فصل: تفسير الآيات رقم (179- 180)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 180‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

وصفت هذه الصنيفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه، والفقه الفهم، وأعينهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول‏:‏ فلان أصم عن الخنا‏.‏

ومنه قول مسكين الدارمي‏:‏ ‏[‏الكامل أحذ مضمر‏]‏

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي السترُ

وأصم عمّا كان بينهما *** عمداً وما بالسمعِ من وَقْرِ

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وعوراء الكلام صممت عنها *** ولو أني أشاء بها سميع

وبادرة وزعت النفس عنها *** وقد بقيت من الغضب الضلوع

ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك‏:‏ ‏[‏مخلع البسيط‏]‏

وادخل إذا ما دخلت أعمى *** واخرج إذا ما خرجت أخرسْ

فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم ‏{‏لا يفقهون‏}‏ و‏{‏لا يبصرون‏}‏ و‏{‏لا يسمعون‏}‏ وفسر مجاهد هذا بأن قال‏:‏ لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق، و‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع، ثم حكم عليهم بأنهم ‏{‏أضل‏}‏، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقاً في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا، ثم بين بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الغافلون‏}‏ الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله الأسماء الحسنى‏}‏ الآيات، السبب في هذه الآية على ما روي، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمن ونحو هذا فقال‏:‏ محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد لآهلة كثيرة فنزلت هذه و‏{‏الأسماء‏}‏ هنا بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره، و‏{‏الحسنى‏}‏‏:‏ مصدر وصف به، ويجوز أن تقدر ‏{‏الحسنى‏}‏ فعلى مؤنثه أحسن، فأفرد وصف جميع ما لا يعقل كما قال ‏{‏مآرب أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ وكما قال ‏{‏يا جبال أوبي معه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ وهذا كثير، وحسن الأسماء إنام يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها، والنص عليها، وانضاف إلى ذلك أيضاً أنها إنما تضمنت معاني حساناً شريفة‏.‏

واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك، إلا أنه لم ير منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به‏؟‏ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك، والفقهاء والجمهور على المنع، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضاً، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً، واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن مثل قوله‏:‏

‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏ومكر الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ ونحو ذلك هل يطلق مها اسم الفاعل‏؟‏ فقالت فرقة‏:‏ لا يطلق ذلك بوجه، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيداً بسببه فيقال‏:‏ الله مستهزئ بالكافرين وماكر بالذين يمكرون بالدين، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً، والقول الأول أقوى ولا ضرورة تدفع إلى القول الثاني لأن صيغة الفعل الواردة في كتاب الله تغني ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن ومنها ما ورد في الحديث وتواتر، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه، وقد ورد في الترمذي حديث عن أبي هريرة ونص فيه تسعة وتسعين اسماً، وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة»، ومعنى أحصاها عدها وحفظها وتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والعبرة في معانيها، وهذا حديث البخاري، والمتحصل منه أن لله تعالى هذه الأسماء مباحاً إطلاقها وورد في بعض دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «يا حنان يا منان» ولم يقع هذا الاسمان في تسمية الترمذي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فادعوه بها‏}‏ إباحة بإطلاقها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذروا الذين‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم، فالآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏ ويقال ألحد ولحد بمعنى جار ومال وانحرف، وألحد أشهر، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

ليس الإمام بالشحيحٍ الملحِد *** قال أبو علي‏:‏ ولا يكاد يسمع لأحد وفي القرآن ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ ومنه لحد القبر المائل إلى أحد شقيه، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «يُلحِدون» بضم الياء وكسر الحاء وكذلك في النحل والسجدة، وقرأ حمزة الأحرف الثلاثة «يَلحَدون» بفتح الياء والحاء وكذلك ابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش، ومعنى الإلحاد في أسماء الله عز وجل أن يسموا اللات نظيراً إلى اسم الله تعالى قاله ابن عباس‏:‏ والعزى نظيراً إلى العزيز، قاله مجاهد، ويسمون الله رباً ويسمون أوثانهم أرباباً ونحو هذا، وقوله‏:‏ ‏{‏سيجزون ما كانوا يعملون‏}‏ وعيد محض بعذاب الآخرة، وذهب الكسائي إلى الفرق بين ألحد ولحد وزعم أن ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى، قال الطبري‏:‏ وكان الكسائي يقرأ جميع ما في القرآن بضم الياء وكسر الحاء إلا التي في النحل فإنه كان يقرؤها بفتح الياء والحاء ويزعم أنها بمعنى الركون وكذلك ذكر عنه أبوعلي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 185‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

هذه آية تتضمن الخبر عن قوم مخالفين لمن تقدم ذكرهم في أنهم أهل إيمان واستقامة وهداية، وظاهر لفظ هذه الآية يقتضي كل مؤمن كان من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، قال النحاس‏:‏ فلا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق‏.‏

قال القاضي ابو محمد‏:‏ سواء بعد صوته أو كان خاملاً، وروي عن كثير من المفسرين أنها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي في يذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «هذه الآية لكم، وقد تقدم مثلها لقوم موسى»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ الآية وعيد، والإشارة إلى الكفار و‏{‏سنستدرجهم‏}‏ معناه سنسوقهم شيئاً بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب، وقوله‏:‏ ‏{‏من حيث لا يعلمون‏}‏ معناه من حيث لا يعلمون أنه استدراج لهم، وهذه عقوبة من الله على التكذيب بالآيات، لما حتم عليهم بالعذاب أملى لهم ليزدادوا إثماً وقرأ ابن وثاب والنخعي «سيستدرجهم» بالياء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أملي‏}‏ معناه أؤخر ملاءة من الدهر أي مدة وفيها ثلاث لغات فتح الميم وضمها وكسرها، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر «أن كيدي» على معنى لأجل أن كيدي، وقرأ جمهور الناس وسائر السبعة «إن كيدي» على القطع والاستئناف، و‏{‏متين‏}‏ معناه قوي، قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لإلٍّ علينا واجب لا نضيعه *** متين قواه غير منتكثِ الحبل

وروى ابن إسحاق في هذا البيت أمين قواه، وهو من المتن الذي يحمل عليه لقوته، ومنه قول الشاعر وهو امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

لها متنتان حظاتا كما *** أكبَّ على ساعديه النمر

وهما جنبتا الظهر، ومنه قول الآخر‏:‏

عدلي عدول اليأس وافتج يبتلى *** أفانين من الهوب شد مماتن

ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ويخدي على صم صلاب ملاطس *** شديدات عقد لينات متان

ومنه الحديث في غزوة بني المصطلق فمتن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس أي سار بهم سيراً شديداً لينقطع الحديث بقول ابن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يتفكروا ما بصاحبهم‏}‏ الآية، تقرير يقارنه توبيخ للكفار، والوقف على قوله ‏{‏أولم يتفكروا‏}‏ ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكوره فقال‏:‏ ‏{‏ما بصاحبهم من جنة‏}‏ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة، وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش، يا بني فلان، يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله فقال بعض الكفار حين أصحبوا هذا مجنون بات يصوت حتى الصباح فنفى الله عز وجل ما قالوه من ذلك في هذا الموطن المذكور وفي غيره، فإن الجنون بعض ما رموه به حتى أظهر الله نوره، ثم أخبر أنه نذير أي محذر من العذاب، ولفظ النذارة إذا جاء مطلقاً فإنما هو في الشر، وقد يستعمل في الخير مقيداً به، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء‏}‏ الآية، هذا أيضاً توبيخ للكفار وتقرير، والنظر هنا بالقلب عبرة وفكراً، و‏{‏ملكوت‏}‏ بناء عظمة ومبالغة، وقوله‏:‏ ‏{‏وما خلق الله من شيء‏}‏ لفظ يعم جميع ما ينظر فيه ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع ومن نفس الإنس وحواسه ومواضع رزقه، و«الشيء» واقع على الموجودات، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن عسى‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏في ملكوت‏}‏ و‏{‏أن‏}‏ الثاني في موضع رفع ب ‏{‏عسى‏}‏، والمعنى توقيفهم على أن لم يقع لهم نظر في شيء من هذا ولا في أنه قربت آجالهم فماتوا ففات أوان الاستدارك ووجب عليهم المحذور، ثم وقفهم بأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة، ونحو هذا المعنى قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وعن أي نفس بعد نفسي أقاتل *** والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏بعده‏}‏ يراد به القرآن، وقيل المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وقصته وأمره أجمع، وقيل هو عائد على الأجل بعد الأجل إذ لا عمل بعد الموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 187‏]‏

‏{‏مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

هذا شرط وجواب مضمنه اليأس منهم والمقت لهم لأن المراد أن هذا قد نزل بهم وأنهم مثال لهذا، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو عبد الرحمن وقتادة «ونذرُهم» بالنون ورفع الراء وكذلك عاصم في رواية أبي بكر، وروى عنه حفص و«يذرُهم» بالياء والرفع، وقرأها أهل مكة وهذا على إضمار مبتدأ ونحن نذرهم أو على قطع الفعل واستئناف القول، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم، وقرأها كذلك طلحة بن مصرف والأعمش «ويذرْهم» بالياء والجزم عطفاً على موضع الفاء وما بعدها من قوله ‏{‏فلا هادي له‏}‏ لأنه موضع جزم، ومثله قول أبي داود‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

فأبلوني بليتكم لعلي *** أصالحكم واستدرج بويا

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

أنّى سلكت فإنني لك كاشح *** وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد

قال أبو علي ومثله في الحمل على الموضع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏ لأنك لو لم تلحق الفاء لقلت أصدق، وروى خارجة عن نافع «ونذرْهم» بالنون والجزم، و«الطغيان» الإفراط في الشيء وكأنه مستعمل في غير الصلاح، و«العمه» الحيرة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة‏}‏ الآية، قال قتادة بن دعامة المراد يسألونك كفار قريش، وذلك ان قريشاً قالت يا محمد إنّا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة، قال ابن عباس‏:‏ المراد بالآية اليهود، وذلك أن جبل بن أبي قشير وسمويل بن زيد قالا له إن كنت نبياً فأخبرنا بوقت الساعة فإنّا نعرفها فإن صدقت آمنا بك، والساعة القيامة موت كل شيء كان حينئذ حياً وبعث الجميع، هو كله يقع عليه اسم الساعة واسم القيامة، و‏{‏أيان‏}‏ معناه متى وهو سؤال عن زمان ولتضمنها الوقت بنيت، وقرأ جمهور الناس «أيان» بفتح الهمزة، وقرأ السلمي «إيان» بكسر الهمزة، ويشبه أن يكون أصلها أي آن وهي مبنية على الفتح، وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أيان يقضي حاجتي أيانا *** أما ترى لفعلها إبانا

قال أبو الفتح وزن «أيان» بفتح الهمزة فَعلان وبكسرها فِعلان، والنون فيهما زائدة، و‏{‏مرساها‏}‏ رفع بالابتداء والخبر، ‏{‏أيان‏}‏ ومذهب المبرد أن ‏{‏مرساها‏}‏ مرتفع بإضمار فعل ومعناه مثبتها ومنتهاها، مأخوذة من أرسى يرسي، ثم أمر الله عز وجل بالرد إليه والتسليم لعلمه، و‏{‏يجليها‏}‏ معناه يظهرها والجلاء البينة الشهود وهو مراد زهير بقوله‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

يمين أو نفار أو جلاء *** وقوله‏:‏ ‏{‏ثقلت في السماوات والأرض‏}‏ قال السدي ومعمر عن بعض أهل التأويل‏:‏ معناه ثقل أن تعلم ويوقف على حقيقة وقتها، قال الحسن بن أبي الحسن معناه ثقلت هيئتها والفزع منها على أهل السماوات والأرض، كما تقول خيف العدو في بلد كذا وكذا، وقال قتادة وابن جريج‏:‏ معناه ثقلت على السماوات والأرض أنفسها لتفطر السماوات وتبدل الأرض ونسف الجبال، ثم أخبر تعالى خبراً يدخل فيه الكل أنها لا تأتي إلا بغتة أي فجأة دون أن يتقدم منها علم بوقتها عند أحد من الناس، و‏{‏بغتة‏}‏ مصدر في موضع الحال‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك كأنك حفيّ عنها‏}‏ الآية، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد‏:‏ المعنى يسألونك عنها كأنك حفي أي متحف ومهتبل، وهذا ينحو إلى ما قالت قريش إنّا قرابتك فأخبرنا، وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن زيد‏:‏ معناه كأنك حفي في المسألة عنها والاشتغال بها حتى حصلت علمها، وقرأ ابن عباس فيما ذكر أبو حاتم «كأنك حفي بها»، لأن حفي معناه مهتبل مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما يسأل عنه، وقد يجيء ‏{‏حفي‏}‏ وصفاً للسؤال ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلمّا التقينا بين السيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها

ومن المعنى الأول الذي يجيء فيه ‏{‏حفي‏}‏ وصفاً لسائل قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

سؤال حفي عن أخي كأنه *** بذكرته وسنان أو متواسن

ثم أمره ثانية بأن يسلم العلم تأكيداً للأمر وتهمماً به إذ هو من الغيوب الخمسة التي في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏، وقيل العلم الأول علم قيامها والثاني علم كنهها وحالها، وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ قال الطبري‏:‏ معناه لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله بل يظن أكثرهم أنه مما يعلم البشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 189‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

هذا أمر في أن يبالغ في الاستسلام ويتجرد من المشاركة في قدرة الله وغيبه وأن يصف نفسه لهؤلاء السائلين بصفة من كان بها فهو حري أن لا يعلم غيباً ولا يدعيه، فأخبر أنه لا يملك من منافع نفسه ومضارها إلا ما سنى الله له وشاء ويسر، وهذا الاستثناء منقطع، وأخبر أنه لو كان يعلم الغيب لعمل بحسب ما يأتي ولاستعد لكل شيء استعداد من يعلم قدر ما يستعد له، وهذا لفظ عام في كل شيء، وقد خصص الناس هذا فقال ابن جريج ومجاهد‏:‏ «لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح»‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أوقات النصر لتوخيتها، وحكى مكي عن ابن عباس أن معنى لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وألفاظ الآية تعم هذا وغيره، وقوله‏:‏ ‏{‏وما مسني‏}‏ يحتمل وجهين وبكليهما قيل، أحدهما أن ‏{‏ما‏}‏ معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏لاستكثرت‏}‏ أي ولما مسني السوء والثاني أن يكون الكلام مقطوعاً تم في قوله‏:‏ ‏{‏لاستكثرت من الخير‏}‏ وابتدأ يخبر بنفي السوء عنه وهو الجنون الذي رموه به، قال مؤرج السدوسي‏:‏ ‏{‏السوء‏}‏ الجنون بلغة هذيل، ثم أخبر بجملة ما هو عليه من النذارة والبشارة، و‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أن يريد أنه نذير وبشير لقوم يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه، وهؤلاء الناس أجمع، والثاني أن يخبر أنه نذير ويتم الكلام، ثم يبتدئ يخبر أنه بشير للمؤمنين به، ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ الآية، قال جمهور المفسرين‏:‏ المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏وجعل منها زوجها‏}‏ حواء وقوله ‏{‏منها‏}‏ يريد ما تقدم ذكره من أن آدم نام فاستخرجت قصرى أضلاعه وخلقت منها حواء وقوله‏:‏ ‏{‏ليسكن إليها‏}‏ أي ليأنس ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة، ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطها، فقال‏:‏ ‏{‏فلما تغشاها‏}‏ أي غشيها وهي كناية عن الجماع، و«الحمل الخفيف» هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها، وقرأ جمهور الناس «حَملاً» بفتح الحاء، وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير «حِملاً» بكسر الحاء، وقوله ‏{‏فمرت به‏}‏ أي استمرت به، قال أيوب‏:‏ سألت الحسن عن قوله‏:‏ ‏{‏فمرت به‏}‏ فقال‏:‏ لو كنت امرأً عربياً لعرفت ما هي إنما المعنى فاستمرت به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقدره قوم على القلب كأن المراد فاستمر بها كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي، وقرأ يحيى بن يعمر وابن عباس فيما ذكر النقاش «فمرَت به» بتخفيف الراء، ومعناه فشكت فيما أصابها هل هو حمل أو مرض ونحو هذا، وقرأ ابن عباس «فاستمرت به» وقرأ ابن مسعود «فاستمرت بحملها» وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي «فمارت به» معناه أي جاءت به وذهبت وتصرفت، كما تقول مارت الريح موراً، و‏{‏أثقلت‏}‏ دخلت في الثقل كما تقول‏:‏ أصبح وأمسى أي صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن، والضمير في ‏{‏دعوا‏}‏ على آدم وحواء‏.‏

وروي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدرِ ما هو، وهذا يقوي قراءة من قرأ «فمرَت به» بتخفيف الراء، فجزعت لذلك فوجد إبليس إليها السبيل، فقال لها ما يدريك ما في جوفك ولعله خنزير أو حية أو بهيمة في الجملة وما يدريك من أين يخرج أينشق له بطنك فتموتين أو على فمك أو أنفك‏؟‏ ولكن إن أطعتني وسميته عبد الحارث‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والحارث اسم إبليس، فسأخلصه لك وأجعله بشراً مثلك، وإن أنت لم تفعلي قتلته لك، قال فأخبرت حواء آدم فقال لها ذلك صاحبنا الذي أغوانا في الجنة، لا نطيعه، فلما ولدت سمياه عبد الله، فمات الغلام، ويروى أن الله سلط إبليس على قتله فحملت بآخر ففعل بها مثل ذلك فحملت بالثالث فلما ولدته أطاعا إبليس فسمياه عبد الحارث حرصاً على حياته، فهذا هو الشرك الذي جعلا لله أي في التسمية فقط‏.‏

و ‏{‏صالحاً‏}‏ قال الحسن معناه غلاماً، قال ابن عباس‏:‏ وهو الأظهر بشراً سوياً سلياً، ونصبه على المفعول الثاني وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي أتيا صالحاً، وقال قوم إن المعنى في هذه الآية التبيين عن حال الكافرين فعدد النعم التي تعم الكافرين وغيرهم من الناس، ثم قرر ذلك بفعل المشركين السيّئ فقامت عليهم الحجة ووجب العقاب، وذلك أنه قال مخاطباً لجميع الناس ‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها‏}‏ يريد آدم وحواء أي واستمرت حالكم واحداً كذلك، فهذه نعمة تخص كل أحد بجزء منها، ثم جاء قوله‏:‏ ‏{‏فلما تغشاها‏}‏ إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً أي هكذا يفعلون فإذا آتاهم الله الولد صالحاً سليماً كما أراده، صرفاه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل المشركين الذي قامت الحجة فيه باقترانه مع النعة العامة، وقال الحسن بن ابي الحسن فيما حكى عنه الطبري‏:‏ معنى هذه الآية‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ إشارة إلى الروح الذي ينفخ في كل أحد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أي خلقكم من جنس واحد وجعل الإناث منه، ثم جاء قوله‏:‏ ‏{‏فلما تغشاها‏}‏ إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً على ما تقدم من الترتيب في القول الذي قبله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 193‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

يقال إن الآية المتقدمة هي في أدم وحواء وإن الضمير في قوله ‏{‏آتاهما‏}‏ عائد عليهما، قال إن الشرك الذي جعلاه هو في الطاعة، أي أطاعا إبليس في التسمية بعبد الحارث كما كانا في غير ذلك مطيعين لله، وأسند الطبري في ذلك حديثاً من طريق سمرة بن جندب، ويحتمل أن يكون الشرك في أن جعلا عبوديته بالاسم لغيره، وقال الطبري والسدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عما يشركون‏}‏ إنه كلام منفصل ليس من الأول، وإن آدم وحواء تم في قوله ‏{‏فلما آتاهم‏}‏، وإن هذا كلام يراد به مشركو العرب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تحكم لا يساعده اللفظ، ويتجه أن يقال تعالى الله عن ذلك اليسير المتوهم من الشرك في عبودية الاسم، ويبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام، وجاء الضمير في ‏{‏يشركون‏}‏ ضمير جمع لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث، ومن قال إن الآية المتقدمة إنما الغرض منها تعديد النعمة في الأزواج وفي تسهيل النسل والولادة ثم ذكر سوء فعل المشركين بعقب ذلك، قال في الآية الأخيرة إنها على ذلك الأسلوب وإن قوله ‏{‏فتعالى الله عما يشركون‏}‏ المراد بالضمير فيه المشركين، والمعنى في هذه الآية فلما آتى الله هذين الانسانين صالحاً أي سليماً ذهبا به إلى الكفر وجعلا لله فيه شركاً وأخرجاه عن الفطرة، ولفظة الشرك تقتضي نصيبين، فالمعنى‏:‏ وجعلا لله فيه ذا شرك لأن إبليس أو أصنام المشركين هي المجعولة، والأصل أن الكل لله تعالى وبهذا حل الزجاج اعتراض من قال ينبغي أن يكون الكلام «جعلا لغيره شركاً» وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «شِرْكاً» بكسر الشين وسكون الراء على المصدر، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وعاصم وأبان بن تغلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم «شركاء» على الجمع، وهي بينة على هذا التأويل الأخير وقلقه على قول من يقول‏:‏ إن الآية الأولى في آدم وحواء، وفي مصحف أبيّ ابن كعب «فلما آتاهما صالحاً أشركا فيه»، وذكر الطبري في قصص حواء وآدم وإبليس في التسمية بعيد الحارث وفي صورة مخاطبتهم أشياء طويلة لا يقتضي الاختصار ذكرها‏.‏

وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وعاصم «عما يشركون أيشركون» بالياء من تحت فيهما، وقرأ أبو عبد الرحمن «عما تشركون» بالتاء من فوق «أتشركون مالا يخلق» الآية، وروى بعض من قال إن الآيات في آدم وحواء أن إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله فقال‏:‏ إن شئت أن يعيش لك الولد فسمه عبد شمس، فولد له ولد فسماه كذلك وإياه عنى بقوله ‏{‏أيشركون مالا يخلق شيئاً‏}‏، ‏{‏وهم يخلقون‏}‏ على هذا عائد على آدم وحواء والابن المسمى عبد شمس، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه في مشركي الكفار الذين يشركون الأصنام في العبادة وإياها أراد بقوله ‏{‏ما لا يخلق‏}‏، وعبر عنها بهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائها، و‏{‏يخلقون‏}‏ معناه ينحتون ويصنعون، ويحتمل على قراءة «يشركون» بالياء من تحت أني كون المعنى وهؤلاء المشركون يخلقون، أي فكان قولهم أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلون إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يستطيعون‏}‏ الآية، هذه تخرج على تأويل من قال إن المراد آدم وحواء والشمس على ما تقدم، ولكن بقلق وتعسف من المتأول في المعنى، وإنما تتسق هذه الآيات ويروق نظمها ويتناصر معناها على التأويل الآخر، والمعنى ولا ينصرون أنفسهم من أمر الله وإرادته، ومن لا يدفع عن نفسه فأحرى أن لا يدفع عن غيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تدعوهم إلى الهدى‏}‏ الآية، من قال إن الآيات في آدم عليه السلام قال إن هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته مستأنفة في أمر الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، و‏{‏لهم‏}‏ الهاء والميم من ‏{‏تدعوهم‏}‏، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه مخاطبة للمؤمنين والكفار على قراءة من قرأ «يشركون» بالياء من تحت، وللكفار فقط على من قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيف، أي إن هذه حال الأصنام معكم إن دعوتموهم لم يجيبوكم إذ ليس لهم حواس ولا إدراكات، وقرأ نافع وحده «لا يتْبَعوكم» بسكون التاء وفتح الباء وقرأ الباقون «لا يتَّبِعوكم» بشد التاء المفتوحة وكسر الباء والمعنى واحد، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أدعوتموهم أم أنتم‏}‏ عطف الاسم على الفعل، إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

سواء عليك الفقر أم بت ليلة *** بأهل القباب من نمير بت عامر

تفسير الآيات رقم ‏[‏194- 196‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏‏}‏

قرأ جمهور الناس «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» بتثقيل «إنّ» ورفع «عبادٌ» وهي مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم عندهم أي إن هذه الأصنام مخلوقة محدثة، إذ هي أجسام وأجرام فهي متعبدة أي متملكة، وقال مقاتل، إن المراد بهذه الآية طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم الله أنهم عباد أمثالهم لا آلهة، وقرأ سعيد بن جبير «إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم» بتخفيف النون من «إنْ» على أن تكون بمعنى ما وبنصب قوله «عباداً وأمثالكم»، والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر، بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل، وسيبويه يرى أن «إن» إذا كانت بمعنى «ما» فإنها تضعف عن رتبة «ما» فيبقى الخبر مرفوعاً وتكون هي داخلة على الابتداء والخبر لا ينصبه، فكان الوجه عنده في هذه القراءة «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» وأبو العباس المبرد يجيز أن تعمل عمل «ما» في نصب الخبر، وزعم الكسائي أن «إن» بمعنى «ما» لا تجيء إلا وبعدها إلا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الكافرون إلا في غرور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏ ثم بين تعالى الحجة بقوله ‏{‏فدعوهم‏}‏ أي فاختبروا فإن لم يستجيبوا فهم كما وصفنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألهم أرجل‏}‏ الآية، الغرض من هذه الآية، ألهم حواس الحي وأوصافه‏؟‏ فإذا قالوا لا، حكموا بأنها جمادات فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة، قال الزهراوي‏:‏ المعنى أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم‏؟‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و«تتقون» بهذا التأويل قراءة سعيد بن جبير، إذ تقتضي أن الأوثان ليست عباداً كالبشر، وقوله في الآية ‏{‏أم‏}‏ إضراب لكل واحدة عن الجملة المتقدمة لها، وليست «أم» المعادلة لللألف في قوله أعندك زيد أم عمرو‏؟‏ لأن المعادلة إنما هي في السؤال عن شيئين أحدهما حاصل، فإذا وقع التقدير على شيئين كلاهما منفي ف «أم» إضراب عن الجملة الأولى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا عندي فرق معنوي، وأما من جهة اللفظ والصناعة النحوية فهي هي، وقرأ نافع والحسن والأعرج «يبطِشون» بكسر الطاء وقرأ نافع أيضاً وأبو جعفر وشيبة «يبطُشون» بضمها، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجزهم بقوله ‏{‏قل ادعوا شركاءكم‏}‏ أي استنجدوهم إلى إضراري وكيدي ولا تؤخروني، المعنى فإن كانوا آلهة فسيظهر فعلهم، وسماهم شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله، وقرأ أبو عمرو ونافع «كيدوني» بإثبات الياء في الوصل، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «كيدون» بحذف الياء في الوصل والوقف، قال أبو علي‏:‏ إذا أشبه الكلام المنفصل أو كان منفصلاً أشبه القافية وهم يحذفون الياء في القافية كثيراًً قد التزموا ذلك، كما قال الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فهل يمنعني ارتيادي البلا *** د من حذر الموت أن يأتين

وقد حذفوا الياء التي هي لام الأمر كما قال الأعشى‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

يلمس الأحلاس في منزله *** بيديه كاليهودي المصل

وقوله ‏{‏فلا تنظرون‏}‏ أي لا تؤخرون، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنظرة إلى ميسرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 280‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن وليي الله‏}‏ الآية، أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره وأراهم أن الله هو القادر على كل شيء لا تلك، عقب ذلك بالإسناد إلى الله والتوكل عليه بأنه وليه وناصره، وقرأ جمهور الناس والقرأة «إن وليِّيَ الله» بياء مكسورة مشددة وأخرى مفتوحة، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «إن وليّ اللَّهُ» بياء واحدة مشددة ورفع الله، وقال أبو علي لا تخلو هذه القراءة من أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة أو تحذف الياء التي هي لام الفعل وتدغم ياء فعيل في ياء الإضافة، ولا يجوز أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة لأنه إذا فعل ذلك انفك الإدغام الأول، فليس إلا أنه حذف لام الفعل وأدغم ياء فعيل في ياء الإضافة، وقرأ ابن مسعود «الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين»، وقرأ الجحدري فيما ذكر أبو عمرو الداني «أن ولي إله» على الإضافة وفسر ذلك بأن المراد جبريل صلى الله عليه وسلم، ذكر القراءة غير منسوبة أبو حاتم وضعفها وإن كانت الفاظ هذه الآية تلائم هذا المعنى وتصلح له، فإن ما قبلها وما بعدها يدافع ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏197- 200‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏من دونه‏}‏ عائد على اسم الله تعالى وهذا الضمير مصرح بما ذكرناه من ضعف قراءة من قرأ «إن ولي الله» أنه جبريل صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية أيضاً بيان لحال تلك الأصنام وفسادها وعجزها عن نصرة أنفسها فضلاً عن غيرها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تدعوهم‏}‏ الآية، قالت فرقة‏:‏ المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والهاء والميم في قوله ‏{‏تدعوهم‏}‏ للكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة ولا حلوا منه بطائل، قاله السدي ومجاهد، وقال الطبري‏:‏ المراد بالضمير المذكور الأصنام، ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة وما فيها من تخييل النظر كما تقول دار فلان تنظر إلى دار فلان، ومعنى الآية على هذا تبين جمودية الأصنام وصغر شأنها، وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه، ولا حجة لهم في الآية لأن النظر في الأصنام مجاز محض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكناً من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستولياً على عقولهها فأوعب القول في ذلك لطفاً من الله تعالى بهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ العفو‏}‏ الآية، وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق، وقال الجمهور في قوله ‏{‏خذ العفو‏}‏ إن معناه اقبل نم الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفواً دون تكلف، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج، قاله عبد الله بن الزبير في مصنف البخاري، وقاله مجاهد وعروة، ومنه قول حاتم الطائي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

خذي العفو مني تستديمي مودتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وقال ابن عباس والضحاك والسدي‏:‏ هذه الآية، في الأموال، وقيل هي فرض الزكاة أمر بها صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما سهل من أموال الناس، وعفا أي فضل وزاد من قولهم عفا النبات والشعر أي كثر، ثم نزلت الزكاة وحدودها فنسخت هذه الآية، وذكر مكي عن مجاهد أن ‏{‏خذ العفو‏}‏ معناه خذ الزكاة المفروضة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا شاذ، وقوله ‏{‏وأمر بالعرف‏}‏ معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل‏:‏ «ما هذا العرف الذي أمر به، قال‏:‏ لا أدري حتى أسأل العالم، فرجع إلى ربه فسأله ثم جاءه فقال له‏:‏ يا محمد هو أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا نصب غايات والمراد فما دون هذا من فعل الخير، وقرأ عيسى الثقفي فيما ذكر أبو حاتم «بالعُرف» بضم الراء والعرْف والعرُف بمعنى المعروف، وقوله ‏{‏وأعرض عن الجاهلين‏}‏ حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا، هذا قول الجمهور من العلماء، وقال ابن زيد في قوله ‏{‏خذ العفو- إلى- الجاهلين‏}‏ إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مداراة لكفار قريش ثم نسخ ذلك بآية السيف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحديث الحر بن قيس حين أدخل عمه عيينة بن حصن على عمر دليل على أنها محكمة مستمرة، لأن الحر احتج بها على عمر فقررها ووقف عندها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما ينزغنك من الشيطان نزغ‏}‏ وصية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلاً رجلاً، والنزغ حركة فيها فساد، وقلَّما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح، لا ينزغ الشيطان في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك»، وفي مصنف الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن للملك لمة وإن للشيطان لمة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعن هاتين اللمتين هي الخواطر من الخير والشر، فالأخذ بالواجب هذه الآية يصلح مع الاستعاذة ويصلح أيضاً ما يقول فيه الكفار من الأقاويل فيغضبه الشيطان لذلك، وعليم كذلك وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله‏:‏ إن الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏201- 203‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

‏{‏اتقوا‏}‏ هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده، وأيضاً فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «طائف»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «طيّف»، وقرأ سعيد بن جبير «طيْف»، واللفظة إما من طاف يطوف وإما من طاف يطوف وإما من طاف يطيف بفتح الياء، وهي ثابتة عن العرب، وأنشد أبو عبيدة في ذلك‏:‏

أنى المَّ بك الخيال بطيفُ *** ومطافه لك ذكرة وشغوف

ف «طائف» اسم فاعل كقائل من قال يقول وكبائع من باع يبيع و«طيّف» اسم فاعل أيضاً كميت من مات يموت أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين و«طيّف» يكون مخففاً أيضاً من طيف كميت من ميت، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر، وإلى هذا مال أبو علي الفارسي وجعل الطائف كالخاطر والطيف كالخطرة، قال الكسائي‏:‏ الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكيف هذا وقد قال الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وتصبح عن غب السرى وكأنّما *** ألمّ بها من طائف الجن أولق

ومعنى الآية‏:‏ إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي، وقوله ‏{‏تذكروا‏}‏ إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها، وقرأ ابن الزبير «من الشيطان تأملوا فإذا هم»، وفي مصحف أبي بن كعب «إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الغضب جند من جند الجن، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق‏؟‏ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض، وقوله ‏{‏مبصرون‏}‏ من البصيرة أي فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإخوانهم يمدونهم في الغي‏}‏ الآية، في هذه الضمائر احتمالات، قال الزجاج‏:‏ هذه الآية متصلة في المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 192‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ في هذا نظر، وقال الجمهور‏:‏ إن الآية مقدرة موضعها إلا أن الضمير في قوله ‏{‏وإخوانهم‏}‏ عائد على الشياطين والضمير في قوله ‏{‏يمدونهم‏}‏ عائد على الكفار وهم المراد بالإخوان، و‏{‏الشيطان‏}‏ في الآية قبل هذه للجنس فلذلك عاد عليهم هاهنا ضمير جميع فالتقدير على هذا التأويل وإخوان للشياطين يمدونهم الشياطين في الغي، وقال قتادة إن الضميرين في الهاء والميم للكفار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فتجيء الآية على هذه معادلة للتي قبلها أي إن المتقين حالهم كذا وكذا وهؤلاء الكفار يمدهم إخوانهم من الشياطين ثم لا يقصرون، وقوله ‏{‏في الغي‏}‏ يحتمل أن يتعلق بقوله ‏{‏يمدونهم‏}‏ وعليه يترتب التأويل الذي ذكرنا أولاً عن الجمهور، ويحتمل أن يتعلق بالإخوان فعلى هذا يحتمل أن يعود الضميران جميعاً على الكفار كما ذكرناه عن قتادة ويحتمل أن يعودا جميعاً على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغي بخلاف الأخوة في الله يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق في الغي بالإمداد لأن الإنس لا يغوون الشياطين، والمراد بهذه الآية وصف حالة الكفار مع الشياطين كما وصف حالة المتقين معهم قبل، وقرأ جميع السبعة غير نافع «يمدونهم» من مددت، وقرأ نافع وحده «يُمدونهم» بضم الياء من أمددت، فقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ مد الشيء إذا كانت الزيادة من جنسه وأمده شيء آخر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا غير مطرد، وقال الجمهور هما بمعنى واحد إلا أن المستعمل في المحبوب أمد فمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما نمدهم به من مال وبنين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ وقوله ‏{‏وأمددناهم بفاكهة‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 22‏]‏ وقوله ‏{‏أتمدونني بمال‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 36‏]‏ والمستعمل في المكروه مد فمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ ومد الشيطان للكفرة في الغي هو التزيين لهم والإغواء المتتابع‏:‏ فمن قرأ في هذه الآية «يمُدونهم» بضم الميم فهو على المنهاج المستعمل، ومن قرأ «يمدونهم» فهو مقيد بقوله في الغي كما يجوز أن تقيد البشارة فتقول بشرته بشر، وقرأ الجحدري «يمادّونهم»، وقوله ‏{‏ثم لا يقصرون‏}‏ عائد على الجمع أي هؤلاء لا يقصرون في الطاعة للشياطين والكفر بالله عز وجل، وقرأ جمهور الناس «يُقصرون» من أقصر، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر «يَقصرون» من قصر‏.‏

وقوله ‏{‏وإذا لم تأتهم بآية‏}‏ سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، فكان الكفار يقولون هلا اجتبيتها، ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد وغيرهم‏:‏ المراد بهذه اللفظة هلا اخترتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك، والمعنى إذ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تزعمه، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك‏:‏ المراد هلا تلقيتها من الله وتخيرتها عليه، إذ تزعم أنك نبي وأن منزلتك عنده منزلة الرسالة، فأمره الله عز وجل أن يجيب بالتسليم لله تعالى وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء لا معقب لحكمه في ذلك فقال ‏{‏قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي‏}‏ ثم أشار بقوله هذا إلى القرآن، ثم وصفه بأنه ‏{‏بصائر‏}‏ أي علامات هدى وأنوار تضيء القلوب، وقالت فرقة‏:‏ المعنى ذو بصائر، ويصح الكلام دون أن يقدر حذف مضاف لأن المشار إليه بهذا إنما هو سور وآيات وحكم، وجازت الإشارة إليه بهذا من حيث اسمه مذكر، وجاز وصفه ب ‏{‏بصائر‏}‏ من حيث هو سور وآيات، ‏{‏وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‏}‏ أي لهؤلاء خاصة، قال الطبري‏:‏ وأما من لا يؤمن فهو عليه عمى عقوبة من الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 206‏]‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

ذكر الطبري وغيره أن سبب هذه الآية هو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم ويصيحون عند آيات الرحمة والعذاب ويقول أحدهم إذا أتاهم صليتم‏؟‏ وكم بقي‏؟‏ فيخبرونه ونحو هذا، فنزلت الآية أمراً لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة، وأما قول من قال إنها في الخطبة فضعيف، لأن الآية مكية، والخطبة لم تكن إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكذلك ما ذكر الزهراوي أنها نزلت بسبب فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، فأما الاستماع والانصات عن الكلام في الصلاة فإجماع، وأما الإمساك والإنصات عن القراءة فقالت فرقة‏:‏ يمسك المأموم عن القراءة جملة قرأ الإمام جهراً أو سراً، وقالت فرقة‏:‏ يقرأ المأموم إذا أسر الإمام ويمسك إذا جهر، وقالت فرقة‏:‏ يسمك المأموم في جهر الإمام عن قراءة السورة ويقرأ فاتحة الكتاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومع هذا القول أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية واجبة الحكم في الصلاة أن ينصت عن الحديث وما عدا القراءة واجبة الحكم أيضاً في الخطبة من السنة لا من هذه الآية، ويجب من الآية الإنصات إذا قرأ الخطيب القرآن أثناء الخطبة وحكم هذه الآية في غير الصلاة على الندب أعني في نفس الإنصات والاستماع إذا سمع الإنسان قراءة كتاب الله عز وجل، وأما ما تتضمنه الألفاظ وتعطيه من توقير القرآن وتعظيمه فواجب في كل حالة، والإنصات السكوت، و‏{‏لعلكم‏}‏ على ترجي البشر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولم نستوعب اختلاف العلماء في القراءة خلف الإمام، إذ ألفاظ الآية لا تعرض لذلك، لكن لما عن ذلك في ذكر السبب ذكرنا منه نبذة، وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله عز وجل ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ قال الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول جمع فيه ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات، قال الزجّاج‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر ربك في نفسك‏}‏ الآية، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وهو أمر من الله عز وجل بذكره وتسبيحه وتقديسه والثناء عليه بمحامده، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏ودون الجهر من القول‏}‏ فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ، و‏{‏تضرعاً‏}‏ معناه تذللاً وخضوعاً، ‏{‏خيفة‏}‏ أصلها خوفة بدلت الواو ياء لأجل الكسرة التي تقدمتها، وقوله ‏{‏بالغدو والآصال‏}‏ معناه دأباً وفي كل يوم وفي أطراف النهار، وقالت فرقة هذه الآية كانت في صلاة المسلمين قبل فرض الصلوات الخمس، وقال قتادة‏:‏ «الغدو» صلاة الصبح و‏{‏الآصال‏}‏ صلاة العصر و‏{‏الآصال‏}‏ جمع أصل والأصل جميع أصيل وهو العشيّ وقيل ‏{‏الآصال‏}‏ جمع أصيل دون توسط كإيمانٍ جمع يمين و«آصال» أيضاً جمع أصاييل فهو جمع جمع الجمع، وقرأ أبو مجلز «والإيصال» مصدر كالإصباح والإمساء، ومعناه إذا دخلت في الأصيل وفي الطبري قال أبو وائل لغلامه هل أصلنا بعد‏؟‏ ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏ تنبيه، ولما قال الله عز وجل ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏ جعل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائكة ليبعث على الجد في طاعة الله عز وجل، وقوله ‏{‏الذين‏}‏ يريد الملائكة، وقوله ‏{‏عند‏}‏ إنما يريد في المنزلة والتشريف والقرب في المكانة لا في المكان، فهم بذلك عنده، ثم وصف تعالى حالهم من تواضعهم وإدمانهم للعبادة والتسبيح والسجود، وفي الحديث‏:‏ «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد» وهذا موضع سجدة، قال النخعي في كتاب النقاش‏:‏ إن شئت ركعت وإن شئت سجدت‏.‏

سورة الأنفال

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

النفل والنفل والنافلة في كلام العرب الزيادة على الواجب، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل، ومه قول لبيد‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

إنَّ تَقْوى ربِّنا خَيْرُ نَفَلْ *** أي خير غنيمة، وقول عنترة‏:‏

إنَّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا *** ونعفُّ عند مقاسم الأنفالِ

والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسؤول، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم «الأنفال» فهو من الضرب الأول، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء «يسألونك الأنفال»، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى «من»، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب ‏{‏الأنفال‏}‏ في هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق‏:‏ فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا‏.‏

وقال ابن عباس في كتاب الطبري‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال‏:‏ من قتل قتيلاً أو أسر أسيراً فله كذا وله كذا، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها، وقالت نحن أولى بالمغنم، وساءت أخلاقهم في ذلك، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا، فقسمه حيئنذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السواء، وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي، قال‏:‏ سألت عبادة بن الصامت عن «الأنفال» فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام عن بواء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد عن سواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين، مما جرى أيضاً يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله‏:‏ هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه، فقال‏:‏ ليس هذا لي ولا لك، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال فما جاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال، فقال‏:‏ اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فهو لك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي بعض طرق هذا الحديث، قال سعد‏:‏ فقلت لما قال لي ضعه في القبض أني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي، قال‏:‏ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلفي، قال فقلت أخاف أن يكون نزلت فيّ شيء، فقال‏:‏ إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ وأسند الطبري أيضاً عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال‏:‏ أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان يسمى المزربان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به، فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة، لا سيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية، فرضي المسلمون وسلموا، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليه غنائمهم، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد‏:‏ كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب، ثم نسخ بقوله ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وقال ابن زيد‏:‏ لم يقع في الآية نسخ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال ابن عباس أيضاً ‏{‏الأنفال‏}‏ في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه، وهذا أيضاً يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر‏.‏ وقال علي بن صالح بن جني والحسن فيما حكى المهدوي‏:‏ ‏{‏الأنفال‏}‏ في الآية ما تجيء به السرايا خاصة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة، بل يجيء خارجاً عن يوم بدر، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الأنفال‏}‏ في الآية الخمس، قال المهاجرون‏:‏ لم يخرج منا هذا الخمس، فقال الله تعالى هو لله وللرسول، وهذا أيضاً قول قليل التناسب مع الآية، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً‏:‏ ‏{‏الأنفال‏}‏ في الآية ماشد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس والغاير والعبد الآبق هو للنبي صلى الله عليه سولم يصنع فيه ما شاء، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ ‏{‏الأنفال‏}‏ في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال‏:‏ ‏{‏الأنفال‏}‏ الأسارى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئاً من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب من الاختلاف، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الجمهور‏:‏ النفل باق إلى يوم القيامة، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة‏:‏ إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده، وقالت فرقة‏:‏ إنما ينفل الإمام قبل القتال، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا، وقال الشافعي وابن حنبل‏:‏ لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي‏:‏ لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس‏:‏ وقال ابن المسيب‏:‏ إنما ينفل الإمام من خمس الخمس، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا، ولا أحب لأحد أن يسفك دماً على مثل هذا، قال سحنون‏:‏ فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة‏.‏

وقال مالك رحمه الله‏:‏ لا يجوز أن يقول الإمام لسرية‏:‏ ما أخذتم فلكم ثلثه، قال سحنون‏:‏ يريد ابتداء، فإن نزل مضى ولهم انصباؤهم في الباقي، وقال سحنون‏:‏ إذا قال الإمام لسرية‏:‏ ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى، ويستحب على مذهب مالك إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهباً أو فضة أو لؤلؤاً أو نحو هذا، وقال بعضهم‏:‏ النفل جائز من كل شيء، وأما السلب فقال مالك رحمه الله‏:‏ الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره‏:‏ وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر‏:‏ السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر‏:‏ السلب حق للقاتل بحكم النبي صيلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر‏:‏ قاله الإمام أو لم يقله وقال مالك‏:‏ إذ قال الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه فذلك لازم، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد، وقال الشافعي وابن حنبل‏:‏ تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة، وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل وإن كان كثيراً خمس، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفاً، فخمس ذلك، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود، وقال مكحول‏:‏ السلب مغنم وفيه الخمس، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد يخمس على القاتل وحده وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم‏:‏ ويجزئ شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه‏.‏

قال القاصي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وقال الشافعي‏:‏ لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلاً مشيحاً مبارزاً، وأما من قتل منهزماً فلا، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف‏:‏ للقاتل السلب منهزماً كان القتيل أو غير منهزم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه، وقال ابن حنبل‏:‏ لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط، واختلفوا في السلب، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافاً أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه، وقال أحمد بن حنبل في الفرس‏:‏ ليس من السلب، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دناينر أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافاً أنه ليس من السلب واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب، وقالت‏:‏ فرقة‏:‏ ليس من السلب، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب، قال ابن حبيب في الواضحة‏:‏ والسوارين من السلب، ويرجح الشافعي هل هذه كلها من السلب أو لا‏؟‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإذا قال الإمام‏:‏ من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل ذمي قتيلاً فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ أهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلاً فله سلبه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأما الصفي فكان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ معناها في الكلام، اجعل بينك وبين المحذور وقاية، وقوله ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح، و‏{‏ذات‏}‏ في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته، والذي يفهم من ‏{‏بينكم‏}‏ هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏عليم بذات الصدور‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 43‏]‏ و‏{‏ذات الشوكة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ فإنها هاهنا مؤنثة قولهم‏:‏ الذئب مغبوط بذي بطنه، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه، وقد تقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة *** ذات العشاء ولا تسري أفاعيها

وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال‏:‏ ‏{‏ذات بينكم‏}‏ الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض، وقال الزجاج البين ها هنا الوصل، ومثله قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا كله نظر، وقوله ‏{‏وأطيعوا الله ورسوله‏}‏ لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم، وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم ‏{‏وأطيعوا‏}‏ هذا عند سيبويه، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إنما‏}‏ لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب كقوله ‏{‏إنما إلهكم اله واحد‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 108، فصلت‏:‏ 6‏]‏ وغير ذلك من الأمثلة، وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت «إنما» للمبالغة والتأكيد فقط، كقوله عليه السلام «إنما الربا في النسيئة»، وكقوله «إنما الشجاع عنترة» وأما من قال «إنما»، هي لبيان الموصوف فهي عبارة فاترة إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإخبار دون «إنما»، وقوله ها هنا ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏ ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط أي الكاملون، ‏{‏وجلت‏}‏ معناه فزعت ورقت وخافت وبهذه المعاني فسرت العلماء، وقرأ ابن مسعود «فرقت»، وقرأ أبي بن كعب «فزعت»، يقال وجل يؤجل وياجل وييجل وهي شاذة وييجل بكسر الياء الأولى ووجه هذه أنهم لما أبدلوا الواو ياء لم يكن لذلك وجه قياس، فكسروا الياء الأولى ليجيء بدل الواو ياء لعلة، حكى هذه اللغات الأربع سيبويه رحمه الله، و‏{‏تليت‏}‏ معناه سردت وقرئت، والآيات هنا القرآن المتلو، وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج عن نفس التصديق، منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكماً من أحكام الله في القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به، إذ لكل حكم تصديق خاص، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة، وتترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل، ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص وتترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات‏.‏

وهؤلاء يقولون يزيد وينقص، وقوله ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعد ما تكفل له به من نصر أو رزق أو غيره، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل، ثم أتبع ذلك وعدهم ووسمهم بإقامة الصلاة ومدحهم بها حضاً على ذلك، وقوله ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ قال جماعة من المفسرين‏:‏ هي الزكاة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة وإلا فهو لفظ عام في الزكاة ونوافل الخير وصلاة المستحقين، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل، وقوله ‏{‏أولئك هم المؤمنين حقاً‏}‏ يريد كل المؤمنين، و‏{‏حقاً‏}‏ مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه، وهو المصدر غير المتنقل، والعامل فيه أحق ذلك حقاً، وقوله ‏{‏درجات‏}‏ ظاهره، وهو قول الجمهور، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا، وقوله ‏{‏ورزق كريم‏}‏ يريد به مآكل الجنة ومشاربها، و‏{‏كريم‏}‏ صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ‏(‏5‏)‏ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله ‏{‏كما‏}‏ حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان، وأنا أبدأ بهما، قال الفراء‏:‏ التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك، هذا نص قوله في هداية مكي رحمه الله، والعبارة بقوله‏:‏ امض لأمرك ونفل من شئت غير محررة، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم، فكانت فيه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ها هنا للخروج، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله ‏{‏يجادلونك‏}‏ كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار، أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الذي ذكرت من أن ‏{‏يجادلونك‏}‏ في الكفار منصوص والقول الثاني قال مجاهد والكسائي وغيرهما‏:‏ المعنى في هذه الآية كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك، فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهية وكذلك وقع التشبيه في المعنى، وقائل هذه المقالة يقول إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول إن المجادلين هم المشركون، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ وقال الأخفش‏:‏ الكاف نعت ل ‏{‏حقاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 4‏]‏، والتقدير هم المؤمنون حقاً كما أخرجك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق وقيل الكاف في موضع رفع والتقدير‏:‏ كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر، وقال أبو عبيدة‏:‏ هو قسم أي لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك بتقدير والذي أخرجك، فالكاف في معنى الواو و«ما» بمعنى الذي، وقال الزجّاج‏:‏ الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لك ثباتاً كما أخرجك ربك، وقيل‏:‏ الكاف في موضع التقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حق كما أخرجك، وقيل المعنى‏:‏ وأصحلوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف، وقيل التقدير‏:‏ قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك، وهذا نحو أول قول ذكرته، وقال عكرمة‏:‏ التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك أي الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لكم، وقوله ‏{‏من بيتك‏}‏ يريد من المدينة يثرب، قاله جمهور المفسرين وقال ابن بكير‏:‏ المعنى كما أخرجك من مكة وقت الهجرة، وقرأ عبد الله بن مسعود‏:‏ «في الحق بعدما بُين» بضم الباء من غير تاء، والضمير في قوله ‏{‏يجادلونك‏}‏ قيل‏:‏ هو للؤمنين وقيل‏:‏ للمشركين، فمن قال للمؤمنين جعل ‏{‏الحق‏}‏ قتال مشركي قريش، ومن قال للمشركين جعل ‏{‏الحق‏}‏ شريعة الإسلام، وقوله ‏{‏إلى الموت‏}‏ أي في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون، وقوله ‏{‏وهم ينظرون‏}‏ حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم‏}‏ الآية، في هذه الآية قصص حسن أنا اختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرَة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن هشام، واختصاره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه وقيل أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها، قال لأصحابه إن عير قريش قد عنت لكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، قال فانبعث من معه من خف، وثقل قوم وكرهوا الخروج وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حرباً فلم يكثر استعدادهم، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستفز أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم، أوحى الله إليه وحياً غير متلو يعده إحدى الطائفتين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ طريق الساحل وأبعد وفات ولم يبق إلا لقاء أهل مكة، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا عيرنا قد نجب فلننصرف، فحرش أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة، وقال بعض المؤمنين‏:‏ نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو بواد يسمى ذفران، وقال أشيروا علي أيها الناس، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فقام عمر بمثل ذلك، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فتكلم المقداد الكندي فقال‏:‏ لا نقول لك يا رسول الله اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول إنا معكما مقاتلون‏.‏

والله لو أردت بنا برك الغماد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهي مدنية الحبشة لقاتلنا معك من دونها، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ودعا له بخير، ثم قال أشيروا علي أيها الناس فكلمه سعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويمكن أنهما جميعاً تكلما في ذلك اليوم، فقال يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أجل، فقال إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم، فالتقوا وكانت وقعة بدر، وقرأ مسلمة بن محارب «وإذ يعدْكم» بجزم الدال، قال أبو الفتح ذلك لتوالي الحركات، وقرأ ابن محيصن «وإذا يعدكم الله احدى الطائفتين» بوصل الألف من ‏{‏إحدى‏}‏ وصلة الهاء بالحاء، و‏{‏الشوكة‏}‏ عبارة عن السلاح والحدة، ومنه قول الأعور‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

إن العرفج قد أدبى *** وقرأ أبو عمرو فيما حكى أبو حاتم ‏{‏الشوكة تكون‏}‏ بإدغام التاء في التاء، ومعنى الآية وتودون العير وتأبون قتال الكفار، وقوله ‏{‏ويريد الله‏}‏ الآية، المعنى ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم «بكلمته» على الإفراد الذي يراد به الجمع، والمعنى في قوله ‏{‏بكلماته‏}‏ إما أن يريد بأوامره وأمره للملائكة والنصر لجميع ما يظهر الإسلام أن يكون، وإما أن يريد بكلماته التي سبقت في الأزل والمعنى قريب، و«الدابر» الذي يدبر القوم أي يأتي في آخرهم، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏8‏)‏ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏(‏9‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏ليحق الحق‏}‏ أي ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام ‏{‏ويبطل الباطل‏}‏ أي الكفر، ‏{‏ولو كره‏}‏ أي وكراهتهم واقعة فهي جملة في موضع الحال، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ تستغيثون ربكم‏}‏ الآية، ‏{‏إذ‏}‏ متعلقة بفعل، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله ‏{‏وإذ يعدكم‏}‏ ‏[‏الأنفال الآية‏:‏ 7‏]‏ وقال الطبري‏:‏ هي متعلقة ب ‏{‏يحق‏.‏‏.‏ ويبطل‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويصح أن يعمل فيها ‏{‏يعدكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم، و‏{‏تستغيثون‏}‏ معناه تطلبون، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك، وقرأ جمهور الناس «أني» بفتح الألف، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني» بكسر الألف أي قال إني، و‏{‏ممدكم‏}‏ أي مكثركم ومقويكم من أمددت‏.‏ وقرأ جمهور الناس «بألف» وقرأ عاصم الجحدري «بئألف» على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً «بآلاف» و‏{‏مردفين‏}‏ معناه متبعين، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف ‏{‏مردفين‏}‏ على هذا حال من الضمير في قوله ‏{‏ممدكم‏}‏ ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع «مردِفين» بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين‏.‏

ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً، ومن قال «مردفين» بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مرَدِّفين» بفتح الراء وكسر الدال وشدها‏.‏

وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه، وحكاه أبو حاتم قال‏:‏ كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ويحسن مع هذه القر اءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر ‏[‏خزيمة بن مالك‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثُّرَيَّا *** ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا

والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل‏:‏ لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها، وقال ابن عباس‏:‏ كانا في خمسمائة خمسمائة، وقال الزجّاج‏:‏ قال بعضهم‏:‏ إن الملائكة خمسة آلاف، وقال بعضهم‏:‏ تسعة آلاف، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعله الله‏}‏ الآية، الضمير في ‏{‏جعله‏}‏ عائد على الوعد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى، وقال الزجّاج‏:‏ الضمير عائد على المدد، ويحتمل أن يعود على الإمداد، وهذا يحسن مع قول من يقول إن الملائكة لم تقاتل وإنما أنست بحضورها مع المسلمين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا عندي ضعيف ترده الأحاديث الواردة بقتال الملائكة وما رأى من ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كابن مسعود وغيره، ويحتمل أن يعود على الإرداف وهو قول الطبري، وهذا أيضاً يجري مجرى القول الذي قبله ويحتمل أن يعود على «الألف» وهذا أيضاً كذلك، لأن البشرى بالشيء إنما هي ما لم يقع بعد، و«البشرى» مصدر من بشرت، والطمأنينة السكون والاستقرار وقوله ‏{‏وما النصر إلا من عند الله‏}‏ توقيف على أن الأمر كله لله وأن تكسب المرء لا يغني إذا لم يساعده القدر وإن كان مطلوباً بالجد كما ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وهذه القصة كلها من قصة الكفار وغلبة المؤمنين لهم تليق بها من صفات الله عز وجل العزة والحكمة إذا تؤمل ذلك‏.‏