فصل: تفسير الآيات رقم (61- 63)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏ومنهم‏}‏ عائد على المنافقين، و‏{‏يؤذون‏}‏ لفظ يعم جميع ما كانوا يفعلونه ويقولونه في جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، وخص بعد ذلك من قولهم ‏{‏هو أذن‏}‏، وروي أن قائل هذه اللفظة نبتل بن الحارث وكان من مردة المنافقين، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان ثائر الرأس منتفش الشعرة أحمر العينين أسفع الدين مشوهاً، روي عن الحسن البصري ومجاهد أنهما تأولا أنهم أرادوا بقولهم ‏{‏هو أذن‏}‏ أي يسمع منا معاذيرنا وتنصلنا ويقبله، أي فنحن لا نبالي عن أذاه ولا الوقوع فيه إذ هو سماع لكل ما يقال من اعتذار ونحوه، فهذا تنقص بقلة الحزامة والانخداع، وروي عن ابن عباس وجماعة معه أنهم أرادوا بقوله ‏{‏هو أذن‏}‏ أي يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي إليه ويقبله، فهذا تشكٍّ منه ووصف بأنه يسوغ عنده الأباطيل والنمائم، ومعنى ‏{‏أذن‏}‏ سماع، ويسمى الرجل السماع لكل قول أذناً إذا كثر منه الإبل التي قد بزل نابها ناب وقيل معنى الكلام ذو أذن أي ذو سماع، وقيل إن قوله ‏{‏أذن‏}‏ مشتق من قولهم أذن للشيء إذا استمع كما قال الشاعر وهو علي بن زيد‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

أيها القلب تعللْ بِدَدنْ *** إن همّي في سماعٍ وأَذَنْ

وفي التنزيل ‏{‏وأذنت لربها وحقت‏}‏ ‏[‏الإنشقاق‏:‏ 2-5‏]‏ ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن» ومن هذا قول الشاعر ‏[‏عدي بن زيد‏]‏‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

في سماع يأذن الشيخ له *** وحديث مثل ماذيّ مشار

ومنه قوله الآخر ‏[‏قعنب بن أم صاحب‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به *** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وقرأ نافع «أذْن» بسكون الذال فيهما، وقرأ الباقون «أذُن» بضم الذال فيهما، وكلهم قرأ بالإضافة إلى ‏{‏خير‏}‏ إلا ما روي عاصم، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وعيسى بخلاف «قل أذنٌ خيرٌ» برفع خير وتنوين «أذن» وهذا يجري مع تأويل الحسن الذي ذكرناه أي من يقبل معاذيركم خير لكم، ورويت هذه القراءة عن عاصم، ومعنى «أذن خير» على الإضافة أي سماع خير وحق، ‏{‏ويؤمن بالله‏}‏ معناه يصدق بالله، ‏{‏ويؤمن للمؤمنين‏}‏ قيل معناه ويصدق المؤمنين واللام زائدة كما هي في قوله ‏{‏ردف لكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ وقال المبرد هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل كأنه قال وإيمانه للمؤمنين أي تصديقه، ويقال آمنت لك بمعنى صدقتك ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وما أنت بمؤمن لنا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه، وكذلك ‏{‏وما أنت بمؤمن لنا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏ بما نقوله لك والله المستعان، وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «ورحمةٌ» بالرفع عطفاً على ‏{‏أذن‏}‏ وقرأ حمزة وحده «ورحمةٍ» بالخفض عطفاً على ‏{‏خير‏}‏، وهي قراءة أبي بن كعب وعبد الله والأعمش، وخصص الرحمة ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا به، ثم أوجب تعالى للذين يؤذون رسول الله العذاب الأليم وحتم عليهم به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله لكم‏}‏ الآية، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر وهذا قول جماعة من أهل التأويل، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال إن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقاً فأنا شر من الخمر، فبلغ قوله رسول الله صلى الله وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه فحلف مجتهداً أنه ما فعل، فنزلت الآية في ذلك، وقوله ‏{‏والله‏}‏ مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

نحن بما عندنا وأنت بما عن *** دك راضٍ والرأي مختلفُ

ومذهب المبرد أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير، حكاه النقاش عنه، وليس هذا بشيء، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما» فجمع في ضمير، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت» إنما ذلك وقف في يعصهما فأدخل العاصي في الرشد، وقيل الضمير في ‏{‏يرضوه‏}‏ عائد على المذكور كما قال رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلقْ *** كأنَّه في الجلد توليعُ البهقْ

وقوله ‏{‏إن كانوا مؤمنين‏}‏ أي على قولهم ودعواهم، وقوله ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ الآية، قولهم ‏{‏ألم‏}‏ تقرير ووعيد، وفي مصحف أبي بن كعب «ألم تعلم» على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وعيد لهم، وقرأ الأعرج والحسن «ألم تعلموا» بالتاء، و‏{‏يحادد‏}‏ معناه يخالف ويشاق، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا، وقال الزجاج‏:‏ هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد، وقوله ‏{‏فإن‏}‏ مذهب سيبويه أنها بدل من الأولى وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر، وأيضاً فإن الفاء تمانع البدل، وأيضاً فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال وقال غير سيبويه‏:‏ هي مجردة لتأكيد الأولى وقالت فرقة من النحاة‏:‏ هي في موضع خبر ابتداء تقديره فواجب أن له، وقيل المعنى فله أن له، وقالت فرقة‏:‏ هي ابتداء والخبر مضمر تقديره فإن له نار جهنم واجب، وهذا مردود لأن الابتداء ب «أن» لا يجوز مع إضمار الخبر، قاله المبرد‏:‏ وحكي عن أبي علي الفارسي قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه، وجميع القراء على فتح «أن» الثانية، وحكى الطبري عن بعض نحويي البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف، ذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة ابن أبي عبلة، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل وإذا كانت كذلك وجب كسرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله، ‏{‏يحذر‏}‏ خبر عن حال قلوبهم، وحذرهم إنما هو أن تتلى سورة ومعتقدهم هل تنزل أم لا ليس بنص في الآية لكنه ظاهر، فإن حمل على مقتضى نفاقهم واعتقادهم أن ذلك ليس من عند الله فوجه بين، وإن قيل إنهم يعتقدون نزول ذلك من عند الله وهم ينافقون مع ذلك فهذا كفر عناد، وقال الزجّاج وبعض من ذهب إلى التحرز من هذا الاحتمال‏:‏ معنى يحذر الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر كأنه يقول «ليحذر» وقرأ أبو عمرو وجماعة معه «أن تنْزَل» ساكنة النون خفيفة الزاي، وقرأ بفتح النون مشددة الزاي الحسن والأعرج وعاصم والأعمش، و‏{‏أن‏}‏ من قوله ‏{‏أن تنزل‏}‏ مذهب سيبويه، أن، ‏{‏يحذر‏}‏ عامل فهي مفعوله، وقال غيره حذر إنما هي من هيئات النفس التي لا تتعدى مثل فزع وإنما التقدير يحذر المنافقون من أن تنزل عليهم سورة، وقوله ‏{‏قل استهزئوا‏}‏ لفظه الأمر ومعناه التهديد، ثم ابتدأ الإخبار عن أنه يخرج لهم إلى حيز الوجود ما يحذرونه، وفعل ذلك تبارك وتعالى في سورة براءة فهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وقال الطبري‏:‏ كان المنافقون إذ عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئاً من أمره قالوا لعل الله لا يفشي سرنا فنزلت الآية في ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يقتضي كفر العناد الذي قلناه، وقوله ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ الآية، نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت وذلك‏؟‏ أنه مع قوم من المنافقين كانا يسيرون في عزوة تبوك، فقال بعضهم لبعض هذا يريد أن يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر هيهات هيهات، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم قلتم كذا وكذا، فقالوا ‏{‏إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏، يريدون كنا مجدين، وذكر ابن إسحاق أن قوماً منهم تقدموا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم كأنكم والله غداً في الحبال أسرى لبني الأصفر إلى نحو هذا من القول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر‏:‏ «أدرك القوم فقد احترقوا وأخبرهم بما قالوا» ونزلت الآية، وروي أن وديعة بن ثابت المذكور قال في جماعة من المنافقين‏:‏ ما رأيت كقرائنا هؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجبن عند اللقاء فعنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة فقالوا ‏{‏إنما كما نخوض ونلعب‏}‏، ثم أمره بتقريرهم ‏{‏أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‏}‏ وفي ضمن هذا التقرير وعيد، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ رأيت قائل هذه المقالة وديعة متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول ‏{‏إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏ والنبي يقول ‏{‏أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‏}‏ وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ الآية، المعنى قل لهم يا محمد لا تعتذروا على جهة التوبيخ كأنه قال لا تفعلوا ما لا ينفع‏.‏

ثم حكم عليهم بالكفر فقال لهم ‏{‏قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ الذي زعمتموه ونطقتم به، وقوله ‏{‏عن طائفة منكم‏}‏ يريد فيما ذكر المفسرون رجلاً واحداً قيل اسمه مخشن بن حفير قاله ابن إسحاق، وقال ابن هشام ويقال فيه مخشي وقال خليفة بن خياط في تاريخه مخاشن بن حمير وذكر ابن عبد البر مخاشن الحميري وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة وكان قد تاب وتسمى عبد الرحمن، فدعا الله أن يستشهد، ويجهل أمره فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده، وذكر أيضاً ابن عبد البر محشي بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ولم يتقن القصة، وكان محشي مع المنافقين الذين قالوا ‏{‏إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏ فقيل كان منافقاً ثم تاب توبة صحيحة، وقيل كن مسلماً مخلصاً إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم فعفا الله عنه في كلا الوجهين، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم، وقرأ جميع السبعة سوى عاصم «إن يعف عن طائفة» بالياء «تعذب» بالتاء، وقرأ الجحدري «إن يعف» بالياء على تقديره يعذب الله طائفة «بالنصب، وقرأ عاصم وزيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن» إن نعف «بالنون» نعذب «بنون الجميع أيضا ً، وقرأ مجاهد» إن تعفُ «بالتاء المضمومة على تقدير إن تعف هذه الذنوب» تعذب «بالتاء أيضاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

هذا ابتداء إخبار عنهم وحكم من الله تعالى عليهم بما تضمنته الآية، فقوله ‏{‏بعضهم من بعض‏}‏ يريد في الحكم والمنزلة من الكفر، وهذا نحو قولهم الأذنان من الرأس يريدون في حكم المسح وإلا فمعلوم أنهما من الرأس، ولما تقدم قبل «وما هم منكم» حسن هذا الإخبار، وقوله ‏{‏يأمرون بالمنكر‏}‏ يريد بالكفر وعبادة غير الله وسائر ذلك من الآية لأن المنافقين الذين نزلت هذه الآيات فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة وذلك بسبب ظهور الإسلام وكلمة الله عز وجل، و«القبض» هو عن الصدقة وفعل الخير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏ أي تركوه حين تركوا نبيه وشرعته فتركهم حين لم يهدهم ولا كفاهم عذاب النار، وإنما يعبر بالنسيان عن الترك مبالغة إذا بلغ وجوه الترك الوجه الذي يقترن به نسيان، وعلى هذا يجيء ‏{‏ولا تنسوا الفضل بينكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ ‏{‏ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ ثم حكم عليهم عز وجل بالفسق وهو فسوق الكفر المقتضي للخلود في النار‏.‏

وكان قتادة يقول ‏{‏فنسيهم‏}‏ أي من الخير ولم ينسهم من الشر، وقوله ‏{‏وعد الله المنافقين‏}‏ الآية، لما قيد الوعد بالتصريح بالشر صح ذلك وحسن وإن كانت آية وعيد محض، و‏{‏الكفار‏}‏ في هذه الآية المعلنون، وقوله ‏{‏هي حسبهم‏}‏ أي كافيتهم وكافية جرمهم وكفرهم نكالاً وجزاء، فلو تمنى أحد لهم عذاباً لكان ذلك عنده حسباً لهم، ‏{‏ولعنهم الله‏}‏ معناه أبعدهم عن رحمته، ‏{‏عذاب مقيم‏}‏ معناه مؤبد لا نقلة له، وقوله تعالى ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ الآية، أمر الله نبيه أن يخاطب بها المنافقين فيقول لهم ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏، والمعنى أنتم كالذين أو مثلكم مثل الذين من قبلكم، وقال الزجّاج‏:‏ المعنى وعداً كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلق بوعد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قلق، ثم قال ‏{‏كانوا أشد منكم‏}‏ وأعظم فعصوا فأهلكوا فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم، والخلاق الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء وخلاق المرء الشيء الذي هو به خليق والمعنة عجلوا حظهم في دنياهم وتركوا باب الآخرة فاتبعتموهم أنتم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأورد الطبري في تفسير هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، وما شاكل هذا الحديث مما يقتضي اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لسائر الامم، وهو معنى لا يليق بالآية جداً إذ هي مخاطبة لمنافقين كفار أعمالهم حابطة والحديث مخاطبة لموحدين يتبعون سنن من مضى في أفعاله دنيوية لا تخرج عن الدين، وقوله ‏{‏خضتم كالذي خاضوا‏}‏ أي خلطتم كالذي خلطوا، وهو مستعار من الخوض في المائعات، ولا يستعمل إلا في الباطل، لأن التصرف في الحقائق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم

«رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة»، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ فيحتمل أن يراد ب ‏{‏أولئك‏}‏ القوم الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والاستمتاع بالخلاق، والمعنى وأنتم أيضاً كذلك يعتريكم بإعراضكم عن الحق، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏أولئك‏}‏ المنافقين المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكون الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول، و«حبط العمل» وما جرى مجراه يحبط حبطاً إذا بطل بعد التعب فيه، وحبَط البطن حبَطاً بفتح الباء وهو داء في البطن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم»، وقوله ‏{‏في الدنيا‏}‏ معناه إذا كان في المنافقين ما يصيبهم في الدنيا من المقت من المؤمنين وفساد أعمالهم عليهم وفي الآخرة بأن لا تنفع ولا يقع عليها جزاء، ويقوي أن الإشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة ‏{‏ألم يأتهم‏}‏ فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

يقول عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله بتكذيب رسله فأهلكها، ‏{‏وعاد وثمود‏}‏ قبيلتان، ‏{‏وقوم إبراهيم‏}‏ نمرود وأصحابه وتباع دولته، ‏{‏وأصحاب مدين‏}‏ قوم شعيب، ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ أهل القرى الأربعة، وقيل السبعة الذين بعث إليهم لوط صلى الله عليه وسلم، ومعنى ‏{‏المؤتفكات‏}‏ المنصرفات والمنقلبات أفكت فانتفكت لأنها جعل أعاليها أسفلها، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

بمنطق مستبينٍ غيرِ مُلْتَبِسٍ *** به اللسانُ وإني غيرُ مؤتفكِ

أي غير منقلب منصرف مضطرب ومنه يقال للريح مؤتفكة لتصرفها، ومنه ‏{‏أنى يؤفكون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75، التوبة‏:‏ 30، العنكبوت‏:‏ 61، الزخرف، 87، المنافقون‏:‏ 4‏]‏ والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب، والضمير في قوله ‏{‏أتتهم رسلهم‏}‏ عائد على هذه الأمم المذكورة، وقيل على ‏{‏المؤتفكات‏}‏ خاصة، وجعل لهم رسلاً وإنما كان نبيهم واحداً لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً، فهم رسل رسول الله ذكره الطبري، والتأويل الأول في عود الضمير على جميع الأمم أبين وقوله ‏{‏بالبينات‏}‏ يريد بالمعجزات وهي بينة في أنفسها بالإضافة إلى الحق لا بالإضافة إلى المكذبين بها، ولما فرغ من ذكر المنافقين بالأشياء التي ينبغي أن تصرف عن النفاق وتنهي عنه عقب ذلك بذكر المؤمنين بالأشياء التي ترغب في الإيمان وتنشط إليه تلطفاً منه تعالى بعباده لا رب غيره، وذكرت هنا «الولاية» إذ لا ولاية بين المنافقين لا شفاعة لهم ولا يدعو بعضهم لبعض وكان المراد هنا الولاية في الله خاصة، وقوله ‏{‏بالمعروف‏}‏ يريد بعبادة الله وتوحيده وكل ما اتبع ذلك، وقوله ‏{‏عن المنكر‏}‏ يريد عن عبادة الأوثان وكل ما اتبع ذلك، وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام وكل ما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين، وقال ابن عباس في قوله ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ هي الصلوات الخمس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبحسب هذا تكون ‏{‏الزكاة‏}‏ المفروضة، والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرض، وقوله ‏{‏ويطيعون الله ورسوله‏}‏ جامع للمندوبات، والسين في قوله ‏{‏سيرحمهم‏}‏ مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تنعم برجائه، وفضله تعالى زعيم بالإنجاز، وقوله تعالى ‏{‏وعد الله المؤمنين‏}‏ الآية، وعد في هذه الآية صريحة في الخير، وقوله ‏{‏من تحتها‏}‏ إما من تحت أشجارها وإما من تحت علياتها وإما من تحتها بالإضافة إلى مبدأ كما تقول في دارين متجاورتين متساويتي المكان هذه تحت هذه، وذكر الطبري في قوله ‏{‏ومساكن طيبة‏}‏ عن الحسن أنه قال سألت عنها عمران بن الحصين وأبا هريرة، فقالا على الخبير سقطت، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ أو يقرب منها فاختصرتها طلب الإيجاز، وإما قوله ‏{‏في جنات عدن‏}‏ فمعناه في جنات إقامة وثبوت يقال عدن الشيء في المكان إذا أقام به وثبت، ومنه المعدن أي موضع ثبوت الشيء، ومنه قول الأعشى‏:‏

وإن يستضيفوا إلى حلمه *** يضافوا إلى راجح قد عدن

هذا الكلام اللغوي، وقال كعب الأحبار ‏{‏جنات عدن‏}‏ هي بالفارسية جنات الكروم والأعناب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأظن هذا وهماً اختلط بالفردوس، وقال الضحاك ‏{‏جنات عدن‏}‏ هي مدينة الجنة وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد، والجنات حولها، وقال ابن مسعود‏:‏ «عدن» هي بطنان الجنة وسرتها، وقال عطاء‏:‏ «عدن» نهر في الجنة جناته على حافته، وقال الحسن‏:‏ «عدن» قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ومد بها صوته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والآية تأبى هذا التخصيص إذ قد وعد الله بها جمع المؤمنين، وأما قوله ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ فروي فيه أن الله عز وجل يقول لعباده إذ استقروا في الجنة هل رضيتم‏؟‏ فيقولون وكيف لا نرضى يا ربنا‏؟‏ فيقول إني سأعطيكم أفضل من هذا كله، رضواني أرضى عليكم فلا أسخط عليكم أبداً، الحديث، وقوله ‏{‏أكبر‏}‏ يريد أكبر من جميع ما تقدم، ومعنى الآية والحديث متفق، وقال الحسن بن أبي الحسن وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويظهر أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم والذين يرون كما يرى النجم الفائز في الأفق، وجميع من في الجنة راض والمنازل مختلفة، وفضل الله تعالى متسع و‏{‏الفوز‏}‏ النجاة والخلاص ومن ‏{‏أدخل الجنة فقد فاز‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ والمقربون هم في الفوز العظيم، والعبارة عندي عن حالهم بسرور وكمال أجود من العبارة عنها بلذة، واللذة أيضاً مستعملة في هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏جاهد‏}‏ مأخوذ من بلوغ الجهد وهي مقصود بها المكافحة والمخالفة، وتتنوع بحسب المجاهد فجهاد الكافر المعلن بالسيف، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار في وجهه، ونحو ذلك، ألا ترى أن من ألفاظ الشرع قوله صلى الله عليه وسلم «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله»، فجهاد النفس إنما هو مصابرتها باتباع الحق وترك الشهوات، فهذا الذي يليق بمعنى هذه الآية لكنا نجلب قول المفسرين نصاً لتكون معرضة للنظر، قال الزجّاج‏:‏ وهو متعلق في ذلك بألفاظ ابن مسعود‏:‏ أمر في هذه الآية بجهاد الكفار والمنافقين يالسيف، وأبيح له فيها قتل المنافقين، قال ابن مسعود‏:‏ إن قدر وإلا فباللسان وإلا فبالقلب والاكفهرار في الوجه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقتل لا يكون إلا مع التجليح ومن جلح خرج عن رتبة النفاق، وقال ابن عباس‏:‏ المعنى «جاهد المنافقين» باللسان، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ المعنى جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، قال‏:‏ وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ووجه ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين بالمدينة أنهم لم يكونوا مجلحين بل كان كل مغموص عليه إذا وقف ادعى الإسلام، فكان في تركهم إبقاء وحياطة للإسلام ومخافة أن تنفر العرب إذا سمعت أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام، وقد أوجبت هذا المعنى في صدر سورة البقرة، ومذهب الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ فلفظة عامة تتصرف الأفعال والأقوال واللحظات، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كنت فظاً غليظ القلب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ ومنه قول النسوة لعمر بن الخطاب‏:‏ أنت أفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشن الجانب فهي ضد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 215‏]‏ ثم جرت الآية المؤمنين عليهم في عقب الأمر بإخباره أنهم في جهنم، والمعنى هم أهل لجميع ما أمرت أن تفعل بهم، و«المأوى» حيث يأوي الإنسان ويستقر، وقوله ‏{‏يحلفون بالله ما قالوا‏}‏ الآية، هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، وذلك كأنه كان يأتي من قباء ومعه ابن امرأته عمير بن سعد فيما قال ابن إسحاق، وقال عروة اسمه مصعب، وقال غيره وهما على حمارين‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمى قوماً ممن اتهمهم بالنفاق، وقال إنهم رجس، فقال الجلاس للذي كان يسير معه‏:‏ والله ما هؤلاء الذين سمى محمد إلا كبراؤنا وسادتنا، ولئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من حمرنا هذه فقال له ربيبة أو الرجل الآخر‏؟‏ والله إنه لحق، وإنك لشر من حمارك، ثم خشي الرجل من أن يلحقه في دينه درك، فخرج وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في الجلاس فقرره فحلف بالله ما قال، فنزلت هذه الآية، والإشارة ب ‏{‏كلمة الكفر‏}‏ إلى قوله‏:‏ إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمر، إن التكذيب في قوة هذا الكلام، قال مجاهد وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل عجزاً عن ذلك فإلى هذا هي الإشارة بقوله ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏، وقال قتادة بن دعامة‏:‏ نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك أن سنان بن وبرة الأنصاري والجهجاه الغفاري كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع، فثاروا، فصاح جهجاه بالأنصار وصاح سنان بالمهاجرين، فثار الناس فهدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول‏:‏ ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول‏:‏ سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك، فنزلت الآية مكذبة له، والإشارة ب ‏{‏كلمة الكفر‏}‏ إلى تمثيله‏:‏ سمن كلبك يأكلك، قال قتادة والإشارة ب ‏{‏هموا‏}‏ إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة، وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏بعد إسلامهم‏}‏ ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله‏}‏، معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ لعبد الله بن أبي ابن سلول دية كانت قد تعطلت له، ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفاً، وقيل بل كانت للجلاس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بحسب الخلاف المتقدم فيمن نزلت الآية من أولها، وتقدم اختلاف القراء في ‏{‏نقموا‏}‏ في سورة الأعراف، وقرأها أبو حيوة وابن أبي عبلة بكسر القاف، وهي لغة، وقوله ‏{‏إلا أن أغناهم الله‏}‏ استثناء من غير الأول كما قال النابغة‏:‏

ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

فكأن الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر، وقال مجاهد في قوله ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ إنها نزلت في قوم من قريش أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لا يناسب الآية، وقالت فرقة إن الجلاس هو الذي هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يشبه الآية إلا أنه غير قوي السند، وحكى الزجّاج أن اثني عشر من المنافقين هموا بذلك فأطلع الله عليهم، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي»، ثم فتح عز وجل لهم باب التوبة رفقاً بهم ولطفاً في قوله ‏{‏فإن يتوبوا يك خيراً لهم‏}‏‏.‏

وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص، وحسنت توبته، و«العذاب الأليم» اللاحق بهم في الدنيا هو المقت والخوف والهجنة عند المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وقال الحسن‏:‏ وفي معتب بن قشير معه، واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره «أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعل لي مالاً فإني لو كنت ذا مال لقضيب حقوقه وفعلت فيه الخير، فراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فعاود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألا تريد أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو دعوت الله أن يسير الجبال معي ذهباً لسارت، فأعاد عليه حتى دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة، فتنحى عنها وكثرت غنمه، فكان لا يصلي إلا الجمعة ثم كثرت حتى تنحى بعيداً ونجم نفاقه، ونزل خلال ذلك فرض الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم، فلما بلغوا ثعلبة وقرأ الكتاب قال‏:‏ هذه أخت الجزية، ثم قال لهم‏:‏ دعوني حتى أرى رأيي، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه، قال» ويح ثعلبة «ثلاثاً، ونزلت الآية فيه، فحضر القصة قريب لثعلبة فخرج إليه فقال أدرك أمرك، فقد نزل كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال إن أمرني الله أن لا آخذ زكاتك»، فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة، فكلهم رد ذلك وأباه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعقبهم‏}‏ نص المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، وقوله‏:‏ ‏{‏إلى يوم يلقونه‏}‏ يقتضي موافاتهم على النفاق، ولذلك لم يقبل الخلفاء رضي الله عنهم رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالموافاة، ولولا الاحتمال في أنه نفاق معصية لوجب قتله، وقرأ الأعمش «لنصدقن» بالنون الثقيلة مثل الجماعة «ولنَكونَن» خفيفة النون، والضمير الذي في قوله ‏{‏فأعقبهم‏}‏ يعود على الله عز وجل‏.‏

ويحتمل أن يعود على «البخل» المضمن في الآية، ويضعف ذلك الضمير في ‏{‏يلقونه‏}‏، وقوله ‏{‏نفاقاً في قلوبهم‏}‏، يحتمل أن يكون نفاق كفر ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام وتعلقه بما فيه احتمال‏.‏

ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏نفاقاً‏}‏ يريد به نفاق معصية وقلة استقامة، فيكون تقريره صحيحاً ويكون ترك في أول الزكاة عقاباً له ونكالاً‏.‏

وهذا نحو ما روي أن عاملاً كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن فلاناً يمنع الزكاة، فكتب إليه أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك، وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع وسائرهم ‏{‏يكذبون‏}‏ قرأ أبو رجاء «يكذبون» وذكر الطبري في هذه الآية ما يناسبها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان» وفي حديث آخر «وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» ونحو هذا من الأحاديث، ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة‏.‏

وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال زوجوا فلاناً فإني قد وعدته لا ألقى الله بثلث النفاق، وهذا ظاهر كلام الحسن بن أبي الحسن، وقال عطاء بن أبي رباح قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء، وهذه الأحاديث إنما هي في المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، الذين شهد الله عليهم، وهذه هي الخصال في سائر الأمة معاص لا نفاق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا محالة أنها كانت مع التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، معاص لكنها من قبيل النفاق اللغوي، وذكر الطبري عن فرقة أنها قالت‏:‏ كان العهد الذي عاهد الله عليه هؤلاء المنافقون شيئاً نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا فيه نظر، وقوله‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ الآية، لفظ به تعلق من قال في الآية المتقدمة إن العهد كان من المنافقين بالنية لا بالقول، وقرأ الجمهور «يعلموا» بالياء من تحت، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن «ألم تعلموا» بالتاء، من فوق، وهذه الآية تناسب حالهم وذلك أنها تضمنت إحاطة علم الله بهم وحصره لهم، وفيها توبيخهم على ما كانوا عليه من التحدث في نفوسهم من الاجتماع على ثلب الإسلام، وراحة بعضم مع بعض في جهة النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه، فهي تعم المنافقين أجمع، وقائل المقالة المذكورة ذهب إلى أنها تختص بالفرقة التي عاهدت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏الذين يلمزون‏}‏ رد على الضمائر في قول ‏{‏يكذبون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 77‏]‏ و‏{‏ألم يعلموا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 87‏]‏ و‏{‏سرهم ونجواهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 78‏]‏ و‏{‏يلمزون‏}‏ معناه ينالون بألسنتهم، وقرأ السبعة «يلمِزون» بكسر الميم، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه «يلمُزون» بضم الميم، و‏{‏المطوعين‏}‏ لفظة عموم في كل متصدق، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله، عطفاً على ‏{‏المطوعين‏}‏، ‏{‏والذين لا يجدون‏}‏، ولو كان ‏{‏الذين لا يجدون‏}‏ قد دخلوا في ‏{‏المطوعين‏}‏ لما ساغ عطف الشيء على نفسه، وهذا قول أبي علي الفارسي في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين‏.‏

وكذلك قال في قوله‏:‏ ‏{‏فيهما فاكهة ونخل ورمان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏ وفي هذا كله نظر، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها، وأصل ‏{‏المطوعين‏}‏ المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم، وأما المتصدق بكثير الذي كان سبباً للآية فأكثر الروايات «أنه عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت»‏.‏

وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي، تصدق بصاع من تمر وقال يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة‏.‏

فقال المنافقون‏:‏ الله غني عن صدقة هذا، وقال بعضهم‏:‏ إن الله غني عن صاع أبي عقيل، وقيل‏:‏ إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صى الله عليه وسلم، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة، وقيل أقل من هذا‏.‏

فقال المنافقون‏:‏ ما هذا إلا رياء، فنزلت الآية في هذا كله، وقوله‏:‏ ‏{‏فيسخرون‏}‏ معناه يستهزئون ويستخفون، وهو معطوف على ‏{‏يلمزون‏}‏، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله ‏{‏والذين لا يجدون‏}‏، وهذا لا يلزم، لأن قوله ‏{‏والذين‏}‏ معمول للذي عمل في ‏{‏المطوعين‏}‏ فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيداً وعمراً فقتلهما، وقوله‏:‏ ‏{‏سخر الله منهم‏}‏ تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ معناه مؤلم، وهي آية وعيد محض، وقرأ جمهور «جُهدهم» بضم الجيم، وقرأ الأعرج وجماعة معه «جَهدهم» بالفتح، وقيل هما بمعنى واحد، وقاله أبو عبيدة، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم، ونحوه عن الشعبي، وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون‏}‏ يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين، ويصح أن يكون ابتداء وخبره ‏{‏سخر‏}‏، وفي ‏{‏سخر‏}‏ معنى الدعاء عليهم‏.‏

ويحتمل أن يكون خبراً مجرداً عن الدعاء، ويحتمل أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة، وقوله تعالى ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون لفظ أمر ومعناه الشرط، بمعنى إن استغفرت أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم، فيكون مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53‏]‏ وبمنزلة قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكثير‏]‏

أسيئي لنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت

وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره في معنى الآية، والمعنى الثاني الذي يحتمله اللفظ أن يكون تخييراً، كأنه قال له‏:‏ إن شئت فاستغفر وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر ‏{‏سبعين مرة‏}‏ وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيينه ذلك‏.‏

وذلك أن عمر بن الخطاب سمعه بعد نزول هذه الآية يستغفر لهم فقال يا رسول الله، أتستغفر للمنافقين وقد أعلمك الله أنه لا يغفر لهم، فقال له «يا عمر إن الله قد خيرني فاخترت، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت»، ونحو هذا من مقاولة عمر في وقت إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على عبد الله بن أبي ابن سلول، وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقيناً عنده، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر‏.‏

وفي هذه الألفاظ التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفض إلزام دليل الخطاب، وذلك أن دليل الخطاب يقتضي أن الزيادة على السبعين يغفر معها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو علمت فجعل ذلك مما لا يعلمه، ومما ينبغي أن يتعلم ويطلب علمه من الله عز وجل، ففي هذا حجة عظيمة للقول برفض دليل الخطاب، وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى‏:‏ في سورة المنافقون

‏{‏سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏ ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القول بدليل الخطاب، منها قوله‏:‏ إن المدرك للتشهد وحده لا تلزمه أحكام الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فاقتضى دليل الخطاب أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك، وله مسائل تقتضي رفض دليل الخطاب، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم، «وفي سائمة الغنم الزكاة» فدليل الخطاب أن لا زكاة في غير السائمة، ومالك يرى الزكاة في غير السائمة، ومنها أن الله عز وجل يقول في الصيد ‏{‏من قتله منكم متعمداً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فقال مالك‏:‏ حكم المخطئ والمتعمد سواء ودليل الخطاب يقتضي غير هذا، وأما تمثيله «السبعين» دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية وتحقيقاً في الكثرة، ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى وإلى أصحاب العقبة وقد قال بعض اللغويين إن التصريف الذي يكون من السين والباء والعين فهو شديد الأمر، من ذلك السبعة فإنها عدد مقنع هي في السماوات وفي الأرض وفي خلق الإنسان وفي رزقه وفي أعضائه التي بها يطيع الله وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه، وفي سهام الميسر وفي الأقاليم وغير ذلك‏.‏

ومن ذلك السبع والعبوس والعنبس ونحو هذا من القول، وقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى امتناع الغفران، وقوله‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ إما من حيث هم فاسقون، وإما أنه لفظ عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي على كفره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ لهم وفي ضمنها وعيد، وقوله ‏{‏المخلفون‏}‏ لفظ يقتضي تحقيرهم وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه وهذا أمكن في هذا من أن يقال المتخلفون، ولم يفرح إلا منافق، فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر، و«مقعد» مصدر بمعنى القعود، ومثله‏:‏

من كان مسروراً بمقتل مالك *** وقوله ‏{‏خلاف‏}‏ معناه بعد وأنشد أبو عبيدة في ذلك‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

عقب الربيع خِلاَفُهمْ فكأنَّما *** بسط الشواطب بينهنَّ حصير

يريد بعدهم ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى *** تأهَّبْ لأخرى مثلَها فَكَأَنْ قدِ

وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا هو مفعول له، والمعنى ‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم‏}‏ لخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصدر ونصبه في القول الأول كأنه على الظرف، وكراهيتهم «لما ذكر هي شح إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله فهم يظنون بالدنيا، وقولهم ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏ كان لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال، قاله ابن عباس وكعب بن مالك والناس، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فهمتم، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة» خلف «وذكرها يعقوب ولم ينسبها وقرئ» خُلف «بضم الخاء، ويقوي قول الطبري أن لفظة» الخلاف «هي مصدر من خالف ما تظاهرت به الروايات من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر فعصوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ قال ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏ رجل من بني سلمة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ قال رجل يا رسول الله الحر شديد فلا تنفر في الحر، قال النقاش‏:‏ وفي قراءة عبد الله» يعلمون «بدل ‏{‏يفقهون‏}‏، وقال ابن عباس وأبو رزين والربيع بن خيثم وقتادة وابن زيد قوله ‏{‏فليضحكوا قليلاً‏}‏ إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله ‏{‏وليبكوا كثيراً‏}‏ إِشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم، ويحتمل أن يكون صفة حالهم أي هم لما هم عليه من الخطر مع الله، وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم من أجل ذلك كثيراً، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا على نحو قوله صلى الله عليه وسلم، لأمته

«لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً»‏.‏

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال هذا الكلام أوحى الله إليه يا محمد لا تقنط عبادي، و‏{‏جزاء‏}‏ متعلق بالمعنى الذي تقديره ‏{‏وليبكوا كثيراً‏}‏ إذ هم معذبون ‏{‏جزاء‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يكسبون‏}‏ نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم‏}‏ الآية، ‏{‏رجع‏}‏ يستوي مجاوزه وغير مجاوزه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ مبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه وأيضاً فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، بأن يقول لهم ‏{‏لن تخرجوا معي‏}‏، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب، وقوله‏:‏ ‏{‏إلى طائفة‏}‏ يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدواً، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام «فإن رجعك الله إليهم»، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله، وقوله‏:‏ ‏{‏وماتوا وهم فاسقون‏}‏ ونص في موافاتهم، ومما يؤيد هذا ما روي أن ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها‏.‏

وروي عن حذيفة أنه قال يوماً‏:‏ بقي من المنافقين كذا وكذا، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشدك الله أنا منهم‏؟‏ فقال لا، والله، لا أمنه منها أحداً بعدك، وقرأ جمهور الناس «معي» بسكون الياء في الموضعين، وقرأ عاصم فيما قال المفضل «معيَ» بحركة الياء في الموضعين، وقوله ‏{‏أول‏}‏ هو الإضافة إلى وقت الاستئذان‏.‏

و «الخالفون» جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان ثم نساء، وهو جمع خالف، وقال قتادة «الخالفون» النساء، وهذا مردود، وقال ابن عباس‏:‏ هم الرجال، وقال الطبري‏:‏ يحتمل قوله ‏{‏مع الخالفين‏}‏ أن يريد مع الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة «مع الخلفين» وهو مقصور من الخالفين، كما قال‏:‏ عرداً وبرداً عارداً وبارداً، وكما قال الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

مثل النقا لبده برد الظلال *** يريد الظلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى أنس بن مالك أن رسول الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل عليه السلام، فجذبه بثوبه وتلا عليه، ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبداً‏}‏ الآية، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصل عليه، وتظاهرت الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الآية نزلت بعد ذلك، وفي كتاب الجنائز من البخاري من حديث جابر، قال‏:‏ «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج ووضعه على ركبته ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، وروي في ذلك أن عبد الله بن أبي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ورغب إليه أن يستغفر له وأن يصلي عليه»‏.‏

وروي أن ابنه عبد الله بن عبد الله جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه فرغب في ذلك وفي أن يكسوه قميصه الذي يلي بدنه، ففعل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قام إليه عمر رضي الله عنه، فقال يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم‏؟‏ وجعل يعدد أفعال عبد الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أ خر عني يا عمر، فإني خيرت، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت» وفي حديث آخر «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي»، كذا في بعض الروايات، يريد من منافقي العرب، والصحيح أنه قال رجال من قومه، فسكت عمر وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله، ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع إظهاره الإيمان، ومحال أن يصلي عليه وهو يتحقق كفره وبعد هذا والله أعلم، عين له من لا يصلي عليه‏.‏

ووقع في معاني أبي إسحاق وفي بعض كتب التفسير، فأسلم وتاب بهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة من عبد الله ألف رجل من الخزرج‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، قاله من لم يعرف عدة الأنصار، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعجبك أموالهم‏}‏ الآية، تقدم تفسير مثل هذه الآية، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، إذ هو بإجما ع ممن لا تفتنه زخارف الدنيا‏.‏

ويحتمل أن يكون معنى الآية ولا تعجبك أيها الإنسان، والمراد الجنس، ووجه تكريرها تأكيد هذا المعنى وإيضاحه، لأن الناس كانوا يفتنون بصلاح حال المنافقين في دنياهم، وقوله ‏{‏وإذا أنزلت سورة‏}‏ الآية، العامل في ‏{‏إذا‏}‏ ‏{‏استأذنك‏}‏، «والسورة» المشار إليها هي براءة فيما قال بعضهم، ويحتمل أن يكون إلى كل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد مع الرسول، وسورة القرآن أجمع على ترك همزها في الاستعمال واختلف هل أصلها الهمز أم لا فقيل أصلها الهمز فهي من أسأر إذا بقيت له قطعة من الشيء، فالسورة قطعة من القرآن، وقيل أصلها أن لا تهمز فهي كسورة البناء وهي ما يبنى منه شيئاً بعد شيء، فهي الرتبة بعد الرتبة، ومن هذا قول النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألم تر أنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سَوْرَةً *** ترى كلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذبْذَبُ

وقد مضى هذا كله مستوعباً في صدر هذا الكتاب، و‏{‏أن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أن آمنوا‏}‏ يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فهي على هذا لا موضع لها، ويحتمل أن يكون التقدير ب «أن» فهي في موضع نصب، و‏{‏الطول‏}‏ في هذه الآية المال، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس وعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم، و«القاعدون» الزمنى وأهل العذر في الجملة ومن ترك لضبط المدينة لأن ذلك عذر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رضوا بأن يكونوا مع الخوالف‏}‏ الآية، تقريع وإظهار شنعة كما يقال على وجه التعيير رضيت يا فلان، و‏{‏الخوالف‏}‏ النساء جمع خالفة، هذا قول جمهور المفسرين، وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد أخسة الناس وأخالفهم، وقال النضر بن شميل في كتاب النقاش‏:‏ ‏{‏الخوالف‏}‏ من لا خير فيه، وقالت فرقة ‏{‏الخوالف‏}‏ جمع خالف فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، ‏{‏وطبع‏}‏ في هذه الآية مستعار، ولما كان الطبع على الصوان والكتاب مانعاً منه وحفاظاً عليه شبه القلب الذي قد غشيه الكفر والضلال حتى منع الإيمان والهدى منه بالصوان المطبوع عليه، ومن هذا استعارة القفل والكنان للقلب، و‏{‏لا يفقهون‏}‏ معناه لا يفهمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 90‏]‏

‏{‏لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

الأكثر في ‏{‏لكن‏}‏ أن تجيء بعد نفي، وهو ها هنا في المعنى، وذلك أن الآية السالفة معناها أن المنافقين لم يجاهدوا فحسن بعدها «لكن الرسول والمؤمنون جاهدوا»، و‏{‏الخيرات‏}‏ جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء، وكثر استعماله في النساء، فمن ذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فيهن خيرات حسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 70‏]‏ ومن ذلك قول الشاعر أنشده الطبري‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ربلات هند خيرة الملكات *** و‏{‏المفلحون‏}‏ الذين أدركوا بغيتهم من الجنة، والفلاح يأتي بمعنى إدراك البغية، من ذلك قول لبيد‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض *** عف وقد يخدع الأريب

ويأتي بمعنى البقاء ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

لكل همٍّ من الهموم سعهْ *** والمسى والصبح لا فلاح معهْ

أي لا بقاء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبلوغ البغية يعم لفظة الفلاح حيث وقعت فتأمله، و‏{‏أعد‏}‏ معناه يسر وهيأ،

وقوله ‏{‏من تحتها‏}‏ يريد من تحت مبانيها وأعاليها، و‏{‏الفوز‏}‏ حصول الإنسان على أمله، وظفره ببغيته، ومن ذلك فوز سهام الأيسار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب‏}‏ الآية، اختلف المتألون في هؤلاء الذى جاءوا هل كانوا مؤمنين أو كافرين، فقال ابن عباس وقوم معه منهم مجاهد‏:‏ كانوا مؤمنين وكانت أعذارهم صادقة، وقرأ «وجاء المعْذرون» بسكون العين، وهي قراءة الضحاك وحميد الأعرج وأبي صالح وعيسى بن هلال‏.‏ وقرأ بعض قائلي هذه المقالة «المعذّرون» بشد الذال، قالوا وأصله المتعذرون فقلبت التاء ذالاً وأدغمت‏.‏

ويحتمل المعتذرون في هذا القول معنيين أحدهما المتعذرون بأعذار حق والآخر أن يكون الذين قد بلغوا عذرهم من الاجتهاد في طلب الغزو معك فلم يقدروا فيكون مثل قول لبيد‏:‏

ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر *** وقال قتادة وفرقة معه‏:‏ بل الذين جاءوا كفرة وقولهم وعذرهم كذب، وكل هذه الفرقة قرأ «المعذّرون» بشد الذال، فمنهم من قال أصله المتعذرون نقلت حركة التاء إلى العين وأدغمت التاء في الذال، والمعنى معتذرون بكذب، ومنهم من قال هو من التعذير أي الذين يعذرون الغزو ويدفعون في وجه الشرع، فالآية إلى آخرها في هذا القول إنما وصفت صنفاً واحداً في الكفر ينقسم إلى أعرابي وحضري، وعلى القول الأول وصفت صنفين‏:‏ مؤمناً وكافراً، قال أبو حاتم‏:‏ وقال بعضهم سألت مسلمة فقال «المعّذّرون» بشد العين والذال، قال أبو حاتم‏:‏ أراد المعتذرين والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج وهي غلط عنه أو عليه، قال أبو عمرو‏:‏ وقرأ سعيد بن جبير «المعتذرون» بزيادة تاء، وقرأ الحسن بخلاف عنه وأبو عمرو ونافع والناس «كذَبوا» بتخفيف الذال، وقرأ الحسن وهو المشهور عنه وأبي بن كعب ونوح وإسماعيل «كذّبوا» بتشديد الذال، والمعنى لم يصدقوه تعالى ولا رسوله وردوا عليه أمره، ثم توعد في آخر الآية الكافرين ب ‏{‏عذاب أليم‏}‏، فيحتمل أن يريد في الدنيا بالقتل والأسر‏.‏

ويحتمل أن يريد في الآخرة بالنار، وقوله‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ يريد أن المعذرين كانوا مؤمنين ويرجحه بعض الترجيح فتأمله، وضعف الطبري قول من قال إن المعذرين من التعذير وأنحى عليه والقول منصوص ووجهه بين والله المعين، وقال ابن إسحاق «المعذرون» نفر من بني غفار منهم خفاف بن إيماء بن رحضة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يقتضي أنهم مؤمنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

يقول تعالى ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زمانة أو عدم نفقة إثم، و«الحرج» الإثم، وقوله‏:‏ ‏{‏إذا نصحوا‏}‏ يريد بنياتهم وأقوالهم سراً وجهراً، وقرأ حيوة «نصحوا الله ورسوله» بغير لام وبنصب الهاء المكتوبة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ الآية، في لائمة تناط بهم أو تذنيب أو عقوبة، ثم أكد الرجاء بقوله ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ وقرأ ابن عباس «والله لأهل الإساءة غفور رحيم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا على جهة التفسير أشبه منه على جهة التلاوة لخلافه المصحف، واختلف فيمن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين لا يجدون ما ينفقون‏}‏، فقالت فرقة‏:‏ نزلت في بني مقرن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبنو مقرن ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم، وقيل كانوا سبعة، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل المزني، قاله ابن عباس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك‏}‏ الآية، اختلف فيمن نزلت هذه الآية فقيل نزلت في عرباض بن سارية، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل، وقيل في عائذ بن عمرو، وقيل في أبي موسى الأشعري ورهطه، وقيل في بني مقرن، وعلى هذا جمهور المفسرين، وقيل نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، فهم البكاؤون وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف، وحرمي بن عمرو من بني واقف، وأبو ليلى عبد الرحمن من بني مازن بن النجار، وسليمان بن صخر من بني المعلى، وأبو رعياة عبد الرحمن بن زيد من بني حارثة وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه، وعمرو بن غنمة من بني سلمة، وعائد بن عمرو المزني، وقيل عبد الله بن عمرو المزني قال هذا كله محمد بن كعب القرظي، وقال مجاهد‏:‏ البكاؤون هم بنو مكدر من مزينة‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏لتحملهم‏}‏ أي على ظهر يركب ويحمل عليه الأثاث، وقال بعض الناس‏:‏ إنما استحملوه النعال، ذكره النقاش عن الحسن بن صالح، وهذا بعيد شاذ، والعامل في ‏{‏إذا‏}‏ يحتمل أن يكون ‏{‏قلت‏}‏، ويكون قوله ‏{‏تولوا‏}‏ مقطوعاً‏.‏

ويحتمل أن يكون العامل ‏{‏تولوا‏}‏ ويكون تقدير الكلام فقلت، أو يكون قوله ‏{‏قلت لا أجد ما أحملكم عليه‏}‏ بمنزلة وجدوك في هذه المحال‏.‏

وفي الكلام اختصار وإيجاز ولا يدل ظاهر الكلام على ما اختصر منه، وقال الجرجاني في النظم له إن قوله ‏{‏قلت‏}‏ في حكم المعطوف تقديره وقلت، و‏{‏حزناً‏}‏ نصب على المصدر، وقرأ معقل بن هارون «لنحملهم» بنون الجماعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 94‏]‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله في هذه الآية ‏{‏إنما‏}‏ ليس بحصر وإنما هي للمبالغة فيما يريد تقريره عل نحو ذلك إنما الشجاع عنترة ويقضي بذلك انَّا نجد السبيل في الشرع على غير هذه الفرقة موجوداً، و‏{‏السبيل‏}‏ قد توصل ب ‏{‏على‏}‏ و‏{‏إلى‏}‏ فتقول لا سبيل على فلان ولا سبيل إلى فلان غير أن وصولها ب ‏{‏على‏}‏ يقتضي أحياناً ضعف المتوصل إليه وقلة منعته، فلذلك حسنت في هذه الآية، وليس ذلك في إلى، ألا ترى أنك تقول فلان لا سبيل إلى الأمر ولا إلى طاعة الله ولا يحسن في شبه هذا على، و‏{‏السبيل‏}‏ في هذه الآية سبيل المعاقبة، وهذه الآية نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ومعتب وغيرهم، وقد تقدم نظير تفسير الآية، قوله‏:‏ ‏{‏يعتذرون إليكم‏}‏ الآية، هذه المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وشرك معه المسلمون في بعض لأن المنافقين كانوا يعتذرون أيضاً إلى المؤمنين ولأن أنباء الله أيضاً تحصل للمؤمنين وقوله‏:‏ ‏{‏رجعتم‏}‏ يريد من غزوة تبوك، وقوله‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لكم‏}‏ معناه لن نصدقكم، ولكن لفظة ‏{‏نؤمن‏}‏ تتصل بلام أحياناً كما تقدم في قوله ‏{‏يؤمن للمؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏، و«نبأ» في هذه الآية قيل هي بمعنى عرف لا تحتاج إلى أكثر من مفعولين، فالضمير مفعول أول، وقوله ‏{‏من أخباركم‏}‏ مفعول ثان على مذهب أبي الحسن في زيادة ‏{‏من‏}‏ في الواجب، فالتقدير قد نبأنا الله أخباركم، وهو على مذهب سيبويه نعت لمحذوف هو المفعول الثاني تقديره قد نبأنا الله جلية من أخباركم، وقيل «نبأ» بمعنى أعلم يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل، فالضمير واحد و‏{‏من أخباركم‏}‏ ثان حسب ما تقدم من القولين، والثالث محذوف يدل الكلام عليه، تقديره قد نبأنا الله من أخباركم كذباً أو نحوه‏.‏

وحذف هذا المفعول مع الدلالة عليه جائز بخلاف الاقتصار، وذلك أن الاقتصار إنما يجوز إما على المفعول الأول ويسقط الاثنان إذ هما الابتداء والخبر، وإما على الاثنين الأخيرين ويسقط الأول، وإما أن يقتصر على المفعولين الأولين ويسقط الثالث دون دلالة عليه، فذلك لا يجوز، ويجوز حذفه مع الدلالة عليه والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏قد نبأنا الله‏}‏ إلى قوله ‏{‏ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏ ونحو هذا، وقوله ‏{‏وسيرى الله‏}‏ توعد معناه وسيراه في حال وجوده ويقع الجزاء منه عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقوله ‏{‏ثم تردون إلى إلى عالم الغيب‏}‏ يريد البعث من القبور، و‏{‏الغيب‏}‏ والشهادة يعمان جميع الأشياء وقوله‏:‏ ‏{‏فينبئكم‏}‏ معناه التخويف ممن لا تخفى عليه خافية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 97‏]‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قيل إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك وذلك أن بعض المنافقين اعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه في القعود قبل مسيره فأذن لهم فخرجوا من عنده وقال أحدهم والله ما هو إلا شحمة لأول آكل، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل فيهم القرآن، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم‏:‏ والله لقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فيكم قرآن، فقالوا له وما ذلك‏؟‏ فقال لا أحفظ إلا أني سمعت وصفكم فيه بالرجس، فقال لهم مخشي والله لوددت أن أجلد مائة جلدة ولا أكون معكم، فخرج حتى لحق برسول الله صلى اله عليه وسلم، فقال له ما جاء بك‏؟‏ فقال‏:‏ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح وأنا في الكنّ، فروي أنه ممن تاب وقوله‏:‏ ‏{‏فأعرضوا عنهم‏}‏ أمرنا بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق‏.‏

وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله، بل كان لكل واحد منهم ميدان المغالطة مبسوطاً، وقوله ‏{‏رجس‏}‏ أي نتن وقذر، وناهيك بهذا الوصف محطة دنياوية، ثم عطف بمحطة الآخرة فقال ‏{‏ومأواهم جهنم‏}‏ أي مسكنهم، ثم جعل ذلك جزاء بتكسبهم المعاصي والكفر مع أن ذلك مما قدره الله وقضاه لا رب غيره ولا معبود سواه، وأسند الطبري عن كعب بن مالك أنه قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جلس للناس فجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وقوله ‏{‏يحلفون لكم لترضوا عنهم‏}‏، هذه الآية والتي قبلها مخاطبة للمؤمنين مع الرسول، والمعنى يحلفون لكم مبطلين ومقصدهم أن ترضوا لا أنهم يفعلون ذلك لوجه الله ولا للبر، ولقوله ‏{‏فإن ترضوا‏}‏ إلى آخر الآية، شرط يتضمن النهي عن الرضى عنهم، وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها، فإن المؤمن ينبغي أن يبغضه ولا يرضى عنه لسبب من أسباب الدنيا، وقوله ‏{‏الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله‏}‏ الآية، ‏{‏الأعراب‏}‏ لفظة عامة ومعناها الخصوص فيمن استثناه الله عز وجل، وهذا معلوم بالوجود وكيف كان الأمر، وإنما انطلق عليهم هذا الوصف بحسب بعدهم عن الحواضر ومواضع العلم والأحكام والشرع، وهذه الآية إنما نزلت في منافقين كانوا في البوادي، ولا محالة أن خوفهم هناك أقل من خوف منافقي المدينة، فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم، وأسند الطبري أن زيد بن صوحان كان يحدث أصحابه بالعلم وعنده أعرابي وكان زيد قد أصيبت يده اليسرى يوم نهاوند فقال الأعرابي والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني وقال زيد‏:‏ وما يريبك من يدي وهي الشمال‏؟‏ فقال الأعرابي‏:‏ والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال‏؟‏ فقال زيد صدق الله ‏{‏الأعراب أشد كفارً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله‏}‏، ‏{‏و أجدر‏}‏ معناه أحرى وأقمن، و«الحدود» هنا السنن والأحكام ومعالم الشريعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏‏}‏

هذا نص من المنافقين منهم، ومعنى ‏{‏يتخذ‏}‏ في هذه الآيات أي يجعل مقصده ولا ينوي فيه غير ذلك، وأصل «المغرم» الدين، ومنه تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولكن كثر استعمال المغرم فيما يؤديه الإنسان مما لا يلزمه بحق، وفي اللفظ معنى اللزوم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عذابها كان غراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 65‏]‏ أي مكروهاً لازماً، و‏{‏الدوائر‏}‏ المصائب التي لا مخلص للإنسان منها فهي تحيط به كما تحيط الدائرة، وقد يحتمل أن تشتق من دور الزمان، والمعنى ينتظر بكم ما تأتي به الأيام وتدور به، ثم قال على جهة الدعاء ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء، لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ومن هذا، ‏{‏ويل لكل همزة لمزة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏ وللمطففين، فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى، وقرأ الجمهور من السبعة وغيرهم «دائرة السَّوء» بفتح السين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن واختلف عنه عاصم والاعمش بخلاف عنهما «دائرة السُّوء» بضم السين، واختلف عن ابن كثير، وقيل الفتح المصدر والضم الاسم، واختلف الناس فيهما وهو اختلاف يقرب بعضه من بعض والفتح في السين يقتضي وصف الدائرة بأنها سيئة، وقال أبو علي معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فإنما هي إضافة بيان وتأكيد كما قالوا شمس النهار ولحيا رأسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يقال رجل سَوء بفتح السين، هذا قول أكثرهم وقد حكي «رجل سُوء» بضم السين وقد قال الشاعر ‏[‏الفرزدق‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وكنت كذئبِ السَّوْءِ لما رأى دماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم

ولم يختلف القراء في فتح السين من قوله ‏{‏ما كان أبوك امرأ سوء‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 28‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله‏}‏ الآية، قال قتادة‏:‏ هذه ثنية الله تعالى من الأعراب، و‏{‏يتخذ‏}‏ في هذه الآية أيضاً هي بمعنى يجعله مقصداً، والمعنى ينوي بنفقته في سبيل الله القربة عند الله عز وجل واستغنام دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم، ف ‏{‏صلوات‏}‏ على هذا عطف على ‏{‏قربات‏}‏، ويحتمل أن يكون عطفاً على ما ينفق، أي ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة، والأولى أبين، و‏{‏قربات‏}‏ جمع قرْبة أو قرُبه بسكون الراء وضمها وهما لغتان و«الصلاة» في هذه الآية الدعاء إجماعاً‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ الصلاة من الله رحمة ومن النبي والملائكة دعاء، ومن الناس عبادة، والضمير في قوله ‏{‏إنها‏}‏ يحتمل أن يعود على النفقة وهذا في انعطاف ‏{‏الصلوات‏}‏ على ‏{‏القربات‏}‏، ويحتمل أن يعود على ‏{‏الصلوات‏}‏ وهذا في انعطافه على ما ينفق، وقرأ نافع «قرُبة» بضم الراء، واختلف عنه وعن عاصم والأعمش، وقرأ الباقون «قرْبة» بسكون الراء ولم يختلف ‏{‏قربات‏}‏، ثم وعد تعالى بقوله ‏{‏سيدخلهم الله في رحمته‏}‏ الآية، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن من مزينة وقاله مجاهد، وأسند الطبري إلى عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن أنه قال‏:‏ كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله عشرة ولد مقرن يريد الستة أولاد مقرن لصلبة أو السبعة على ما في الاستيعاب من قول سويد بن مقرن، وبنيهم لأن هذا هو الذي في مشهور دواوين أهل العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قال أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة ‏{‏السابقون الأولون‏}‏ من صلى القبلتين، وقال عطاء ‏{‏السابقون الأولون‏}‏ من شهد بدراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحولت القبلة قبل بدر بشهرين، وقال عامر بن شراحيل الشعبي‏:‏ ‏{‏السابقون الأولون‏}‏ من أدرك بيعة الرضون، ‏{‏والذين اتبعوهم بإحسان‏}‏ يريد سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الامة لكن بشريطة الإحسان، وقد لزم هذا الاسم الطبقة التي رأت من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال قائل إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقطعت الهجرة لكان قولاً يقتضيه اللفظ وتكون ‏{‏من‏}‏ لبيان الجنس، و‏{‏والذين‏}‏ في هذه الآية عطف على قوله ‏{‏والسابقون‏}‏، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن وقتادة وسلام وسعيد ويعقوب بن طلحة وعيسى الكوفي «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصارُ» برفع الراء عطفاً على ‏{‏والسابقون‏}‏، وكذلك ينعطف على كلتا القراءتين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتبعوهم بإحسان‏}‏ وجعل الأتباع عديلاً للأنصار، وأسند الطبري أن زيد بن ثابت سمعه فرده فبعث عمر في أبي بن كعب فسأله فقال أبي بن كعب ‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان‏}‏، فقال عمر ما كنا نرى إلا أنَّا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، فقال أبي إن مصداق هذا في كتاب الله في أول سورة الجمعة ‏{‏وآخرين منهم لما يلحقوا بهم‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 3‏]‏ وفي سورة الحشر ‏{‏والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 10‏]‏ وفي سورة الأنفال في قوله ‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 75‏]‏، فرجع عمر إلى قول أبي، ونبهت هذه الآية من التابعين وهم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نبه من ذكرهم قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» فتأمله، وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» وقرأ الباقون «تحتها» بإسقاط «من» ومعنى هذه الآية الحكم بالرضى عنهم بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم والحكم برضاهم عنه في شكرهم وحمدهم على نعمه وإيمانهم به وطاعتهم له جعلنا الله من الفائزين برحمته ‏{‏ممن حولكم من الأعراب‏}‏ الآية، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في بعضها أمته، والإشارة بقوله ‏{‏وممن حولكم من الأعراب‏}‏ هي إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر الله عن منافقيهم، وتقدير الآية‏:‏ ومن أهل المدينة قوم أو منافقون هذا أحسن ما حمل اللفظ، و‏{‏مردوا‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ معناه مرنوا عليه ولجوا فيه، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال ابن زيد‏:‏ أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون‏.‏

والظاهر من معنى اللفظ أن التمرد في الشيء أو التمرد في الشيء أو المرود عليه إنما هو اللجاج والاستهتار به والعتو على الزاجر وركوب الرأٍ في ذلك، وهو مستعمل في الشر لا في الخير، ومن ذلك قولهم شيطان مارد ومريد، ومن هذا سميت مراد لأنها تمردت، قال بعض الناس‏:‏ يقال تمرد الرجل في أمر كذا إذا تجرد له، وهو من قولهم شجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق، ومنه ‏{‏صرح ممرد‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏ ومنه قولهم‏:‏ تمرد مارد وعز الأبلق ومنه الأمرد الذي لا لحية له، فمعنى ‏{‏مردوا‏}‏ في هذه الآية لجوا فيه واستهتروا به وعتوا على زاجرهم، ثم نفى عز وجل علم نبيه بهم على التعيين، وأسند الطبري عن قتادة في قوله ‏{‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ قال‏:‏ فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة فلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري، أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الرسل، قال نبي الله نوح صلى الله عليه وسلم ‏{‏وما علمي بما كانوا يعلمون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 112‏]‏ وقال نبي الله شعيب صلى الله عليه وسلم ‏{‏بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 86‏]‏ وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنعذبهم مرتين ثم يردهم إلى عذاب عظيم‏}‏ في مصحف أنس بن مالك «سيعذبهم» بالياء والكلام على القراءتين وعيد، واللفظ يقتضي ثلاثة مواطن من العذاب، ولا خلاف بين المتأولين أن «العذاب العظيم» الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر، واختلف في عذاب المرة الأولى فقال مجاهد وغيره‏:‏ هو عذابهم بالقتل والجوع، وهذا بعيد لأن منهم من لم يصبه هذا، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ عذابهم هو بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه، وقال ابن إسحاق‏:‏ عذابهم هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته، وقال ابن عباس وهو الأشهر عنه‏:‏ عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق، وروي في هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم جمعة فندد بالمنافقين وصرح وقال اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق واخرج أنت يا فلان واخرج أنت يا فلان حتى أخرج جماعة منهم، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا وأن الجمعة فاتته فاختبأ منهم حياء، ثم وصل إلى المسجد فرأى أن الصلاة لم تقض وفهم الأمر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بهم على جهة التأديب اجتهاداً منه فيهم، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون، ولا عذاب أعظم من هذا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين، فهذا أيضاً من العذاب، وقال قتادة وغيره‏:‏ العذاب الأول هو علل وأدواء أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يصيبهم بها، وأسند الطبري في ذلك عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلاً من المنافقين وقال «ستة منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تقضي إلى صدره، وستة يموتون موتاً» ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منهم نظر إلى حذيفة فإن صلى صلى عمر عليه وإلا ترك‏.‏

وذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال لحذيفة أنشدك بالله أمنهم أنا‏؟‏ قال لا والله ولا أؤمن منها أحداً بعدك‏؟‏ وقال ابن زيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏ أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، لكل صنف عذاب، فهو مرتان، وقرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏ وقال ابن زيد أيضاً «المرتان» هي في الدنيا، الأولى القتل والجوع والمصائب، والثانية الموت إذ هو للكفار عذاب، وقال الحسن‏:‏ الأولى هي أخذ الزكاة من أموالهم، و«العذاب العظيم» هو جميع ما بعد الموت، وأظن الزجّاج أشار إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

المعنى ومن هذه الطوائف ‏{‏آخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏، واختلف في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس فيما روي عنه وأبو عثمان‏:‏ هي في الأعراب وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة، فهي آية ترج على هذا، وأسند الطبري هذا عن حجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان يقول‏:‏ ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏، وقال قتادة بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة، وذلك أنه كلمهم في النزول على حكم الله ورسوله فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه ونزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله، وذكر هذا الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في كتاب السير أوعب وأتقن، وقالت فرقة عظيمة‏:‏ بل نزلت هذه الآية في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، فكان عملهم السيئ التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة، واختلفوا في «الصالح» فقال الطبري وغيره الاعتراف والتوبة والندم، وقالت فرقة بل «الصالح» غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف أهل هذه المقالة في عدد القوم الذين عنوا بهذه الآية، فقال ابن عباس‏:‏ كانوا عشرة رهط ربط منهم أنفسهم سبعة، وبقي الثلاثة الذين خلفوا دون ربط المذكورون بعد هذا، وقال زيد بن أسلم كانوا ثمانية منهم كردم ومرداس وأبو قيس وأبو لبابة، وقال قتادة‏:‏ كانوا سبعة، وقال ابن عباس أيضاً وفرقة‏:‏ كانوا خمسة، وكلهم قال كان فيهم أبو لبابة، وذكر قتادة فيهم الجد بن قيس وهو فيما أعلم وهم لأن الجد لم يكن نزوله توبة، وأما قوله ‏{‏وآخر‏}‏ فهو بمعنى بآخر وهما متقاربان، و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة‏.‏

وروي في خبر الذين ربطوا أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد فرآهم قال ما بال هؤلاء‏؟‏ فقيل له إنهم تابوا وأقسموا أن لا ينحلوا حتى يحلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأنا والله لا أحلهم ولا أعذرهم إلا أن يأمرني الله بذلك، فإنهم تخلفوا عني وتركوا جهاد الكفار مع المؤمنين»

، وقوله ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ الآية، روي أن أبا لبابة والجماعة التائبة التي ربطت أنفسها وهي المقصودة بقوله ‏{‏خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏}‏ جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تيب عليها فقالت يا رسول الله إنَّا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من الله فتركهم حتى نزلت هذه الآية فهم المراد بها، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أموالهم‏}‏، فهذا هو الذي تظاهرت به أقوال المتأولين، ابن عباس رضي الله عنه وغيره، وقالت جماعة من الفقهاء‏:‏ المراد بهذه الزكاة المفروضة، فقوله على هذا ‏{‏خذ من أموالهم‏}‏ ضميره لجميع الناس، وهو عموم يراد به الخصوص إذ يخرج من الأموال الأنواع التي لا زكاة فيها كالثياب والرباع ونحوه، والضمير الذي في ‏{‏أموالهم‏}‏ أيضاً كذلك عموم يراد به خصوص، إذ يخرج منه العبيد وسواهم، وقوله ‏{‏صدقة‏}‏ مجمل يحتاج إلى تفسير، وهذا يقتضي أن الإمام يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها، و‏{‏من‏}‏ في هذه الآية للتبعيض، هذا أقوى وجوهها، وقوله ‏{‏تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ أحسن ما يحتمل أن تكون هذه الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من الضمير في ‏{‏خذ‏}‏، ويحتمل أن تكون من صفة «الصدقة» وهذا مترجح بحسب رفع الفعل ويكون قوله ‏{‏بها‏}‏ أي بنفسها أي يقع تطهيرهم من ذنوبهم بها، ويحتمل أن يكون حالاً من «الصدقة»، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة، وحكى مكي أن يكون ‏{‏تطهرهم‏}‏ من صفة الصدقة، وقوله ‏{‏وتزكيهم بها‏}‏ حالاً من الضمير في ‏{‏خذ‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مردود لمكان واو العطف لأن ذلك يتقدر خذ من أموالهم صدقة مطهرة ومزكياً بها، وهذا فاسد المعنى، ولو لم يكن في الكلام واو العطف جاز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تطْهرهم» بسكون الطاء، وقوله ‏{‏وصل عليهم‏}‏ معناه ادع فهم فإن في دعائك لهم سكوناً لأنفسهم وطمأنينة ووقاراً، فهذه عبارة عن صلاح المعتقد، وحكى مكي والنحاس وغيرهما أنه قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله ‏{‏ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وهم بعيد وذلك أن تلك في المنافقين الذين لهم حكم الكافرين، وهذه في التائبين من التخلف الذين لهم حكم المؤمنين فلا تناسخ بين الآيتين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ونافع وابن عامر «إن صلواتك» بالجمع، وكذلك في هود وفي المؤمنين وقرأ حفص عن عاصم وحمزة والكسائي «ان صلاتك» بالإفراد، وكذلك قرأ حمزة والكسائي في هود وفي المؤمنين، وقرأ عاصم في المؤمنين وحدها جمعاً، ولم يختلفوا في سورة الأنعام وسأل سائل، وهو مصدر أفردته فرقو وجمعته فرقة، وقوله ‏{‏سميع‏}‏ لدعائك ‏{‏عليم‏}‏ أي بمن يهدي ويتوب عليه وغير ذلك مما تقتضيه هاتان الصفتان وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية فعل ما أمر به من الدعاء والاستغفار لهم، قال ابن عباس ‏{‏سكن لهم‏}‏ رحمه لهم، وقال قتادة ‏{‏سكن لهم‏}‏ أي وقار لهم‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما معناه أن من يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تطيب نفسه ويقوى رجاؤه، ويروى أنه قد صحت وسيلته إلى الله تعالى وهذا بين‏.‏