فصل: تفسير الآيات رقم (14- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

لهذه الآية تأويلان‏:‏ أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار؛ أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله، ويأتي قوله ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ متمكناً‏.‏

والثاني‏:‏ أن تكون مخاطبة من الله تعالى للمؤمنين‏:‏ أي فإن لم يستجب الكفار إلى ما دعوا إليه من المعارضة فاعلموا أن ذلك من عند الله، وهذا على معنى دوموا علىعلمكم لأنهم كانوا عالمين بذلك‏.‏ قال مجاهد‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ هو لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعلم الله‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ بإذنه وعلى علم منه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب، فكأنه أراد المعلومات له وقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ تقرير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد الحياة الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قالت فرقة‏:‏ ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة‏:‏ هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد‏:‏ هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين‏:‏ وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن ماتع الأصبحي عن أبي هريرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة» فلما حدثه شفي بهذا الحديث، بكى معاوية وقال‏:‏ صدق الله ورسوله‏:‏ وتلا‏:‏ ‏{‏من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وباطل ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله ‏{‏يريد‏}‏ يقصد ويعتمد، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها‏.‏ فالمعنى‏:‏ من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة، فإن الله يجازيه على حسن أعماله- في الدنيا- بالنعم والحواس وغير ذلك‏:‏ فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية‏.‏ وهو عندي أرجح التأويلات- بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن- فإنما قصد بهذه الآية ‏{‏أولئك‏}‏‏.‏

وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى ‏{‏يريد‏}‏ عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد، وإن كان له مقصداً آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا، ثم يأتي قوله‏:‏ ‏{‏ليس لهم‏}‏ بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته، وهذا ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير‏.‏

وقال أنس بن مالك‏:‏ هي في أهل الكتاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية، لا أنها ليست في غيرهم‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏‏:‏ نوف «بنون العظمة؛ وقرأ طلحة وميمون بن مهران» يوف «بياء الغائب‏.‏

و ‏{‏يبخسون‏}‏ معناه‏:‏ يعطون أقل من ثوابهم، و‏{‏حبط‏}‏ معناه‏:‏ يبطل وسقط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» يقتل حبطاً أو يلم «، وهي مستعملة في فساد الأعمال، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ عائد على الدنيا في الأولين؛ وفي الثالثة عائد على الآخرة، ويحتمل أن يعود في الثلاثة على الدنيا؛ ويحتمل أن تعود الثانية على الأعمال‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏» وباطلٌ «بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ أبيّ وابن مسعود‏:‏» وباطلاً «بالنصب؛ قال أبو حاتم‏:‏ ثبتت في أربعة مصاحف، والعامل فيه ‏{‏يعملون‏}‏ و‏{‏ما‏}‏ زائدة، التقدير‏:‏ وباطلاً كانوا يعملون‏.‏ والباطل كل ما تقتضي ذاته أن لا تنال به غاية في ثواب ونحوه وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون في المراد بقوله ‏{‏أفمن‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقالت فرقة المراد محمد صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس‏:‏ المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جميعاً‏.‏

وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة» فقالت فرقة‏:‏ المراد بذلك القرآن، أي على جلية بسبب القرآن، وقالت فرقة‏:‏ المراد محمد صلى الله عليه وسلم والهاء في «البيّنة» للمبالغة كهاء علامة ونسابة‏.‏

وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد» فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة‏:‏ هو جبريل‏.‏

وقال الحسين بن علي‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل‏.‏

وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة‏:‏ هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي ذلك عنه، وقالت فرقة‏:‏ هو الإنجيل، وقالت فرقة‏:‏ هو القرآن، وقالت فرقة‏:‏ هو إعجاز القرآن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتصرف قوله ‏{‏يتلوه‏}‏ على معنيين‏:‏ بمعنى يقرأ، وبمعنى يتبعه، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد» ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل‏.‏

فإذا قلنا إن قوله‏:‏ «أفمن» يراد به المؤمنون‏:‏ فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة» محمد صلى الله عليه وسلم صح أن يترتب «الشاهد» الإنجيل ويكون ‏{‏يتلوه‏}‏ بمعنى يقرأه، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون ‏{‏يتلوه‏}‏ بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة فيه وأن يترتب الملك ويكون الضمير في ‏{‏منه‏}‏ عائداً على البيّنة التي قدرناها محمداً صلى الله عليه وسلم وأن يترتب القرآن ويكون ‏{‏يتلوه‏}‏ بمعنى يتبعه، ويعود الضمير في ‏{‏منه‏}‏ على الرب‏.‏

وإن جعلنا «البيّنة» القرآن على أن ‏{‏أفمن‏}‏ هم المؤمنون- صح أن يترتب «الشاهد» محمد صلى الله عليه وسلم، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك، ويكون ‏{‏يتلوه‏}‏ بمعنى يقرأه‏:‏ وصح أن يترتب «الشاهد» الإعجاز، ويكون ‏{‏يتلوه‏}‏ بمعنى يتبعه، ويعود الضمير في ‏{‏منه‏}‏ على القرآن‏.‏

وإذا جعلنا ‏{‏أفمن‏}‏ للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت «البيّنة» القرآن، وترتب «الشاهد» لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وترتب الإنجيل، وترتب جبريل والملك، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وترتب الإعجاز‏.‏ ويتأول ‏{‏يتلوه‏}‏ بحسب «الشاهد» كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله ‏{‏أولئك‏}‏ فإنا إذا جعلنا قوله‏:‏ ‏{‏أفمن‏}‏ للنبي صلى الله عليه وسلم وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ وهو شبه ليس بالقوي‏.‏

والصح في الآية أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏أفمن‏}‏ للمؤمنين، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد» بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلاً في قوله‏:‏ ‏{‏أفمن‏}‏‏.‏ وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله‏.‏

وقرأ جمهور الناس «كتابُ» بالرفع؛ وقرأ الكلبي وغيره «كتاباً» بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد» الإنجيل معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم- بحسب الخلاف- و«الإنجيل» و«من قبل» كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد» القرآن، وتطرد الألفاظ بعد ذلك، ومن نصب «كتاباً» قدر «الشاهد» جبريل عليه السلام، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهنا اعتراض يقال‏:‏ إذ قال ‏{‏من قبله كتاب موسى‏}‏ أو «كتابَ» بالنصب على القراءتين‏:‏ والضمير في ‏{‏قبله‏}‏ عائد على القرآن- فلم لم يذكر الإنجيل- وهو قبله- بينه وبين كتاب موسى‏؟‏ فالانفصال‏:‏ أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله، والإنجيل ليس كذلك‏:‏ فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى‏:‏ وهذا يجري مع قول الجن‏:‏ ‏{‏إنا سمعنا كتاب أنزل من بعد موسى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏ ومع قول النجاشي‏:‏ إن هذا، والذي جاء به موسى، لخرج من مشكاة واحدة؛ فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة، ونصب ‏{‏إماماً‏}‏ على الحال من ‏{‏كتاب موسى‏}‏، ‏{‏والأحزاب‏}‏ ها هنا يراد به جميع الأمم، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» فقلت‏:‏ اين مصداق هذا من كتاب الله‏؟‏ حتى وجدته في هذه الآية، وكنت إذا سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والراجح عندي من الأقوال في هذه الاية أن يكون ‏{‏أفمن‏}‏ للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم، إذ قد تقدم ذكر ‏{‏الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 16‏]‏، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم، و«البيّنة» القرآن وما تضمن‏.‏ و«الشاهد» محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل إذا دخل النبي في قوله‏:‏ ‏{‏أفمن‏}‏ أو الإنجيل والضمير في ‏{‏يتلوه‏}‏ للبيّنة، وفي ‏{‏منه‏}‏ للرب تعالى، والضمير في ‏{‏قبله‏}‏ للبيّنة وغير هذا مما ذكرته آنفاً محتمل‏.‏

وقرأ الجمهور «في مِرية» بكسر الميم، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مُرية» بضم الميم، وهما لغتان في الشك، والضمير في ‏{‏منه‏}‏ عائد على كون الكفرة موعدهم النار، وسائر الآية بيّن‏.‏

وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره‏:‏ أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه، ونحو هذا، في معنى الحذف، قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏، لكان هذا القرآن، ومن ذلك قول الاشعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

فأقسم لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

التقدير لرددناه ولم نصغ إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ استفهام بمعنى التقرير، وكأنه قال‏:‏ لا أحد أظلم ممن افترى كذباً، والمراد ب ‏{‏من‏}‏ الكفرة الذين يدعون مع الله إلهاً آخر ويفترون في غير ما شيء، وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ عبارة عن الإشادة بهم والتشهير لخزيهم وإلا فكل بشر معروض على الله يوم القيامة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يقول الأشهاد‏}‏ قالت فرقة‏:‏ يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة، فيجيء قوله‏:‏ ‏{‏هؤلاء الذين كذبوا على ربهم‏}‏ إخباراً عنهم وشهادة عليهم وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏الأشهاد‏}‏ بمعنى الشاهدين، ويريد جميع الخلائق، وفي ذلك إشادة بهم، وروي في نحو هذا حديث‏:‏ «إنه لا يخزى أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر» فيجيء قوله‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏- على هذا التأويل- استفهاماً عنهم وتثبيتاً فيهم كما تقول إذا رأيت مجرماً قد عوقب‏:‏ هذا هو الذي فعل كذا وإن كنت قد علمت ذلك، ويحتمل الإخبار عنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألا‏}‏ استفتاح كلام، و«اللعنة» الإبعاد و‏{‏الذين‏}‏ نعت ل ‏{‏الظالمين‏}‏؛ ويحتمل الرفع على تقدير هم الذين، و‏{‏يصدون‏}‏ يحتمل أن يقدر متعدياً على معنى‏:‏ يصدون الناس ويمنعونهم من سبيل الله، ويحتمل أن يقدر غير متعد على معنى يصدون هم، أن يعرضون‏.‏ و‏{‏سبيل الله‏}‏ شريعته، و‏{‏يبغونها‏}‏ معناه يطلبون لها كما تقول بغيتك خيراً أو شراً أي طلبت لك، و‏{‏عوجاً‏}‏ على هذا مفعول‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ويبغون السبيل على عوج، أي فهم لا يهتدون أبداً ف ‏{‏عوجاً‏}‏ على هذا مصدر في موضع الحال، والعوج الانحراف والميل المؤدي إلى الفساد، وكرر قوله‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ على جهة التأكيد، وهي جملة في موضع خبر الابتداء الأول‏:‏ وليس هذا موضع الفصل لأن الفصل إنما يكون بين معرفتين، أو معرفة وفكرة تقارب المعرفة، لأنها تفصل ما بين أن يكون ما بعدها صفة أو خبراً وتخلصه للخبر‏.‏ و‏{‏معجزين‏}‏ معناه‏:‏ مفلتين لا يقدر عليهم‏.‏ وخص ذكر ‏{‏الأرض‏}‏ لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه لا يستطيع النفوذ منها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما كان لهم من دون الله من أولياء‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائناً من كان‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء‏.‏

ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان‏.‏ و‏{‏يضاعف‏}‏ فعل مستأنف وليس بصفة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون‏}‏ يحتمل خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به ولا يبصرون كذلك‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على المسع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشد الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ردهم عن ذلك مشيختهم‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها- على التأويل المقدم- أن تكون أولياء‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في هذه الوجوه نافية‏.‏

والرابع‏:‏ أن يكون التقدير‏:‏ يضاعف لهم العذاب بما كانوا‏:‏ بحذف الجار، وتكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية، وهذا قول فيه تحامل‏.‏ قاله الفراء، وقرنه بقوله‏:‏ أجازيك ما صنعت بي‏.‏

والخامس‏:‏ أن تكون ‏{‏ما‏}‏ ظرفية، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر، وقد أعلمت الشريعة أنهم لا يموتون فيها أبداً فالعذاب،- إذن- متماد أبداً‏.‏

وقدم ‏{‏السمع‏}‏ في هذه الآية على «البصر» لأن حاسته أشرف من حاسة البصر، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏خسروا أنفسهم‏}‏ بوجوب العذاب عليهم، ولا خسران أعظم من خسران النفس، و‏{‏ضل‏}‏ معناه‏:‏ تلف ولم يجدوه حيث أملوه‏.‏ و‏{‏لا جرم‏}‏ لفظة مركبة من‏:‏ ‏{‏لا‏}‏، ومن‏:‏ ‏{‏جرم‏}‏ بنيتا‏.‏ ومعنى ‏{‏لا جرم‏}‏‏:‏ حق‏.‏ هذا مذهب سيبويه والخليل‏.‏ وقال بعض النحويين‏:‏ معناها‏:‏ لا بد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏لا‏}‏ رد عليهم، ولما تقدم من كل ما قبلها، و‏{‏جرم‏}‏ معناه‏:‏ كسب، أي كسب فعلهم ‏{‏أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏‏.‏ فموضع «أن» على مذهب سيبويه رفع‏:‏ وموضعها على مذهب الزجاج- نصب‏.‏ وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكأن ‏{‏جرم‏}‏ على هذا من معنى القطع، تقول‏:‏ جرمت أي قطعت‏:‏ وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

جريمتنا هض في رأس نيق *** ترى لعظام ما جمعت صليبا

وجريمة القوم كاسبهم‏.‏

وأما قول الشاعر جرير‏:‏

ولقد طعنت أبا أميمة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فيحتمل الوجهين‏:‏ ويختلف معنى البيت‏.‏

وفي ‏{‏لا جرم‏}‏ لغات‏:‏ يقول بعض العرب‏:‏ لا ذا جرم، وبعضهم‏:‏ لا أن ذا جرم، وبعضهم‏:‏ لا عن ذا جرم، وبعضهم‏:‏ لا جر، حذفوا الميم لكثرة استعماله‏.‏

و ‏{‏أخبتوا‏}‏ قيل معناه‏:‏ خشعوا، قاله قتادة، وقيل‏:‏ أنابوا، قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ اطمأنوا، قاله مجاهد، وقيل‏:‏ خافوا، قاله ابن عباس أيضاً، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض، وأصل اللفظ من الخبت، وهو البراح القفر المستوي من الأرض؛ فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة، فشبه المتذلل الخاشع بذلك، وقيل‏:‏ إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته‏.‏

وقوله ‏{‏إلى ربهم‏}‏ قيل‏:‏ هي بمعنى اللام أي أخبتوا لربهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى جعلوا قصدهم بإخباتهم إلى ربهم، و«الفريقان» الكافرون والمؤمنون‏:‏ شبه الكافر ب ‏{‏الأعمى والأصم‏}‏، وشبه المؤمن ب ‏{‏البصير والسميع‏}‏ فهو على هذا تمثيل بمثالين‏.‏ وقال بعض المتأولين‏:‏ التقدير كالأعمى الأصم والبصير السميع ودخلت واو العطف كما تقول‏:‏ جاءني زيد العاقل والكريم، وأنت تريده بعينه؛ فهو على هذا تمثيل بمثال واحد‏.‏

و ‏{‏مثلاً‏}‏ نصب على التمييز‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد صلى الله عليه وسلم ببدع من الرسل‏.‏ وروي أن نوحاً عليه السلام أول رسول إلى الناس‏.‏ وروي أن ادريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وحمزة «إني» بكسر الألف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الألف‏.‏ فالكسر على إضمار القول، والمعنى‏:‏ قال لهم‏:‏ ‏{‏إني لكن نذير مبين‏}‏، ثم يجيء قوله ‏{‏أن لا تعبدوا‏}‏ محمولاً ل ‏{‏أرسلنا‏}‏، أي أرسلنا نوحاً بأن لا تعبدوا إلا الله، واعترض اثناء الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏إني لكم نذير مبين‏}‏، وفتح الألف على إعمال ‏{‏أرسلنا‏}‏ في «أن» أي بأني لكم نذير‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام‏:‏ أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك‏.‏

و «النذير» المحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها و‏{‏مبين‏}‏ من أبان يبين‏.‏

وقوله ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏ ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان ونحوها، وذلك بين في غير هذه الاية‏.‏

و ‏{‏أليم‏}‏ معناه مؤلم، ووصف به اليوم وحقه أن يوصف به العذاب تجوزاً إذ العذاب في اليوم، فهو كقولهم‏:‏ نهار صائم وليل قائم‏.‏

و ‏{‏الملأ‏}‏ الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونجوه، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملأ والسادّون مسدّه في الآراء والأمور، وكل جماعة كبيرة ملأ‏.‏

ولما قال لهم نوح‏:‏ ‏{‏إني لكم نذير‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ قالوا‏:‏ ‏{‏ما نراك إلا بشراً مثلنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أي والله لا يبعث رسولاً من البشر، فأحالوا الجائز على الله تعالى‏.‏

و «الأراذل» جمع أرذل، وقيل جمع أرذل وأرذال جمع رذل وكان اللازم على هذا أن يقال‏:‏ أراذيل؛ وإذا ثبتت الياء في جمع صيرف فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها‏.‏ وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له، ولا يبالي ما يقول ولا ما يقال له‏.‏

وقرأ الجمهور «بادي الرأي» بياء دون همز، من بدا يبدو، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلاً، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي «بادئ الرأي» بالهمز من بدأ يبدأ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر، فتركت التطويل ببسطه، والعرب تقول‏:‏ أما بادئ بدء فإني أحمد الله، وأما بادي بدي بغير همز فيهما، وقال الراجز‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أضحى لخالي شبهي بادي بدي *** وصار للفحل لساني ويدي

وقال الآخر‏:‏

وقد علتني ذرأة بادي بدي *** وقرأ الجمهور بهمز «الرأي» وقرأ أبو عمرو بترك همزه‏.‏ و‏{‏بادي‏}‏ نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفاً كما يصح في قريب ونحوه، وفعيل وفاعل متعاقبان أبداً على معنى واحد، وفي المصدر كقولك‏:‏ جهد نفسي أحب كذا وكذا‏.‏

وتعلق قوله‏:‏ ‏{‏بادي الرأي‏}‏ يحتمل ستة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أن يتعلق ب ‏{‏نراك‏}‏ بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو ‏{‏بادي الرأي‏}‏، أي إلا ومتبعوك أراذلنا‏.‏

والثاني‏:‏ أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏اتبعك‏}‏ أي، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل، ثم يحتمل على هذا قوله‏:‏ ‏{‏بادي الرأي‏}‏ معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك‏.‏

والثاني‏:‏ أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك‏.‏ وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ من تعلق قوله ‏{‏بادي الرأي‏}‏ أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏أراذلنا‏}‏ أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم، وببادي الرأي يعلم ذلك منهم، ويحتمل أن يكون قولهم‏:‏ ‏{‏بادي الرأي‏}‏ وصفاً منهم لنوح، أي تدعي عظيماً وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك، ونصبه على الحال وعلى الصفة، ويحتمل أن يكون اعتراضاً في الكلام مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويجيء جميع هذا ستة معان، ويجوز التعلق في هذا الوجه ب ‏{‏قال‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏ أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بل نظنكم كاذبين‏}‏ فيحتمل أنهم خاطبوا نوحاً ومن آمن معه من قومه، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب، وقولكم إنه نبي مرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

هذه الآية كأنه قال‏:‏ أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه، واستفهامه في هذه الآية أولاً وثانياً على جهة التقرير‏.‏ وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه‏.‏

وقوله ‏{‏على بيّنة‏}‏ أي على أمر بيّن جلي، والهاء في ‏{‏بيّنة‏}‏ للمبالغة كعلامة ونسابة، و«إيتاؤه الرحمة» هو هدايته للبيّنة، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع، وقوله ‏{‏من عنده‏}‏ تأكيد، كما قال‏:‏ ‏{‏يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة‏.‏

وقرأ جمهور الناس «فعميت» ولذلك وجهان من المعنى‏:‏

أحدهما‏:‏ خفيت، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له‏:‏ الغمام لأنه يغمه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء»‏.‏

والمعنى الثاني‏:‏ أن تكون الإرادة‏:‏ فعميتم أنتم عنها، لكنه قلب، كما تقول العرب‏:‏ أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ترى النور فيها مدخل الظل رأسه *** وسائره باد إلى الشمس أجمع

قال أبو علي‏:‏ وهذا مما يقلب إذ ليس فيه إشكال وفي القرآن‏:‏ ‏{‏فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقرأ حفص وحمزة والكسائي «فعُمّيت» بضم العين وشد الميم على بناء الفعل للمفعول وهذا إنما يكون من الإخفاء؛ ويحتمل القلب المذكور‏.‏

وقرأ الأعمش وغيره «فعماها عليهم»‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ روى الأعمش عن ابن وثاب «وعميت» بالواو خفيفة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أنلزمكموها‏}‏ يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس‏:‏ معناه أن وجبها عليكم، وقوله في ذلك خطأ‏.‏

وفي قراءة أبي بن كعب‏:‏ «أنلزمكموها من شطر أنفسنا»، ومعناه من تلقاء أنفسنا‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك «من شطر قلوبنا»‏.‏

وقوله ‏{‏يا قوم لا أسألكم عليه مالاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ الضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد على التبليغ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا‏}‏ يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرد تباعه بمكة الذين لم يكونوا من قريش‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنهم ملاقو ربهم‏}‏ تنبيه على العودة إلى الله ولقاء جزائه المعنى، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد‏.‏ ثم وصفهم بالجهل في مثل هذا الاقتراح ونحوه‏.‏

وقوله ‏{‏يا قوم من ينصرني من الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ هو استفهام بمعنى تقرير وتوقيف، أي لا ناصر يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد عن الخير الذي قبلوه، ثم وقفهم بقوله‏:‏ ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ وعرض عليهم النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ولا أقول‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏لا أسألكم عليه مالاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 29‏]‏، ومعنى هذه الآية‏:‏ أني لا أموه عليكم ولا أتعاطى غير ما أهلني الله له، فلست أقول ‏{‏عندي خزائن الله‏}‏، يريد القدرة التي يوجد بها الشيء بعد حال عدمه، وقد يمكن أن يكون من الموجودات كالرياح والماء، ونحوه ما هو كثير بإبداع الله تعالى له، فإن سمي ذلك- على جهة التجوز- مختزناً فيشبه‏.‏ ألا ترى ما روي في أحمر ريح عاد أنه فتح عليهم من الريح قدر حلقة الخاتم، ولو كان على قدر منخر الثور لأهلك الأرض‏.‏ وروي أن الريح عتت على الملائكة الموكلين بتقديرها فلذلك وصفها الله تعالى بالعتو، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ عتت على الخزان‏.‏ فهذا ونحوه يقتضي أن ثم خزائن‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏، ثم انحط على هاتين فقال ‏{‏ولا أقول إني ملك‏}‏، ظاهر هذه الآية فضل الملك على البشر وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلاف‏.‏ وظواهر القرآن على ما قلناه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإن أخذنا قوله ‏{‏ولا أقول إني ملك‏}‏ على حد أن لو قال‏:‏ ولا أقول إني كوكب أو نحوه- زالت طريقة التفضيل، ولكن الظاهر هو ما ذكرنا‏.‏

و ‏{‏تزدري‏}‏ أصله تزتري ‏(‏تفتعل‏)‏ من زرى يزري؛ ومعنى ‏{‏تزدري‏}‏‏:‏ تحتقر‏.‏ و«الخير» هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر، فيكون الخير المال؛ وقد قال بعض المفسرين‏:‏ حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا الكلام تحامل، والذي يشبه أن يقال‏:‏ إنه حيثما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه‏.‏

وقوله ‏{‏الله أعلم بما في أنفسهم‏}‏ تسليم لله تعالى، أي لست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما يحكم عليهم بذلك ويخرج حكمه إلى حيز الوجود، الله تعالى الذي يعلم ما في نفوسهم ويجازيهم بذلك، وقال بعض المتأولين‏:‏ هي رد على قولهم‏:‏ اتبعك أراذلنا على ما يظهر منهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ حسبما تقدم في بعض تأويلات تلك الآية آنفاً، فالمعنى لست أنا أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير بظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏إني إذاً‏}‏ لو فعلت ذلك ‏{‏لمن الظالمين‏}‏ الذين يضعون الشيء في غير موضعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يا نوح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، الآية معناه‏:‏ قد طال منك هذا الجدال، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه‏:‏ حبل مجدول، أي ممرّ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه؛ و«الجدال» فعال، مصد فاعل، وهو يقع من اثنين، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة، فتركت الياء من فيعال ورفضت‏.‏

ومن الجدال ما هو محمود، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي، ومن ذلك هذه الآية، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏ إلى غير ذلك من الأمثلة‏.‏ ومن الجدال ما هو مكروه، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكرهه العلماء، والله المستعان‏.‏

وقرأ ابن عباس «قد جادلتنا فأكثرت جَدلنا» بغير ألف، وبفتح الجيم، ذكره أبو حاتم‏.‏

والمراد بقولهم ‏{‏ما تعدنا‏}‏ العذاب والهلاك، والمفعول الثاني ل ‏{‏تعدنا‏}‏ مضمر تقديره بما تعدناه‏.‏ ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ ليس ذلك بيدي ولا إليَّ توفيته، وإنما ذلك بيد الله وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء، ولستم من المنعة بحال من يفلت أو يعصتم بمنج، وإنما في قبضة القدرة وتحت ذلة المتملك، وليس نصحي بنافع ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك‏.‏ والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة في اقتران الإرادتين‏.‏ وأن إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو ب ‏{‏نصحي‏}‏، وتعلق الآخر هو ب «لا ينفع»‏.‏ والنصح هو سد ثلم الرأي للمنصوح وترقيعه، وهو مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه، والمنصح الإبره، والمخيط يقال له منصح ونصاح‏:‏ وقالت فرقة معنى قوله ‏{‏يغويكم‏}‏‏:‏ يضلكم، من قولهم غوى الرجل يغوى، ومنه قول الشاعر ‏[‏المرقش‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وإذا كان هذا معنى اللفظة، ففي الآية حجة على المعتزلة القائلين إن الضلال إنما هو من العبد‏.‏ وقالت فرقة معنى قوله‏:‏ ‏{‏يغويكم‏}‏‏:‏ يهلككم، والغوى المرض والهلاك؛ وفي لغة طيِّئ‏:‏ أصبح فلان غاوياً، أي مريضاً، والغوى بشم الفصيل، قال يعقوب في الإصلاح‏.‏ وقيل‏:‏ فقده اللبن حتى يموت جوعاً، قاله الفراء وحكاه الطبري‏.‏ يقال غوى يغوى، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ ونحوها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقاً وحجة بالغة بهذا التأويل، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هو ربكم‏}‏، تنبيه على المعرفة بالخالق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ إخبار في ضمنه وعيد وتخويف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير‏:‏ إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وذلك أنهم قالوا‏:‏ افترى القرآن وافترى هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، ويبقى اتساق الآية مطرداً، ويكون الضمير في قوله ‏{‏افتراه‏}‏ عائداً إلى العذاب الذي توعدهم به أو على حميع أخباره، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به‏.‏ والمعنى‏:‏ أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك؛ ثم يطرد باقي الآية على هذا‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ هي التي بمعنى بل يقولون، و«الإجرام» مصدر أجرم يجرم إذا جنى، يقال‏:‏ جرم وأجرم بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

طريد عشيرة ووهين ذنب *** بما جرمت يدي وجنى لساني

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قرأ أبو البرهسم‏:‏ «وأَوحى» بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، «إنه» بكسر الهمزة، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول‏:‏ يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذاباً مجنوناً؛ رواه عبيد بن عمير وغيره، وهذه الآية هي التي أيأست نوحاً عليه السلام من قومه، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال‏:‏ ‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

و ‏{‏تبتئس‏}‏ من البؤس تفتعل، ومعناه‏:‏ لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر- وهو لبيد بن ربيعة-‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

في مأتم كنعاج حا *** رة تبتئس بما لقينا

حارة‏:‏ موضع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها، قال ابن عباس وغيره، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض، ما كان ذلك، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد قبلي» فلا بد أن نقرر كثيراً من الأمم كان في ذلك الوقت، وإذا كان ذلك، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم‏؟‏ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحاً هو أول الرسل إلى أهل الأرض؛ ولا يمكن أيضاً أن نقول‏:‏ عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏

والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول‏:‏ إن نوحاً عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس- بحسب ما ثبت في الحديث- ثم نقول‏:‏ إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم، فتصح الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم نقول‏:‏ إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم، وكان الشرع- ببعث نوح- موجوداً مستقراً‏.‏

فقد وجب عليهم النظر، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه‏:‏ فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، أي حتى نوجده، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات، والله الموفق للصواب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فلا تبتئس‏}‏ و‏{‏الفلك‏}‏‏:‏ السفينة، وجمعها أيضاً فلك، وليس هو لفظاً للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد، جاز أن يجمع فعل على فعل، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول‏:‏ فلك وفلكان وفلك، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت «يا منصو»، تريد «يا منصور»، فرخمت على لغة من يقول‏:‏ يا حار بالضم، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل، وليست بها في الحكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأعيننا‏}‏ يمكن- فيما يتأول- أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فنعم القادرون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 23‏]‏ فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله‏:‏ ‏{‏لتصنع على عيني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره‏.‏ ويحتمل قوله ‏{‏بأعيننا‏}‏ أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا للتكثير‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف «بأعينا» مدغماً‏.‏

وقوله ‏{‏ووحينا‏}‏ معناه‏:‏ وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك أن نوحاً عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه‏:‏ أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها، فقد روي أيضاً أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر‏:‏ لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكاً بل كانت وعاء فقط، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر، وفي الحديث‏:‏ كان راز سفينة نوح عليه السلام جبريل عليه السلام والراز‏:‏ القيم بعمل السفن‏.‏ ومن فسر قوله ‏{‏ووحينا‏}‏ أي بأمرنا لك، فذلك ضعيف لأن قوله‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك‏}‏ مغن عن ذلك‏.‏ و‏{‏الذين ظلموا‏}‏ هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة، قال ابن جريج‏:‏ وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

التقدير‏:‏ فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال، إذ في خلالها وقع مرورهم، قال ابن عباس‏:‏ صنع نوح الفلك ببقاع دمشق وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشار وهو البقص‏.‏ وروي أن عودها من الساج وأن نوحاً عليه السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان، وعرضها ستمائة ذراع، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل‏:‏ طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، ذكره قتادة، وروي غير هذا مما لم يثبت، فاختصرت ذكره، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات‏:‏ طبقة للناس، وطبقة للبهائم، وطبقة للطير، إلى غير ذلك في حديث طويل‏.‏

و «الملأ» هنا الجماعة، و‏{‏سخروا‏}‏ معناه استجهلوه، وهذا الاستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت- فوجه الاستجهال واضح‏.‏ وبذلك تظاهرت التفاسير؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له صرت نجاراً بعد النبوة‏؟‏‏!‏‏!‏‏.‏

وقوله ‏{‏فإنا نسخر منكم‏}‏ قال الطبري‏:‏ يريد في الآخرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل الكلام، بل هو الأرجح، أن يريد‏:‏ إنا نسخر منكم الآن، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه، ثم جاء قوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ تهديداً، والسخر‏:‏ الاستجهال مع استهزاء، ومصدره‏:‏ سُخرى بضم السين، والمصدر من السخرة والستخير سِخرى بكسرها‏.‏

و «العذاب المخزي» هو الغرق، و«المقيم» هو عذاب الآخرة، وحكى الزهراوي أنه يقرأ «ويحُل» بضم الحاء، ويقرأ «ويحِل» بكسرها، بمعنى ويجب‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في موضع نصب ب ‏{‏تعلمون‏}‏‏.‏ وجاز أن يكون ‏{‏تعلمون‏}‏ بمثابة تعرفون في التعدي إلى مفعول واحد، وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على الواحد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاء أمرنا‏}‏ الآية، الأمر ها هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر، فمعناه أمرنا للماء بالفوران، أو للسحاب بالإرسال، أو للملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة و‏{‏فار‏}‏ معناه انبعث بقوة؛ واختلف الناس في ‏{‏التنور‏}‏، فقالت فرقة- وهي الأكثر- منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏:‏ هو تنور الخبز الذي يوقد فيه، وقالت فرقة‏:‏ كانت هذه أمارة جعلها الله لنوح، أي إذا فار التنور فاركب في السفينة؛ ويشبه أن يكون وجه الأمارة أن مستوقد النار إذا فار بالماء فغيره أشد فوراناً، وأحرى بذلك‏.‏ وروي أنه كان تنور آدم عليه السلام خلص إلى نوح فكان يوقد فيه، وقال النقاش‏:‏ اسم المستوقد التنور بكل لغة؛ وذكر نحو ذلك ابن قتيبة في الأدب عن ابن عباس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بعيد، وقيل‏:‏ إن موضع تنور نوح عليه السلام كان بالهند، وقيل‏:‏ كان في موضع مسجد الكوفة، وقيل كان في ناحية الكوفة، قاله الشعبي ومجاهد، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة، وقال ابن عباس وعكرمة‏:‏ التنور وجه الأرض، ويقال له‏:‏ تنور الأرض، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏التنور‏}‏‏:‏ أعالي الأرض، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏التنور‏}‏‏:‏ عين بناحية الجزيرة، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ ‏{‏التنور‏}‏ مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏التنور‏}‏ هو الفجر، المعنى‏:‏ إذا طلع الفجر فاركب في السفينة، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن التصريف يضعفه، وكان يلزم أن يكون التنور، وقالت فرقة‏:‏ الكلام مجاز وإنما إراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب‏:‏ «حمي الوطيس» والوطيس أيضاً مستوقد النار، فلا فرق بين حمي و‏{‏فار‏}‏ إذ يستعملان في النار، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سمعوا لها شهيقاً وهي تفور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 7‏]‏، فلا فرق بين الوطيس والتنور‏.‏

وقرأ حفص عن عاصم «من كلٍّ زوجين اثنين» بتنوين ‏{‏كل‏}‏ وقرأ الباقون «من كلِّ زوجين» بإضافة ‏{‏كل‏}‏ إلى ‏{‏زوجين‏}‏‏.‏ فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير‏:‏ من كل حيوان أو نحوه، وأعمل «الحمل» في ‏{‏زوجين‏}‏ وجاء قوله‏:‏ ‏{‏اثنين‏}‏ تأكيداً- كما قال‏:‏ ‏{‏إلهين اثنين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏]‏‏.‏ ومن قرأ بالإضافة فأعمل «الحمل» في قوله ‏{‏اثنين‏}‏، وجاء قوله ‏{‏زوجين‏}‏ بمعنى العموم، أي من كل ما له ازدواج، هذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏من كل زوجين‏}‏ قاله أبو علي وغيره، ولو قدرنا المعنى‏:‏ احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال‏:‏ هذا زوج هذا، وهما زوجان‏:‏ وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143، الزمر‏:‏ 6‏]‏ ثم فسرها، وكذلك هو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 45‏]‏‏.‏ قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة‏:‏ وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج، ومن ذلك قول لبيد‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

من كل محفوف يظل عصيه *** زوج عليه كلة وقرامها

وهكذا يأخذ العدديون‏:‏ الزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله‏:‏ ‏{‏وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 36‏]‏ إلى غير ذلك‏.‏

وروي في قصص هذه الآية أن نوحاً عليه السلام كان يأتيه الحيوان، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى‏.‏ وروي أن أول ما أدخل في السفينة الذر، وآخر ما أدخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه، فزجره نوح عليه السلام فلم ينبعث فقال له‏:‏ ادخل ولو كان معك الشيطان، قال ابن عباس‏:‏ زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ، وكان في كوثل السفينة، أي عند مؤخرها، وقيل كان على ظهرها‏.‏

وروي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه‏:‏ أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل- وقيل من أنفه- خنزير وخنزيرة، فكفيا نوحاً وأهله ذلك الأذى؛ وهذا يجيء منه أن نوع الخنازير لم يكن قبل ذلك‏.‏ وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك، فأمر الله نوحاً أن يمسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هر وهرة، فكفياهم الفأر، وروي أيضاً أن الفار خرج من أنف الخنزير‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم فكيف كان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأهلك‏}‏ عطف على ما عمل فيه ‏{‏احمل‏}‏ و«الأهل» هنا القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفاً؛ ثم ذكر ‏{‏من آمن‏}‏ وليس من الأهل واختلف في الذي ‏{‏سبق عليه القول‏}‏ فقيل‏:‏ هو ابنه يام، وقال النقاش‏:‏ اسمه كنعان؛ وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة؛ وقيل‏:‏ هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته‏.‏ و‏{‏القول‏}‏ ها هنا معناه‏:‏ القول بأنه يعذب، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن آمن‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وأهلك‏}‏ ثم قال إخباراً عن حالهم ‏{‏وما آمن معه إلا قليل‏}‏ واختلف في ذلك ‏{‏القليل‏}‏ فقيل‏:‏ كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين‏:‏ وقيل كانوا ثمانين في الكل، قاله السدي‏:‏ وقيل‏:‏ عشرة؛ وقيل‏:‏ ثمانية، قاله قتادة وقيل‏:‏ سبعة؛ والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ كان في السفينة جرهم، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق، وكان في السفينة مع نوح عليه السلام ثلاثة من بنيه سام، وحام، ويافث، وغرق يام‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

المعنى ‏{‏وقال‏}‏ نوح- حين أمر بالحمل في السفينة- لمن آمن معه‏:‏ ‏{‏اركبوا فيها‏}‏؛ فأنث الضمير، إذ هي سفينة لأن الفلك المذكور مذكر‏.‏

وفي مصحف أبيّ «على اسم الله»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بسم الله‏}‏ يصح أن يكون في موضع الحال من الضمير الذي في قوله‏:‏ ‏{‏اركبوا‏}‏ كما تقول‏:‏ خرج زيد بثيابه وبسلاحه، أي اركبوا متبركين بالله تعالى، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏مجراها ومرساها‏}‏ ظرفين، أي وقت إجرائها وإرسائها‏.‏ كما تقول العرب‏:‏ الحمد لله سرارك وإهلالك وخفوق النجم ومقدم الحاج، فهذه ظرفية زمان، والعامل في هذا الظرف ما في ‏{‏بسم الله‏}‏ من معنى الفعل، ويصح أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏بسم الله‏}‏ في موضع خبر و‏{‏مجراها ومرساها‏}‏ ابتداء مصدران كأنه قال‏:‏ اركبوا فيها فإن ببركة الله إجراءها وإرساءها، وتكون هذه الجملة- على هذا- في موضع حال من الضمير في قوله ‏{‏فيها‏}‏، ولا يصح أن يكون حالاً من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏اركبوا‏}‏ لأنه لا عائد في الجملة يعود عليه‏:‏ وعلى هذا التأويل قال الضحاك‏:‏ إن نوحاً كان إذا أراد جري السفينة قال‏:‏ ‏{‏بسم الله‏}‏، فتجري وإذا أراد وقوفها قال‏:‏ ‏{‏بسم الله‏}‏ فتقف‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم- في رواية أبي بكر وابن عامر‏:‏ «مُجراها ومُرساها» بضم الميمين على معنى إجرائها وإرسائهما، وهي قراءة مجاهد وأبي رجاء والحسن والأعرج وشيبة وجمهور الناس، ومن ذلك قول لبيد‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

وعمرت حرساً قبل مجرا داحس *** لو كان للنفس اللجوج خلود

وقرأ حمزة والكسائي وحفص بن عاصم‏:‏ «مَجراها» بفتح الميم وكسر الراء، وكلهم ضم الميم من «مُرساها» وقرأ الأعمش وابن مسعود «مَجراها ومَرساها» بفتح الميمين، وذلك من الجري والرسو؛ وهذه ظرفية مكان، ومن ذلك قول عنترة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

فصبرت نفساً عند ذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع

واختار الطبري قراءة «مَجراها» بفتح الميم الأولى وضم الثانية، ورجحها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهي تجري‏}‏، ولم يقرأ أحد، «تجري» وهي قراءة ابن مسعود أيضاً رواها عنه أبو وائل ومسروق‏.‏ وقرأ ابن وثاب وأبو رجاء العطاري والنخعي والجحدري والكلبي والضحاك بن مزاحم ومسلم بن جندب وأهل الشام‏:‏ «مجريها ومرسيها» وهما على هذه القراءة صفتان لله تعالى عائدتان على ذكره في قوله ‏{‏بسم الله‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏إن ربي لغفور رحيم‏}‏ تنبيه لهم على قدر نعم الله عليهم ورحمته لهم وستره عليهم وغفرانه ذنوبهم بتوبتهم وإنابتهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهي تجري بهم‏}‏ الآية، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطر فيه، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع، فهكذا كان التقاء الماء، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشرة ذراعاً؛ وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق‏:‏ ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وأين كان الموج كالجبال على هذا‏؟‏ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا‏؟‏‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «ابنه» على إضافة الابن إلى نوح، وهذا قول من يقول‏:‏ هو ابنه لصلبه، وقد قال قوم‏:‏ إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حناناً منه وتلطفاً، وقرأ ابن عباس «ابنهْ» بسكون الهاء، وهذا على لغة لأزد السراة ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ومطواي مشتاقان لهْ أرقانِ *** وقرأ السدي «ابناه» قال أبو الفتح‏:‏ ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية، وقرأ عروة بن الزبير أيضاً وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنهَ» على تقدير ابنها، فحذف الألف تخفيفاً وهي لغة ومنها قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أما تقود به شاة فتأكلها *** أو أن تبيعه في نقض الأزاكيب

وأنشد ابن الأعرابي على هذا‏:‏

فلست بمدرك ما فات مني *** بلهف ولا بليت ولا لواني

يريد بلهفا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف وليس كما قال‏.‏

وقرأ وكيع بن الجراح‏:‏ «ونادى نوح ابنه» بضم التنوين، قال أبو حاتم‏:‏ وهي لغة سوء لا تعرف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في معزل‏}‏ أي في ناحية، فيمكن أن يريد في معزل في الدين، ويمكن أن يريد في معزل في بعده عن السفينة، واللفظ يعمهما‏:‏ وقال مكي في المشكل‏:‏ ومن قال‏:‏ «معزِل»- بكسر الزاي- أراد الموضع، ومن قال‏:‏ «معزَل»- بفتحها- أراد المصدر‏:‏ فلم يصرح بأنها قراءة ولكن يقتضي ذلك لفظه‏.‏

وقرأ السبعة «يابنيِّ» بكسر الياء المشددة، وهي ثلاث ياءات‏:‏ أولاها ياء التصغير، وحقها السكون؛ والثانية لام الفعل، وحقها أن تكسر بحسب ياء الإضافة إذ ما قبل ياء الإضافة مكسور‏:‏ والثالثة‏:‏ ياء الإضافة فحذفت ياء الإضافة إما لسكونها وسكون الراء، وإما إذ هي بمثابة التنوين في الإعلام وهو يحذف في النداء فكذلك ياء الإضافة والحذف فيها كثير في كلام العرب، تقول‏:‏ يا غلام، ويا عبيد، وتبقى الكسرة دالة، ثم أدغمت الياء الساكنة في الياء المكسورة، وقد روى أبو بكر وحفص عن عاصم أيضاً «يابنيَّ» بفتح الياء المشددة، وذكر أبو حاتم‏:‏ أن المفضل رواها عن عاصم، ولذلك وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يبدل من ياء الإضافة ألفاً وهي لغة مشهورة تقول‏:‏ يا غلاما، ويا عينا، فانفتحت الياء قبل الألف ثم حذفت الألف استخفافاً ولسكونها وسكون الراء من قوله ‏{‏اركب‏}‏‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن الياءات لما اجتمعت استثقل اجتماع المماثلة فخفف ذلك الاستثقال بالفتح إذ هو أخف الحركات، هذا مذهب سيبويه، وعلى هذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وحواري الزبير»‏.‏

وروي عن ابن كثير أنه قرأ في سورة لقمان‏:‏ ‏{‏يا بني لا تشرك بالله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ بحذف ياء الإضافة ويسكن الياء خفيفة، وقرأ الثانية ‏{‏يا بني إنها‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏ كقراءة الجماعة وقرأ الثالثة‏:‏ ‏{‏يا بني أقم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏ ساكنة كالأولى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكن مع الكافرين‏}‏ يحتمل أن يكون نهياً محضاً مع علمه أنه كافر، ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره فناداه ألا يبقى- وهو مؤمن- مع الكفرة فيهلك بهلاكهم، والأول أبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ظن ابن نوح أن ذلك المطر والماء على العادة، وقوله‏:‏ ‏{‏لا عاصم‏}‏ قيل فيه‏:‏ إنه على لفظة فاعل؛ وقوله‏:‏ ‏{‏إلا مَنْ رحم‏}‏ يريد إلا الله الراحم، ف ‏{‏مَنْ‏}‏ كناية عن اسم الله تعالى، المعنى‏:‏ لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا ف ‏{‏مَنْ‏}‏ في موضع رفع، وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إلا مَنْ رحم‏}‏ استثناء منقطع كأنه قال‏:‏ لا عاصم اليوم موجود، لكن من رحم الله موجود، وحسن هذا من جهة المعنى، أن نفي العاصم يقتضي نفي المعصوم‏.‏ فهو حاصل بالمعنى‏.‏ وأما من جهة اللفظ، ف ‏{‏مَنْ‏}‏ في موضع نصب على حد قول النابغة‏:‏ إلا الأواري‏.‏ ولا يجوز أن تكون في موضع رفع على حد قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس

إذ هذان أنيس ذلك الموضع القفر، والمعصوم هنا ليس بعاصم بوجه، وقيل ‏{‏عاصم‏}‏ معناه ذو اعتصام، ف ‏{‏عاصم‏}‏ على هذا في معنى معصوم، ويجيء الاستثناء مستقيماً، و‏{‏مَنْ‏}‏ في موضع رفع، و‏{‏اليوم‏}‏ ظرف، وهو متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏من أمر الله‏}‏، أو بالخير الذي تقديره‏:‏ كائن اليوم، ولا يصح تعلقه ب ‏{‏عاصم‏}‏ لأنه كان يجيء منوناً‏:‏ لا عاصماً اليوم يرجع إلى أصل النصب لئلا يرجع ثلاثة أشياء واحداً، وإنما القانون أن يكون الشيئان واحداً‏:‏ ‏{‏لا‏}‏ وما عملت فيه، ومثال النحويين في هذه المسألة‏:‏ لا أمراً يوم الجمعة لك، فإن أعلمت في يوم لك قلت‏:‏ لا أمر‏.‏

و ‏{‏بينهما‏}‏ يريد بين نوح وابنه، فكان الابن ممن غرق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ الآية، بناء الفعل للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت، وكذلك بناء الأفعال بعد ذلك في سائر الآية؛ وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال‏:‏ هذا كلام القادرين، و«البلع» هو تجرع الشيء وازدراده، فشبه قبض الأرض للماء وتسربه فيها بذلك، وأمرت بالتشبيه وأضاف الماء إليها إذ هو عليها وحاصل فيها، و«السماء» في هذه الآية، إما السماء المظلة، وإما السحب، و«الإقلاع» عن الشيء تركه، والمعنى‏:‏ أقلعي عن الإمطار، و‏{‏غيض‏}‏ معناه نقص، وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى جفوف كقوله‏:‏ ‏{‏وغيض الماء‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وما تغيض الأرحام وما تزداد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏ وأكثر المفسرين على أن ذلك في الحيض، وكذلك قول الأسود بن يعفر‏:‏

ما غيض من بصري ومن أجلادي *** وذلك أن الإنسان الهرم إنما تنقصه بجفوف وقضافة وقوله ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ إشارة إلى جميع القصة‏:‏ بعث الماء وإهلاك الأمم وإنجاء أهل السفينة‏.‏ وروي أن نوحاً عليه السلام ركب في السفينة من عين وردة بالشام أول يوم من رجب، وقيل‏:‏ في العاشر منه، وقيل‏:‏ في الخامس عشر، وقيل‏:‏ في السابع عشر، واستوت السفينة في ذي الحجة، وأقامت على ‏{‏الجودي‏}‏ شهراً، وقيل له‏:‏ اهبط في يوم عاشوراء فصامه وصامه من معه من ناس ووحوش‏:‏ وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، وذكر أيضاً حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أن نوحاً ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه» وروي أن نوحاً لما طال مقامه على الماء بعث الغراب ليأتيه بخبر كمال الغرق فوجد جيفة طافية فبقي عليها فلم يرجع بخبر، فدعا عليه نوح فسود لونه وخوف من الناس، فهو لذلك مستوحش، ثم بعث نوح الحمام فجاءته بورق زيتونة في فمها ولم تجد تراباً تضع رجليها عليه، فبقي أربعين يوماً ثم بعثها فوجدت الماء قد انحسر عن موضع الكعبة، وهي أول بقعة انحسر الماء عنها، فمست الطين برجليها وجاءته، فعلم أن الماء قد أخذ في النضوب، ودعا لها فطوقت وأنست‏.‏ فهي لذلك تألف الناس؛ ثم أوحى الله إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت كلها وبقي الجودي- وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة- لم يتطاول تواضعاً لله، فاستوت السفينة بأمر الله عليه، وبقيت عليه أعوادها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة» وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏الجودي‏}‏ هو بناحية آمد‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو عند باقردى‏.‏ وروي أن السفينة لما استقلت من عين وردة جرت حتى جاءت الكعبة فوجدتها قد نشزت من الأرض فلم ينلها غرق فطافت بها أسبوعاً ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقصص في هذه المعاني كثير صعب أن يستوفى، فأشرت منه إلى نبذ؛ ويدخله الاختلاف كما ترى في أمر الكعبة والله أعلم كيف كان‏.‏ ‏{‏واستوت‏}‏ معناه‏:‏ تمكنت واستقرت‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «على الجوديِّ» بكسر الياء وشدها، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة «على الجودي» بسكون الياء، وهما لغتان‏.‏ وقوله ‏{‏وقيل‏:‏ بعداً‏}‏ يحتمل أن يكون من قول الله تعالى عطفاً على ‏{‏وقيل‏}‏ الأول ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين، والأول أظهر وأبلغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة؛ ويظهر من كلام الطبري أن ذلك كان بعد غرق الابن، وهو محتمل، والأول أليق‏.‏

وهذه الآية احتجاج من نوح عليه السلام، وذلك أن الله أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل، ثم حسن المخاطبة بقوله‏:‏ ‏{‏وإن وعدك الحق‏}‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏وأنت أحكم الحاكمين‏}‏، فإن هذه الأقوال معينة في حجته، وهذه الآية تقتضي أن نوحاً عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن، وذلك أشد الاحتمالين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال يا نوح‏}‏ الآية، المعنى قال الله تعالى‏:‏ يا نوح، وقالت فرقة‏:‏ المراد أنه ليس بولد لك، وزعمت أنه كان لغية وأن امرأته الكافرة خانته فيه، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير‏:‏ وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح، وحلف الحسن أنه ليس بابنه، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ عول الحسن على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه ليس من أهلك‏}‏، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى نوح ابنه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وقرأ الحسن ومن تأول تأويله‏:‏ ‏{‏إنه عمل غير صالح‏}‏ على هذا المعنى، وهي قراءة السبعة سوى الكسائي‏:‏ وقراءة جمهور الناس، وقال من خالف الحسن بن أبي الحسن‏:‏ المعنى‏:‏ ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء‏.‏ فمن قرأ من هذه الفرقة ‏{‏إنه عمل غير صالح‏}‏ جعله وصفاً له بالمصدر على جهة المبالغة، فوصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار‏.‏ وقرأ بعض هذه الفرقة «إنه عمل غير صالح» وهي قراءة الكسائي، وروت هذه القراءة أم سلمة وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره أبو حاتم، وضعف الطبري هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق شهر بن حوشب، وهي قراءة علي وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك، ورجحها أبو حاتم وقرأ بعضها‏:‏ «إنه عمل عملاً غير صالح»‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الضمير في قوله‏:‏ «إنه عمل غير صالح» على قراءة جمهور السبعة على سؤال الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية؛ ويقوي هذا التأويل أن في مصحف ابن مسعود «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم»‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الضمير عائد على ركوب ولد نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح، المعنى‏:‏ أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح، وقال أبو علي‏:‏ ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى، وكل هذه الفرق قال‏:‏ إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا‏:‏ إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ما زنت امرأة نبي قط»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الحديث ليس بالمعروف، وإنما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة‏.‏ وقالوا في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فخانتاهما‏}‏ إن الواحدة كانت تقول للناس‏:‏ هو مجنون؛ والأخرى كانت تنبه على الأضياف، وأما غير هذا فلا، وهذه منازع ابن عباس وحججه؛ وهو قوله وقول الجمهور من الناس‏.‏

وقرأ ابن أبي مليكة‏:‏ «فلا تسلْني» بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز‏.‏ وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز «فلا تسألن»، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء «فلا تسألنِّي»، وقرأ نافع ذلك دون ياء «فلا تسألن» وقرأ ابن كثير وابن عامر «فلا تسألنَّ» بفتح النون المشددة، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «فلا تسلْن» خفيفة النون ساكنة اللام، وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل، وحذفها عاصم وحمزة في الوصل والوقف‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فلا تسألني ما ليس لك به علم‏}‏ أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك هو بحق واجب واجب عند الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولكن نوحاً عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عتابه، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله‏:‏ ‏{‏إني أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فلا تكونن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 147، الأنعام‏:‏ 34-114، يونس‏:‏ 94‏]‏، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة، وإلا فمتقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة؛ ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين‏.‏ وقال قوم‏:‏ إنما وقر نوح لسنة‏.‏ وقال قوم‏:‏ إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله ضعيف، ويحتمل قوله‏:‏ ‏{‏فلا تسألني ما ليس لك به علم‏}‏، أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي، وقال‏:‏ إن ‏{‏به‏}‏ يجوز أن يتعلق بلفظة ‏{‏علم‏}‏ كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

كان جزائي بالعصا أن أجلدا *** ويجوز أن يكون ‏{‏به‏}‏ بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحد، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف؛ وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏إني أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏ في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل بشع، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحاً اعتقد هذا وعياذاً بالله، وغاية ما وقع لنوح عليه السلام أن رأى ترك ابنه معارضاً للوعد فذكر به، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

هذه الآية فيها إنابة نوح وتسليمه لأمر الله تعالى واستغفاره بالسؤال الذي وقع النهي عليه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة وطلبة ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه؛ وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا‏.‏

وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏فلا تسألنِ ما ليس لك به علم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ يعم النحويين من السؤال، فلذلك نبهت على أن المراد أحدهما دون الآخر، و«الخاسرون» هم المغبونون حظوظهم من الخير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قيل يا نوح اهبط بسلام‏}‏ كان هذا عند نزوله من السفينة مع أصحابه للانتشار في الأرض، و«السلام» هنا السلامة والأمن ونحوه، و«البركات» الخير والنمو في كل الجهات، وهذه العدة تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، قاله محمد بن كعب القرظي؛ وقوله ‏{‏ممن معك‏}‏ أي من ذرية من معك ومن نسلهم، ف ‏{‏مَنْ‏}‏- على هذا- هي لابتداء الغاية، أي من هؤلاء تكون هذه الأمم، و‏{‏من‏}‏ موصولة، وصلتها ‏{‏معك‏}‏ وما يتقدر معها نحو قولك‏:‏ ممن استقر معك ونحوه ثم قطع قوله‏:‏ ‏{‏وأمم‏}‏ على وجه الابتداء إذ كان أمرهم مقطوعاً من الأمر الأول، وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك من أنباء الغيب‏}‏ الآية إشارة إلى القصة، أي هذه من الغيوب التي تقادم عهدها ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى، ولم يكن علمها أو علم أشباهها عندك ولا عند قومك، ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، وتكون لقومك مثالاً وتحذيراً، لئلا يصيبهم إذا كذبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمور المعذبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر إن العاقبة للمتقين‏}‏، أي فاجتهد في التبليغ وجد في الرسالة واصبر على الشدائد واعلم أن العاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «من قبل هذا القرآن»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى عاد‏}‏ عطف على قوله ‏{‏إلى قومه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 25‏]‏ في قصة نوح، و‏{‏عاد‏}‏ قبيلة وكانت عرباً- فيما ذكر- و«هود» عليه السلام منهم، وجعله ‏{‏أخاهم‏}‏ بحسب النسب والقرابة؛ فإن فرضناه ليس منهم فالأخوة بحسب المنشأ واللسان والجيرة‏.‏ وأما قول من قال هي أخوة بحسب النسب الآدمي فضعيف‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «يا قومِ» بكسر الميم، وقرأ ابن محيصن‏:‏ «يا قومُ» برفع الميم، وهي لغة حكاها سيبويه، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «غيرهُ» بالرفع على النعت أو البدل من موضع قوله‏:‏ ‏{‏من إله‏}‏‏.‏ وقرأ الكسائي وحده بكسر الراء، حملاً على لفظ‏:‏ ‏{‏إله‏}‏ وذلك أيضاً على النعت أو البدل ويجوز «غيرَه» نصباً على الاستثناء‏.‏

و ‏{‏مفترون‏}‏ معناه كاذبون أفحش كذب في جعلكم الألوهية لغير الله تعالى، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏عليه‏}‏ عائد على الدعاء إلى الله تعالى، والمعنى‏:‏ ما أجرى وجزائي إلا من عند الله، ثم وصفه بقوله ‏{‏الذي فطرني‏}‏ فجعلها صفة رادة عليهم في عبادتهم الأصنام واعتقادهم أنها تفعل، فجعل الوصف بذلك في درج كلامه، منبهاً على أفعال الله تعالى، وأنه هو الذي يستحق العبادة، و«فطر» معناه اخترع وأنشأ، وقوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ توقيف على مجال القول بأن غير الفاطر إلاه، ويحتمل أن يريد‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ إذ لم أطلب عرضاً من أعراض الدنيا إني إنما أريد النفع لكم والدار الآخرة؛ والأول أظهر، و«الاستغفار» طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة، وهذه أحوال يمكن أن تقع من الكفار، فكأنه قال لهم‏:‏ اطلبوا غفران الله بالإنابة، وطلب الدليل في نبوتي، ثم توبوا بالإيمان من كفركم، فيجيء الترتيب على هذا مستقيماً وإلا احتيج في ترتيب التوبة بعد الاستغفار إلى تحيل كثير فإما أن يكون‏:‏ ‏{‏توبوا‏}‏ أمراً بالدوام، و«الاستغفار» طلب المغفرة بالإيمان، وإلى هذا ذهب الطبري، وقال أبو المعالي في الإرشاد‏:‏ «التوبة» في اصطلاح المتكلمين هي الندم، بعد أن قال‏:‏ إنها في اللغة الرجوع، ثم ركب على هذا أن قال إن الكافر إذا آمن ليس إيمانه توبة وإنما توبته ندمه بعد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والذي أقول‏:‏ إن التوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه لا ينفك منه وهو من شروطها؛ فأقول إن إيمان الكافر هو توبته من كفره، لأنه هو نفس رجوعه، و«تاب» في كلام العرب معناه رجع إلى الطاعة والمثلى من الأمور، وتصرف اللفظة في القرآن ب «إلى» يقتضي أنها الرجوع لا الندم، وإنما لا حق لازم للتوبة كما قلنا، وحقيقة التوبة ترك مثل ما تيب منه عن عزمة معتقدة على ما فسرناه، والله المستعان‏.‏

و «مدراراً» هو بناء تكثير وكان حقه أن تلحقه هاء، ولكن حذفت على نية النسب وعلى أن ‏{‏السماء‏}‏ المطر نفسه، وهو من در يدر؛ ومِفعال قد يكون من اسم الفاعل الذي هو من ثلاثي، ومن اسم الفاعل الذي هو من رباعي‏:‏ وقول من قال‏:‏ إنه ألزم للرباعي غير لازم‏.‏

ويروى أن عاداً كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار، وكانت بلادهم شرق جزيرة العرب، فلهذا وعدهم بالمطر، ومن ذلك فرحهم حين رأوا العارض، وقولهم‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ وحضهم على استنزال المطر بالإيمان والإنابة، وتلك عادة الله في عباده، ومنه قول نوح عليه السلام «استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً»، ومنه فعل عمر رضي الله حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفاراً فسقي، فسئل عن ذلك، فقال‏:‏ لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويزدكم قوة إلى قوتكم‏}‏، ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد، وقالت فرقة‏:‏ كان الله تعالى قد حبس نسلهم، فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏ويزدكم قوة إلى قوتكم‏}‏ أي الولد، ويحتمل أن خص القوة بالذكر إذ كانوا أقوى العوالم فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه، ثم نهاهم عن التولي عن الحق والإعراض عن أمر الله‏.‏ و‏{‏مجرمين‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏تتولوا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ ‏{‏ما جئتنا‏}‏ بآية تضطرنا إلى الإيمان بك ونفوا أن تكون معجزاته آية بحسب ظنهم وعماهم عن الحق، كما جعلت قريش القرآن سحراً وشعراً ونحو هذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» الحديث، وهذا يقضي بأن هوداً وغيره من الرسل لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عن قولك‏}‏ أي لا يكون قولك سبب تركنا إذ هو مجرد عن آية، وقولهم‏:‏ ‏{‏إن نقول‏}‏ الآية، معناه ما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضللت عبدتها أصابك بجنون، يقال‏:‏ عر يعر واعترى يعتري إذا ألم بالشيء، فحينئذ جاهرهم هود عليه السلام بالتبري من أوثانهم وحضهم على كيده هم وأصنامهم، ويذكر أن هذه كانت له معجزة وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم فلم يقدروا على نيله بسوء‏.‏

و ‏{‏تنظرون‏}‏ معناه تؤخروني أي عاجلوني بما قدرتم عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني توكلت على الله‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ أن توكلي على الله الذي هو ربي وربكم مع ضعفي وانفرادي وقوتكم وكثرتكم يمنعني منكم ويحجز بيني وبينكم؛ ثم وصف قدرة الله تعالى وعظم ملكه بقوله‏:‏ ‏{‏ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏ وعبر عن ذلك ب «الناصية»، إذ هي في العرف حيث يقبض القادر المالك ممن يقدر عليه، كما يقاد الأسير والفرس ونحوه حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه لتكون تلك علامة أنه قدر عليه وقبض على ناصيته‏.‏ و«الدابة»‏:‏ جميع الحيوان، وخص بالذكر إذ هو صنف المخاطبين والمتكلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي على صراط مستقيم‏}‏ يريد أن أفعال الله عز وجل هي في غاية الإحكام، وقوله الصدق، ووعده الحق؛ فجاءت الاستقامة في كل ما ينضاف إليه عز وجل‏.‏ فعبر عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي على صراط مستقيم‏}‏ على تقدير مضاف‏.‏