه على أقبح الوجوه وأنه بالهوى لا بالنظر والتأمل، و‏{‏بغير علم‏}‏ معناه في غير نظر فإن لمن يضل بنظر ما بعض عذر لا ينفع في أنه اجتهد، ثم توعدهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك أعلم بالمعتدين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

هذا نهي عام من طرفيه لأن ‏{‏الإثم‏}‏ يعم الأحكام والنسب اللاحقة للعصاة عن جميع المعاصي، والظاهر والباطن يستوفيان جميع المعاصي، وقد ذهب المتأولون إلى أن الآية من ذلك في مخصص، فقال السدي‏:‏ ظاهره الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله، وباطنه اتخاذ الأخدان، وقال سعيد بن جبير‏:‏ الظاهر ما نص الله على تحريمه من النساء بقوله ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، وقوله ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏، والباطن الزنا، وقال ابن زيد‏:‏ الظاهر التعري والباطن الزنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد التعري الذي كانت العرب تفعله في طوافها، قال قوم‏:‏ الظاهر الأعمال والباطن المعتقد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حسن لأنه عاد ثم توعد تعالى كسبة الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك وتحملوا ثقله، و«الاقتراف» الاكتساب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

المقصد بهذه الآية النهي عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين تتركون ما قتل الله، والنهي أيضاً عما ذبح للأنصاب، ومع ذلك فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبح الإسلام، وبهذا العموم تعلق محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن يزيد الخطمي والشعبي وغيرهم فما تركت التسمية عليه نسياناً أو عمداً لم يؤكل، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم‏:‏ يؤكل ما ذبح ولم يسم عليه نسياناً، ولا يؤكل ما لم يسم عليه عمداً، وهذا قول الجمهور، وحكى الزهراوي عن مالك بن أنيس أنه قال‏:‏ تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمداً أو نسياناً، وعن ربيعة أيضاً قال عبد الوهاب‏:‏ التسمية سنة فإذا تركها الذابح ناسياً أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه، وإذا تركها عمداً فقال مالك لا تؤكل، فحمل بعض أصحابه قوله لا تؤكل على التحريم، وحمله بعضهم على الكراهة، وقال أشهب‏:‏ تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمداً إلا أن يكون مستخفاً، وقال نحوه الطبري، وذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وتشرع، وقال قوم نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن، والضمير في ‏{‏إنه‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإنه لفسق‏}‏ عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل في قوله ‏{‏ولا تأكلوا‏}‏ ويحتمل أن يعود على ترك الذكر الذي يتضمنه قوله ‏{‏لم يذكر‏}‏، والفسق الخروج عن الطاعة، هذا عرْفه في الشرع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الشياطين‏}‏ الآية، قال عكرمة عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس، وذلك أنهم كانوا يوالون قريشاً على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبوهم منبهين على الحجة التي ذكرناها في أمر الذبح من قولهم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، فذلك من مخاطبتهم هو الوحي الذي عنى به، «والأولياء» قريش، «والمجادلة» هي تلك الحجة، وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير‏:‏ بل ‏{‏الشياطين‏}‏ الجن واللفظة على وجهها وكفرة الجن أولياء الكفرة قريش، ووحيهم إليهم كان بالوسوسة حتى ألهموهم لتلك الحجة أو على ألسنة الكهان، وقال أبو زميل‏:‏ كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إن إسحاق يعني المختار زعم أنه أوحي إليه الليلة‏.‏ فقال ابن عباس صدق، فنفرت فقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم‏}‏ ثم نهى الله عز وجل عن طاعتهم بلفظ يتضمن الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه المؤمن بمشرك، وحكى الطبري عن ابن عباس قولاً‏:‏ إن الذين جادلوك بتلك الحجة هم قوم من اليهود‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لأن اليهود لا تأكل الميتة، أما أن ذلك يتجه منهم على جهة المغالطة كأنهم يحتجون عن العرب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 123‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك الإثم وباطنه وغير ذلك، وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم وغير ذلك، فمثل الله عز وجل في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين‏.‏

وقرأ جمهور الناس «أوَ من» بفتح الواو فهي ألف استفهام دخلت على واو عطف جملة على جملة، و‏{‏من‏}‏ بمعنى الذي، وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ «أفمن» بالفاء، والمعنى قريب من معنى الواو، والفاء في قوله ‏{‏فأحييناه‏}‏ عاطفة، و‏{‏نوراً‏}‏ أمكن ما يعنى به الإيمان و‏{‏يمشي به‏}‏ يراد به جميع التصرف في الأفعال والأقوال، قال أبو علي‏:‏ ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم القيامة، و‏{‏في الناس‏}‏ متعلق ب ‏{‏يمشي‏}‏، ويصح أن يتعلق ب ‏{‏كان ميتاً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمن مثله‏}‏ بمنزلة كمن هو، والكاف في قوله ‏{‏كذلك زين‏}‏ متعلقة بمحذوف يدل ظاهر الكلام عليه، تقديره وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نوراً كذلك زين للكافرين، ويحتمل أن يتعلق بقوله ‏{‏كمن مثله‏}‏ أي كهذه الحال هو التزيين، وقرأ نافع وحده «ميِّتاً» بكسر الياء وشدها، وقرأ الباقون «ميْتاً» بسكون الياء، قال أبو علي‏:‏ التخفيف كالتشديد، والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب، وقالت طائفة إن هذه الألفاظ التي مثل بها وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر فإنما نزلت في مخصوصين، فقال الضحاك‏:‏ المؤمن الذي كان ميتاً فأحيي عمر بن الخطاب، وحكى المهدوي عن بعضهم أنه حمزة بن عبد المطلب، وقال عكرمة‏:‏ عمار بن ياسر، وقال الزجاج‏:‏ جاء في التفسير أنه يعني به النبي عليه السلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل بن هشام، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله ‏{‏وكذلك جعلنا في كل قرية‏}‏ وهذه الآية تتضمن إنذاراً بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم، وقال عكرمة‏:‏ نزلت هذه الآية في المستهزئين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يعني أن التمثيل لهم، و‏{‏جعلنا‏}‏ في هذه الآية بمعنى صيرنا، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول ‏{‏مجرميها‏}‏ والثاني ‏{‏أكابر‏}‏ وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، وقدم الأهم إذ لعلة كبرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعول الأول ‏{‏أكابر‏}‏ و‏{‏مجرميها‏}‏ مضاف والمفعول الثاني في قوله ‏{‏في كل قرية‏}‏ و‏{‏ليمكروا‏}‏ نصب بلام الصيرورة، والأكابر جمع أكبر كما الأفاضل جمع أفضل، ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة، ومنهم قول الشاعر ‏[‏الأعشى‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

إنَّ الأَحَامِرَة الثّلاثة أتْلَفَتْ *** مالي وكنتُ بهنَّ قَِدْماً مُولَعا

يريد الخمر واللحم والزعفران، و«المكر» التخيل بالباطل والخديعة ونحوهما، وقوله ‏{‏وما يمكرون إلا بأنفسهم‏}‏ يريد لرجوع وبال ذلك عليهم، ‏{‏وما يشعرون‏}‏ أي ما يعلمون، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي البدن، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس، وفي ذلك مبالغة في صفة جهله، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا إنما يقلق لنا البحر إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك، فرد الله عز وجل عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله، قال الزجاج‏:‏ قال بعضهم‏:‏ الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم، و‏{‏أعلم‏}‏ معلق العمل، والعامل في ‏{‏حيث‏}‏ فعل تقديره‏:‏ يعلم حيث، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة، و‏{‏عند الله‏}‏ متعلقة ب ‏{‏سيصيب‏}‏، ويصح أن تتعلق ب ‏{‏صغاراً‏}‏ لأنه مصدر، قال الزجّاج‏:‏ التقدير صغار ثابت عند الله، قال أبو علي‏:‏ وهو متعلق ب ‏{‏صغار‏}‏ دون تقدير ثابت ولا شيء غيره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام‏}‏، الآية، «من» أداة شرط، و‏{‏يشرح‏}‏ جواب الشرط، والآية نص في أن الله عز وجل يريد هدى المؤمن وضلال الكافر، وهذا عند جميع أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى، و«الهدى» في هذه الآية هو خلق الإيمان في القلب واختراعه، و«شرح الصدر» هو تسهيل الإيمان وتحبيبه وإعداد القلب لقبوله وتحصيله، والهدى لفظة مشتركة تأتي بمعنى الدعاء كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وتأتي بمعنى إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق والأعمال المقصية إليها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 5‏]‏ وغير ذلك، إلا أنها في هذه الآية وفي قوله ‏{‏من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 178‏]‏، وفي قوله ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ ونحوها لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان واختراعه، إذ الوجوه من الهدى تدفعها قرائن الكلام مما قبل وبعد، وقوله ‏{‏يشرح صدره‏}‏ ألفاظ مستعارة ها هنا إذ الشرح التوسعة والبسط في الأجسام وإذا كان الجرم مشروحاً موسعاً كان معداً ليحل فيه، فشبه توطئة القلب وتنويره وإعداده للقبول بالشرح والتوسيع، وشبه قبوله وتحصيله لللإيمان بالحلول في الجرم المشروح، و«الصدر» عبارة عن القلب وهو المقصود هنا الإيمان فقط بدليل قرينة الشرح والهدى، ولكنه عبر بالإسلام إذ هو أعم وأدنى الهدى حب الأعمال وامتثال العبادات، وفي ‏{‏يشرح‏}‏ ضمير عائد على الهدى، قال‏:‏ وعوده على الله عز وجل أبين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقول بأن الضمير عائد على المهدي قول يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأفعال وينبغي أن يعتقد ضعفه وأن الضمير إنما هو عائد على اسم الله عز وجل فإن هذا يعضده اللفظ والمعنى، وروي عن النبي عليه السلام أنه لما نزلت هذه الآية، «قالوا يا رسول الله، كيف يشرح الصدر‏؟‏ قال‏:‏

«إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قالوا وهل لذلك علامة يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏:‏ الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الفوت» والقول في قوله ‏{‏ومن يرد أن يضله‏}‏ كالقول في قوله ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه‏}‏، وقوله ‏{‏يجعل صدره ضيقاً حرجاً‏}‏ ألفاظ مستعارة تضاد شرح الصدر للإسلام ويجعل في هذا الموضع تكون بمعنى يحكم له بهذا الحكم، كما تقول هذا يجعل البصرة مصراً أي يحكم لها بحكمها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا المعنى يقرب من صير، وحكاه أبو علي الفارسي، وقال أيضاً يصح أن يكون «جعل» بمعنى سمى، كما قال تعالى ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ أي سموهم، قال وهذه الآية تحتمل هذا المعنى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الوجه يضعف في هذه الآية، وقرأ جمهور الناس والسبعة سوى ابن كثير «ضيِّقاً» بكسر الياء وتشديدها، وقرأ ابن كثير «ضيْقاً» بسكون الياء وكذلك قرأ في الفرقان، قال أبو علي وهما بمنزلة الميِّت والميْت، قال الطبري وبمنزلة الهيِّن والليِّن والهيْن والليْن، قال ويصح أن يكون الضيق مصدراً من قولك ضاق والأمر يضيق ضيقاً وضيقاً، وحكي عن الكسائي أنه قال الضِّيق بشد الضاد وكسرها في الأجرام والمعاش، والضَّيِق بفتح الضاد‏:‏ في الأمور والمعاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «حرَجاً» بفتح الراء وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «حرِجاً» بكسرها، قال أبو علي فمن فتح الراء كان وصفاً بالمصدر كما تقول رجل قمَن بكذا وحرَى بكذا ودنَف، ومن كسر الراء فهو كدِنف وقمِن وفرِق، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها يوماً بفتح الراء فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء، فقال‏:‏ ابغوني رجلاً من كنانة وليكن راعياً من بني مدلج، فلما جاءه قال له‏:‏ يا فتى ما الحرجة عندكم، قال‏:‏ الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية‏.‏

قال عمر‏:‏ كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنما يصعد في السماء‏}‏ أي كأن هذا الضيق الصدر يحاول الصعود في السماء حتى الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء، قال بهذا التأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي، وقال ابن جبير‏:‏ المعنى لا يجد مسلطاً إلا صعداً من شدة التضايق، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «يصعد» بإدغام التاء من يتصعد في الصاد، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «يصّاعد» بإدغام التاء من يتصاعد في السماء، وقرأ ابن كثير وحده «يصعد»، وقرأ ابن مسعود والأعمش وابن مصرف «يتصعد» بزيادة تاء، و‏{‏في السماء‏}‏ يريد من سفل إلى علو في الهواء، قال أبو علي‏:‏ ولم يرد السماء المظلة بعينها، وإنما هو كما قال سيبويه والقيدود‏:‏ الطويل في غير سماء، يريد في غير ارتفاع صعداً قال ومن هذا قوله عز وجل‏:‏

‏{‏قد نرى نقلب وجهك في السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏ أي في وجهة الجو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا على غير من تأول تقلب الوجه أنه الدعاء إلى الله عز وجل في الهداية إلى قبلة فإن مع الدعاء يستقيم أن يقلب وجهه في السماء المظلة حسب عادة الداعين إذ قد ألفوا مجيء النعم والالآء من تلك الجهة، وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها الهواء، و‏{‏يصعد‏}‏ معناه يعلو، و‏{‏يصعد‏}‏ معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه‏.‏ ومنه قول عمر بن الخطاب‏:‏

«ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح»، إلى غير ذلك من الشواهد، «ويصاعد» في المعنى مثل «يصعد» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يجعل الله الرجس‏}‏ أي وكما كان هذه كله من الهدى والضلال بإرادة الله عز وجل ومشيئته كذلك يجعل الله الرجس، قال أهل اللغة ‏{‏الرجس‏}‏ يأتي بمعنى العذاب ويأتي بمعنى النجس، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال‏:‏ ‏{‏الرجس‏}‏ كل ما لا خير فيه وقال بعض الكوفيين‏:‏ الرجس والنجس لغتان بمعنى، «ويجعل» في هذا الموضع يحسن أن تكون بمعنى يلقي كما تقول جعلت متاعك بعضه على بعض، وكما قال عز وجل ‏{‏ويجعل الخبيث بعضه على بعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 37‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا المعنى في جعل حكاه أبو علي الفارسي، ويحسن أن تكون ‏{‏يجعل‏}‏ في هذه الآية بمعنى يصير ويكون المفعول الثاني في ضمن ‏{‏على الذين لا يؤمنون‏}‏، كأنه قال قرين الدين أو لزيم الذين ونحو ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 127‏]‏

‏{‏وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

هذا إشارة إلى القرآن والشرع الذي جاء به محمد عليه السلام، قاله ابن عباس، و«الصراط» الطريق، وإضافة الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره و‏{‏مستقيماً‏}‏ حال مؤكدة وليست كالحال في قولك جاء زيد راكباً بل هذه المؤكدة تتضمن المعنى المقصود‏.‏ و‏{‏فصلنا‏}‏ معناه بينا وأوضحنا، وقوله ‏{‏لقوم يذكرون‏}‏ أي للمؤمنين الذين يعدون أنفسهم للنظر ويسلكون طريق الاهتداء، والضمير في قوله ‏{‏لهم‏}‏ عائد على القوم المتذكرين و‏{‏السلام‏}‏ يتجه فيه معنيان، أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله عز وجل فأضاف «الدار» إليه هي ملكه وخلقه، والثاني أنه المصدر بمعنى السلامة، كما تقول السلام عليك، وكقوله عز وجل ‏{‏تحيتهم فيها سلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏ يريد في الآخرة بعد الحشر، و‏{‏وليهم‏}‏ أي ولي الأنعام عليهم، و‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ أي مسبب ما كانوا يقدمون من الخير ويفعلون من الطاعة والبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏يوم‏}‏ نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويحتمل أن يكون العامل ‏{‏وليهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 127‏]‏ والعطف على موضع قوله ‏{‏بما كانوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 127‏]‏، والضمير في ‏{‏يحشرهم‏}‏ عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جناً وإنساً، والذين لهم دار السلام جناً، وإنساً، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله ‏{‏جميعاً‏}‏ وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم» بالياء، وقرأ الباقون بالنون وكلُّ متجه، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن، وقوله ‏{‏قد استكثرتم‏}‏ معناه فرطتم، و‏{‏من الإنس‏}‏ يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموبخين على جهة الاعتذار عن الجن ‏{‏ربنا استمتع بعضنا ببعض‏}‏ أي انتفع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك في وجوه كثيرة، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير بالمستجير إذ كان العربي إذا نزل وادياً ينادي يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مثال في الاستمتاع ولو تتبع لبينت له وجوه أخر كلها دنياوية، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه، وقيل هو الحشر، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل، وقرأ الحسن «وبلِّغنا أجلنا» بكسر اللام مشددة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال النار مثواكم‏}‏ الآية، إخبارٌ من الله عز وجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه، وهذا كثير من القرآن وفصيح الكلام و‏{‏مثواكم‏}‏ أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة، هذا قول الزجّاج وغيره، قال أبو علي في الإغفال‏:‏ المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي ‏{‏خالدين‏}‏ والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً، والتقدير النار ذات ثوابكم، والاستثناء في قوله ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ قالت فرقة ‏{‏ما‏}‏ بمعنى من، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولما كان هؤلاء صنفاً ساغت في العبارة عنهم ‏{‏ما‏}‏، وقال الفراء ‏{‏إلا‏}‏ بمعنى سوى، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب، ونحا إليه الزجّاج، وقال الطبري‏:‏ إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار‏.‏

قال القاضي أو محمد‏:‏ وساغ هذا من حيث العبارة بقوله ‏{‏النار مثواكم‏}‏ لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره، وقال الطبري عن ابن عباس أنه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله ثم أسند إليه أنه قال‏:‏ إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا ناراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وليس مما يقال يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار‏:‏ ‏{‏النار مثواكم‏}‏ استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يؤمئذ كافراً، وتقع ‏{‏ما‏}‏ على صفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ أي بمن يمكن أن يؤمن منهم، و‏{‏حكيم عليم‏}‏ صفتان مناسبتان لهذه الآية، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نولي‏}‏ قال قتادة ‏{‏نولي‏}‏ معناه نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التأويل ما تقدم من ذكر الجن والإنس «واستمتاع بعضهم ببعض»، وقال قتادة أيضاً‏:‏ معنى ‏{‏نولي‏}‏ نتبع بعضهم بعضاً في دخول النار، أي نجعل بعضهم يلي بعضاً، وقال ابن زيد معناه نسلط بعض الظالمين على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التأويل لا تؤيده ألفاظ الآية المتقدمة، أما أنه حفظ في استعمال الصحابة والتابعين من ذلك ما روي أن عبد الله بن الزبير لما بلغه أن عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق صعد المنبر فقال إن فم الذبان قتل لطيم الشيطان ‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس‏}‏ داخل في القول يوم الحشر، والضمير في ‏{‏منكم‏}‏ قال ابن جريج وغيره عمم بظاهرة الطائفتين والمراد الواحدة تجوزاً، وهذا موجود في كلام العرب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ وذلك إنما يخرج من الأجاج، وقال الضحاك الضمير عائد على الطائفتين وفي الجن رسل منهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وقال ابن عباس الضمير عائد على الطائفتين ولكن رسل الجن هم رسل الإنس، فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، وهم النذر، و‏{‏يقصون‏}‏ من القصص، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «ألم تكن تأتيكم» بالتاء على تأنيث لفظ «الرسل» وقولهم‏:‏ ‏{‏شهدنا‏}‏ إقرار منهم بالكفر واعتراف أي شهدنا على أنفسنا بالتقصير، وقوله ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل ‏{‏غرتهم‏}‏ أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر فرخه وقوله ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏ تظهر بينه وبين ما في القرآن من الآيات التي تقتضي إنكار المشركين الإشراك مناقضة، والجمع بينهما هو إما بأنها طوائف، وإما طائفة واحدة في مواطن شتى، وإما ان يريد بقوله ها هنا‏:‏ ‏{‏وشهدوا على أنفسهم‏}‏، شهادة الأيدي والأرجل والجلود بعد إنكارهم بالألسنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واللفظ ها هنا يبعد من هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أن لم يكن‏}‏ الآية، ‏{‏ذلك‏}‏ يصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره ذلك الأمر، ويصح أن يكون في موضع نصب بتقدير فعلنا و‏{‏أن‏}‏ مفعول من أجله و‏{‏القرى‏}‏ المدن، والمراد أهل القرى، و‏{‏بظلم‏}‏ يتوجه فيه معنيان، أحدهما أن الله عز وجل لم يكن ليهلك المدن دون نذارة، فيكون ظلماً لهم إذا لم ينذرهم، والله ليس بظلام للعبيد، والآخر أن الله عز وجل لم يهلك أهل القرى بظلم إذ ظلموا دون أن ينذرهم، وهذا هو البين القويّ، وذكر الطبري رحمه الله التأويلين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل درجات‏}‏ الآية إخبار من الله عز وجل أن المؤمنين في الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم وتفضل الله عليهم، والمشركين أيضاً على درجات من العذاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولكن كل مؤمن قد رضي بما أعطي غاية الرضى، وقرأت الجماعة سوى ابن عامر «يعملون» على لفظ كل، وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على المخاطبة بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 135‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏الغني‏}‏ صفة ذات لله عز وجل لأنه تبارك وتعالى لا يفتقر إلى شيء من جهة من الجهات، ثم تليت هذه الصفة بقوله ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ فأردف الاستغناء بالتفضل وهذا أجمل تناسق، ثم عقب بهذه الألفاظ المضمنة الوعيد المحذرة من بطش الله عز وجل في التعجيل بذلك وأما مع المهلة ومرور الجديدين، فكذلك عادة الله في الخلق، وأما «الاستخلاف» فكما أوجد الله تعالى هذا العالم الآدمي بالنشأة من ذرية قوم متقدمين أصلهم آدم عليه السلام، وقرأت الجماعة «ذُرِّية» بضم الذال واشد الراء المكسورة، وقرأ زيد بن ثابت الذال وكذلك في سورة آل عمران وحكى أبو حاتم عن أبان بن عثمان أنه قرأ «ذَرِية» بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة، وحكى عنه أبو الزناد أنه قرأ على المنبر «ذَرْية» بفتح الذال وسكون الراء على وزن فعلة، قال فسألته فقال أقرأنيها زيد بن ثابت، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من ذرية‏}‏ للتبعيض وذهب الطبري إلى أنها بمعنى قولك أخذت من ثوبي ديناراً بمعنى عنه وعوضه و‏{‏توعدون‏}‏ مأخوذ من الوعيد بقرينة ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدم خصوصاً‏.‏ وأما أن يكون العموم مطلقاً فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد، والعقائد ترد ذلك، و‏{‏بمعجزين‏}‏ معناه بناجين هرباً أي يعجزون طالبهم‏.‏

ثم امر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله ‏{‏اعملوا‏}‏ أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد، وصيغة افعل هاهنا بمعنى الوعيد والتهديد، و‏{‏على مكانتكم‏}‏ معناه على حالكم وطريقتكم، وقرأ أبو بكر عن عاصم «على مكاناتكم» بجمع المكانة في كل القرآن، وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن، و‏{‏مَنْ‏}‏ يتوجه أن يكون بمعنى الذي، فتكون في موضع نصب ب ‏{‏تعلمون‏}‏، ويتوجه أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله ‏{‏تكون له‏}‏، و‏{‏عاقبة الدار‏}‏ أي مآل الآخرة، ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب، ثم جزم الحكم ب ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ أي ينجح سعيهم، وقرأ حمزة والكسائي من «يكون له عاقبة» بالياء ها هنا وفي القصص على تذكير معنى العاقبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏جعلوا‏}‏ عائد على كفار العرب العادلين بربهم الأوثان الذين تقدم الردعليهم من أول السورة، و‏{‏ذرأ‏}‏ معناه خلق وأنشأ وبث في الأرض، يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً وذروءاً أي خلقهم، وقوله وجعلوا من كذا وكذا نصيباً يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول، فبينه بقوله‏:‏ ‏{‏فقالوا هذا لله وهذا لشركائنا‏}‏، ثم اعترضهم أثناء القول بأن ذلك زعم وتقول، والزعم في كثير كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق، يقال «زَعم» بفتح الزاي وبه قرأت الجماعة، «وزُعم» بضمها، وقرأ الكسائي وحده في هذه الآية «زِعم» بكسر الزاي، ولا أحفظ أحداً قرأت به و‏{‏الحرث‏}‏ في هذه الآية يريد به الزرع والأشجار وما يكون من الأرض، وقوله ‏{‏لشركائنا‏}‏ يريد به الأصنام والأوثان، وسموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم بساهمونهم في الخير والشر ويكسبونهم ذلك، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلاّتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءاً تسميه لله وجزءاً تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم أقروه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردوه‏.‏ وإذا تفجر من سقي ما جعلوا لله في نصيب شركائهم تركوه، وإن بالعكس سدوه، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئاً قالوا لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك‏.‏

قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام وكانوا إذا أصابتهم السنة أكلوا نصِيب الله وتحاموا نصيب شركائهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما كان لشركائهم‏}‏ الآية قال جمهور المتأولين إن المراد بقوله ‏{‏فلا يصل‏}‏ وقوله ‏{‏يصل‏}‏ ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك، وقال ابن زيد إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله ذكروا آلهتهم على ذلك الذبح وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله، فكأنه قال «فلا يصل» إلى ذكر الله وقال فهو «يصل» إلى ذكر شركائهم، و‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع كأنه قال ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن يجري هنا ‏{‏ساء‏}‏ مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله ‏{‏ساء مثلاً القوم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 177‏]‏‏.‏ لأن المفسر ظاهر في الكلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

«الكثير» في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب، و«الشركاء» ها هنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون عليه أيضاً من بني آدم الناقلين له عصراً بعد عصر إذ كلهم مشتركون في قبح هذا الفعل وتباعته في الآخرة، ومقصد هذه الآية الذم للوأد والإنجاء على فعَلته، واختلفت القراءة فقرأت الجماعة سوى ابن عامر «وكذلك زَين» بفتح الزاي «قتلَ» بالنصب «أولادِهم» بكسر الدال «شركاؤهم»، وهذا أبين قراءة، وحكى سيبويه أنه قرأت فرقة «وكذلك زُين» بضم الزاي «قتل أولادِهم» بكسر الدال «شركاؤهم» بالرفع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن وأبي عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر، كأنه قال‏:‏ زينه شركاؤهم قال سييبويه‏:‏ وهذا كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ليبك يزيد ضارعٌ لخصومة *** ومختبط مما يطيح الطوائح

كأنه قال يبكيه ضارع لخصومة، وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في هذه القراءة ارتفعوا بالقتل كأن المصدر أضيق إلى المفعول، ثم ذكر بعده الفاعل كأنه قال إن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول حبب إليَّ ركوب الفرس زيد أي ركب الفرس زيد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والفصيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول أن لا يذكر الفاعل، وأيضاً فالجمهور في هذه الآية على أن الشركاء مزينون لا قاتلون، والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح، ومنه قوله عز وجل على قراءة من قرأ ‏{‏يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏]‏ بفتح الباء المشددة أي «يسبَّح رجال» وقرأ ابن عامر «وكذلك زُين» بضم الزاي «قتلُ» بالرفع «أولادَهم» بنصب الدال «شركائِهم» بخفض الشركاء، وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله ‏[‏أبو حية النميري‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

كما خُطَّ بكفِّ يوماً *** يهوديَّ يقارِبُ أو يزيلُ

فكيف بالمفعول في أفصح الكلام‏؟‏ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش وهو‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

فَزَجَجْتُهُ بِمِزَجَّةٍ *** زَجَّ القُلُوصَ أبي مزادة

وفي بيت الطرماح وهو قوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

يطفن بحوزيّ المرابعِ لَمْ يُرَعْ *** بواديهِ من قَرْعِ القِسِيُّ الكنائِن

والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتأولون وأد بنات الغير فهم القاتلون، والصحيح من المعنى أنهم المزينون لا القاتلون، وذلك مضمن قراءة الجماعة‏.‏

وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر «زِيْن» بكسر الزاي وسكون الياء على الرتبة المتقدمة من الفصل بالمفعول، وحكى الزهراوي أنه قرأت فرقة من أهل الشام «وكذلك زُين» بضم الزاي «قتلُ» بالرفع «أولادِهم» بكسر الدال «وشركائِهم» بالخفض والشركاء على هذه القراءة هم الأولاد الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث، وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم وفيها بيان لفساد الفعل إذ هو قتل من له حرمة‏.‏

و ‏{‏ليردوهم‏}‏ معناه ليهلكوهم من الردى، ‏{‏وليلبسوا‏}‏ معناه ليخلطوا، والجماعة على كسر الباء، وقرأ إبراهيم النخعي «وليَلبسوا» بفتح الباء، قال أبو الفتح‏:‏ هي استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة، وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا في قوله ‏{‏وكذلك زين‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما فعلوه‏}‏ يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله عز وجل، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏ وعيد محض، و‏{‏يفترون‏}‏ معناه يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك واعتقادهم أنها مباحات لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

هذه الآية تتضمن تعديد ما شرعوه لأنفهسم والتزموه على جهة القربة كذباً منهم على الله وافتراء عليه، فوصف تعالى أنهم عمدوا إلى بعض أنعامهم وهي الإبل والبقر والغنم أو الإبل بانفرادها، وما غيرها إذا انفرد فلا يقال له أنعام، وإلى بعض زروعهم وثمارهم، وسمي ذلك «حرثاً» إذ عن الحرث يكون، وقالوا هذه حجر أي حرام، وقرأ جمهور الناس «حِجْر» بكسر الحاء وسكون الجيم، وقرأ قتادة والحسن والأعرج «حُجْر» بضم الحاء وسكون الجيم، وقرأ ابن عباس وأبيّ وابن مسعود وابن الزبير والأعمش وعكرمة وعمرو بن دينار «جِرْج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها، فالأولى والثانية بمعنى التحجير وهو المنع والتحريم، والأخيرة من الحرج وهو التضييق والتحريم، وكانت هذه الأنعام على ما قال ابن زيد محللة للرجال محرمة على النساء، وقيل كانت وقفاً لمطعم سدنة بيوت الأصنام وخدمتها، حكاه المهدوي، فذلك المراد بقوله ‏{‏من نشاء‏}‏ وقوله ‏{‏بزعمهم‏}‏ أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق، و«زعمهم» هنا هو في قولهم «حجر» وتحريمهم بذلك ما لم يحرم الله تعالى، وقرأ ابن أبي عبلة «بزَعَمهم» بفتح الزاي والعين، وكذلك في الذي تقدم، ‏{‏وأنعام حرمت ظهورها‏}‏ كانت للعرب سنن، إذا فعلت الناقة كذا من جودة النسل والمواصلة بين الإناث ونحوه حرم ظهورها فلم تركب وإذا فعل الفحل كذا وكذا حرم فعدد الله ذلك على جهة الرد عليهم إذ شرعوا بذلك برأيهم وكذبهم، ‏{‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ قيل كانت لهم سنة في أنعام ما أن لا يحج عليها فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج، فذلك قوله ‏{‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ هذا قول جماعة من المفسرين‏.‏

ويروى ذلك عن أبي وائل، وقالت فرقة‏:‏ بل ذلك في الذبائح يريد أنهم جعلوا لآلهتهم منها نصيباً لا يذكرون الله على ذبحها، وقوله ‏{‏افتراء‏}‏ مصدر نصب على المفعول من أجله أو على إضمار فعل تقديره يفترون ذلك، و‏{‏سيجزيهم‏}‏ وعيد بمجازاة الآخرة، والضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد على اسم الله، و‏{‏يفترون‏}‏ أي يكذبون ويختلفون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏‏}‏

هذه الآية تتضمن تعديد مذاهبهم الفاسدة، وكانت سنتهم في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم، والهاء في ‏{‏خالصة‏}‏ قيل هي للمبالغة كما هي في رواية غيرها، وهذا كما تقول فلان خالصتي وإن كان باب هاء المبالغة أن يلحق بناء مبالغة كعلامة ونسابة وبصيرة ونحوه، وقيل هي لتأنيث الأنعام إذ ما في بطونها أنعام أيضاً، وقيل هي على تأنيث لفظ ‏{‏ما‏}‏ لأن ‏{‏ما‏}‏ واقعة في هذا الموضع موقع قولك جماعة وجملة، وقرأ جمهور القراء والناس «خالصةٌ» بالرفع، وقرأ عبد الله بن مسعود وابن جبير وابن أبي عبلة والأعمش «خالصٌُ» دون هاء ورفع هاتين القراءتين على خبر الابتداء‏.‏

وقرأ ابن عباس بخلاف والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين «خالصةً» بالنصب، وقرأ سعيد بن جبير فيما ذكر أبو الفتح «خالصاً» ونصب هاتين القراءتين على الحال من الضمير الذي في قوله ‏{‏في بطون‏}‏، وذلك أن تقدير الكلام‏:‏ وقالوا ما استقر هو في بطون هذه الأنعام فحذف الفعل وحمل المجرور الضمير، والحال من الضمير والعامل فيها معنى الاستقرار، قال أبو الفتح ويصح أن يكون حالاً من ‏{‏ما‏}‏ على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو حيوة والزهري «خالصه» بإضافة «خالص» إلى ضمير يعود على ‏{‏ما‏}‏، ومعناه ما خلص وخرج حياً، والخبر على قراءة من نصب «خالصة» في قوله ‏{‏لذكورنا‏}‏ والمعنى المراد بما في قوله ‏{‏ما في بطون‏}‏ قال السدي‏:‏ هي الأجنة، وقال ابن عباس وقتادة والشعبي‏:‏ هو اللبن، قال الطبري واللفظ يعمهما، وقوله ‏{‏ومحرم‏}‏ يدل على أن الهاء في ‏{‏خالصة‏}‏ للمبالغة، ولو كانت لتأنيث لقال ومحرمة، و‏{‏أزواجنا‏}‏ يريد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجاً، قال مجاهد، وحكى الطبري عن ابن زيد أن المراد ب ‏{‏أزواجنا‏}‏ البنات‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يبعد تحليقه على المعنى، وقوله ‏{‏إن يكن ميتة‏}‏ كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتاً من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعاً وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها، وقرأ ابن كثير «وإن يكن» بالياء «ميتةٌ» بالرفع فلم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي، والمعنى وإن وقع ميتة أو حدث ميتة، وقرأ ابن عامر «وإن تكن» بالتاء «ميتةٌ» بالرفع فألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثاً، وأسند الفعل إلى الميتة كما فعل ابن كثير، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه «تكن» بالتاء «ميتةً» بالنصب فأنث وإن كان المتقدم مذكراً لأنه حمله على المعنى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالتقدير وإن تكن النسمة أو نحوها ميتة، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «يكن» بالياء «ميتةً» بالنصب، فذكروا الفعل لأنهم أسندوه إلى ضميرها تقدم من قوله ‏{‏ما في بطون هذه الأنعام‏}‏ وهو مذكر، وانتصبت الميتة على الخبر، قال أبو عمرو بن العلاء ويقوي هذه القراءة قوله ‏{‏فهم فيه‏}‏ ولم يقل فيها، وقرأ يزيد بن القعقاع «وإن تكن ميّتة» بالتشديد، وقرأ عبد الله بن مسعود «فهم فيه سواء» ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات إلى الله تعالى وشرعوه من الباطل والإفك ‏{‏إنه حكيم‏}‏ أي في عذابهم على ذلك ‏{‏عليم‏}‏ بقليل ما تقوّلوه من ذلك وكثيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

هذا لفظ يتضمن التشنيع بقبح فعلهم والتعجب من سوء حالهم في وأدهم البنات وحجرهم الأنعام والحرث، وقال عكرمة‏:‏ وكان الوأد في ربيعة ومضر‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وكان جمهور العرب لا يفعله، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والاقتار وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السباء وقرأ ابن عامر وابن كثير‏:‏ «قتّلوا» بتشديد التاء على المبالغة وقرأ الباقون‏:‏ «قتلوا» بتخفيفها و‏{‏ما رزقهم الله‏}‏‏:‏ هي تلك الأنعام والغلات التي توقف بغير شرع ولا مثوبة في معاد بل بالافتراء على الله والكذب و‏{‏قد ضلوا‏}‏ إخباراً عنهم بالحيرة وهو من التعجيب بمنزلة قوله ‏{‏قد خسر‏}‏، ‏{‏وما كانوا‏}‏ يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد‏:‏ وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين لكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالاً وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ جنات معروشات‏}‏ الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار و‏{‏أنشأ‏}‏ معناه خلق واخترع «والجنة» مأخوذة من جن إذا ستر، و‏{‏معروشات‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ذلك في ثمر العنب، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات» ما عرش كهيئة الكرم، وغيره البساتين وقيل‏:‏ المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل‏:‏ المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق، و‏{‏مختلفاً‏}‏‏:‏ نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء، و‏{‏متشابهاً‏}‏ يريد في المنظر، ‏{‏وغير متشابه‏}‏ في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله ‏{‏كلوا من ثمره‏}‏ نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك، ويقرأ «من ثُمره» بضم الثاء وقد تقدم، ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ فقالت طائفة من أهل العلم‏:‏ هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه، وقاله مالك بن أنس‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة، ومعترض أيضاً بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه، وقال ابن الحنفية أيضاً وعطاء ومجاهد وعيرهم من أهل العلم‏:‏ بل قوله ‏{‏وآتوا حقه‏}‏ ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر، فإذا صفا وكال أخرج من ذلك الزكاة، وقال الربيع بن أنس حقه وإباحة لقط السنبل، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها‏.‏

وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن، وقال السدي في هذه السورة مكية نسختها الزكاة فقال له سفيان عمن قال عن العلماء‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ والنسخ غير مترتب في هذه الآية، لأن هذه الآية وآية الزكاة لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي «حِصاده» وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حَصاده» بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ الآية، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل، وقاله ابن زيد، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته‏.‏

وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة، فنزلت هذه الآية، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئاً عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية، ومن قالها إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية‏.‏