فصل: تفسير الآيات رقم (106- 108)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين شقوا‏}‏ على بعض التأويلات في الاستثناء الذي في آخر الآية يراد به كل من يعذب من كافر وعاص- وعلى بعضها- كل من يخلد، وذلك لا يكون إلا في الكفرة خاصة‏.‏

وال ‏{‏زفير‏}‏‏:‏ صوت شديد خاص بالمحزون أو الوجع أو المعذب ونحوه، وال ‏{‏شهيق‏}‏ كذلك‏.‏ كما يفعل الباكي الذي يصيح خلال بكائه، وقال ابن عباس‏:‏ «الزفير»‏:‏ صوت حاد‏.‏ و«الشهيق» صوت ثقيل، وقال أبو العالية «الزفير» من الصدر و«الشهيق» من الحلق وقيل‏:‏ بالعكس‏.‏ وقال قتادة «الزفير»‏:‏ أول صوت الحمار‏.‏ و«الشهيق»‏:‏ آخره‏.‏ فصياح أهل النار كذلك‏.‏ وقيل «الزفير»‏:‏ مأخوذ من الزفر وهو الشدة، و«الشهيق»‏:‏ من قولهم‏:‏ جبل شاهق أي عال‏.‏ فهما- على هذا المعنى- واحد أو متقارب، والظاهر ما قال أبو العالية‏:‏ فإن الزفرة هي التي يعظم معها الصدر والجوف والشهقة هي الوقعة الأخيرة من الصوت المندفع معها النفس أحياناً، فقد يشهق المحتضر ويشهق المغشي عليه‏.‏

وأما قوله ‏{‏ما دامت السماوات والأرض‏}‏ فقيل معناه أن الله تعالى يبدل السماوات والأرض يوم القيامة، ويجعل الأرض مكاناً لجهنم والسماء مكاناً للجنة، ويتأبد ذلك، فقرنت الآية خلود هؤلاء ببقاء هذه؛ ويروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة، فلهما ثم بقاء دائم، وقيل معنى قوله ‏{‏ما دامت السماوات والأرض‏}‏ العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول‏:‏ لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر، وما ناح الحمام و‏{‏ما دامت السماوات والأرض‏}‏، ونحو هذا مما يريدون به طولاً من غير نهاية، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ فقيل فيه‏:‏ إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على نحو قوله‏:‏ ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام- إن شاء الله- آمنين‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قال‏:‏ إن شاء الله، فليس يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا بمنقطع، ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ وقيل‏:‏ هو استثناء من طول المدة، وذلك على ما روي من أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتغلق أبوابها فهم- على هذا- يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول مختل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمي الكل به تجوزاً‏.‏

وقيل‏:‏ إنما استثنى ما يلطف الله تعالى به للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، فيجيء قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ أي لقوم ما، وهذا قول قتادة والضحاك وأبي سنان وغيرهم، وعلى هذا فيكون قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين شقوا‏}‏ عاماً في الكفرة والعصاة- كما قدمنا- ويكون الاستثناء من ‏{‏خالدين‏}‏، وقيل‏:‏ ‏{‏إلا‏}‏ بمعنى الواو، فمعنى الآية‏:‏ وما شاء الله زائداً على ذلك، ونحو هذا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا البيت يصح الاستشهاد به على معتقدنا في فناء الفرقدين وغيرهما من العالم، وأما إن كان قائله من دهرية العرب فلا حجة فيه، إذ يرى ذلك مؤبداً فأجرى «إلا» على بابها‏.‏

وقيل ‏{‏إلا‏}‏ في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع، كما تقول‏:‏ لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك، فكأنه قال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها ما دامت المساوات والأرض‏}‏ سوى ما شاء الله زائداً على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد‏:‏ ‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب «سوى»؛ وسيبويه يقدره ب «لكن»؛ وقيل سوى ما أعده لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير ونحوه، وقيل استثناء من مدة السماوات‏:‏ المدة التي فرطت لهم في الحياة الدنيا؛ وقيل في البرزخ بين الدنيا والآخرة؛ وقيل‏:‏ في المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر؛ وقيل‏:‏ الاستثناء من قوله‏:‏ ‏{‏ففي النار‏}‏ كأنه قال‏:‏ إلا ما شاء ربك من تأخير عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نضرة عن جابر أو عن أبي سعيد الخدري‏.‏

ثم أخبر منبهاً على قدرة الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك فعال لما يريد‏}‏‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم- في رواية أبي بكر- «سَعدوا» بفتح السين، وهو فعل لا يتعدى؛ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم- في رواية حفص- «سُعدوا» بضم السين، وهي شاذة ولا حجة في قولهم‏:‏ مسعود، لأنه مفعول من أسعد على حذف الزيادة كما يقال‏:‏ محبوب، من أحب، ومجنون من أجنه الله، وقد قيل في مسعود‏:‏ إنما أصله الوصف للمكان، يقال‏:‏ مكان مسعود فيه ثم نقل إلى التسمية به؛ وذكر أن الفراء حكى أن هذيلاً تقول‏:‏ سعده الله بمعنى أسعده‏.‏ وبضم السين قرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش‏.‏

والأقوال المترتبة في استثناء التي قبل هذه تترتب ها هنا إلا تأويل من قال‏:‏ هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم، فإنه لا يترتب مثله في هذه الآية، ويزيد هنا قول‏:‏ أن يكون الاستثناء في المدة التي يقيمها العصاة في النار؛ ولا يترتب أيضاً تأويل من قال في تلك‏:‏ إن الاستثناء هو من قوله‏:‏ ‏{‏في النار‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏، نصب على المصدر، و«المجذوذ»‏:‏ المقطوع‏.‏ و«الجذ»‏:‏ القطع وكذلك «الجد» وكذلك «الحز»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 111‏]‏

‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏‏}‏

لفظ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى له ولأمته، ولم يقع لأحد شك فيقع عنه نهي ولكن من فصاحة القول في بيان ضلالة الكفرة إخراجه في هذه العبارة، أي حالهم أوضح من أن يمترى فيها، وال ‏{‏مرية‏}‏‏:‏ الشك، و‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى كفار العرب عبدة الأصنام؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل‏}‏‏.‏ المعنى‏:‏ أنهم مقلدون لا برهان عندهم ولا حجة، وإنما عبادتهم تشبهاً منهم بآبائهم لا عن بصيرة؛ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنَّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏ وعيد، ومعناه‏:‏ العقوبة التي تقتضيها أعمالهم، ويظهر من قوله‏:‏ ‏{‏غير منقوص‏}‏ أن على الأولين كفلاً من كفر الآخرين‏.‏

وقرأ الجمهور «لموَفّوهم» بفتح الواو وشد الفاء، وقرأ ابن محيصن «لموفوهم» بسكون الواو وتخفيف الفاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ الآية، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر قصة موسى مثل له، أي لا يعظم عليك أمر من كذبك، فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى، بكتاب فاختلف الناس عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ إلى آخر الآية، يحتمل أن يريد به أمة موسى، ويحتمل أن يريد به معاصري محمد عليه السلام؛ وأن يعمهم اللفظ أحسن-عندي- ويؤكد ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وإن كلاً‏}‏ و«الكلمة» ها هنا عبارة عن الحكم والقضاء والمعنى ‏{‏لقضي بينهم‏}‏ أي لفصل بين المؤمن والكافر، بنعيم هذا وعذاب هذا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ووصف «الشك» بالمريب تقوية لمعنى الشك‏.‏

وقرأ الكسائي وأبو عمرو‏:‏ «وإنَّ كلاًّ لمَا» بتشديد النون وتخفيف الميم من ‏{‏لما‏}‏ وقرأ ابن كثير ونافع بتخفيفهما، وقرأ حمزة بتشديدهما، وكذلك حفص عن عاصم؛ وقرأ عاصم- في رواية أبي بكر- بتخفيف «إنْ» وتشديد الميم من «لمّا» وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم‏:‏ «وإن كلاًّ لمَّاً» بتشديد الميم وتنوينها‏.‏ وقرأ الحسن بخلاف‏:‏ «وإنْ كلّ لما» بتخفيف «إن» ورفع «كلٌّ» وشد «لمّا» وكذلك قرأ أبان بن تغلب إلا أنه خفف «لما»، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود «وإن كل إلا ليوفينهم» وهي قراءة الأعمش، قال أبو حاتم‏:‏ الذي في مصحف أبيّ‏:‏ «وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم»‏.‏ فأما الأول ف «إن» فيها على بابها، و«كلاًّ» اسمها، وعرفها أن تدخل على خبرها لام‏.‏ وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضاً على خبر «إن» فلما اجتمع لامان فصل بينهما ب «ما»- هذا قول أبي علي- والخبر في قوله ‏{‏ليوفينهم‏}‏، وقال بعض النحاة‏:‏ يصح أن تكون «ما» خبر «إن» وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف، فهي بمنزلة من، كأنه قال‏:‏ وإن كلاًّ لخلق ليوفينهم؛ ورجح الطبري هذا واختاره، اما أنه يلزم القول أن تكون «ما» موصوفة إذ هي نكرة، كما قالوا‏:‏ مررت بما معجب لك، وينفصل بأن قوله‏:‏ ‏{‏ليوفينهم‏}‏ يقوم معناه مقام الصفة، لأن المعنى‏:‏ وإن كلاً لخلق موفى عمله، وأما من خففها- وهي القراءة الثانية في ترتيبنا فحكم «إن» وهي مخففة حكمها مثقلة، وتلك لغة فصيحة، حكى سيبويه أن الثقة أخبره‏:‏ أنه سمع بعض العرب يقول‏:‏ إن عمراً لمنطلق وهو نحو قول الشاعر‏:‏

ووجه مشرق النحر *** كأن ثدييه حقان

رواه أبو زيد‏.‏

ويكون القول في فصل «ما» بين اللامين حسبما تقدم، ويدخلها القول الآخر من أن تكون «ما» خبر «إن» وأما من شددهما أو خفف «إنْ» وشدد «الميم» ففي قراءتيهما إشكال، وذلك أن بعض الناس قال‏:‏ إن «لما» بمعنى إلا، كما تقول‏:‏ سألتك لما فعلت كذا وكذا بمعنى إلا فعلت قال أبو علي‏:‏ وهذا ضعيف لأن «لما» هذه لا تفارق القسم، وقال بعض الناس‏:‏ المعنى لمن ما أبدلت النون ميماً، وأدغمت في التي بعدها فبقي «لمما» فحذفت الأولى تخفيفاً لاجتماع الأمثلة، كما قرأ بعض القراء ‏{‏والبغي يعظكم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏ به بحذف الياء مع الياء وكما قال الشاعر‏:‏

وأشمت العداة بنا فأضحوا *** لدى يتباشرون بما لقينا

قال أبو علي وهذا ضعيف؛ وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله‏:‏ ‏{‏أمم ممن معك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 48‏]‏ ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال بعض الناس أصلها‏:‏ لمن ما، ف «من» خبر «إن» و«ما» زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله‏:‏ لمن ما، ف «ما» هي الخبر دخلت عليها «من» على حد دخولها في قول الشاعر‏:‏

وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة *** على رأسه تلقي اللسان من الفم

وقالت فرقة «لما» أصلها «لماً» منونة، والمعنى‏:‏ وإن كلاً عاماً حصراً شديداً، فهو مصدر لم يلم، كما قال‏:‏ ‏{‏وتأكلون التراث أكلاً لمَّاً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 19‏]‏ أي شديداً قالت‏:‏ ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرئ‏:‏ تترى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، حكي عن الكسائي أنه قال‏:‏ لا أعرف وجه التثقيل في «لما»، قال أبو علي‏:‏ وأما من قرأ «لمَّا» بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا، وأما من قرأ‏:‏ «وإن كل لما» فهي المخففة من الثقيلة، وحقها- في أكثر لسان العرب- أن يرتفع ما بعدها، و«لما» هنا بمعنى إلا، كما قرأ جمهور القراء‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ومن قرأ «إلا» مصرحة فمعنى قراءته واضح، وهذه الآية وعيد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «يعملون» بياء على ذكر الغائب، وقرأ الأعرج «تعملون» بتاء على مخاطبة الحاضر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 115‏]‏

‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنساناً بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به‏.‏ والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر، ولسائر أمته بالمعنى، وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له‏:‏ يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت‏:‏ شيبتني هود وأخواتها فما الذي شيبك من هود‏؟‏ قال له‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتأويل المشهور في قوله عليه السلام‏:‏ شيبتني هود وأخواتها- أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أمرت‏}‏ مخاطبة تعظيم، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ معطوف على الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فاستقم‏}‏، وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏كما أمرت‏}‏‏.‏ و‏{‏لا تطغوا‏}‏ معناه‏:‏ ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى، و«الطغيان»‏:‏ تجاوز الحد ومنه قوله‏:‏ ‏{‏طغى الماء‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏ وقوله في فرعون‏:‏ ‏{‏إنه طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 24-43، النازعات‏:‏ 17‏]‏، وقيل في هذه معناه‏:‏ ولا تطغينكم النعم، وهذا كالأول‏.‏

وقرأ الجمهور «تعملون» بتاء، وقرأ الحسن والأعمش «يعملون» بياء من تحت- وقرأ الجمهور‏:‏ «ولا تركَنوا» بفتح الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة والأشهب العقيلي وأبو عمرو- فيما روى عنه هارون- بضمها، وهو لغة، يقال‏:‏ ركن يركَن وركن يركُن، ومعناه السكون، إلى شيء والرضا به قال أبو العالية‏:‏ «الركون»‏:‏ الرضا‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ «الركون»‏:‏ الإدمان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، و‏{‏الذين ظلموا‏}‏ هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي‏.‏

وقرأ الجمهور «فتَمسكم»، وقرأ يحيى وابن وثاب وعلقمه والأعمش وابن مصرف وحمزة- فيما روي عنه- «فتِمسكم» بكسر التاء وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب، وقد جاء في الياء يِيجل ويِيبى، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة‏}‏ الآية، لم يختلف أحد في أن ‏{‏الصلاة‏}‏ في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، واختلف في ‏{‏طرفي النهار‏}‏ وزلف الليل فقيل‏:‏ الطرف الأول الصبح، والثاني الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء‏:‏

«هما زلفتا الليل» وقيل‏:‏ الطرف الأول‏:‏ الصبح، والثاني‏:‏ العصر، قاله الحسن وقتادة والضحاك، والزلف‏:‏ المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول- بل هي في غيرها، وقيل الطرفان‏:‏ الصبح والمغرب- قاله ابن عباس والحسن- أيضاً- والزلف‏:‏ العشاء، وليست في الآية الظهر والعصر‏.‏ وقيل‏:‏ الطرفان‏:‏ الظهر والعصر، والزلف‏:‏ المغرب والعشاء والصبح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأن هذا القائل راعى جهر القراءة، والأول أحسن هذه الأقوال عندي ورجح الطبري أن الطرفين‏:‏ الصبح والمغرب، وأنه الظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى‏.‏

وقرأ الجمهور «زلَفاً» بفتح اللام، وقرأ طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى وابن إسحاق وأبو جعفر «زلُفاً» بضم اللام كأنه اسم مفرد‏.‏ وقرأ «زلْفاً» بسكون اللام مجاهد، وقرأ أيضاً‏:‏ «زلفى» على وزن- فعلى- وهي قراءة ابن محيصن‏.‏ والزلف‏:‏ الساعات القريب بعضها من بعض‏.‏ ومنه قول العجاج‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

ناج طواه الأين مما وجفا *** طي الليالي زلفاً فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا *** وقوله ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن ‏{‏الحسنات‏}‏ يراد بها الصلوات الخمس- وإلى هذه الآية ذهب عثمان- رضي الله عنه- عند وضوئه على المقاعد وهو تأويل مالك، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الحسنات‏}‏‏:‏ قول الرجل‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام‏:‏ «ما اجتنبت الكبائر»‏.‏

وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، قيل‏:‏ هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل‏:‏ اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه، فقال‏:‏ قد ستر الله عليك فاستر على نفسك، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه، فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى معه، ثم أخبره وقال‏:‏ اقض فيَّ ما شئت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله، قال‏:‏ نعم، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ما أدري، فنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه‏:‏ فقال معاذ بن جبل‏:‏ يا رسول الله خاصة‏؟‏ قال‏:‏ بل للناس عامة‏.‏ وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان- كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر» فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله‏:‏ «إن اجتنبت الكبائر»، فقال جمهورهم‏:‏ هو شرط في معنى الوعد كله، أي إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئاً من الصغائر‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ معنى قوله إن اجتنبت‏:‏ أي هي التي لا تحطها العبادات، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله‏:‏ ما بينهما، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبهذا أقول وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره؛ وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها، وهذا نص الحذاق الأصوليين‏.‏ وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط‏.‏

وقوله ذلك إشارة إلى الصلوات، ووصفها ب ‏{‏ذكرى‏}‏، أي هي سبب ذكر وموضع ذكرى، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الإخبار ب ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات، ويحتمل أن تكن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة، وهو تفسير الطبري‏.‏

ثم أمره تعالى بالصبر، وجاءت هذه الآيات في نمط واحد‏:‏ أعلمه الله تعالى أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم المسيء والمحسن، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تعالى، ثم وعد بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏لولا‏}‏ هي التي للتحضيض- لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد، وهذا نحو قوله‏:‏ ‏{‏يا حسرة على العباد‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 30‏]‏، و‏{‏القرون من قبلكم‏}‏ هم قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره، والقرن من الناس‏:‏ المقترنون في زمان طويل أكثره- فيما حد الناس- مائة سنة، وقيل ثمانون وقيل غير ذلك إلى ثلاثين سنة؛ والأول أرجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن إلى رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر‏:‏ يريد أنها تخرم ذلك القرن و‏{‏بقية‏}‏ هنا يراد بها النظر والعقل والحزم والثبوت في الدين، وإنما قيل‏:‏ ‏{‏بقية‏}‏ لأن الشرائع والدول ونحوها- قوتها في أولها ثم لا تزال تضعف فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «بقية» بتخفيف الياء وهو رد فعيلة إلى فعلة، وقرأ أبو جعفر وشيبة «بُقْية» بضم الباء وسكون القاف على وزن فُعلة‏.‏

و ‏{‏الفساد في الأرض‏}‏ هو الكفر وما اقترن به من المعاصي، وهذه الآية فيها تنبيه لأمة محمد وحض على تغيير المنكر والنهي عن الفساد ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم‏.‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ نصب على الاستثناء وهو منقطع عند سيبويه، والكلام عنده موجب، وغيره يراه منفياً من حيث معناه أنه لم يكن فيهم أولو بقية‏.‏

وقرأ جمهور الناس «واتبعَ» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ حفص بن محمد‏:‏ «واتبع» على بنائه للمفعول، ورويت عن أبي عمرو‏.‏

و ‏{‏ما أترفوا فيه‏}‏ أي عاقبة ما نعموا به- على بناء الفعل للمفعول- والمترف‏:‏ المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك ومنه قول الشاعر‏:‏

تحيي رؤوس المترفين الصداد *** إلى أمير المؤمنين الممتاد

يريد المسؤول، يقال ماده، إذا سأله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بظلم‏}‏، يحتمل أن يريد بظلم منه لهم- تعالى عن ذلك- قال الطبري‏:‏ ويحتمل أن يريد‏:‏ بشرك منهم، وهم مصلحون في أعمالهم وسيرهم، وعدل بعضهم في بعض، أي أنهم لا بد من معصية تقترن بكفرهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قيل إن الله تعالى يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متجهاً، أي ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان، والاحتمال الأول في ترتيبنا أصح إن شاء الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ لجعلهم أمة واحدة مؤمنة- قاله قتادة- حتى لا يقع منهم كفر ولا تنزل بهم مثلة، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل- هذا تأويل الجمهور- قال الحسن وعطاء ومجاهد وغيرهم‏:‏ المرحومون المستثنون هم المؤمنون ليس عندهم اختلاف‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏لا يزالون مختلفين‏}‏ في السعادة والشقاوة، وهذا قريب المعنى من الأول إذ هي ثمرة الأديان والاختلاف فيها، ويكون الاختلاف- على هذا التأويل- يدخل فيه المؤمنون إذ هم مخالفون للكفرة؛ وقال الحسن أيضاً‏:‏ لا يزالون مختلفين في الغنى والفقر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول بعيد معناه من معنى الآية، ثم استثنى الله تعالى من الضمير في ‏{‏يزالون‏}‏ من رحمه من الناس بأن هداه إلى الإيمان ووفقه له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏ اختلف فيه المتأولون، فقالت فرقة‏:‏ ولشهود اليوم المشهود- المتقدم ذكره- خلقهم، وقالت فرقة‏:‏ ذلك إشارة إلى قوله- قبل- ‏{‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ أي لهذا خلقهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال‏:‏ ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين‏:‏ الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ويجيء- عليه- الضمير في ‏{‏خلقهم‏}‏ للصنفين وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله‏:‏ ‏{‏إلا من رحم‏}‏، أي وللرحمة خلق المرحومين، قال الحسن، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويعترض هذا بأن يقال‏:‏ كيف خلقهم للاختلاف‏؟‏ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم‏؟‏ فالوجه في الانفصال أن نقول‏:‏ إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقاً للسعادة وخلقاً للشقاوة، ثم يسر كلاًّ لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب، فيصح أن يحمل قوله هنا وللاختلاف خلقهم‏:‏ أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة‏.‏ ويصح أن يجعل اللام في قوله‏:‏ ‏{‏ولذلك‏}‏ لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك، وإن لم يقصد بهم الاختلاف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومعنى قوله ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ أي لآمرهم بالعبادة، وأوجبها عليهم، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه‏.‏

وقوله، ‏{‏وتمت كلمة ربك‏}‏ أي نفذ قضاؤه وحق أمره، واللام في ‏{‏لأملأن‏}‏ لام قسم إذ «الكلمة» تتضمن القسم‏.‏ و«الجن» جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و«الهاء» في ‏{‏بالجنة‏}‏ للمبالغة‏.‏ وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 123‏]‏

‏{‏وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وكلاًّ‏}‏ مفعول مقدم ب ‏{‏نقص‏}‏ وقيل‏:‏ هو منصوب على الحال، وقيل على المصدر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذان ضعيفان، و‏{‏ما‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏كلاًّ‏}‏، و‏{‏نثبت به فؤادك‏}‏ أي نؤنسك فيما تلقاه، ونجعل لك الأسوة في مَنْ تقدمك مِن الأنبياء، وقوله‏:‏ ‏{‏في هذه‏}‏ قال الحسن‏:‏ هي إشارة إلى دار الدنيا، وقال ابن عباس‏:‏ إلى السورة والآيات التي فيها ذكر قصص الأمم، وهذا قول الجمهور‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها ب ‏{‏الحق‏}‏- والقرآن كله حق- أن ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر، أي جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة، وهذا كما يقال عند الشدائد‏:‏ جاء الحق وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه، ولا يستعمل في ذلك‏:‏ جاء الحق، ثم وصف أيضاً أن ما تضمنته السورة هي ‏{‏موعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏؛ فهذا يؤيد أن لفظة ‏{‏الحق‏}‏ إنما تختص بما تضمنت من وعيد للكفرة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل للذين لا يؤمنون‏}‏ الآية، هذه آية وعيد، أي ‏{‏اعملوا‏}‏ على حالاتكم التي أنتم عليها من كفركم‏.‏

وقرأ الجمهور هنا‏:‏ ‏{‏مكانتكم‏}‏ واحدة دالة على جمع وألفاظ هذه الآية تصلح للموادعة، وتصلح أن تقال على جهة الوعيد المحض والحرب قائمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ الآية، هذه آية تعظم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه، وهو علم الغيب، وتبين أن الخير والشر، وجليل الأشياء وحقيرها- مصروف إلى أحكام مالكه، ثم أمر البشر بالعبادة والتوكل على الله تعالى، وفيها زوال همه وصلاحه ووصوله إلى رضوان الله‏.‏

وقرأ السبعة- غير نافع- «يرجعُ الأمرُ» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ نافع وحفص عن عاصم‏:‏ «يُرجع الأمرُ» على بنائه للمفعول ورواها ابن أبي الزناد عن أهل المدينة، وقرأ «تعملون» بالتاء من فوق، نافع وابن عامر وحفص عن عاصم، وهي قراءة الأعرج والحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمرو وقتادة والجحدري، واختلف عن الحسن وعيسى، وقرأ الباقون «يعملون» بالياء على كناية الغائب‏.‏

سورة يوسف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

تقدم القول في فواتح السور، و‏{‏الكتاب‏}‏ القرآن، ووصفه ب ‏{‏المبين‏}‏ قيل‏:‏ من جهة أحكامه وحلاله وحرامه، وقيل‏:‏ من جهة مواعظه وهداه ونوره، وقيل‏:‏ من جهة بيان اللسان العربي وجودته إذ فيه ستة أحرف لم تجتمع في لسان- روي هذا القول عن معاذ بن جبل- ويحتمل أن يكون مبيناً لنبوة محمد بإعجازه‏.‏

والصواب أنه «مبين» بجميع هذه الوجوه‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ ل ‏{‏الكتاب‏}‏، والإنزال‏:‏ إما بمعنى الإثبات، وإما أن تتصف به التلاوة والعبارة؛ وقال الزجاج‏:‏ الضمير في ‏{‏أنزلناه‏}‏ يراد به خبر يوسف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم‏}‏ يحتمل أن تتعلق ب ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي أنزلناه لعلكم، ويحتمل أن تتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏عربياً‏}‏ أي جعلناه ‏{‏عربياً لعلكم تعقلون‏}‏، إذ هو لسانكم‏.‏ و‏{‏قرآناً‏}‏ حال، و‏{‏عربياً‏}‏ صفة له، وقيل‏:‏ إن ‏{‏قرآناً‏}‏ بدل من الضمير- وهذا فيه نظر- وقيل‏:‏ ‏{‏قرآناً‏}‏ توطئة للحال و‏{‏عربياً‏}‏ حال، وهذا كما تقول‏:‏ مررت بزيد رجلاً صالحاً، وقوله‏:‏ ‏{‏نحن نقص عليك‏}‏ الآية، روى ابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا‏:‏ لو قصصت علينا يا رسول الله، فنزلت هذه الآية، ثم ملوا ملة أخرى فقالوا‏:‏ لو حدثتنا يا رسول الله، فنزلت ‏{‏الله نزل أحسن الحديث كتاباً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

و ‏{‏القصص‏}‏‏:‏ الإخبار بما جرى من الأمور، كأن الأنباء تتبع بالقول، وتقتص بالأخبار كما يقتص الآخر، وقوله‏:‏ ‏{‏بما أوحينا إليك‏}‏ أي بوحينا‏.‏ و‏{‏القرآن‏}‏ نعت ل ‏{‏هذا‏}‏، ويجوز فيه البدل، وعطف البيان فيه ضعيف‏.‏ و‏{‏إن‏}‏ هي المخففة من الثقيلة واللام في خبرها لام التأكيد- هذا مذهب البصريين- ومذهب أهل الكوفة أن ‏{‏إن‏}‏ بمعنى ما، واللام بمعنى إلا‏.‏ والضمير في ‏{‏قبله‏}‏ للقصص العام لما في جميع القرآن منه‏.‏ و‏{‏من الغافلين‏}‏، أي عن معرفة هذا القصص‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الضمير في ‏{‏قبل‏}‏ عائد على ‏{‏القرآن‏}‏، جعل ‏{‏من الغافلين‏}‏ في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 7‏]‏ أي على طريق غير هذا الدين الذي بعثت به، ولم يكن عليه السلام في ضلال الكفار ولا في غفلتهم لأنه لم يشرك قط، وإنما كان مستهدياً ربه عز وجل موحداً، والسائل عن الطريق المتخير يقع عليه في اللغة اسم ضال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

العامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مضمر تقديره‏:‏ اذكر ‏{‏إذ‏}‏ ويصح أن يعمل فيه ‏{‏نقص‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏ كأن المعنى‏:‏ نقص عليك الحال ‏{‏إذ‏}‏ وحكى مكي أن العامل فيه ‏{‏لمن الغافلين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، وهذا ضعيف‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف «يؤسَف» بالهمز وفتح السين- وفيه ست لغات‏:‏ «يُوسُف» بضم الياء وسكون الواو وبفتح السين وبضمها وبكسرها وكذلك بالهمز‏.‏ وقرأ الجمهور «يا أبتِ» بكسر التاء حذفت الياء من أبي وجعلت التاء بدلاً منها، قاله سيبويه، وقرأ ابن عامر وحده وأبو جعفر والأعرج‏:‏ «يا أبتَ» بفتحها، وكان ابن كثير وابن عامر يقفان بالهاء؛ فأما قراءة ابن عامر بفتح التاء فلها وجهان‏:‏ إما أن يكون‏:‏ «يا أبتا»، ثم حذفت الألف تخفيفاً وبقيت الفتحة دالة على الألف، وإما أن يكون جارياً مجرى قولهم‏:‏ يا طلحة أقبل، رخموه ثم ردوا العلامة ولم يعتد بها بعد الترخيم، وهذا كقولهم‏:‏ اجتمعت اليمامة ثم قالوا‏:‏ اجتمعت أهل اليمامة، فردوا لفظة الأهل ولم يعتدوا بها، وقرأ أبو جعفر والحسن وطلحة بن سليمان‏:‏ «أحد عْشر كوكباً» بسكون العين لتوالي الحركات، ويظهر أن الاسمين قد جعلا واحداً‏.‏

وقيل‏:‏ إنه قد رأى كواكب حقيقة والشمس والقمر فتأولها يعقوب إخوته وأبويه، وهذا قول الجمهور، وقيل‏:‏ الإخوة والأب والخالة لأن أمه كانت ميتة، وقيل إنما كان رأى إخوته وأبويه فعبر عنهم بالكواكب والشمس والقمر، وهذا ضعيف ترجم به الطبري، ثم أدخل عن قتادة والضحاك وغيرهما كلاماً محتملاً أن يكون كما ترجم وأن يكون مثل قول الناس، وقال المفسرون‏:‏ ‏{‏القمر‏}‏ تأويله‏:‏ الأب، و‏{‏الشمس‏}‏ تأويلها‏:‏ الأم، فانتزع بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب، وحكى الطبري عن جابر بن عبد الله أن يهودياً يسمى بستانة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي، فقال‏:‏ «هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ حربان، والطارق، والذيال، وذا الكنفان، وقابس، ووثاب، وعمودان والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرغ، والضياء، والنور» فقال اليهودي‏:‏ أي والله إنها لأسماؤها‏.‏

وتكرر ‏{‏رأيتهم‏}‏ لطول الكلام وجرى ضمائر هذه الكواكب في هذه الآية مجرى ضمائر من يعقل إنما كان لما وصفت بأفعال هي خاصة بمن يعقل‏.‏

وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة، وأنها خرجت بعد أربعين سنة، وقيل‏:‏ بعد ثمانين سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

تقتضي هذه الآية أن يعقوب عليه السلام كان يحس من بنيه حسد يوسف وبغضته، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يشعل بذلك غل صدورهم، فيعملوا الحيلة على هلاكه، ومن هنا ومن فعلهم بيوسف- الذي يأتي ذكره- يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت‏.‏ ووقع في كتاب الطبري لابن زيد‏:‏ أنهم كانوا أنبياء؛ وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنياوي وعن عقوق الآباء وتعريض مؤمن للهلاك والتوافر في قتله‏.‏

ثم أعلمه‏:‏ ‏{‏إن الشيطان للإنسان عدو مبين‏}‏ أي هو يدخلهم في ذلك ويحضهم عليه‏.‏

وأمال الكسائي ‏{‏رؤياك‏}‏، والرؤيا حيث وقعت وروي عنه‏:‏ أنه لم يمل‏:‏ ‏{‏رؤياك‏}‏ في هذه السورة وأمال الرؤيا حيث وقعت، وقرأ «روياك» بغير همز- وهي لغة أهل الحجاز- ولم يملها الباقون حيث وقعت‏.‏

و «الرؤيا» مصدر كثر وقوعه على هذا المتخيل في النوم حتى جرى مجرى الأسماء كما فعلوا في الدر في قولهم‏:‏ لله درك فخرجا من حكم عمل المصادر وكسروها رؤى بمنزلة ظلم، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك يجتبيك‏}‏ الآية، ف ‏{‏يجتبيك‏}‏ معناه‏:‏ يختارك ويصطفيك، ومنه‏:‏ جبيت الماء في الحوض، ومنه‏:‏ جباية المال، وقوله‏:‏ ‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ هي عبارة الرؤيا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي عواقب الأمور‏.‏ وقيل‏:‏ هي عامة لذلك وغيره من المغيبات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويتم نعمته‏}‏ يريد النبوءة وما انضاف إليها من سائر النعم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آل يعقوب‏}‏ يريد في هذا الموضع الأولاد والقرابة التي هي من نسله، أي يجعل فيهم النبوءة، ويروى أن ذلك إنما علمه يعقوب من دعوة إسحاق له حين تشبه له بعيصو- والقصة كاملة في كتاب النقاش لكني اختصرتها لأنه لم ينبل ألفاظها وما أظنه انتزعها إلا من كتب بني إسرائيل، فإنها قصة مشهورة عندهم، وباقي هذه الآية بيّن‏.‏ و«النعمة» على يوسف كانت تخليصه من السجن وعصمته والملك الذي نال؛ وعلى ‏{‏إبراهيم‏}‏ هي اتخاذه خليلاً؛ وعلى ‏{‏إسحاق‏}‏ فديته بالذبح العظيم، مضافاً ذلك كله إلى النبوءة‏.‏ و‏{‏عليم حكيم‏}‏ مناسبتان لهذا الوعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور «آيات» بالجمع، وقرأ ابن كثير- وحده- «آية» بالإفراد، وهي قراءة مجاهد وشبل وأهل مكة؛ فالأولى‏:‏ على معنى أن كل حال من أحواله آية فجمعها‏.‏ والثانية‏:‏ على أنه بجملته آية، وإن تفصل بالمعنى، ووزن «آية» فعلة أو فعلة أو فاعلة على الخلاف فيه، وذكر الزجّاج‏:‏ أن في غير مصحف عثمان‏:‏ «عبرة للسائلين»؛ قال أبو حاتم‏:‏ هو في مصحف أبيّ بن كعب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للسائلين‏}‏ يقتضي حضاً ما على تعلم هذه الأنباء، لأنه إنما المراد آية للناس، فوصفهم بالسؤال إذ كل واحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ‏.‏ ويصح أيضاً أن يصف الناس بالسؤال من حيث كان سبب نزول السورة سؤال سائل كما روي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأخوة‏}‏ يريدون به‏:‏ يامين- وهو أصغر من يوسف- ويقال له‏:‏ بنيامين، وقيل‏:‏ كان شقيق يوسف وكانت أمهما ماتت، ويدل على أنهما شقيقان تخصيص الأخوة لهما ب ‏{‏أخوة‏}‏ وهي دلالة غير قاطعة وكان حب يعقوب ليوسف عليه السلام ويامين لصغرهما وموت أمهما، وهذا من حب الصغير هي فطرة البشر؛ وقد قيل لابنة الحسن‏:‏ أي بنيك أحب إليك‏؟‏ قالت‏:‏ الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يفيق‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ونحن عصبة‏}‏ أي نحن جماعة تضر وتنفع، وتحمي وتخذل، أي لنا كانت تنبغي المحبة والمراعاة‏.‏ و«العصبة» في اللغة‏:‏ الجماعة، قيل‏:‏ من عشرة إلى خمسة عشر، وقيل‏:‏ من عشرة إلى أربعين، وقال الزجاج‏:‏ العشرة ونحوهم، وفي الزهراوي‏:‏ الثلاثة‏:‏ نفر- فإذا زادوا فهم‏:‏ رهط إلى التسعة، فإذا زادوا فهم‏:‏ عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة‏:‏ عصبة‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لفي ضلال مبين‏}‏ أي لفي اختلاف وخطأ في محبة يوسف وأخيه، وهذا هو معنى الضلال، وإنما يصغر قدره أو يعظم بحسب الشيء الذي فيه يقع الائتلاف‏.‏ و‏{‏مبين‏}‏ معناه‏:‏ يظهر للمتأمل‏.‏

وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة «مبين اقتلوا» بكسر التنوين في الوصل لالتقاء ساكن التنوين والقاف، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي «مبين اقتلوا» بكسر النون وضم إتباعاً لضمة التاء ومراعاة لها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اقتلوا يوسف‏}‏ الآية، كانت هذه مقالة بعضهم‏.‏ ‏{‏أو اطرحوه‏}‏ معناه‏:‏ أبعدوه، ومنه قول عروة بن الورد‏:‏

ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً *** يغرر ويطرح نفسه كل مطرح

والنوى‏:‏ الطروح البعيدة، و‏{‏أرضاً‏}‏ مفعول ثان بإسقاط حرف الجر، لأن طرح- لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو نصب على الظرف- وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يخل لكم وجه أبيكم‏}‏ استعارة، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه‏:‏ الثكل أرأمها، أي عطفها عليه، والضمير في ‏{‏بعده‏}‏ عائد على يوسف أو قتله أو طرحه، و‏{‏صالحين‏}‏ قال السدي ومقاتل بن سليمان‏:‏ إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء، وقال الجمهور‏:‏ ‏{‏صالحين‏}‏ معناه بالتوبة، وهذا هو الأظهر من اللفظ، وحالهم أيضاً تعطيه، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة؛ والقائل منهم قيل‏:‏ هو روبيل- أسنهم- قاله قتادة وابن إسحاق، وقيل‏:‏ يهوذا أحلمهم، وقيل شمعون أشجعهم، قاله مجاهد، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة لما أراد الله من إنفاذ قضائه‏.‏ و«الغيابة» ما غاب عنك من الأماكن أو غيب عنك شيئاً آخر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «غيابة الجب»، وقرأ نافع وحده «غيابات الجب»، وقرأ الأعرج «غيّابات الجب» بشد الياء، قال أبو الفتح‏:‏ هو اسم جاء على فعالة، كان أبو علي يلحقه بما ذكر سيبويه من الفياد ونحوه، ووجدت أنا من ذلك‏:‏ التيار للموج والفجار للخزف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي شبه غيابة بهذه الأمثلة نظر لأن غيابة جارية على فعل‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ «في غيبة الجب» على وزن فعلة، وكذلك خطت في مصحف أبي بن كعب، ومن هذه اللفظة قول الشاعر- وهو المنخل-

فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي *** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

و ‏{‏الجب‏}‏ البئر التي لم تطو لأنها جبت من الأرض فقط‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «يلتقطه بعض» بالياء من تحت على لفظ بعض، وقرأ الحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبو رجاء «تلتقطه» بالتاء، وهذا من حيث أضيف ‏{‏البعض‏}‏ إلى ‏{‏السيارة‏}‏ فاستفاد منها تأنيث العلاقة، ومن هذا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

أرى مرّ السنين أخذنْ منّي *** كما أخذ السرار من الهلال

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذا مات منهم سيد قام سيد *** فذلت له أهل القرى والكنائس

وقول كعب‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ذلت لوقعتها جميع نزار ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

حين أراد بنزار القبيلة، وأمثلة هذا كثير‏.‏

وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه السلام‏:‏ و‏{‏السيارة‏}‏ جمع سيار‏.‏ وهو بناء للمبالغة، وقيل في هذا ‏{‏الجب‏}‏‏:‏ أنه بئر بيت المقدس‏.‏ وقيل‏:‏ غيره‏:‏ وقيل‏:‏ لم يكن حيث طرحوه ماء ولكن أخرجه الله فيه حتى قصده الناس للاستقاء‏:‏ وقيل‏:‏ بل كان فيه ماء كثير يغرق يوسف فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت عليه يوسف، وروي أنهم رموه بحبل فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه حينئذ، وهموا برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

الآية الأولى تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم الخبيثة في جهة يوسف‏.‏ وهذه أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك‏.‏

وقرأ الزهري وأبو جعفر «لا تأمنا» بالإدغام دون إشمام‏.‏ ورواها الحلواني عن قالون، وقرأ السبعة بالإشمام للضم، وقرأ طلحة بن مصرف «لا تأمننا» وقرأ ابن وثاب والأعمش «لا تيمنا» بكسر تاء العلامة‏.‏

و ‏{‏غداً‏}‏ ظرف أصله‏:‏ غدو، فلزم اليوم كله، وبقي الغدو اسمين لأول النهار، وقال النضر ابن شميل‏:‏ ما بين الفجر إلى الإسفار يقال فيه غدوة‏.‏ وبكرة‏.‏

وقرأ أبو عمرو وأبو عامر‏:‏ «نرتعْ ونلعبْ» بالنون فيهما وإسكان العين والباء، و«نرتعْ»- على هذا- من الرتوع وهي الإقامة في الخصب والمرعى في أكل وشرب، ومنه قول الغضبان بن القبعثري‏:‏ القيد والرتعة وقلة التعتعة‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وبعد عطائك المائة الرتاعا *** و«لعبهم» هذا دخل في اللعب المباح كاللعب بالخيل والرمي ونحوه، فلا وصم عليهم في ذلك، وليس باللعب الذي هو ضد الحق وقرين اللهو، وقيل لأبي عمرو بن العلاء‏:‏ كيف يقولون‏:‏ نلعب وهم أنبياء‏؟‏ قال‏:‏ لم يكونوا حينئذ أنبياء‏.‏

وقرأ ابن كثير‏:‏ «نرتعِ ونلعبْ» بالنون فيهما، وبكسر وجزم الباء، وقد روي عنه «ويلعب» بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد‏.‏ و«نرتعِ»- على هذا- من رعاية الإبل‏:‏ وقال مجاهد هي من المراعاة‏:‏ أي يراعي بعضنا بعضاً ويحرسه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «يرتع ويلعب» بإسناد ذلك كله إلى يوسف، وقرأ نافع «يرتعِ» بالياء فيهما وكسر العين وجزم الباء، ف «يرتعِ»- على هذا- من رعي الإبل؛ قال ابن زيد‏:‏ المعنى‏:‏ يتدرب في الرعي وحفظ المال؛ ومن الارتعاء قول الأعشى‏:‏

ترتعي السفح فالكثيب فذاقا *** ن فروض القطا فذات الرئال

قال أبو علي‏:‏ وقراءة ابن كثير- «نرتع» بالنون و«يلعب» بالياء- فنزعها حسن، لإسناد النظر في المال والرعاية إليهم، واللعب إلى يوسف لصباه‏.‏

وقرأ العلاء بن سيابة، «يرتع ويلعبُ» برفع الباء على القطع‏.‏ وقرأ مجاهد وقتادة‏:‏ «نُرتِع» بضم النون وكسر التاء و«نلعبْ» بالنون والجزم‏.‏ وقرأ ابن كثير- في بعض الروايات عنه- «نرتعي» بإثبات الياء- وهي ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد

وقرأ أبو رجاء «يُرتعْ» بضم الياء وجزم العين و«يلعبْ» بالياء والجزم‏.‏

وعللوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنشاط‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ليحزنني‏}‏ الآية‏.‏

قرأ عاصم وابن كثير والحسن والأعرج وعيسى وأبو عمرو وابن محيصن «ليَحزُنني» بفتح الياء وضم الزاي، قال أبو حاتم‏:‏ وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والإدغام، ورواية روش عن نافع‏:‏ بيان النونين مع ضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، وأن الأولى فاعلة والثانية مفعولة ب ‏{‏أخاف‏}‏‏.‏ وقرأ الكسائي وحده‏:‏ «الذيب» دون همز وقرأ الباقون بالهمز- وهو الأصل منه جمعهم إياه على ذؤبان، ومنه تذاءبت الريح والذئاب إذا أتت من ها هنا وها هنا‏.‏ وروى رش عن نافع‏:‏ «الذيب» بغير همز، وقال نصر‏:‏ سمعت أبا عمرو لا يهمز، قال‏:‏ وأهل الحجاز يهمزون‏.‏

وإنما خاف يعقوب الذئب دون سواه، وخصصه لأنه كان الحيوان العادي المنبت في القطر، وروي أن يعقوب كان رأى في منامه ذئباً يشتد على يوسف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا عندي ضعيف لأن يعقوب لو رأى ذلك لكان وحياً، فإما أن يخرج على وجهه وذلك لم يكن، وإما أن يعرف يعقوب بمعرفته لعبارة مثال هذا المرئي، فكان يتشكاه بعينه، اللهم إلا أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏أخاف أن يأكله الذئب‏}‏ بمعنى أخاف أن يصيبه مثل ما رأيت من أمر الذئب- وهذا بعيد- وكذلك يقول الربيع بن ضبع‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

والذئب أخشاه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** إنما خصصه لأنه كان حيوان قطره العادي، ويحتمل أن يخصصه يعقوب عليه السلام لصغر يوسف‏:‏ أي أخاف عليه هذا الحقير فما فوقه، وكذلك خصصه الربيع لحقارته وضعفه في الحيوان، وباقي الآية بيّن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذهبوا به‏}‏ الآية، أسند الطبري إلى السدي قال‏:‏ ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه به فجعل لا يرى منهم رحيماً، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول‏:‏ يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء، فقال لهم يهوذا‏:‏ ألم تعطوني موثقاً أن لا تقتلوه‏؟‏ فانطلقوا به إلى الجب، فجعلوا يدلونه فيتعلق بالشفير فربطوا يديه ونزعوا قميصه‏.‏ فقال‏:‏ يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب، فقالوا‏:‏ ادعُ الشمس والقمر والكواكب تؤنسك؛ فدلوه حتى إذا بلغ نصف الجب ألقوه إرادة أن يموت، فكان في الجب ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة يبكي، فنادوه، فظن أنهم رحموه، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فمنعهم يهوذا، وكان يأتيه بالطعام‏.‏

وجواب ‏{‏لما‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ ‏{‏فلما ذهبوا به وأجمعوا‏}‏ أجمعوا، هذا مذهب الخليل وسيبويه وهو نص لهما في قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلما أجزنا ساحية الحي وانتحى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** ومثل هذا قول الله تعالى‏:‏

‏{‏فلما أسلما وتله للجبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏- وقال بعض النحاة- في مثل هذا-‏:‏ إن الواو زائدة- وقوله مردود لأنه ليس في القرآن شيء زائد لغير معنى‏.‏

و ‏{‏أجمعوا‏}‏ معناه‏:‏ عزموا واتفق رأيهم عليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم- في المسافر- «ما لم يجمع مكثاً»، على أن إجماع الواحد قد ينفرد بمعنى العزم والشروع، ويتصور ذلك في إجماع إخوة يوسف وفي سائر الجماعات- وقد يجيء إجماع الجماعة فيما لا عزم فيه ولا شروع ولا يتصور ذلك في إجماع الواحد‏.‏

والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ عائد إلى يوسف‏.‏ وقيل على يعقوب، والأول أصح وأكثر، ويحتمل أن يكون الوحي حينئذ إلى يوسف برسول، ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم- وكل ذلك قد قيل- وقال الحسن‏:‏ أعطاه الله النبوءة وهو في الجب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بعيد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «لتنبئنهم» بالتاء، وفي بعض مصاحف البصرة بالياء، وقرأ سلام بالنون، وهذا كله في العلامة التي تلي اللام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ وقت التنبيه إنك يوسف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لا يشعرون بوحينا إليه‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيكون قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏- على التأويل الأول- مما أوحي إليه- وعلى القول الثاني- خبر لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قرأت فرقة «عشاء» أي وقت العشاء، وقرأ الحسن‏:‏ «عشى» على مثال دجى، أي جمع عاش، قال أبو الفتح‏:‏ «عشاة» كماش ومشاة، ولكن حذفت الهاء تخفيفاً كما حذفت من مألكة، وقال عدي‏:‏

أبلغ النعمان عني مألكاً *** أنه قد طالب حبسي وانتظاري

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى، ومثل شريح في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية، وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال‏:‏ ما بالكم أجرى في الغنم شيء‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال فأين يوسف‏؟‏ قالوا‏:‏ ‏{‏ذهبنا نستبق‏}‏؛ فبكى وصاح وقال‏:‏ أين قميصه‏؟‏- وسيأتي قصص ذلك‏.‏

و ‏{‏نستبق‏}‏ معناه‏:‏ على الأقدام أي نجري غلاباً، وقيل‏:‏ بالرمي أي ننتضل‏.‏ وهو نوع من المسابقة، قاله الزجاج‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وما أنت بمؤمن‏}‏ أي بمصدق؛ ومعنى الكلام‏:‏ أي لو كنا موصوفين بالصدق؛ وقيل المعنى‏:‏ ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديماً لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول ذكره الزجاج وغيره، ويحتمل أن يكون قولهم‏:‏ ‏{‏ولو كنا صادقين‏}‏، بمعنى‏:‏ وإن كنا صادقين- وقاله المبرد- كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة فهو تمادٍ منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏أو لو كنا كارهين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 88‏]‏ بمعنى أو إن كنا كارهين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا المثال عندي نظر، وتخبط الرماني في هذا الموضع، وقال‏:‏ ألزموا أباهم عناداً ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا‏:‏ وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك، بل قالوا‏:‏ وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا‏.‏ ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم، فإنما هو بشر، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب‏.‏ وكذلك قد صدق عليه السلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيداً، حتى نزل الوحي، فظهر الحق، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاءو على قميصه بدم كذب‏}‏ الآية، روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب‏:‏ هذا قميصه، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا أثر ناب‏.‏

فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم‏:‏ متى كان الذئب حليماً، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه‏؟‏- قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص- واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها- في قول مالك- إلى غير ذلك‏.‏

قال الشافعي‏:‏ كان في القميص ثلاث آيات‏:‏ دلالته على كذبهم وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به‏.‏ وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئباً فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب، هذا أكل يوسف، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم‏.‏

ووصف الدم ب ‏{‏كذب‏}‏ إما على معنى بدم ذي كذب، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر‏:‏

‏[‏الكامل‏]‏

حتى إذا لم يتركوا لعظامه *** لحماً ولا لفؤادِهِ معقولا

فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا كلام الطبري، ولا شاهد له فيه عندي، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل، ولا يحتاج إلى بدل، وإنما «الدم الكذب» عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ «بدم كذب» بدال غير معجمة، ومعناه الطري ونحوه، وليست هذه القراءة قوية‏.‏

ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم‏:‏ ‏{‏بل سولت لكم أنفسكم أمراً‏}‏ أي رضيت وجعلت سولاً ومراداً‏.‏ ‏{‏أمراً‏}‏ أي صنعاً قبيحاً بيوسف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فصبر جميل‏}‏ رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر‏:‏ إما على تقدير‏:‏ فشأني صبر جميل، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل‏.‏ وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب‏:‏ «فصبراً جميلاً» على إضمار فعل، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك- وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر ‏[‏الرجز‏]‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ صبرا جميلاً فكلانا مبتلى *** وينشد أيضاً بالرفع ويروى «صبر جميل»، على نداء الجمل المذكور في قوله‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

شكى إليّ جملي طول السرى *** يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى *** وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه‏.‏

وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بث لم يصبر صبراً جميلاً»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله المستعان على ما تصفون‏}‏ تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه، والتقدير على احتمال ما تصفون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قيل إن «السيارة» جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب، ‏{‏سيارة‏}‏‏:‏ جمع سيار، كما قالوا بغال وبغالة، وهذا بعكس تمرة وتمر، و‏{‏سيارة‏}‏‏:‏ بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق‏.‏ وروي أن هذه «السيارة» كانوا قوماً من أهل مدين، وقيل‏:‏ قوم أعراب‏.‏ و«الوارد» هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، ويقال‏:‏ «أدلى الدلو»‏:‏ إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء‏.‏ ودلاه يدلوه‏:‏ إذا استقاه من البئر‏.‏ وفي الكلام هنا حذف تقديره‏:‏ فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال‏:‏ يا بشرأي، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين، ويرجح هذا لفظة ‏{‏غلام‏}‏، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز؛ وقيل‏:‏ كان ابن سبع عشرة سنة- وهذا بعيد-‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يا بشرأيَ» بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول‏:‏ احضري، فهذا وقتك، وهذا نحو قوله‏:‏ ‏{‏يا حسرة على العباد‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 30‏]‏ وروى ورش عن نافع «يا بشرأيْ» بسكون الياء، قال أبو علي‏:‏ وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها، كما اختصت في القوافي بالتأسيس، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة وليس شيء من ذلك في الياء والواو‏.‏

وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن «يا بشريَّ» تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة، وهي لغة فاشية، ومن ذلك قول أبي ذؤيب‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهمُ *** فتخرموا ولكل جنب مصرع

وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك‏:‏

يطوّف بيَّ كعب في معد *** ويطعن بالصملة في قفيا

فإن لم تثأروا لي في معد *** فما أرويتما أبداً صديا

وقرأ حمزة والكسائي «يا بشرِي» ويميلان ولا يضيفان‏.‏ وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي‏:‏ كان في أصحاب هذا «الوارد» رجل اسمه بشرى، فناداه وأعلمه بالغلام، وقيل‏:‏ هو على نداء البشرى- كما قدمنا- والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وأسروه‏}‏ ظاهر الآيات أنه ل «وارد» الماء،- قاله مجاهد، وقال‏:‏ إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا‏:‏ وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خياراً، فأسروا بينهم أن يقولوا‏:‏ أبضعه معنا بعض أهل المصر‏.‏

و ‏{‏بضاعة‏}‏ حال، و«البضاعة»‏:‏ القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح، مأخوذة من قولهم‏:‏ بضعت أي قطعت‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجراً، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئاً، ثم يكون الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وشروه‏}‏ لهم أيضاً، أي باعوه بثمن قليل، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره، بل كانوا زاهدين فيه، وروي- على هذا- أنهم باعوه من تاجر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الضمير في ‏{‏أسروه‏}‏ لأصحاب «الدلو»، وفي ‏{‏شروه‏}‏ لإخوة يوسف الأحد عشر، وقال ابن عباس‏:‏ بل الضمير في ‏{‏أسروه‏}‏ و‏{‏شروه‏}‏ لإخوة يوسف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا‏:‏ هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم، فقارهم يوسف على هذه المقالة خوفاً منهم، ولينفذ الله أمره؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها، واتخذوه ‏{‏بضاعة‏}‏ أي متجراً لهم ومكسباً ‏{‏وشروه‏}‏ أيضاً ‏{‏بثمن بخس‏}‏، أي باعوه‏.‏

وقوله ‏{‏والله عليم بما يعملون‏}‏ إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف، وسوق الأقدار بناء حاله، فهو- حينئذ- بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يدبر ابن آدم والقضاء يضحك»‏.‏

وفي الآية- أيضاً- تسلية للنبي عليه السلام عما يجري عليه من جهة قريش، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة‏.‏

و ‏{‏شروه‏}‏- هنا- بمعنى باعوه، وقد يقال‏:‏ شرى، بمعنى اشترى، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

وشريتُ برداً ليتني *** من بعد بردٍ كنتُ هامَهْ

برد‏:‏ اسم غلام له ندم على بيعه، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين؛ و‏{‏البخس‏}‏ مصدر وصف به «الثمن» وهو بمعنى النقص- وهذا أشهر معانيه- فكأنه القليل الناقص0 وهو قول الشعبي- وقال قتادة‏:‏ «البخس» هنا بمعنى الظلم، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه، وقال الضحاك‏:‏ وهو بمعنى الحرام، وهذا أيضاً بمعنى لا يحل بيعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏دراهم معدودة‏}‏ عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية، وهي أربعون درهماً، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه السلام‏:‏ فقيل باعوه بعشرة دراهم، وقال ابن مسعود‏:‏ بعشرين، وقال مجاهد‏:‏ باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين وقال عكرمة‏:‏ بأربعين درهماً دفعت ناقصة خفافاً، فهذا كان بخسها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏ وصف يترتب في «ورّاد» الماء، أي كانوا لا يعرفون قدره، فهم لذلك قليل اغتباطهم به، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز‏.‏

وقوله ‏{‏فيه‏}‏ ليست بصلة ل ‏{‏الزاهدين‏}‏- قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وشروه‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

روي أن مبتاع يوسف- وهو الوارد من إخوته أو التاجر من الوراد، حسبما تقدم من الخلاف- ورد به مصر، البلد المعروف، ولذلك لا ينصرف، فعرضه في السوق، وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمناً عظيماً- فقيل‏:‏ وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير فاشتراه العزيز، وكان حاجب الملك وخازنه، واسم الملك الريان بن الوليد، وقيل مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، وقيل‏:‏ هو فرعون موسى، عمر إلى زمانه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وذلك أن ظهور يوسف عليه السلام لم يكن في مدة كافر يخدمه يوسف؛ واسم العزيز المذكور‏:‏ قطفير، قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ أطفير، وقيل‏:‏ قنطور؛ واسم امرأته‏:‏ راعيل، قاله ابن إسحاق، وقيل ربيحة، وقيل‏:‏ زليخا، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته- حسبما نذكره في البرهان الذي رأى يوسف- وقال مجاهد‏:‏ كان العزيز مسلماً‏.‏

و «المثوى» مكان الإقامة، و«الإكرام» إنما هو لذي المثوى، ففي الكلام استعارة وقوله‏:‏ ‏{‏عسى أن ينفعنا‏}‏، أي بأن يعيننا في أبواب دنيانا وغير ذلك من وجوه النفع، وقوله‏:‏ ‏{‏أو نتخذه ولداً‏}‏ أي نتبناه، وكان فيما يقال لا ولد له‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏، أي كما وصفنا ‏{‏مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه‏}‏ فعلنا ذلك‏.‏ و‏{‏الأحاديث‏}‏‏:‏ الرؤيا في النوم- قاله مجاهد- وقيل‏:‏ أحاديث الأمم والأنبياء‏.‏

والضمير في ‏{‏أمره‏}‏ يحتمل أن يعود على يوسف، قال الطبري، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، قاله ابن جبير، فيكون إخباراً منبهاً على قدرة الله عز وجل ليس في شأن يوسف خاصة بل عاماً في كل أمر‏.‏ وكذلك الاحتمال في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

رأيت أبا بكر- وربك- غالب *** على أمره يبغي الخلافة بالتمر

وأكثر الناس الذين نفي عنهم العلم هم الكفرة، وفيهم الذين زهدوا في يوسف وغيرهم ممن جهل أمره، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ أصح الناس فراسة ثلاثة‏:‏ العزيز حين قال لامرأته‏:‏ ‏{‏أكرمي مثواه‏}‏، وابنة شعيب حين قالت‏:‏ «استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين» وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفراسة العزيز إنما كانت في نفس نجابة يوسف لا أنه تفرس الذي كان كما في المثالين الآخرين، فإن ما تفرس خرج بعينه‏.‏

و «الأشد»‏:‏ استكمال القوة وتناهي البأس، أولهما البلوغ وقد عبر عنه مالك وربيعة ببنية الإنسان، وهما أشدان‏:‏ وذكره منذر بن سعيد، والثاني‏:‏ الذي يستعمله العرب وقيل‏:‏ هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول ضعيف‏.‏ وقيل‏:‏ «الأشد»‏:‏ بلوغ الأربعين، وقيل‏:‏ بل ستة وثلاثون‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثة وثلاثون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو أظهر الأقوال-فيما نحسبه- وهو الأسبوع الخامس، وقيل‏:‏ عشرون سنة، وهذا ضعيف‏.‏ وقال الطبري‏:‏ «الأشد» لا واحد له من لفظه، وقال سيبويه‏:‏ «الأشد» جمع شدة نحو نعمة وأنعم، وقال الكسائي‏:‏ «أشد» جمع شد نحو قد وأقد، وشد النهار‏:‏ معظمه وحيث تستكمل نهاريته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حكماً‏}‏ يحتمل أن يريد الحكمة والنبوءة، وهذا على الأشد الأعلى، ويحتمل الحكمة والعلم دون النبوءة، وهذا أشبه إن كانت قصة المراودة بعد هذا‏.‏ و‏{‏علماً‏}‏ يريد تأويل الأحاديث وغير ذلك‏.‏ ويحتمل أن يريد بقوله‏:‏ ‏{‏حكماً‏}‏ أي سلطاناً في الدنيا وحكماً بين الناس بالحق‏.‏ وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وعلماً‏}‏‏.‏

‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ ألفاظ فيها وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يهولنك فعل الكفرة بك وعتوهم عليك فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

«المراودة» الملاطفة في السوق إلى غرض، وأكثر استعمال هذه اللفظة إنما هو في هذا المعنى الذي هو بين الرجال والنساء؛ ويشبه أن يكون من راد يرود إذا تقدم لاختبار الأرض والمراعي، فكان المراود يختبر أبداً بأقواله وتلطفه حال المراود من الإجابة أو الامتناع‏.‏

وفي مصحف وكذلك رويت عن الحسن‏:‏ و‏{‏التي هو في بيتها‏}‏ هي زليخا امرأة العزيز‏.‏ وقوله ‏{‏عن نفسه‏}‏ كناية عن غرض المواقعة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وغلقت‏}‏ تضعيف مبالغة لا تعدية، وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبأ عليه السلام‏.‏

وقرأ ابن كثير وأهل مكة‏:‏ «هَيْتُ» بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وابن محيصن وأبو الأسود وعيسى بفتح الهاء وكسر التاء «هَيتِ»، وقرأ ابن مسعود والحسن والبصريون «هَيْتَ» بفتح الهاء والتاء وسكون الياء، ورويت عن ابن عباس وقتادة وأبي عمرو، قال أبو حاتم‏:‏ لا يعرف أهل البصرة غيرها وهم أقل الناس غلواً في القراءة، قال الطبري‏:‏ وقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافع وابن عامر «هِيْتَ» بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء- وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر- وهذه الأربع بمعنى واحد، واختلف باختلاف اللغات فيها، ومعناه الدعاء أي تعال وأقبل على هذا الأمر، قال الحسن‏:‏ معناها هلمَّ، ويحسن أن تتصل بها ‏{‏لك‏}‏ إذ حلت محل قولها‏:‏ إقبالاً أو قرباً، فجرت مجرى سقياً لك ورعياً لك، ومن هذا قول الشاعر يخاطب علي بن أبي طالب‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

أبلغ أمير المؤمنين *** أخا العراق إذا أتينا

أن العراق وأهله *** عنق إليك فهيت هيتا

ومن ذلك على اللغة الأخرى قول طرفة‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

ليس قومي بالأبعدين إذا ما *** قال داع من العشيرة هيت

ومن ذلك أيضاً قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

قد رابني أن الكرى قد أسكتا *** ولو غدا يعني بنا لهيتا

أسكت‏:‏ دخل في سكوت، و«هيت» معناه‏:‏ قال‏:‏ هيت، كما قالوا‏:‏ أقف إذا قال‏:‏ أف أف، ومنه سبح وكبر ودعدع إذ قال‏:‏ داع داع‏.‏

والتاء على هذه اللغات كلها مبنية فهي في حال الرفع كقبل وبعد، وفي الكسر على الباب لالتقاء الساكنين، وفي حال النصب ككيف ونحوها؛ قال أبو عبيدة‏:‏ و‏{‏هيت‏}‏ لا تثنى ولا تجمع، تقول العرب‏:‏ ‏{‏هيت لك‏}‏، وهيت لكما، وهيت لكم‏.‏

وقرأ هشام ابن عامر «هِئتُ»، بكسر الهاء والهمز، ضم التاء وهي قراءة علي بن أبي طالب، وأبي وائل، وأبي رجاء ويحيى، ورويت عن أبي عمرو، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء إذا أحسن هيئته- على مثال جاء يجيء- ويحتمل أن يكون بمعنى تهيأت، كما يقال‏:‏ فئت وتفيأت بمعنى واحد، قال الله عز وجل‏:‏

‏{‏يتفيؤا ظلاله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 48‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحاق- أيضاً- «هِيْت» بتسهيل الهمزة من هذه القراءة المتقدمة‏.‏ وقرأ ابن عباس- أيضاً- «هيت لك»‏.‏ وقرأ الحلواني عن هشام «هِئتِ» بكسر الهاء والهمز وفتح التاء قال أبو علي‏:‏ ظاهر أن هذه القراءة وهم، لأنه كان ينبغي أن تقول‏:‏ هئتَ لي، وسياق الآيات يخالف هذا‏.‏ وحكى النحاس‏:‏ أنه يقرأ «هِيْتِ» بكسر الهاء وسكون الياء وكسر التاء‏.‏ و‏{‏معاذَ‏}‏ نصب على المصدر ومعنى الكلام أعوذ بالله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إنه ربي‏}‏ فيحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏إنه‏}‏ على الله عز وجل، ويحتمل أن يريد العزيز سيده، أي فلا يصلح لي أن أخونه وقد أكرم مثواي وائتمنني، قال مجاهد، والسدي ‏{‏ربي‏}‏ معناه سيدي، وقاله ابن إسحاق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإذا حفظ الآدمي لإحسانه فهو عمل زاك، وأحرى أن يحفظ ربه‏.‏

ويحتمل أن يكون الضمير للأمر والشأن، ثم يبتدئ ‏{‏ربي أحسن مثواي‏}‏‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يفلح‏}‏ مراد به الأمر والشأن فقط، وحكى بعض المفسرين‏:‏ أن يوسف عليه الصلاة والسلام- لما قال‏:‏ معاذ الله ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة، امتحنه الله تعالى بالهم بما هم به، ولو قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ودافع بعنف وتغيير- لم يهم بشيء من المكروه‏.‏

وقرأ الجحدري «مثواي» وقرأها كذلك أبو طفيل وروي عن النبي عليه السلام‏:‏ «فمن تبع هداي»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد همت به‏}‏ الآية، لا شك أن «هم» زليخا كان في أن يواقعها يوسف، واختلف في «هم» يوسف عليه السلام، فقال الطبري‏:‏ قالت فرقة‏:‏ كان مثل «همها»، واختلفوا كيف يقع من مثل يوسف وهو نبي‏؟‏ فقيل ذلك ليريه الله تعالى موقع العفو والكفاية، وقيل الحكمة في ذلك أن يكون مثالاً للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع بهم إلى عفو الله كما رجعت بمن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخا وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو هذا، وهي قد استلقت له؛ قاله ابن عباس وجماعة من السلف‏.‏

وقالت فرقة في «همه» إنما كان بخطرات القلب التي لا يقدر البشر عن التحفظ منها، ونزع عند ذلك ولم يتجاوزه، فلا يبعد هذا على مثله عليه السلام، وفي الحديث‏:‏

«إن من هم بسيئة ولم يعملها فله عشر حسنات» وفي حديث آخر «حسنة»، فقد يدخل يوسف في هذا الصنف‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ كان «هم» يوسف بضربها ونحو ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف البتة، والذي أقول في هذه الآية‏:‏ إن كون يوسف نبياً في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به رواية، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكماً وعلماً ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبياً في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك، لأن العصمة مع النبوة، وما روي من أنه قيل له‏:‏ تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء، فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد، والهم بالشيء مرتبتان‏:‏ فالواحدة الأولى تجوز عليه مع النبوة، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها مالم تنطق به أو تعمل» معناه من الخواطر، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحاً، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر، ومما يؤيد أن استصحاب الخاطر معصية قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه»‏.‏

وقوله الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ وهذا منتزع من غير موضع من الشرع، والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز‏.‏

واختلف في «البرهان» الذي رأى يوسف، وقيل‏:‏ نودي‏.‏ واختلف فيما نودي به، فقيل ناداه جبريل‏:‏ يا يوسف، تكون في ديوان الأنبياء‏.‏ وتفعل فعل السفهاء‏؟‏ وقيل‏:‏ نودي‏:‏ يا يوسف، لا تواقع المعصية فتكون كالطائر الذي عصى فتساقط ريشه فبقي ملقى- ناداه بذلك يعقوب-، وقيل غير هذا مما في معناه، وقيل‏:‏ كان «البرهان» كتاباً رآه مكتوباً، فقيل‏:‏ في جدار المجلس الذي كان فيه، وقيل‏:‏ بين عيني زليخا، وقيل‏:‏ في كف من الأرض خرجت دون جسد؛ واختلف في المكتوب، فقيل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏، وقيل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏ وقيل غير هذا‏.‏ وقيل‏:‏ كان البرهان أن رأى يعقوب عليه السلام ممثلاً معه في البيت عاضاً على إبهامه وقيل‏:‏ على شفته‏.‏ وقيل بل انفرج السقف فرآه كذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن جبريل قال له‏:‏ لئن واقعت المعصية لأمحونك من ديوان النبوة، وقيل‏:‏ إن جبريل ركضه فخرجت شهوته على أنامله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وقيل‏:‏ بل كان «البرهان» فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية، وقيل‏:‏ بل كان البرهان الذي اتعظ به أن زليخا قالت له‏:‏ مكانك حتى أستر هذا الصنم- لصنم كان معها في البيت- فإني أستحيي منه أن يراني على هذه الحال؛ وقامت إليه فسترته بثوب فاتعظ يوسف وقال‏:‏ من يسترني أنا من الله القائم على كل شيء، وإذا كنت أنت تفعلين هذا لما لا يعقل فإن أولى أن أستحيي من الله‏.‏

و «البرهان» في كلام العرب الشيء الذي يعطي القطع واليقين، كان مما يعلم ضرورة أم بخبر قطعي أو بقياس نظري، فهذه التي رويت فيما رآه يوسف براهين‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لولا أن رأى‏}‏ في موضع رفع، التقدير‏:‏ لولا رؤيته برهان ربه، وهذه ‏{‏لولا‏}‏ التي يحذف معها الخبر، تقديره‏:‏ لفعل أو لارتكب المعصية‏.‏ وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد همت به‏}‏ وأن جواب ‏{‏لولا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وهم بها‏}‏ وأن المعنى‏:‏ لولا أن رأى البرهان لهمَّ أي فلم يهم عليه السلام، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف‏.‏ قال الزجّاج‏:‏ ولو كان الكلام‏:‏ ولهمَّ بها لولا، لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام‏!‏‏.‏

والكاف من قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ متعلقة بمضمر تقديره‏:‏ جرت أفعالنا وأقدارنا ‏{‏كذلك لنصرف‏}‏، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير‏:‏ عصمتنا له كذلك لنصرف‏.‏

وقرأ الجمهور «لنصرف» بالنون، وقرأ الأعمش «ليصرف» بالياء- على الحكاية عن الغائب-، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء «المخلِصين» بكسر اللام في كل القرآن، وكذلك ‏{‏مخلصاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 51‏]‏ في سورة مريم‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏مخلصاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2-11-14، مريم‏:‏ 51‏]‏ كذلك بكسر اللام، وقرأ سائر القرآن «المخلَصين» بفتح اللام، وقرأ حمزة والكسائي وجمهور من القراء «المخلَصين» بفتح اللام و«مخلصاً» كذلك في كل القرآن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستبقا الباب‏}‏ الآية، ‏{‏واستبقا‏}‏ معناه سابق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب، هي لترده إلى نفسها وهو ليهرب عنها؛ فقبضت في أعلى قميصه من خلفه، فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص‏.‏ و«لقد»‏:‏ القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولاً، «والقط» يستعمل فيما كان عرضاً، وكذلك هي اللفظة في قول النابغة‏:‏

تقد السلوقي *** فإن قوله‏:‏ توقد بالصفاح يقتضي أن القطع بالطول‏.‏ و‏{‏ألفيا‏}‏‏:‏ وجدا، و«السيد» الزوج، قاله زيد بن ثابت ومجاهد‏.‏ فيروى أنهما وجدا العزيز ورجلاً من قرابة زليخا عند الباب الذي استبقا إليه قاله السدي‏.‏ فلما رأت الفضيحة فزعت إلى مطالبة يوسف والبغي عليه، فأرت العزيز أن يوسف أرادها، وقالت‏:‏ ‏{‏ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم‏}‏ وتكلمت في الجزاء، أي أن الذنب ثابت متقرر‏.‏ وهذه الآية تقتضي بعظم موقع السجن من النفوس لا سيما بذوي الأقدار، إذ قرن بأليم العذاب‏.‏