فصل: تفسير الآيات رقم (26- 29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قال نوف الشامي‏:‏ كان يوسف عليه السلام لم يبن على كشف القصة، فلما بغت به غضب فقال الحق، فأخبره أنها هي راودته عن نفسه، فروي أن الشاهد كان الرجل ابن عمها، قال‏:‏ انظر إلى القميص فإن كان قده من دبر فكذبت، أو من قبل فصدقت، قاله السدي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان رجلاً من خاصة الملك، قاله مجاهد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ إن الشاهد كان طفلاً في المهد فتكلم بهذا، قاله أيضاً ابن عباس وأبو هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومما يضعف هذا أن في صحيح البخاري ومسلم‏:‏ لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة‏:‏ عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء الذي تمنت له أن يكون كالفاجر الجبار، فقال‏:‏ لم يتكلم وأسقط صاحب يوسف منها، ومنها أن الصبي لو تكلم لكان الدليل نفس كلامه دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص‏.‏ وأسند الطبري إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تكلم في المهد أربعة»، فذكر الثلاثة وزاد صاحب يوسف، وذكر الطبري عن ابن عباس‏:‏ أن ابن ماشطة فرعون تكلم في المهد، فهم على هذا خمسة، وقال مجاهد- أيضاً- الشاهد القميص‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لأنه لا يوصف بأنه من الأهل‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «من قبُلٍ» و«من دبُرٍ» بضم الباءين وبالتنوين، وقرأ ابن يعمر والجارود بن أبي سبرة ونوح وابن أبي إسحاق «من قُبُلُ» و«من دُبُرُ» بثلاث ضمات من غير تنوين، قال أبو الفتح‏:‏ هما غايتان بنيتا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل ومن بعد‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 4‏]‏ قال أبو حاتم‏:‏ وهذا رديء في العربية جداً، وإنما يقع هذا البناء في الظروف، وقرأ الحسن «من قبْلٍ» و«من دبْرٍ» بإسكان الباءين والتنوين، ورويت عن أبي عمرو وروي عن نوح القاري أنه أسكن الباءين وضم الأواخر ولم ينون ورواها عن ابن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر‏.‏

وسمي المتكلم بهذا الكلام ‏{‏شاهد‏}‏ من حيث دل على الشاهد ونفس الشاهد هو تخريق القميص‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «فلما رأى قميصه عط من دبر»‏.‏ والضمير في ‏{‏رأى‏}‏ هو للعزيز، وهو القائل‏:‏ ‏{‏إنه من كيدكن‏}‏، قاله الطبري وقيل‏:‏ بل «الشاهد» قال ذلك، والضمير في ‏{‏إنه‏}‏ يريد مقالها المتقدم في الشكوى ب «يوسف»‏.‏

ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالأمارة، من العلماء، فإنها معتمدهم، و‏{‏يوسف‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ منادى، قاله ابن عباس، ناداه الشاهد، وهو الرجل الذي كان مع العزيز، و‏{‏أعرض عن هذا‏}‏ معناه‏:‏ عن الكلام به، أي اكتمل ولا تتحدث به؛ ثم رجع إليها فقال‏:‏ ‏{‏واستغفري لذنبك‏}‏ أي استغفري زوجك وسيدك، وقال‏:‏ ‏{‏من الخاطئين‏}‏ ولم يقل‏:‏ من الخاطئات لأن الخاطئين أعم، وهو من‏:‏ خطئ يخطأ خطئاً وخطأ، ومنه قول الشاعر ‏[‏أوس بن غلفاء‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

لعمرك إنما خطئي وصوبي *** عليّ وإنما أتلفت مالي

وينشد بيت أمية بن أبي الصلت‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

عبادك يخطئون وأنت رب *** بكفيك المنايا والحتوم

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ذكر الفعل المسند إلى «النسوة» لتذكير اسم الجمع و‏{‏نسوة‏}‏ جمع قلة لا واحد له من لفظه، وجمع التكثير نساء، و‏{‏نسوة‏}‏ فعلة، وهو أحد الأبنية الأربعة التي هي لأدنى العدد، وقد نظمها القائل ببيت شعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

بأفعل وبأفعال وأفعلة *** وفعلة يعرف الأدنى من العدد

ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعاً‏:‏ امرأة خبازة، وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة‏.‏ و‏{‏العزيز‏}‏‏:‏ الملك ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

درة غاص عليها تاجر *** جلبت عند عزيز يوم طل

و «الفتى» الغلام، وعرفه في المملوك- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتأي وفتاتي»، ولكنه قد يقال في غير المملوك، ومنه ‏{‏إذ قال موسى لفتاه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 60‏]‏ وأصل «الفتى» في اللغة الشاب، ولكن لما كان جل الخدمة شباباً استعير لهم اسم الفتى‏.‏ و‏{‏شغفها‏}‏ معناه‏:‏ بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف، وهو على أكثر القول غلاف من أغشية القلب، وقيل‏:‏ «الشغاف»‏:‏ سويداء القلب، وقيل‏:‏ الشغاف‏:‏ داء يصل إلى القلب‏.‏

وقرأ أبو رجاء والأعرج وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف ويحيى بن يعمر وقتادة بخلاف وثابت وعوف ومجاهد وغيرهم‏:‏ «قد شغفها» بالعين غير منقوطة، ولذلك وجهان‏:‏

أحدهما أنه علا بها كل مرقبة من الحب، وذهب بها كل مذهب، فهو مأخوذ- على هذا- من شعف الجبال وهي رؤوسها وأعاليها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن»‏.‏

والوجه الآخر أن يكون الشعف لذة بحرقة يوجد من الجراحات والجرب ونحوها ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أيقتلني وقد شعفت فؤادها *** كما شَعَفَ المهنوءةَ الرجلُ الطالي

والمشعوف في اللغة الذي أحرق الحب قلبه، ومنه قول الأعشى‏:‏

تعصي الوشاة وكان الحب آونة *** مما يزين للمشعوف ما صنعا

وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء أنهما قرآ‏:‏ «قد شعِفعما» بكسر العين غير منقوطة‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ المعروف فتح العين وهذا قد قرئ به‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ ‏{‏قد شغفها‏}‏ أدغم الدال في الشين‏.‏

وروي أن مقالة هؤلاء النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها أو يحق لومها‏.‏ وقد قال ابن زيد الشغف في الحب والشغف في البغض، وقال الشعبي‏:‏ الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب والشعف الجنون والمشعوف المجنون، وهذان القولان ضعيفان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما سمعت بمكرهن‏}‏ الآية، إنما سمي قولهن مكراً من حيث أظهرن إنكار منكر وقصدن إثارة غيظها عليهن، وقيل‏:‏ ‏{‏مكرهن‏}‏ انهن أفشين ذلك عنها وقد كانت أطلعتهن على ذلك واستكتمتهن أياه، وهذا لا يكون مكراً إلا بأن يظهرن لها خلاف ذلك ويقصدن بالإفشاء أذاها‏.‏

ومعنى ‏{‏أرسلت إليهن‏}‏ أي ليحضرن، و‏{‏أعتدت‏}‏ معناه‏:‏ أعدت ويسرت، و‏{‏متكأ‏}‏ ما يتكأ عليه من فرش ووسائد، وعبر بذلك عن مجلس أعد لكرامة، ومعلوم أن هذا النوع من الكرامات لا يخلو من الطعام والشراب، فلذلك فسر مجاهد وعكرمة «المتكأ» بالطعام؛ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏متكأ‏}‏ معناه مجلساً، ذكره الزهراوي‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يقال‏:‏ اتكأنا عند فلان أي أكلنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وآتت كل واحدة منهن سكيناً‏}‏ يقتضي أنه كان في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين، فقيل كان لحماً، وكانوا لا ينتهسون اللحم وإنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين؛ وقيل‏:‏ كان أترجاً، وقيل‏:‏ كان زماورد، وهو من نحو الأترج موجود في تلك البلاد، وقيل‏:‏ هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط‏.‏

وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن عمر وقتادة والضحاك والكلبي وأبان بن تغلب «تُكاً» بضم الميم وتنوين الكاف‏.‏ واختلف في معناه، فقيل‏:‏ هو الأترنج، وقيل‏:‏ هو اسم يعم ما يقطع بالسكين من الفواكه كالأترنج والتفاح وغيره، وأنشد الطبري‏:‏

نشرب الإثم بالصواع جهاراً *** وترى المتك بيننا مستعارا

وقرأ الجمهور‏:‏ «متَّكأ» بشد التاء المفتوحة والهمز والقصر، وقرأ الزهري‏:‏ «متّكا» مشدد التاء من غير همز- وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح، وقرأ الحسن «متكاء» بالمد على إشباع الحركة‏.‏

و «السكين» تذكر وتؤنث، قاله الكسائي والفراء، ولم يعرف الأصمعي إلا التذكير‏.‏

وقولها‏:‏ ‏{‏اخرج‏}‏ أمر ليوسف، وأطاعها بحسب الملك، وقال مكي والمهدوي‏:‏ قيلك إن في الآية تقديماً وتأخيراً في القصص، وذلك أن قصة النسوة كانت قبل فضيحتها في القميص للسيد، وباشتهار الأمر للسيد انقطع ما بينها وبين يوسف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا محتمل إلا أنه لا يلزم من ألفاظ الآية، بل يحتمل أن كانت قصة النساء بعد قصة القميص وذلك أن العزيز كان قليل الغيرة بل قومه أجمعين، ألا ترى أن الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل‏:‏ ‏{‏إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 28‏]‏ وهذا يدل على قلة الغيرة، ثم سكن الأمر بأن قال‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏ وأنت ‏{‏استغفري‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏ وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة، فلذلك تغوفل عنها بعد ذلك، لأن دليل القميص لم يكن قاطعاً وإنما كان أمارة ما؛ هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أكبرنه‏}‏ معناه‏:‏ أعظمنه واستهولن جماله، هذا قول الجمهور، وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده‏:‏ معناه‏:‏ حضن، وأنشد بعض الناس حجة لهذا التأويل‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

يأتي النساء على أطهارهنّ ولا *** يأتي النساءَ إذا أكبرن إكبارا

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول ضعيف من معناه منكور، والبيت مصنوع مختلف- كذلك قال الطبري وغيره من المحققين، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمه الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وقطّعن أيديهن‏}‏ أي كثرن الحز فيها بالسكاكين، وقال عكرمة‏:‏ «الأيدي» هنا الأكمام، وقال مجاهد هي الجوارح، وقطعنها حتى ألقينها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فظاهر هذا أنه بانت الأيدي، وذلك ضعيف من معناه، وذلك أن قطع العظم لا يكون إلا بشدة، ومحال أن يسهو أحد عنها، والقطع على المفصل لا يتهيأ إلا بتلطف لا بد أن يقصد، والذي يشبه أنهن حملن على أيديهن الحمل الذي كن يحملنه قبل المتك فكان ذلك حزاً، وهذا قول الجماعة‏.‏

وضوعفت الطاء في ‏{‏قطّعن‏}‏ لكثرتهن وكثرة الحز فربما كان مراراً‏.‏

وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى لله» وقرأ أبيّ وابن مسعود «حاشى الله»، وقرأ سائر السبعة «حاش لله، وفرقة» حشى لله «وهي لغة، وقرأ الحسن» حاش لله «بسكون الشين وهي ضعيفة وقرأ الحسن- أيضاً-» حاش الإلاه «محذوفاً من» حاشى «‏.‏ فأما» حاش «فهي حيث جرت حرف معناه الاستثناء، كذا قال سيبويه، وقد ينصب به، تقول‏:‏ حاشى زيد وحاشى زيداً، قال المبرد‏:‏ النصب أولى إذ قد صح أنها فعل بقولهم‏:‏ حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يظهر من مجموع كلام سيبويه والمبرد أن الحرف يخفض به لا غير، وأن الفعل هو الذي ينصب به، فهذه اللفظة تستعمل فعلاً وحرفاً، وهي في بعض المواضع فعل وزنه فاعل، وذلك في قراءة من قرأ» حاشى لله «معناه مأخوذ من معنى الحرف، وهو إزالة الشيء عن معنى مقرون به، وهذا الفعل مأخوذ من الحشا أي هذا في حشى وهذا في حشى، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المعطل الهذلي‏]‏‏.‏

يقول الذي يمسي إلى الحرز أهله *** بأي الحشى صار الخليط المباين

ومنه الحاشية كأنها مباينة لسائر ما هي له، ومن المواضع التي حاشى فيه فعل هذه الآية، يدل على ذلك دخولها على حرف الجر، والحروف لا تدخل بعضها على بعض، ويدل على ذلك حذف الياء منها في قراءة الباقين» حاش «على نحو حذفهم من لا أبال ولا أدر ولو تر، ولا يجوز الحذف من الحروف إلا إذا كان فيها تضعيف مثل‏:‏ لعل، فيحذف، ويرجع عل، ويعترض في هذا الشرط بمنذ وفد حذف دون تضعيف فتأمله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن ذلك في حديث خالد يوم مؤتة‏:‏ فحاشى بالناس، فمعنى» حاشى لله «أي حاش يوسف لطاعة الله أو لمكان من الله أو لترفيع الله له أن يرمي بما رميته به، أو يدعى إله مثله لأن تلك أفعال البشر، وهو ليس منهم إنما هو ملك- هكذا رتب أبو علي الفارسي معنى هذا الكلام، على هاتين القراءتين اللتين في السبع- وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود، فعلى أن» حاشى «حرف استثناء- كما قال الشاعر ‏[‏ابن عطية‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

حاشى أبي ثوبان إنَّ به *** ضنّاً عن الملحاة والشتم

وتسكين الشين في إحدى قراءتي الحسن، ضعيف، جمع بين ساكنين، وقراءته الثانية محذوفة الألف من «حاشى»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتشبيه بالملك هو من قبيل التشبيه بالمستعظمات وإن كانت لا ترى‏.‏

وقرأ أبو الحويرث الحنفي والحسن «ما هذا بشر إن هذا إلا ملِك كريم» بكسر اللام في «ملِك»، وعلى هذه القراءة فالكلام فصيح لما استعظمن حسن صورته قلن‏:‏ ما هذا إلا مما يصلح أن يكون عبد بشراء، إن هذا مما يصلح أن يكون ملكاً كريماً‏.‏

ونصب «البشر» من قوله‏:‏ ‏{‏ما هذا بشراً‏}‏ هو على لغة الحجاز شبهت ‏{‏ما‏}‏ بليس، وأما تميم فترفع، ولم يقرأ به‏.‏

وروي أن يوسف عليه السلام أعطي ثلث الحسن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أعطي نصف الحسن، ففي بعض الأسانيد هو وأمه، وفي بعضها هو وسارة جدة أبيه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا على جهة التمثيل، أي لو كان الحسن مما يقسم لكان حسن يوسف يقع في نصفه، فالقصد أن يقع في نفس السامع عظم حسنه على نحو التشبيه برؤوس الشياطين وأنياب الأغوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قال الطبري‏:‏ المعنى‏:‏ فهذا ‏{‏الذي لمتنني فيه‏}‏، أي هذا الذي قطعتن أيديكن بسببه هو الذي جعلتنني ضالة في هواه، والضمير عائد على يوسف في ‏{‏فيه‏}‏ ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف، والضمير عائد على الحب، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه‏.‏

ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة واستنامت إليهن في ذلك إذ قد علمت أنهن قد عذرنها، و‏{‏استعصم‏}‏ معناه‏:‏ طلب العصمة وتمسك وبها وعصاني، ثم جعلت تتوعده وهو يسمع بقولها‏:‏ ‏{‏ولئن لم يفعل‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليسجنن‏}‏ لام القسم، واللام الأولى هي المؤذنة بمجيء القسم، والنون هي الثقيلة والوقف عليها بشدها، و‏{‏ليكوناً‏}‏ نونه هي النون الخفيفة، والوقف عليه بالألف، وهي مثل قوله‏:‏ ‏{‏لنسفعاً‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 15‏]‏ ومثلها قول الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وصلّ على حين العشيات والضحى *** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

أراد فاعبدن‏.‏

وقرأت فرقة «وليكونن» بالنون الشديدة‏.‏ و‏{‏الصاغرين‏}‏ الأذلاء الذين لحقهم الصغار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ربي السجن أحب إليّ‏}‏، وروي أنه لما توعدته امرأة العزيز قال له النسوة‏:‏ أطع مولاتك، وافعل ما أمرتك به؛ فلذلك قال‏:‏ ‏{‏مما يدعونني إليه‏}‏ قال نحوه الحسن ووزن «يدعون» في هذه الآية‏:‏ يفعلن، بخلاف قولك‏:‏ الرجال يدعون‏.‏

وقرأ الجمهور «السِّجن» بكسر السين، وهو الاسم، وقرأ الزهري وابن هرمز ويعقوب وابن أبي إسحاق «السَّجن» بفتح السين وهي قراءة عثمان رضي الله عنه وطارق مولاه، وهو المصدر، وهو كقولك‏:‏ الجزع والجزع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإلا تصرف‏}‏ إلى آخر الآية، استسلام لله تعالى ورغبة إليه وتوكل عليه؛ المعنى‏:‏ وإن لم تنجني أنت هلكت، هذا مقتضى قرينة كلامه وحاله، والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ عائد على الفاحشة المعنية بما في قوله ‏{‏مما‏}‏‏.‏ و‏{‏أصب‏}‏ مأخوذة من الصبوة، وهي أفعال الصبا، ومن ذلك قول الشاعر- أنشده الطبري- ‏[‏الهزج‏]‏

إلى هند صبا قلبي *** وهند مثلها يصبي

ومن ذلك قول دريد بن الصمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه *** فلما علاه قال للباطل ابعدِ

و ‏{‏الجاهلين‏}‏ هم الذين لا يراعون حدود الله تعالى ونواهيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب له ربه‏}‏ الآية، قول يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏رب السجن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏من الجاهلين‏}‏ كلام يتضمن التشكي إلى الله عز وجل من حاله معهن، والدعاء إليه في كشف بلواه‏.‏ فلذلك قال- بعد مقالة يوسف- ‏{‏فاستجاب له ربه‏}‏ أي أجابه إلى إرادته وصرف عنه كيدهن في أن حال بينه وبين المعصية، وقوله‏:‏ ‏{‏السميع العليم‏}‏ صفتان لائقتان بقوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

لما أبى يوسف المعصية، ويئست منه امرأة العزيز طالبته بأن قالت لزوجها‏:‏ إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فإما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإما حبسته كما أنا محبوسة‏.‏ فحينئذ بدا لهم سجنه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر إن يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن؛ قال أبو صالح‏:‏ ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى‏.‏

و ‏{‏بدا‏}‏ معناه‏:‏ ظهر، والفاعل ب ‏{‏بدا‏}‏ محذوف تقديره بدو- أو- رأي‏.‏ وجمع الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ والساجن الملك وحده من حيث كان في الأمر تشاور‏.‏ و‏{‏يسجننه‏}‏ جملة دخلت عليها لام القسم‏.‏ ولا يجوز أن يكون الفاعل ب ‏{‏بدا‏}‏ ل ‏{‏يسجننه‏}‏ لأن الفاعل لا يكون جملة بوجه، هذا صريح مذهب سيبويه‏.‏ وقيل الفاعل ‏{‏ليسجننه‏}‏ وهو خطأ، وإنما هو مفسر للفاعل‏.‏

و ‏{‏الآيات‏}‏ ذكر فيها أهل التفسير أنها قد القميص، قاله مجاهد وغيره، وخمش الوجه الذي كان مع قد القميص، قاله عكرمة، وحز النساء أيديهن، قاله السدي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد بدو الآيات المبرئة له من التهمة، فهكذا يبين ظلمهم له وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرية ليوسف، ولا تتصور تبرية إلا في خبر القميص، فإن كان المتكلم طفلاً- على ما روي- فهي آية عظيمة، وإن كان رجلاً فهي آية فيها استدلال ما، والعادة أنه لا يعبر بآية إلا فيما ظهوره في غاية الوضوح، وقد تقع ‏{‏الآيات‏}‏ أيضاً على المبينات كانت في أي حد اتفق من الوضوح‏.‏

ويحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما رأوا الآيات‏}‏ أي من بعد ما ظهر لهم من وجوه الأمر وقرائنه أن يوسف برئ، فلم يرد تعيين آية بل قرائن جميع القصة‏.‏

و «الحين» في كلام العرب وفي هذه الآية الوقت من الزمن غير محدود يقع للقليل والكثير، وذلك بين موارده في القرآن؛ وقال عكرمة «الحين»- هنا- يراد به سبعة أعوام، وقيل‏:‏ بل يراد بذلك سنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بحسب ما كشف الغيب في سجن يوسف‏.‏

وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ «عتى حين» بالعين- وهي لغة هذيل- فقال له‏:‏ من أقرأك‏؟‏ قال‏:‏ ابن مسعود، فكتب عمر إلى ابن مسعود‏:‏ إن الله أنزل القرآن عربياً بلغة قريش، فبها أقرئ الناس، ولا تقرئهم بلغة هذيل، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات‏:‏

‏{‏همّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏ فسجن، وقال‏:‏ ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏ ‏{‏فأنساه الشيطان ذكر ربه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏ فطول سجنه، وقال‏:‏ ‏{‏إنكم لسارقون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 70‏]‏ فروجع‏:‏ ‏{‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودخل معه السجن‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضاً، وهذه «مع» تحتمل أن تكون باقتران وقت الدخول، وأن لا تكون بل دخلوا أفذاذاً، وروي أنهما كانا للملك الأعظم- الوليد بن الريان- أحدهما‏:‏ خبازه، والآخر‏:‏ ساقيه‏.‏

و «الفتى» الشاب، وقد تقع اللفظة على المملوك وعلى الخادم الحر، ويحتمل أن يتصف هذان بجميع ذلك، واللفظة من ذوات الياء، وقولهم‏:‏ الفتوة شاذ‏.‏ وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه، ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما، قاله السدي، فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزماه، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه، وقال له‏:‏ كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف‏:‏ لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات‏:‏ أحبتني عمتي فامتحنت لمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت لمحبته لي، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت لمحبتها بما ترى، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن‏:‏ إني أعبر الرؤيا وأجيد، فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه؛ وروى عم مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة، فأرادا سؤاله، فقال أحدهما واسمه بنو، فيما روي، إني رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان، فيها عناقيد عنب حسان، فكنت أعصرها وأسقي الملك؛ وقال الآخر، واسمه مجلث، كنت أرى أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه‏.‏

وقوله ‏{‏أعصر خمراً‏}‏ قيل‏:‏ إنه سمى العنب خمراً بالمآل، وقيل‏:‏ هي لغة أزد عمان، يسمون العنب خمراً، وقال الأصمعي‏:‏ حدثني المعتمر، قال‏:‏ لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت‏:‏ ما تحمل‏؟‏ قال‏:‏ خمراً، أراد العنب‏.‏

وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «إني أراني أعصر عنباً»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها وقوله ‏{‏خبزاً‏}‏ يروى أنه رأى ثريداً فوق رأسه، وفي مصحف ابن مسعود «فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه»‏.‏

وقوله ‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏ قال الجمهور‏:‏ يريدان في العلم، وقال الضحاك وقتادة‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏من المحسنين‏}‏ في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم، وقيل‏:‏ إنه أراد إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً إذا تأول لهما ما رأياه، ونحا إليه ابن إسحاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

روي عن السدي وابن إسحاق‏:‏ أن يوسف عليه السلام لما علم شدة تعبير منامه رأى الخبز وأنها تؤذن بقتله، ذهب إلى غير ذلك من الحديث، عسى ألا يطالباه بالتعبير، فقال لهما- معلماً بعظيم علمه للتعبير-‏:‏ إنه لا يجيئكما طعام في نومكما، تريان أنكما رزقتماه إلا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام، أي بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به‏.‏ فروي أنهما قالا‏:‏ ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم‏؟‏ فقال لهما‏:‏ ‏{‏ذلكما مما علمني ربي‏}‏ ثم نهض ينحي لهما على الكفر ويحسن لهما الإيمان بالله‏:‏ فروي أنه قصد في ذلك وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ تنسيتهما أمر تعبير ما سألا عنه- إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما- والآخر‏:‏ الطماعية في إيمانهما‏.‏ ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ أراد يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏لا يأتيكما طعام‏}‏ في اليقظة ‏{‏ترزقانه إلا نبأتكما‏}‏ منه بعلم وبما يؤول إليه أمركما ‏{‏قبل أن يأتيكما‏}‏ ذلك المآل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا إنما أعلمهم بأن يعلم مغيبات لا تعلق لها برؤيا‏.‏ وقصد بذلك أحد الوجهين المتقدمين‏.‏ وهذا على ما روي من أنه نبئ في السجن، فإخباره كإخبار عيسى عليه السلام، وقال ابن جريج‏:‏ كانت عادة ذلك الملك إذا أراد قتل أحد ممن في سجنه بعث إليه طعاماً يجعله علامة لقتله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله لا يقتضيه اللفظ ولا ينهض به إسناد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تركت‏}‏ مع أنه لم يتشبث بها، جائز صحيح، وذلك أنه أخبر عن تجنبه من أول بالترك، وساق لفظة الترك استجلاباً لهما عسى أن يتوكأ الترك الحقيقي الذي هو بعد أخذ في الشيء، والقوم المتروكة ملتهم‏:‏ الملك وأتباعه‏.‏ وكرر قوله‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ على جهة التأكيد، وحسن ذلك للفاصلة التي بينهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واتبعت‏}‏ الآية، تمادٍ من يوسف عليه السلام في دعائهما إلى الملة الحنيفية، وزوال عن مواجهة- مجلث- لما تقتضيه رؤياه‏.‏

وقرأ «آبائي» بالإسكان في الياء الأشهب العقيلي وأبو عمرو، وقرأ الجمهور «آبائيَ» بياء مفتوحة، قال أبو حاتم‏:‏ هما حسنتان فاقرأ كيف شئت‏.‏ وأما طرح الهمزة فلا يجوز، ولكن تخفيفها جيد؛ فتصير ياء مكسورة بعد ياء ساكنة أو مفتوحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ملتهم وشرعهم، وكون ذلك فضلاً عليهم بين، إذ خصهم الله تعالى بذلك وجعلهم أنبياء‏.‏ وكونه فضلاً على الناس هو إذ يدعون به إلى الدين ويساقون إلى النجاة من عذاب الله عز وجل‏.‏

وقوله ‏{‏من شيء‏}‏ هي ‏{‏من‏}‏ الزائدة المؤكدة التي تكون مع الجحد‏.‏ وقوله ‏{‏لا يشكرون‏}‏ يريد الشكر التام الذي فيه الإيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 42‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

وصفه لهما ب ‏{‏صاحبي السجن‏}‏ هو‏:‏ إما على أن نسبهما بصحبتهما للسجن من حيث سكناه- كما قال‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44، الحشر‏:‏ 20‏]‏، و‏{‏أصحاب الجحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 119‏]‏ ونحو هذا- وإما أن يريد صحبتهما له في السجن، فأضافهما إلى السجن بذلك، كأنه قال‏:‏ يا صاحبيَّ في السجن، وهذا كما قيل في الكفار إن الأصنام شركاؤهم؛ وعرضه عليهما بطول أمر الأوثان بأن وصفها «بالتفرق»، ووصف الله تعالى ب «الوحدة» و«القهر» تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته، وهكذا الوجه في محاجة الجهلة أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك أبداً حتى يصل إلى الحق، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده؛ وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أسماء‏}‏ ذهب بعض المتكلمين إلى أنه أوقع في هذه الآية الأسماء على المسميات وعبر عنها بها إذ هي ذوات أسماء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والاسم الذي هو ألف وسين وميم- قد يجري في اللغة مجرى النفس والذات والعين، فإن حملت الآية على ذلك صح المعنى، وليس الاسم- على هذا- بمنزلة التسمية التي هي رجل وحجر، وإن أريد بهذه الأسماء التي في الآية أسماء الأصنام التي هي بمنزلة اللات والعزى ونحو ذلك من تسميتها آلهة، فيحتمل أن يريد‏:‏ إلا ذوات أسماء، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ ويحتمل- وهو الراجح المختار إن شاء الله- أن يريد‏:‏ ما تعبدون من دونه ألوهية ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط لا بالحقيقة، وأما الحقيقة فهي وسائر الحجارة والخشب سواء، فإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم، فذلك هو معبودكم إذا حصل أمركم؛ فعبر عن هذا المعنى باللفظ المسرود في الآية، ومن هذه الآية وهم من قال- في قولنا‏:‏ رجل وحجر- إن الاسم هو المسمى في كل حال، وقد بانت هذه المسألة في صدر التعليق‏.‏

ومفعول «سميتم» الثاني محذوف، تقديره‏:‏ آلهة، هذا على أن ‏{‏الأسماء‏}‏ يراد بها ذوات الأصنام، وأما على المعنى المختار- من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء وليست موجودة في الأصنام- فقوله ‏{‏سميتموها‏}‏ بمنزلة وضعتموها، فالضمير للتسميات، ووكد الضمير ليعطف عليه‏.‏

وال ‏{‏سلطان‏}‏ الحجة، وقوله‏:‏ ‏{‏إن الحكم إلا الله‏}‏ أي ليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، أي فما بالها إذن‏؟‏ ويحتمل أن يريد الرد على حكمهم في نصبهم آلهة دون الله تعالى وليس لهم تعدي أمر الله في أن لا يعبد غيره، و‏{‏القيم‏}‏ معناه‏:‏ المستقيم‏.‏

و ‏{‏أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ لجهالتهم وغلبة الكفر‏.‏

ثم نادى ‏{‏يا صاحبي السجن‏}‏ ثانية لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب، فروي أنه قال لنبو‏:‏ أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وقال لمجلث‏:‏ أما أنت فتصلب، وذلك كله بعد ثلاث، فروي أنهما قالا له ما رأينا شيئاً وإنما تحالمنا لنجربك؛ وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب؛ وقيل‏:‏ كانا رأيا ثم أنكرا‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «يَسقي ربه» من سقى، وقرأت فرقة من أسقى، وهما لمعنى واحد لغتان وقرأ عكرمة والجحدري‏:‏ «فيُسقَى ربه خمراً» بضم الياء وفتح القاف أي ما يرويه‏.‏

وأخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله تعالى‏:‏ إن الأمر قد قضي ووافق القدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وقال للذي ظن أنه ناج‏}‏ الآية‏.‏ «الظن» هاهنا- بمعنى اليقين، لأن ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏قضي الأمر‏}‏ يلزم ذلك، وهو يقين فيما لم يخرج بعد إلى الوجود‏:‏ وقال قتادة‏:‏ «الظن»- هنا- على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقول يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏قضي الأمر‏}‏ دل على وحي ولا يترتب قول قتادة إلا بأن يكون معنى قوله ‏{‏قضي الأمر‏}‏ أي قضي كلامي وقلت ما عندي وتم، والله أعلم بما يكون بعد‏.‏

وفي الآية تأويل آخر، وهو‏:‏ أن يكون ‏{‏ظن‏}‏ مسنداً إلى الذي قيل له‏:‏ إنه يسقي ربه خمراً، لأنه دخلته أبهة السرور بما بشر به وصار في رتبة من يؤمل حين ظن وغلب على معتقده أنه ناج‏:‏ وذلك بخلاف ما نزل بالآخر المعرف بالصلب‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك‏:‏ ‏{‏اذكرني‏}‏ عند الملك، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق، أو يذكره بهما‏.‏

والضمير في ‏{‏أنساه‏}‏ قيل‏:‏ هو عائد على يوسف عليه السلام، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق، فروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك، وطول سجنه عقوبة على ذلك، وقيل‏:‏ أوحي إليه‏:‏ يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك، وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏أنساه‏}‏ عائد على الساقي- قاله ابن إسحاق- أي نسي ذكر يوسف عند ربه، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده، و«الرب» على هذا التأويل- الملك‏.‏

و ‏{‏بضع‏}‏ في كلام العرب اختلف فيه، فالأكثر على أنه من الثلاثة إلى العشرة، قاله ابن عباس، وعلى هذا هو فقه مذهب مالك رحمه الله في الدعاوى والأيمان؛ وقال أبو عبيدة‏:‏ «البضع» لا يبلغ العقد ولا نصف العقد، وإنما هو من الواحد إلى الأربعة، وقال الأخفش «البضع» من الواحد إلى العشرة، وقال قتادة‏:‏ «البضع» من الثلاثة إلى التسعة، ويقوي هذا ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق في قصة خطره مع قريش في غلبة الروم لفارس

«أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع» وقال مجاهد‏:‏ من الثلاثة إلى السبعة، قال الفراء‏:‏ ولا يذكر البضع إلا مع العشرات، لا يذكر مع مائة ولا مع ألف، والذي روي في هذه الآية أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين ثم نزلت له قصة الفتيين وعوقب على قوله ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ بالبقاء في السجن سبع سنين، فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة، وقيل‏:‏ عوقب ببقاء سنتين، وقال الحسن‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث»، ثم بكى الحسن وقال‏:‏ نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ ‏{‏وقال الملك‏}‏ الأعظم‏:‏ ‏{‏إني أرى‏}‏ يريد في منامه، وقد جاء ذلك مبيناً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أرى في المنام أني أذبحك‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 104‏]‏‏.‏ وحكيت حال ماضية ف ‏{‏أرى‏}‏ وهو مستقبل من حيث يستقبل النظر في الرؤيا‏.‏ ‏{‏سبع بقرات سمان‏}‏ يروى أنه قال‏:‏ رأيتها خارجة من نهر، وخرجت وراءها ‏{‏سبع عجاف‏}‏، فرأيتها أكلت تلك السمان حتى حصلت في بطونها ورأى «السنابل» أيضاً كما ذكر، و«العجاف» التي بلغت غاية الهزال، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ورجال مكة مسنتون عجاف *** ثم قال لجماعته وحاضريه‏:‏ ‏{‏يا أيها الملأ أفتوني‏}‏‏.‏

قرأت فرقة بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بأن لفظت بألف «أفتوني» واواً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للرؤيا‏}‏ دخلت اللام لمعنى التأكيد والربط، وذلك أن المفعول إذا تقدم حسن في بعض الأفعال أن تدخل عليه لام، وإذا تأخر لم يحتج الفعل إلى ذلك‏.‏ و«عبارة الرؤيا» مأخوذة من عبر النهر، وهو تجاوزه من شط إلى شط، فكأن عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏:‏ أضغاث أحلام‏}‏ الآية، «الضغث» في كلام العرب أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب ونحوه، وربما كان ذلك من جنس واحد‏.‏ وربما كان من أخلاط النبات، فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخذ بيدك ضغثاً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ وروي أنه أخذ عثكالاً من النخل، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل نحو هذا في حد أقامه على رجل زمن، ومن ذلك قول ابن مقبل‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

خود كأنَّ فراشها وضعت به *** أضغاث ريحان غداة شمال

ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها‏:‏ ضغث على إبالة فيشبه اختلاط الأحلام باختلاط الجملة من النبات، والمعنى أن هذا الذي رأيت أيها الملك اختلاط من الأحلام بسبب النوم، ولسنا من أهل العلم بذلك، أي بما هو مختلط ورديء؛ فإنما نفوا عن أنفسهم عبر الأحلام لا عبر الرؤيا على الإطلاق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان»‏.‏ وقال للذي كان يرى رأسه يقطع ثم يرده فيرجع‏:‏ «إذا لعب الشيطان بأحدكم في النوم فلا يحدث بذلك»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالأحلام وحِدثان النفس ملغاة، والرؤيا هي التي تعبر ويلتمس علمها‏.‏

والباء في قولهم ‏{‏بعالمين‏}‏ للتأكيد، وفي قولهم‏:‏ ‏{‏بتأويل‏}‏ للتعدية وهي متعلقة بقولهم ‏{‏بعالمين‏}‏‏.‏

و ‏{‏الأحلام‏}‏ جمع حلم، يقال‏:‏ حلَم الرجل- بفتح اللام- يحلم‏:‏ إذا خيل إليه في منامه، والأحلام مما أثبتته الشريعة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الرؤيا من الله وهي المبشرة والحلم المحزن من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليتفل على يساره ثلاث مرات وليقل‏:‏ أعوذ بالله من شر ما رأيت، فإنها لا تضره»

وما كان عن حديث النفس في اليقظة فإنه لا يلتفت إليه‏.‏

ولما سمع الساقي- الذي نجا- هذه المقالة من الملك ومراجعة أصحابه، تذكر يوسف وعلمه بتأويل الأحلام والرؤى، فقال مقالته في هذه الآية‏.‏

و ‏{‏ادكر‏}‏ أصله ادتكر- افتعل- من الذكر، قلبت التاء دالاً وأدغم الأول في الثاني، ثم بدلت دالاً غير منقوطة لقوة الدال وجلدها، وبعض العرب يقول‏:‏ اذكر؛ وقرئ ‏{‏فهل من مذكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 15، 17، 22، 32، 40، 51‏]‏ بالنقط و‏{‏من مدكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 15، 17، 22، 32، 40، 51‏]‏ على اللغتين؛ وقرأ جمهور الناس‏:‏ «بعد أمة» وهي المدة من الدهر، وقرأ ابن عباس وجماعة «بعد أمة» وهو النسيان، وقرأ مجاهد وشبل بن عزرة «بعد أمه» بسكون الميم وهو مصدر من أمه إذا نسي، وقرأ الأشهب العقيلي «بعد إمة» بكسر الهمزة، والإمة‏:‏ النعمة والمعنى‏:‏ بعد نعمة أنعمها الله على يوسف في تقريب إطلاقه وعزته‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏ادكر‏}‏ يقوي قول من يقول‏:‏ إن الضمير في ‏{‏أنسانيه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏ عائد على الساقي، والأمر محتمل‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «أنا أنبئكم» وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «أنا آتيكم»، وكذلك في مصحف أبي بن كعب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأرسلون‏}‏ استئذان في المضي، فقيل‏:‏ كان السجن في غير مدينة الملك- قاله ابن عباس- وقيل‏:‏ كان فيها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ فجاء الرسول- وهو الساقي- إلى يوسف فقال له‏:‏ يا يوسف ‏{‏أيها الصديق‏}‏- وسماه صديقاً من حيث كان جرب صدقه في غير شيء- وهو بناء مبالغة من صدق، وسمي أبو بكر صديقاً من صدق غيره، إذ مع كل تصديق صدق، فالمصدق بالحقائق صادق أيضاً، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 19‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أفتنا في سبع بقرات‏}‏ أي فيمن رأى في منام سبع بقرات، وحكى النقاش حديثاً روى فيه‏:‏ أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه، وأخرجه من السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سبباً لفرج يوسف‏.‏ ويروى أن الملك كان يرى ‏{‏سبع بقرات سمان‏}‏ يخرجن من نهر، وتخرج وراءها ‏{‏سبع عجاف‏}‏، فتأكل العجاف السمان، فكان يعجب كيف غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف، وكان يرى ‏{‏سبع سنبلات خضر‏}‏ وقد التفت بها سبع يابسات، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضاً لذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يعلمون‏}‏ أي تأويل هذه الرؤيا، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لعلهم يعلمون‏}‏ مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سبباً لتخلصك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال تزرعون‏}‏ الآية، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول‏:‏

أحدها‏:‏ تعبير بالمعنى لا باللفظ‏.‏

والثاني‏:‏ عرض رأي وأمر به، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فذروه في سنبله‏}‏‏.‏

والثالث‏:‏ الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل هذا ألا يكون غيباً، بل علم العبارة، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف، كما أعطى أن النهر مثال للزمان‏.‏ إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالاً للسنين‏.‏

و ‏{‏دأبا‏}‏ معناه‏:‏ ملازمة لعادتكم في الزراعة، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كدأبك من أم الحويرث قبلها ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقرأ جمهور السبعة «دأْباً» بإسكان الهمزة، وقرأ عاصم وحده «دأَباً» بفتح الهمزة، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة، وهما مثل‏:‏ نهر ونهر‏.‏ والناصب لقوله‏:‏ ‏{‏دأباً‏}‏ ‏{‏تزرعون‏}‏، عند أبي العباس المبرد، إذ في قوله ‏{‏تزرعون‏}‏ تدأبون، وهي عنده مثل قولهم‏:‏ قعد القرفصاء، واشتمل الصماء؛ وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر، كأنه قال‏:‏ تزرعون تدأبون دأباً‏.‏

وقوله ‏{‏فما حصدتم فذروه‏}‏ هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى‏:‏ اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب، ويؤكل الأقدم فالأقدم؛ فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الناس الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر، وادخروا أيضاً الشيء الذي يصاب في أعوام الجدب على قلته، وحملت الأعوام بعضها على بعض حتى يتخلص الناس، وإلى هذه السنين أشار النبي عليه السلام في دعائه على قريش‏:‏

«اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف»، فابتدأ ذلك بهم ونزلت سنة حصت كل شيء حتى دعا لهم النبي عليه السلام فارتفع ذلك عنهم ولم يتماد سبع سنين، وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك وأعجبه أمره، قال له الملك‏:‏ قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة، فكان هذا أول ما ولي يوسف‏.‏

وأسند الأكل في قوله‏:‏ ‏{‏يأكلن‏}‏ إلى السنين اتساعاً من حيث يؤكل فيها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والنهار مبصراً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 86، يونس‏:‏ 67، غافر‏:‏ 61‏]‏ وكما قال‏:‏ نهارك بطال وليلك قائم؛ وهذا كثير في كلام العرب‏.‏ ويحتمل أن يسمى فعل الجدب وإيباس البلالات أكلاً، وفي الحديث‏:‏ «فأصابتهم سنة حصت كل شيء»؛ وقال الأعرابي في السنة جمشت النجم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم‏.‏

و ‏{‏تحصنون‏}‏ معناه تحرزون وتخزنون، قاله ابن عباس، وهو مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ، ومنه تحصن النساء لأنه بمعنى التحرز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يغاث‏}‏ جائز أن يكون من الغيث، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين، أي يمطرون، وجائز أن يكون من أغاثهم الله، أذا فرج عنهم، ومنه الغوث وهو الفرج‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يَعصِرون» بفتح الياء وكسر الصاد، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة، وقال جمهور المفسرين‏:‏ هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة؛ وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب، والحلب منه لأنه عصر للضروع‏.‏ وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ ذلك مأخوذ من العصرة والعصر وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

صادياً يستغيث غير مغاث *** ولقد كان عصرة المنجود

ومنه قول عدي بن زيد‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

لو بغير الماء حلقي شرق *** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري

ومنه قول ابن مقبل «‏[‏البسيط‏]‏

وصاحبي وهوه مستوهل زعل *** يحول بين حمار الوحش والعصر

ومنه قول لبيد‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فبات وأسرى القوم آخر ليلهم *** وما كان وقافاً بغير معصر

أي بغير ملتجأ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة‏.‏

وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد» يُعصَرون «بضم الياء وفتح الصاد، وهذا مأخوذ من العصرة، أي يؤتون بعصرة؛ ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم، قال ابن المستنير‏:‏ معناها يمطرون، وحكى النقاش أنه قرئ» يعصرون «وجعلها من عصر البلل ونحوه‏.‏ ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة رداً كثيراً بغير حجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

في تضاعيف هذه الآية محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدل عليها، والمعنى هنا‏:‏ فرجع الرسول إلى الملأ والملك فقص عليهم مقالة يوسف، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير وحسن الرأي وتضمن الغيب في أمر العام الثامن، مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنامة المتقدمة، فعظم يوسف في نفس الملك، ‏{‏وقال ائتوني به‏}‏، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه، وقال‏:‏ إن الملك قد أمر بأن تخرج، قال له‏:‏ ‏{‏ارجع إلى ربك‏}‏- أي الملك- وقل له‏:‏ ‏{‏ما بال النسوة‏}‏ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان- وقل له‏:‏ يستقصي عن ذنبي وينظر في أمري، هل سجنت بحق أو بظلم‏.‏ فرسم قصته بطرف منها إذا وقع النظر عليه بان الأمر كله‏.‏ ونكب عن ذكر امرأة العزيز حسن عشرة ورعاية لذمام ملك العزيز له‏.‏

وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو حيوة «النُّسوة» بضم النون، وقرأ الباقون «النِّسوة» بكسر النون‏.‏ وهما لغتان في تكسير نساء الذي هو اسم جمع لا واحد له من لفظة‏.‏ وقرأت فرقة «اللايي» بالياء، وقرأ فرقة «اللاتي» بالتاء وكلاهما جمع التي‏.‏

وكان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبراً وطلباً لبراءة الساحة، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحاً، فيراه الناس بتلك العين أبداً، ويقولون‏:‏ هذا الذي راود امرأة مولاه، فأراد يوسف عليه السلام أن تبين براءته وتتحقق منزلته من العفة والخير، وحينئذ يخرج للإخطاء والمنزلة؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يرحم الله أخي يوسف، لقد كان صابراً حليماً، ولو لبثت في السجن لبثه لأجبت الداعي ولم ألتمس العذر حينئذ»، وروي نحو هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك في كتاب التفسير من صحيح البخاري، وليس لابن القاسم في الديوان غيره‏.‏

وهنا اعتراض ينبغي أن ينفصل عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكر هذا الكلام على جهة المدح ليوسف، فما باله هو، يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره، فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجهاً آخر من الرأي له جهة أيضاً من الجودة، أي لو كنت أنا لبادرت بالخروج ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك؛ وذلك أن هذه القصص والنوازل إنما هي معرضة ليقتدي الناس بها يوم القيامة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور، وذلك أن المتعمق في مثل هذه النازلة التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن، ربما تنتج له من ذلك البقاء في سجنه، وانصرفت نفس مخرجه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله فغيره من الناس لا يأمن ذلك؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ومدح، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد‏.‏

وقوله ‏{‏إن ربي بكيدهن عليم‏}‏ يحتمل أن يريد بالرب الله عز وجل، وفي الآية وعيد- على هذا- وتهديد، ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه، ففي ذلك استشهاد به وتقريع له‏.‏

والضمير في ‏{‏كيدهن‏}‏ ل ‏{‏النسوة‏}‏ المذكورات لا للجنس لأنها حالة توقيف على ذنب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن، وقال لهن‏:‏ ‏{‏ما خطبكن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ أي شيء كانت قصتكن‏؟‏ فهو استدعاء منه أن يعلمنه القصة فجاوب النساء بجواب جيد، تظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قرر لهن أنهن راودنه قلن- جواباً عن ذلك- ‏{‏حاش لله‏}‏ وقد يحتمل- على بعد- أن يكون قولهن ‏{‏حاش لله‏}‏ في جهة يوسف عليه السلام، وقولهن‏:‏ ‏{‏ما علمنا عليه من سوء‏}‏ ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في إحدى الجهتين، ولو قلن‏:‏ ما علمن عليه إلا خيراً لكان أدخل في التبرية‏.‏ وقد بوب البخاري على هذه الألفاظ على أنها تزكية، وأدخل قول أسامة بن زيد في حديث الإفك‏:‏ أهلك ولا نعلم إلا خيراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأما مالك رحمه الله فلا يقنع بهذا في تزكية الشاهد، لأنه ليس بإثبات العدالة‏.‏

قال بعض المفسرين فلما سمعت زوجة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي حضرتها نية وتحقيق، فقالت‏:‏ ‏{‏الآن حصحص الحق‏}‏‏.‏ و‏{‏حصحص‏}‏ معناه‏:‏ تبين بعد خفائه، كذا قال الخليل وغيره وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الحصة، أي بانت حصته من حصة الباطل‏.‏ ثم أقرت على نفسها بالمراودة والتزمت الذنب وأبرأت يوسف البراءة التامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قالت جماعة من أهل التأويل‏:‏ هذه المقالة هي من يوسف عليه السلام، وذلك‏:‏ ‏{‏ليعلم‏}‏ العزيز سيدي ‏{‏أني لم أخنه‏}‏ في أهله وهو غائب، وليعلم أيضاً أن الله تعالى ‏{‏لا يهدي‏}‏ كيد خائن ولا يرشد سعيه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والهدى للكيد مستعار، بمعنى لا يكلمه ولا يمضيه على طريق إصابة، ورب كيد مهدي إذا كان من تقي في مصلحة‏.‏

واختلفت هذه الجماعة فقال ابن جريج‏:‏ هذه المقالة من يوسف هي متصلة بقوله للرسول‏:‏ ‏{‏إن ربي بكيدهن عليم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50‏]‏، وفي الكلام تقديم وتأخير، فالإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏- على هذا التأويل- هي إلى بقائه في السجن والتماسه البراءة أي هذا ليعلم سيدي أني لم أخنه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها، إلى قولها‏:‏ ‏{‏وإنه لمن الصادقين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏ فالإشارة- على هذا- إلى إقرارها، وصنع الله تعالى فيه، وهذا يضعف، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك، وبعد هذا يقول الملك‏:‏ ‏{‏ائتوني به‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقالت فرقة من أهل التأويل‏:‏ هذه الآية من قول امرأة العزيز، وكلامها متصل، أي قولي هذا وإقراري ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته بأن أكذب عليه أو أرميه بذنب هو بريء منه؛ والتقدير- على هذا التأويل توبتي وإقراري ليعلم أني لم أخنه وأن الله لا يهدي‏.‏‏.‏

وعلى أن الكلام من يوسف يجيء التقدير‏:‏ وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ الآية، هذه أيضاً مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة، حسب التي قبلها‏:‏

فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك‏:‏ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لما قال يوسف‏:‏ ‏{‏أني لم أخنه بالغيب‏}‏ قال له جبريل‏:‏ ولا حين هممت وحللت سراويلك، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك‏.‏ وروي أن المرأة قالت له ذلك، قاله السدي، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال‏:‏ ‏{‏وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏، قاله ابن عباس أيضاً‏.‏

ومن قال‏:‏ إن المرأة قالت ‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات، كأنها قالت‏:‏ وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرئ أنا منه نفسي، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه‏.‏

و ‏{‏أمارة‏}‏ بناء مبالغة، و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما رحم‏}‏ مصدرية، هذا قول الجمهور فيها، وهو على هذا‏.‏ استثناء منقطع، أي إلا رحمة ربي، ويجوز أن تكون بمعنى «من»، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع، كذا قال أبو علي، فتقدير الآية‏:‏ إلا النفوس التي يرحمها الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإذن النفس اسم جنس، فصح أن تقع ‏{‏ما‏}‏ مكان «من» إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه، وهو نص في كلام المبرد، وهو- عندي- معنى كلام سيبويه، وهو مذهب أبي علي- ذكره في البغداديات‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ ظرفية، المعنى‏:‏ أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي‏.‏

ثم ترجى في آخر الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضاً صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال‏:‏ ‏{‏ائتوني به أستخلصه لنفسي‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فتأمل أن الملك قال أولاً- حين تحقق علمه- ‏{‏ائتوني به‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50‏]‏ فقط، فلما فعل يوسف ما فعل، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال‏:‏ ‏{‏ائتوني به أستخلصه لنفسي‏}‏، فلما جاءه وكلمه قال‏:‏ ‏{‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه، إذ المرء مخبوء تحت لسانه؛ ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية حتى ولاه خطة العزيز‏.‏

و ‏{‏أمين‏}‏ من الأمانة، وقالت فرقة هو بمعنى آمن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيراً ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له‏:‏ إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي، فقال له يوسف‏:‏ أتأنف أن آكل معك‏؟‏ أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم الخليل، وابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الصديق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا الحديث بعد وضعف، وقد قال ابن ميسرة‏:‏ إنما جرى هذا في أول أمره، كان يأكل مع العزيز، فلما جرت قصة المرأة قالت للعزيز‏:‏ أتدع هذا يواكلك‏؟‏ فقال له‏:‏ اذهب فكل مع العبيد؛ فأنف وقال ما تقدم‏.‏

اما ان الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك‏.‏

وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، ولو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر‏:‏ ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقال‏:‏ «عظيم الروم»، ولم يقل‏:‏ ملكاً ولا أميراً، لأن ذلك حكم، والحق أن يسلم ويسلموا‏.‏ وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب، ولو كتب له النبي عليه السلام‏:‏ أمير الروم، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله‏:‏ شهد- والله- لي أبو الحسن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ الآية، فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره في الملك، فألقى يده في الفصل الذي تمكنه فيه المعدلة ويترتب له الإحسان إلى من يجب ووضع الحق على أهله وعند أهله‏.‏

قال بعض أهل التأويل‏:‏ في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز له ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام لرغبته في أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر الصديق في الخلافة مه نهيه المستشير من الأنصار عن أن يتأمر على اثنين‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث بكماله فجائز للفاضل أن يعمل وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه، وجائز أيضاً للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره‏.‏

و ‏{‏خزائن‏}‏ لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره‏.‏ و‏{‏حفيظ عليم‏}‏ صفتان تعم وجوه التثقيف والحيطة لا خلل معهما لعامل‏.‏ وقد خصص الناس بهاتين الصفتين أشياء، مثل قولهم‏:‏ «حفيظ» بالحساب «عليم» بالألسن، وقول بعضهم‏:‏ «حفيظ» لما استودعتني، «عليم» بسني الجوع، وهذا كله تخصيص لا وجه له، وإنما أراد باتصافه أن يعرف الملك بالوجه الذي به يستحق الكون على خزائن الأرض فاتصف بأنه يحفظ المجبي من كل جهة تحتاج إلى الحفظ‏.‏ ويعلم التناول أجمع‏.‏ وروي عن مالك بن أنس أنه قال‏:‏ مصر خزانة الأرض، واحتج بهذه الآية‏.‏

وقوله ‏{‏خزائن الأرض‏}‏ يريد أرض مصر إذ لم تكن مملكة فرعون إلا بها فقط، ويؤكد أن تسمى خزانة الأرض نصبتها في بلاد الأرض وتوسطها، فمنها ينقل الناس إلى أقطار الأرض وهي محل كل جالب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك مكنا ليوسف‏}‏ الآية، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الفعال المنصوصة، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق‏:‏ بل عزله الملك ثم مات أطفير، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه عروساً قال لها‏:‏ أليس هذا خيراً مما كنت أردت‏؟‏ فقالت له‏:‏ أيها الصديق كنت في غاية الجمال، وكنت شابة عذراء، وكان زوجي لا يطأ، فغلبتني نفسي في حبك، فدخل يوسف بها فوجدها بكراً، وولدت له ولدين‏.‏ وروي أن الملك عزل العزيز، وولاه موضعه، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد‏:‏ وأسلم الملك آخر أمره، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه، ومات وافتقرت زوجته، وزمنت وشاخت، فلما كان في بعض الأيام‏.‏ لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب ‏{‏هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله، وما أنا من المشركين‏}‏

‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ فصاحت به وقالت‏:‏ سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب بالمعصية، فعرفها، وقالت له‏:‏ تعطف عليَّ وارزقني شيئاً فدعاها وكلمها، وأشفق لحالها، ودعا الله تعالى، فرد عليها جمالها وتزوجها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «حيث يشاء» على الإخبار عن يوسف؛ وقرأ ابن كثير وحده «حيث نشاء» بالنون على ضمير المتكلم‏.‏ أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين؛ وقال أبو علي‏:‏ إما أن يكون تقدير هذه القراءة‏:‏ حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها؛ وإما أن يكون معناها‏:‏ حيث يشاء يوسف، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله من أبي على نزغة اعتزالية، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين، فتأمله‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏مكنا ليوسف‏}‏ يجوز أن تكون على حد التي في قوله ‏{‏ردف لكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ و‏{‏للرؤيا تعبرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يتبوأ‏}‏ في موضع نصب على الحال، و‏{‏حيث يشاء‏}‏ نصب على الظرف أو على المفعول به، كما قال الشماخ‏:‏ حيث تكوى النواحز‏.‏ وباقي الآية بين‏.‏

ولما تقدم في هذه الآية الإحسان من العبد، والجري على طريق الحق لا يضيع عند الله ولا بد من حسن عاقبته في الدنيا، عقب ذلك بأن حال الآخرة أحمد وأحرى أن تجعل غرضاً ومقصداً، وهذا هو الذي ينتزع من الآية بحسب المقيدين بالإيمان والتقوى من الناس وفيها مع ذلك إشارة إلى أن حاله من الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قال السدي وغيره‏:‏ سبب مجيئهم أن الجماعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب، وروي أنه كان في الغربات من أرض فلسطين بغور الشام‏.‏ وقيل‏:‏ كان بالأولاج من ناحية الشعب، وكان صاحب بادية له إبل وشاء، فأصابهم الجوع، وكان أهل مصر قد استعدوا وادخروا من السنين الخصيبة، فكان الناس يمتارون من عند يوسف، وهو في رتبة العزيز المتقدم، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير، يسوي بين الناس، فلما ورد إخوته عرفهم يوسف ولم يعرفوه هم، لبعد العهد وتغير سنه، ولم يقع لهم- بسبب ملكه ولسانه القبطي- ظن عليه؛ وروي في بعض القصص‏:‏ أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم- بترجمان- أظنكم جواسيس، فاحتاجوا- حينئذ- إلى التعريف بأنفسهم فقالوا‏:‏ نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثني عشر، ذهب واحد منا في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا، وكانوا عشرة، ولهم أحد عشرة بعيراً؛ فقال لهم يوسف‏:‏ ولم تخلف أخوكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لمحبة أبينا فيه، قال‏:‏ فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لِمَ أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين‏؟‏ وروي في القصص أنهم وردوا مصر، واستأذنوا على العزيز وانتسبوا في الاستئذان، فعرفهم، وأمر بإنزالهم، وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه وأهبة شنيعة؛ وروي أنه كان متلثماً أبداً ستراً لجماله، وأنه كان يأخذ الصواع فينقره، ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه؛ فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم يوسف‏:‏ صدقتم، فلما قالوا‏:‏ وكان لنا أخ أكله الذئب، طن يوسف الصاع وقال‏:‏ كذبتم، ثم تغير لهم، وقال‏:‏ أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك، في قصص طويل جاءت الإشارة إليه في القرآن وجيزة‏.‏

و «الجهاز» ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع وكل ما يحمل، وكذلك جهاز العروس وجهاز الميت‏.‏

وقول يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏ألا ترون أني أوفى الكيل‏}‏ الآية، يرغبهم في نفسهم آخراً، ويؤنسهم ويستميلهم‏.‏ و‏{‏المنزلين‏}‏ يعني المضيفين في قطره ووقته، و«الجهاز»- المشار إليه- الطعام الذي كان حمله لهم، ثم توعدهم إن لم يجيئوا بالأخ بأنه لا كيل لهم عنده في المستأنف، وأمرهم ألا يقربوا له بلداً ولا طاعة، و‏{‏لا تقربون‏}‏ نهي لفظاً ومعنى، ويجوز أن يكون لفظه الخبر ومعناه النهي، وتحذف إحدى النونين كما قرئ ‏{‏فبم تبشرونِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏- بكسر النون- وهذا خبر لا غير‏.‏ وخلط النحاس في هذا الموضع؛ وقال مالك رحمه الله‏:‏ هذه الآية وما يليها تقتضي أن كيل الطعام على البائع، وكذلك هي الرواية في التولية والشركة‏:‏ أنها بمنزلة البيع، والرواية في القرض‏:‏ أن الكيل على المستقرض‏.‏

وروي أنه حبس منهم شمعون رهينة حتى يجيئوه ببنيامين،- قاله السدي- وروي‏:‏ أنه لم يحبس منهم أحداً‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «كان يوسف يلقي حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيطن فيقول لهم‏:‏ إن هذا الإناء يخبرني أن لكم أباً شيخاً»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأنها حيلة وإيهام لهم، وروي‏:‏ أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام إظهاراً لعزته بحسب غلائه في تلك المدة، وروي‏:‏ أن يوسف استوفى في تلك السنين أموال الناس، ثم أملاكهم، فمن هناك ليس لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك‏.‏ وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع ليكمل أجر يعقوب ومحنته وتتفسر الرؤيا الأولى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

تقدم معنى «المراودة» أي سنفائل أباه في أن يتركه يأتي معنا إليك، ثم شددوا هذه المقالة بأن التزموها له في قولهم‏:‏ ‏{‏وإنا لفاعلون‏}‏، وأراد يوسف عليه السلام المبالغة في استمالتهم بأن رد مال كل واحد منهم في رحله بين طعامه، وأمر بذلك فتيانه‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ «لفتيته» وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «لفتيانه»، واختلف عن عاصم، ففتيان للكثرة- على مراعاة المأمورين- وفتية للقلة- على مراعاة المتناولين وهم الخدمة- ويكون هذا الوصف للحر والعبد‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «وقال لفتيانه» وهو يكايلهم‏.‏

وقوله ‏{‏لعلهم يعرفونها‏}‏ يريد‏:‏ لعلهم يعرفون لها يداً، أو تكرمة يرون حقها، فيرغبون فينا، فلعلهم يرجعون حينئذ وأما ميز البضاعة فلا يقال فيه‏:‏ لعل، وقيل‏:‏ قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن، وهذا ضعيف من وجوه، وسرورهم بالبضاعة وقولهم‏:‏ ‏{‏هذه بضاعتنا ردت إلينا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 65‏]‏ يكشف أن يوسف لم يقصد هذا وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم، فيرغبهم في نفسه كالذي كان؛ وخص البضاعة بعينها- دون أن يعطيهم غيرها من الأموال- لأنها أوقع في نفوسهم، إذ يعرفون حلها، وماله هو إنما كان عندهم مالاً مجهول الحال، غايته أن يستجاز على نحو استجازتهم قبول الميرة؛ ويظهر أن ما فعل يوسف من صلتهم، وجبرهم في تلك الشدة كان واجباً عليه، إذ هو ملك عدل وهم أهل إيمان ونبوة؛ وقيل‏:‏ علم عدم البضاعة والدراهم عند أبيه، فرد البضاعة إليهم لئلا يمنعهم العدم من الانصراف إليه؛ وقيل‏:‏ جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك، ليبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر من القصة أنه إنما أراد الاستئلاف وصلة الرحم‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر‏:‏ «نكتل» بالنون على مراعاة ‏{‏منع منا‏}‏ ويقويه‏:‏ ‏{‏ونمير أهلنا ونزداد‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 65‏]‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «يكتل» بالياء، أي يكتل يامين كما اكتلنا نحن‏.‏

وأصل ‏{‏نكتل‏}‏، وزنه نفتعل‏.‏ وقوله ‏{‏منع منا‏}‏ ظاهره أنهم أشاروا إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلا كيل لكم عندي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 60‏]‏ فهو خوف في المستأنف؛ وقيل‏:‏ أشاروا إلى بعير بنيامين- الذي لم يمتر- والأول أرجح‏.‏ ثم تضمنوا له حفظه وحيطته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 65‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏هل‏}‏ توقيف وتقرير، وتألم يعقوب عليه السلام من فرقة بنيامين، ولم يصرح بمنعهم من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة، لكنه أعلمهم بقلة طمأنينته إليهم‏.‏ وأنه يخاف عليه من كيدهم، ولكن ظاهر أمرهم أنهم كانوا نبئوا وانتقلت حالهم، فلم يخف كمثل ما خاف على يوسف من قبل، لكن أعلم بأن في نفسه شيئاً، ثم استسلم لله تعالى، بخلاف عبارته في قصة يوسف‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم- في رواية أبي بكر- «خير حفظاً» وقرأ حمزة والكسائي وحفص- عن عاصم- «خير حافظاً» ونصب ذلك- في القراءتين- على التمييز‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن ينصب «حافظاً» على الحال، وضعف ذلك أبو علي الفارسي، لأنها حال لا بد للكلام والمعنى منها، وذلك بخلاف شرط الحال، وإنما المعنى أن حافظ الله خير حافظكم‏.‏ ومن قرأ «حفظاً» فهو مع قولهم‏:‏ ‏{‏ونحفظ أخانا‏}‏‏.‏ ومن قرأ «حافظاً» فهو مع قولهم ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 63‏]‏ فاستسلم يعقوب عليه السلام لله وتوكل عليه‏.‏ قال أبو عمرو الداني‏:‏ قرأ ابن مسعود‏:‏ «فالله خير حافظ وهو خير الحافظين»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا بعد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتحوا متاعهم‏}‏ سمى المشدود المربوط بحملته متاعاً، فلذلك حسن الفتح فيه، قرأ جمهور الناس‏:‏ «رُدت» بضم الراء، على اللغة الفاشية عن العرب، وتليها لغة من يشم، وتليها لغة من يكسر‏.‏ وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب «رِدت» بكسر الراء على لغة من يكسر- وهي في بني ضبة-، قال أبو الفتح‏:‏ وأما المعتل- نحو قيل وبيع- فالفاشي فيه الكسر، ثم الإشمام، ثم الضم، فيقولون‏:‏ قول وبوع، وأنشد ثعلب‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وقول لا أهل له ولا مال *** قال الزجاج‏:‏ من قرأ‏:‏ «رِدت» بكسر الراء- جعلها منقولة من الدال- كما فعل في قيل وبيع- لتدل على أن أصل الدال الكسرة‏.‏

وقوله ‏{‏ما نبغي‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ استفهاماً، قاله قتادة‏.‏ و‏{‏نبغي‏}‏ من البغية، أي ما نطلب بعد هذه التكرمة‏؟‏ هذا مالنا رد إلينا مع ميرتنا‏.‏ قال الزجّاج‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ نافية، أي ما بقي لنا ما نطلب، ويحتمل أيضاً أن تكون نافية، و‏{‏نبغي‏}‏ من البغي، أي ما تعدينا فكذبنا على هذا الملك ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة‏.‏

وقرأ أبو حيوة «ما تبغي»- بالتاء، على مخاطبة يعقوب، وهي بمعنى‏:‏ ما تريد وما تطلب‏؟‏ قال المهدوي‏:‏ وروتها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأت فرقة‏:‏ «ونَمير» بفتح النون- من مار يمير‏:‏ إذا جلب الخير، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

بعثتك مائراً فمكثت حولاً *** متى يأتي غياثك من تغيث

وقرأت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «ونُمير» بضم النون- وهي من قراءة أبي عبد الرحمن السلمي- وعلى هذا يقال‏:‏ مار وأمار بمعنى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏؟‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ونزداد كيل بعير‏}‏ يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف إنما حمل لهم عشرة أبعرة ولم يحمل الحادي عشر لغيب صاحبه‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏كيل بعير‏}‏ أراد كيل حمار‏.‏ قال‏:‏ وبعض العرب يقول للحمار بعير‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا شاذ‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ذلك كيل يسير‏}‏ تقرير بغير ألف، أي أذلك كيل يسير في مثل هذا العام فيهمل أمره‏؟‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ‏{‏يسير‏}‏ على يوسف أن يعطيه‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ وقد كان يوسف وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن؛ وقال السدي‏:‏ معنى ‏{‏ذلك كيل يسير‏}‏ أي سريع لا نحبس فيه ولا نمطل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكأنهم أنسوه على هذا بقرب الأوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

أراد يعقوب عليه السلام أن يتوثق منهم‏.‏ و«الموثق»- مفعل- من الوثاقة‏.‏ فلما عاهدوه أشهد الله بينه وبينهم بقوله‏:‏ ‏{‏الله على ما نقول وكيل‏}‏ و«الوكيل» القيم الحافظ الضامن‏.‏

وقرأ ابن كثير «تؤتوني» بياء في الوصل والوقف، وروي عن نافع أنه وصل بياء ووقف دونها‏.‏ والباقون تركوا الياء في الوجهين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا تدخلوا من باب واحد‏}‏ قيل‏:‏ خشي عليهم العين لكونهم أحد عشر لرجل واحد، وكانوا أهل جمال وبسطة‏.‏ قال ابن عباس والضحاك وقتادة وغيره‏:‏ والعين حق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر»، وفي تعوذه عليه السلام‏:‏ «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة وكل عين لامة» وقيل‏:‏ خشي أن يستراب بهم لقول يوسف قبل‏:‏ أنتم جواسيس ويضعف هذا ظهورهم قبل بمصر‏.‏ وقيل‏:‏ طمع بافتراقهم أن يستمعوا أو يتطلعوا خبر يوسف- وهذا ضعيف يرده‏:‏ ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ فإن ذلك لا يتركب على هذا المقصد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يحاط بكم‏}‏ لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والقسر والمعنى تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا تكون لكم حيلة ولا وجه تخلص‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى‏:‏ إلا أن تهلكوا جميعاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلا ألا تطيقوا ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يرجحه لفظ الآية‏.‏ وانظر أن يعقوب عليه السلام قد توثق في هذه القصة، وأشهد الله تعالى، ووصى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكله، فهذا توكل مع تسبب، وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شط في رفض السعي وقنع بماء وبقل البرية ونحوه، فتلك غاية التوكل وعليها بعض الأنبياء عليهم السلام، والشارعون منهم مثبتون سنن التسبب الجائز، وما تجاوز ذلك من الإلقاء باليد مختلف في جوازه، وقد فضله بعض المجيزين له، ولا أقول بذلك، وباقي الآية بين‏.‏