فصل: تفسير الآيات رقم (68- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

روي أنه لما ودعوا أباهم قال لهم‏:‏ بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له‏:‏ إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا‏.‏ وفي كتاب أبي منصور المهراني‏:‏ أنه خاطبه بكتاب قرئ على يوسف فبكى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها‏}‏ بمثابة قولهم‏:‏ لم يكن في ذلك دفع قدر الله بل كان أرباً ليعقوب قضاه‏.‏ وطيباً لنفسه تمسك به وأمر بحبسه‏.‏ فجواب ‏{‏لما‏}‏ في معنى قوله‏:‏ ‏{‏ما كان يغني عنهم من الله من شيء‏}‏ و‏{‏إلا حاجة‏}‏ استثناء ليس من الأول‏.‏ وال ‏{‏حاجة‏}‏ هي أن يكون طيب النفس بدخولهم من أبواب متفرقة خوف العين‏.‏ قال مجاهد‏:‏ «الحاجة»‏:‏ خيفة العين، وقاله ابن إسحاق، وفي عبارتهما تجوز‏:‏ ونظير هذا الفعل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سد كوة في قبر بحجر وقال‏:‏ «إن هذا لا يغني شيئاً ولكنه تطيب لنفس الحي»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله- عندي- ‏{‏ما كان يغني عنهم من الله من شيء‏}‏ معناه‏:‏ ما رد عنهم قدراً، لأنه لو قضي أن تصيبهم عين لأصابتهم مفترقين أو مجتمعين، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة فوصى وقضى بذلك حاجته في نفسه في أن يتنعم برجائه، أن تصادف القدر في سلامتهم‏.‏

ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب بأنه لقن ما علمه الله من هذا المعنى، واندرج غير ذلك في العموم وقال إن أكثر الناس ليس كذلك، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ إنه لعامل بما علمناه- قاله قتادة- وقال سفيان‏:‏ من لا يعمل لا يكون عالماً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لا يعطيه اللفظ، اما انه صحيح في نفسه يرجحه المعنى، ومات تقتضيه منزلة يعقوب عليه السلام‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ قرأ الأعمش ‏{‏لذو علم لما علمناه‏}‏‏.‏ ويحتمل أن يكون جواب ‏{‏لما‏}‏ في هذه الآية محذوفاً مقدراً، ثم يخبر عن دخولهم أنه ‏{‏ما كان يغني‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما دخلوا على يوسف‏}‏ الآية‏.‏ المعنى أنه لما دخل إخوة يوسف عليه ورأى أخاه شكر ذلك لهم- على ما روي- وضم إليه أخاه وآواه إلى نفسه‏.‏ ومن هذه الكلمة المأوى‏.‏ وكان بنيامين شقيق يوسف فآواه‏.‏ وصورة ذلك- على ما روي عن ابن إسحاق وغيره- أن يوسف عليه السلام أمر صاحب ضيافته أن ينزلهم رجلين رجلين، فبقي يامين وحده، فقال يوسف‏:‏ أنا أنزل هذا مع نفسي، ففعل وبات عنده؛ وقال له‏:‏ ‏{‏إني أنا أخوك‏}‏ واختلف المتأولون في هذا اللفظ فقال ابن إسحاق وغيره‏:‏ أخبره بأنه أخوه حقيقة واستكتمه، وقال له‏:‏ لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم‏.‏ وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ إلى ما يعمله فتيان يوسف، من أمر السقاية ونحو ذلك؛ ويحتمل أن يشير إلى ما عمله الإخوة قديماً‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ إنما أخبره أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب، ولم يكشف إليه الأمر بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته‏.‏ و‏{‏تبتئس‏}‏- تفتعل- من البؤس، أي لا تحزن ولا تهتم، وهكذا عبر المفسرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 75‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام، وذلك أنه كان في دين يعقوب أن يستعبد السارق، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، فعلم يوسف أن إخوته- لثقتهم ببراءة ساحتهم- سيدعون في السرقة إلى حكمهم؛ فتحيل لذلك، واستسهل الأمر- على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام، وعليهم- لما علم في ذلك من الصلاح في الأجل، وبوحي لا محالة وإرادة من الله محنتهم بذلك،- هذا تأويل قوم، ويقويه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كدنا ليوسف‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ وقيل‏:‏ إنما أوحي إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى على ما ظهر إليه- ورجحه الطبري؛ وتفتيش الأوعية يرد عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم لما كانوا قد باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وإنه عوقب على ذلك بأن قالوا‏:‏ «فقد سرق أخ له من قبل» وقوله‏:‏ ‏{‏جعل‏}‏ أي بأمره خدمته وفتيانه‏.‏

وقرأ ابن مسعود «وجعل» بزيادة واو‏.‏ ‏{‏السقاية‏}‏‏:‏ الإناء الذي به يشرب الملك وبه كان يكيل الطعام للناس، هكذا نص جمهور المفسرين ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك وابن زيد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي كتب من حرر أمرها أنها شكل له رأسان ويصل بينهما مقبض تمسك الأيدي فيه فيكال الطعام بالرأس الواحد ويشرب بالرأس الثاني أو بهما‏.‏ فيشبه أن تكون لشرب أضياف الملك وفي أطعمته الجميلة التي يحتاج فيها إلى عظيم الأواني‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ال ‏{‏الصواع‏}‏ مثل المكوك الفارسي، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ما هو، قال‏:‏ وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال ابن جبير- أيضاً- «الصواع»‏:‏ المكوك الفارسي الذي تلتقي طرفاه، كانت تشرب فيه الأعاجم‏.‏ وروي أنها كانت من فضة- وهذا قول الجمهور- وروي أنها كانت من ذهب قال الزجاج‏:‏ وقال‏:‏ كان من مسك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد روي هذا بفتح الميم، وقيل‏:‏ كان يشبه الطاس، وقيل‏:‏ من نحاس- قاله ابن عباس أيضاً- ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيلها على ذلك الإناء‏.‏ وكان هذا الجعل بغير علم من يامين- قاله السدي، وهو الظاهر‏.‏

فلما فصلت العير بأوفارها وخرجت من مصر- فيما روي وقالت فرقة بل قبل الخروج من مصر- أمر بهم فحبسوا‏.‏ و‏{‏أذن مؤذن‏}‏ و«مخاطبة العير» تجوز، والمراد أربابها، وإنما المراد‏:‏ أيتها القافلة أو الرفقة، وقال مجاهد‏:‏ كانت دوابهم حميراً، ووصفهم بالسرقة من حيث سرق في الظاهر أحدهم، وهذا كما تقول‏:‏ بنو فلان قتلوا فلاناً، وإنما قتله أحدهم‏.‏

فلما سمع إخوة يوسف هذه المقالة أقبلوا عليهم وساءهم أن يرموا بهذه المنقبة، وقالوا‏:‏ ‏{‏ماذا تفقدون‏}‏ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا إكمال الدعوى عسى أن يكون فيها ما تبطل به، فلا يحتاج إلى خصام‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ «تُفقدون» بضم التاء، وضعفها أبو حاتم‏.‏

‏{‏قالوا نفقد صواع الملك‏}‏‏:‏ وهو المكيال وهو السقاية رسمه أولاً بإحدى جهتيه وآخراً بالثانية‏.‏

وقرأ جمهور الناس «صُواع» بضم الصاد وبألف، وقرأ أبو حيوة‏:‏ «صِواع» بكسر الصاد وبألف، وقرأ أبو هريرة ومجاهد «صاع الملك» بفتح الصاد دون واو، وقرأ عبد الله بن عوف‏:‏ «صُواع» بضم الصاد، وقرأ أبو رجاء «صوْع» وهذه لغة في المكيال- قاله أبو الفتح وغيره- وتؤنث هذه الأسماء وتذكر‏.‏ وقال أبو عبيد يؤنث الصاع من حيث سمي سقاية، ويذكر من حيث هو صاع‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر‏:‏ «صوغ» بالغين منقوطة- وهذا على أنه الشيء المصوغ للملك على ما روي أنه كان من ذهب أو من فضة، فهو مصدر سمي به، ورويت هذه القراءة عن أبي رجاء‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وقرأ سعيد بن جبير والحسن «صُواغ» بضم الصاد وألف وغين معجمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير‏}‏، أي لمن دل على سارقه وفضحه وجبر الصواع- وهذا جعل- وقوله‏:‏ ‏{‏وأنا به زعيم‏}‏ حمالة، وذلك أنه لما كان الطعام لا يوجد إلا عند الملك فهم من المؤذن أنه إنما جعل عن غيره، فلخوفه ألا يوثق بهذه الجعالة- إذ هي عن الغير- تحمل هو بذلك‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ال ‏{‏زعيم‏}‏ هو المؤذن الذي قال‏:‏ ‏{‏أيتها العير‏}‏ و«الزعيم»‏:‏ الضامن- في كلام العرب- ويسمى الرئيس زعيماً، لأنه يتضمن حوائج الناس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏:‏ تالله‏}‏ الآية، روي‏:‏ أن إخوة يوسف كانوا ردوا البضاعة الموجودة في الرحال وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏لقد علمتم‏}‏ أي لقد علمتم منا التحري؛ وروي أنهم كانوا قد اشتهروا في مصر بصلاح وتعفف، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زرع الناس، فلذلك قالوا‏:‏ لقد علمتم ما جئنا لفساد وما نحن أهل سرقة‏.‏

والتاء في ‏{‏تالله‏}‏ بدل من واو- كما أبدلت في تراث وفي التورية وفي التخمة- ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى، لا في غير ذلك- لا تقول‏:‏ تالرحمن ولا تالرحيم-‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا‏:‏ فما جزاؤه‏}‏ الآية، قال فتيان يوسف‏:‏ فما جزاء السارق ‏{‏إن كنتم كاذبين‏}‏ في قولكم‏:‏ ‏{‏وما كنا سارقين‏}‏ فقال إخوة يوسف‏:‏ جزاء السارق والحكم الذي تتضمنه هذه الألفاظ ‏{‏من وجد في رحله فهو جزاؤه‏}‏ ف ‏{‏جزاؤه‏}‏ الأول مبتدأ و‏{‏من‏}‏ والجملة خبر قوله‏:‏ ‏{‏جزاؤه‏}‏ الأول، والضمير في ‏{‏قالوا جزاؤه‏}‏ للسارق، ويصح أن تكون ‏{‏من‏}‏ خبراً عائد على ‏{‏من‏}‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فهو جزاؤه‏}‏ زياد بيان وتأكيد‏.‏

وليس هذا الموضع- عندي- من مواضع إبراز الضمير على ما ذهب إليه بعض المفسرين، ويحتمل أن يكون التقدير‏:‏ جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله ‏{‏فهو جزاؤه‏}‏ وقولهم هذا قول من لم يسترب بنفسه، لأنهم التزموا إرغام من وجد في رحله، وهذا أكثر من موجب شرعهم إذ حق شرعهم أن لا يؤخذ إلا من صحت سرقته، وأمر بنيامين في السقاية كان محتملاً‏.‏ لكنهم التزموا أن من وجد في رحله فهو مأخوذ على أنه سارق‏.‏ وقولهم ‏{‏كذلك نجزي الظالمين‏}‏، أي هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة‏:‏ أن يتملك السارق كما تملك هو الشيء المسروق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحكى بعض الناس‏:‏ أن هذا الحكم كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع، وهذا ضعيف، ما كان قط فيما علمت، وحكى الزهراوي عن السدي‏:‏ أن حكمهم إنما كان أن يستخدم السارق على قدر سرقته وهذا يضعفه رجوع الصواع فكان ينبغي ألا يؤخذ بنيامين إذ لم يبق فيما يخدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

بدؤه- أيضاً- من أوعيتهم تمكين للحيلة وإبعاد لظهور أنها حيلة‏.‏

وقرأ جمهور الناس «وِعاء» بكسر الواو، وقرأ الحسن «وُعاء» بضمها، وقرأ ابن جبير «أعاء» بهمزة بدل الواو، وذلك شائع في الواو المكسورة، وهو أكثر في المضمومة، وقد جاء من المفتوحة‏:‏ أحد في وحد‏.‏

وأضاف الله تعالى إلى ضميره لما أخرج القدر الذي أباح به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد، وقال السدي والضحاك‏:‏ ‏{‏كدنا‏}‏ معناه‏:‏ صنعنا‏.‏

و ‏{‏دين الملك‏}‏ فسره ابن عباس بسلطانه، وفسره قتادة بالقضاء والحكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا متقارب، والاستثناء في هذه الآية حكاية حال، التقدير‏:‏ إلا ان شاء الله ما وقع من هذه الحيلة؛ ويحتمل أن يقدر أنه تسنن لما قرر النفي‏.‏

وقرأ الجمهور «نرفع» على ضمير المعظم و«نشاء» كذلك، وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء، أي الله تعالى‏:‏ وقرأ عمرو ونافع وأهل المدينة «درجاتِ من» بإضافة الدرجات إلى ‏{‏من‏}‏، وقرأ عاصم وابن محيصن «درجاتٍ من» بتنوين الدرجات، وقرأ الجمهور، «وفوق كل ذي علم»‏.‏ وقرأ ابن مسعود «وفوق كل ذي عالم» والمعنى أن البشر في العلم درجات، فكل عالم فلا بد من أعلم منه، فإما من البشر وإما الله عز وجل‏.‏ وأما على قراءة ابن مسعود فقيل‏:‏ ‏{‏ذي‏}‏ زائدة، وقيل‏:‏ «عالم» مصدر كالباطل‏.‏

وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل فلم يجد فيه شيئاً استغفر الله عز وجل تائباً من فعله ذلك، وظاهر كلام قتادة وغيره، أن المستغفر كان يوسف لأنه كان يفتشهم يعلم أين الصواع، حتى فرغ منهم وانتهى إلى رحل بنيامين فقال‏:‏ ما أظن هذا الفتى رضي بهذا، ولا أخذ شيئاً، فقال له إخوته، والله لا تبرح حتى تفتشه فهو أطيب لنفسك ونفوسنا، ففتش فأخرج السقاية- وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن إنما سرقه برأيه، فإنما يقال جميع ذلك كان بأمر الله تعالى، ويقوي ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كدنا‏}‏، وكيف لا يكون برأي يوسف وهو مضطر في محاولته إلى أن يلزمهم حكم السرقة له أخذ أخيه‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏استخرجها‏}‏ عائد على ‏{‏السقاية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 70‏]‏، ويحتمل أن يعود على السرقة‏.‏

وروي أن إخوة يوسف لما رأوا ذلك قالوا‏:‏ يا بنيامين بن راحيل قبحك الله ولدت أمك أخوين لصَّين، كيف سرقت هذه السقاية‏؟‏ فرفع يديه إلى السماء وقال‏:‏ والله ما فعلت، فقالوا له‏:‏ فمن وضعها في رحلك قال‏:‏ الذي وضع البضاعة في رحالكم‏.‏

وما ذكرناه من المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏وفوق كل ذي علم عليم‏}‏ هو قول الحسن وقتادة، وقد روي عن ابن عباس، وروي أيضاً عنه رضي الله عنه‏:‏ أنه حدث يوماً بحديث عجيب فتعجب منه رجل ممن حضر، وقال‏:‏ الحمد لله ‏{‏وفوق كل ذي علم عليم‏}‏، وقال ابن عباس‏:‏ بئس ما قلت، إنما العليم لله وهو فوق كل ذي علم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فبين هذا وبين قول الحسن فرق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏قالوا‏}‏ لإخوة يوسف، والأخ الذي أشاروا إليه هو يوسف، ونكروه تحقيراً للأمر، إذ كان مما لا علم للحاضرين به، ثم ألصقوه ببنيامين، إذ كان شقيقه، ويحتمل قولهم‏:‏ ‏{‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ تأويلين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم حققوا السرقة في جانب بنيامين ويوسف عليهما السلام، بحسب ظاهر الحكم، فكأنهم قالوا‏:‏ إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف كان قد سرق‏.‏ فهذا من الإخوة إنحاء على ابني راحيل‏:‏ يوسف وبنيامين‏.‏

والوجه الآخر الذي يحتمله لفظهم يتضمن أن السرقة في جانب يوسف وبنيامين- مظنونة- كأنهم قالوا‏:‏ إن كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً في نفسه فالذي رمى به يوسف قبل حق إذاً، وكأن قصة يوسف والظن به قوي عندهم بما ظهر في جهة وبنيامين‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ التقدير‏:‏ فقد قيل عن يوسف إنه سرق، ونحو هذا من الأقوال التي لا ينطبق معناها على لفظ الآية‏.‏

وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إنما كانت بحسب الظاهر وموجب الحكم في النازلتين، فلم يقعوا في غيبة ليوسف، وإنما قصدوا الإخبار بأمر جرى ليزول بعض المعرة عنهم، ويختص بها هذان الشقيقان‏.‏

وأما ما روي في سرقة يوسف فثلاثة وجوه‏:‏ الجمهور منها على أن عمته كانت ربته، فلما شب أراد يعقوب أخذه منها، فولعت به وأشفقت من فراقه، فأخذت منطقة إسحاق- وكانت متوارثة عندهم- فنطقته بها من تحت ثيابه، ثم صاحت وقالت‏:‏ إني قد فقدت المنطقة ويوسف قد خرج بها، ففتشت فوجدت عنده، فاسترقَّته- حسبما كان في شرعهم- وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه‏.‏

وقال إدريس عن أبيه‏:‏ إنما أكل بنو يعقوب طعاماً فأخذ يوسف عرقاً فخبأه فرموه لذلك بالسرقة، وقال سعيد بن جبير وقتادة‏:‏ إنما أمرته أمه أن يسرق صنماً لأبيها، فسرقه وكسره، وكان ذلك- منها ومنه- تغييراً للمنكر، فرموه لذلك بالسرقة، وفي كتاب الزجاج‏:‏ أنه كان صنم ذهب‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فأسرها‏}‏ عائد يراد به الحزة التي حدثت في نفس يعقوب من قوله، والكلام يتضمنها، وهذا كما تضمن الكلام الضمير الذي في قول حاتم‏:‏

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏ فهي مراد بها الحالة المتحصلة من هذه الأفعال‏.‏

وقال قوم‏:‏ أسر المجازاة، وقال قوم‏:‏ أسر الحجة‏.‏ وما قدمناه أليق‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «فأسره يوسف» بضمير تذكير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أنتم شر مكاناً‏}‏ الآية، الظاهر منه أنه قالها إفصاحاً فكأنه أسر لهم كراهية مقالتهم ثم تجهمهم بقوله‏:‏ ‏{‏أنتم شر مكاناً‏}‏ أي لسوء أفعالكم، والله يعلم إن كان ما وصفتموه حقاً، وفي اللفظ إشارة إلى تكذيبهم، ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا الشفاعة بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة بالشيخ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقالت فرقة- وهو ظاهر كلام ابن عباس- لم يقل يوسف هذا الكلام إلا في نفسه- وإنما هو تفسير للذي أسر في نفسه، أي هذه المقالة هي التي أسر، فكأن المراد في نفسه‏:‏ أنتم‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الطبري هنا قصصاً اختصاره‏:‏ أنه لما استخرجت السقاية من رحل بنيامين قال إخوته‏:‏ يا بني راحيل ألا يزال البلاء ينالنا من جهتكم‏؟‏ فقال بنيامين‏:‏ بل بنو راحيل ينالهم البلاء منكم‏:‏ ذهبتم بأخي فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم‏.‏ فقالوا‏:‏ لا تذكر الدراهم لئلا نؤخذ بها‏.‏ ثم دخلوا على يوسف فأخذ الصواع فنقره فطن، فقال‏:‏ إنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم فبعتموه، فسجد بنيامين وقال‏:‏ أيها العزيز سل صواعك هذا يخبرك بالحق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونحو هذا من القصص الذي آثرنا اختصاره‏.‏ وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه، فأمر بنياً له، فمسه، فسكن غضبه، فقال روبيل‏:‏ لقد مسني أحد من ولد يعقوب، ثم إنهم تشاوروا في محاربة يوسف- وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك- فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه، فرأوا من قوته ما استعظموه عند ذلك وقالوا‏:‏ ‏{‏يا أيها العزيز‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 88‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 80‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

خاطبوه باسم ‏{‏العزيز‏}‏ إذ كان في تلك الخطة بعزل الأول أو موته- على ما روي في ذلك- وقولهم‏:‏ ‏{‏فخذ أحدنا مكانه‏}‏ يحتمل أن يكون مجازاً وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر ليسترقّ بدل من أحكمت السنة رقه، وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله‏:‏ اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك تبالغ في استنزاله، وعلى هذا يتجه قول يوسف ‏{‏معاذ الله‏}‏ لأنه تعوذ من غير جائز، ويحتمل أن يكون قولهم ‏{‏فخذ أحدنا مكانه‏}‏ حقيقة، وبعيد عليهم- وهم أنبياء- أن يريدوا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة، أي خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك، ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه، ويعرف يعقوب جلية الأمر، فمنع يوسف عليه السلام من ذلك، إذ الحمالة في الحدود ونحوها لمعنى إحضار المضمون فقط جائزة مع التراضي غير لازمة إذا أبى الطالب، وأما الحمالة في مثل ذلك- على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة- فلا يجوز ذلك إجماعاً‏.‏ وفي الواضحة‏:‏ إن الحمالة بالوجه فقط في جميع الحدود جائزة إلا في النفس‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏، يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوه من إحسانه في جميع أفعاله- معهم ومع غيرهم- ويحتمل أن يريدوا‏:‏ إنا نرى لك إحساناً علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا- وهذا تأويل ابن إسحاق‏.‏

و ‏{‏معاذ‏}‏ نصب على المصدر، ولا يجوز إظهار الفعل معه، والظلم في قوله‏:‏ ‏{‏الظالمون‏}‏ على حقيقته، إذ هو وضع الشيء في غير موضعه، وذكر الطبري أنه روي أن يوسف أيأسهم بلفظه هذا، قال لهم‏:‏ إذا أتيتم أباكم فاقرأوا عليه السلام، وقولوا له‏:‏ إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ولدك يوسف، ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلما استيأسوا منه‏}‏ الآية، يقال‏:‏ يئس واستيأس بمعنى واحد، كما يقال‏:‏ سخر واستسخر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستسخرون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 14‏]‏ وكما يقال‏:‏ عجب واستعجب، ومنه قول أوس بن حجر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ومستعجب مما يرى من أناتنا *** ولو زبنته الحرب لم يترمرم

ومنه نوك واستنوك- وعلى هذا يجيء قول الشاعر في بعض التأويلات‏:‏ واستنوكت وللشباب نوك‏.‏ وهذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير‏:‏ «استأيسوا» و«لا تأيسوا» و«لا يأيس» و«حتى استأيس الرسل» أصله استأيسوا- استفعلوا- ومن أيس- على قلب الفعل من يئس إلى أيس، وليس هذا كجذب وجبذ بل هذان أصلان والأول قلب، دل على ذلك أن المصدر من يئس وأيس واحد، وهو اليأس، ولجذب وجبذ مصدران‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خلصوا نجياً‏}‏ معناه انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضاً، والنجي لفظ يوصف به من له نجوى واحداً أو جماعة أو مؤنثاً أو مذكراً، فهو مثل عدو وعدل، وجمعه أنجية، قال لبيد‏:‏

وشهدت أنجية الأفاقة عالياً *** كعبي وأرداف الملوك شهود

و ‏{‏كبيرهم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو شمعون لأنه كان كبيرهم رأياً وتدبيراً وعلماً- وإن كان روبيل أسنهم- وقال قتادة‏:‏ هو روبيل لأنه أسنهم، وهذا أظهر ورجحه الطبري‏.‏ وقال السدي‏:‏ معنى الآية‏:‏ وقال كبيرهم في العلم، وذكرهم أخوهم الميثاق في قوله يعقوب ‏{‏لتأتنني به إلا أن يحاط بكم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما فرطتم‏}‏ يصح أن تكون ‏{‏ما‏}‏ صلة في الكلام لا موضع لها من الإعراب‏.‏ ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء والخبر قوله‏:‏ ‏{‏في يوسف‏}‏- كذا قال أبو علي- ولا يجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏فرطتم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما تكون- على هذا- مصدرية، التقدير‏:‏ من قبل تفريطكم في يوسف واقع أو مستقر، وبهذا المقدر يتعلق قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏‏.‏ ويصح أن يكون في موضع نصب عطفاً، على أن التقدير‏:‏ وتعلموا تفريطكم أو تعلموا الذي فرطتم، فيصح- على هذا الوجه- أن يكون بمعنى الذي ويصح أن تكون مصدرية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏ أراد أرض القطر والموضع الذي ناله فيه المكروه المؤدي إلى سخط أبيه، والمقصد بهذا اللفظ التحريج على نفسه والتزام التضييق، كأنه سجن نفسه في ذلك القطر ليبلي عذراً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو يحكم الله لي‏}‏ لفظ عام بجميع ما يمكن أن يرده من القدر كالموت أو النصرة وبلوغ الأمل وغير ذلك، وقال أبو صالح‏:‏ أو يحكم الله لي بالسيف‏.‏ ونصب ‏{‏يحكم‏}‏ بالعطف على ‏{‏يأذن‏}‏، ويجوز أن تكون ‏{‏أو‏}‏ في هذا الموضع بمعنى إلا أن، كما تقول‏:‏ لألزمنك أو تقضيني حقي، فتنصب على هذا ‏{‏يحكم‏}‏ ب ‏{‏أو‏}‏‏.‏

وروي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب بكى وقال‏:‏ يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم‏:‏ ذهبتم فنقصتم يوسف، ثم ذهبتم فنقصتم شمعون حيث ارتهن، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏‏}‏

الأمر بالرجوع قيل‏:‏ هو من قول كبيرهم، وقيل‏:‏ بل هو من قول يوسف لهم، والأول أظهر‏.‏

وقرأ الجمهور «سرقَ» على تحقيق السرقة على بنيامين، بحسب ظاهر الأمر‏.‏ وقرأ ابن عباس وأبو رزين «سُرِّق» بضم السين وكسر الراء وتشديدها، وكأن هذه القراءة فيها لهم تحر، ولم يقطعوا عليه بسرقة، وإنما أرادوا جعل سارقاً بما ظهر من الحال- ورويت هذه القراءة عن الكسائي- وقرأ الضحاك‏:‏ «إن ابنك سارقٌ» بالألف وتنوين القاف، ثم تحروا بعد- على القراءتين- في قولهم ‏{‏وما شهدنا إلا بما علمنا‏}‏ أي وقولنا لك‏:‏ ‏{‏إن ابنك سرق‏}‏ إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى، والعلم في الغيب إلى الله، ليس في ذلك حفظنا، هذا قول ابن إسحاق، وقال ابن زيد‏:‏ قولهم‏:‏ ‏{‏ما شهدنا إلا بما علمنا‏}‏ أرادوا به‏:‏ وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقّ في شرعك إلا بما علمنا من ذلك، ‏{‏وما كنا للغيب حافظين‏}‏ أن السرقة تخرج من رحل أحدنا، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا‏.‏

وقرأ الحسن «وما شهدنا عليه إلا بما علمنا» بزيادة «عليه»‏.‏

ويحتمل قوله‏:‏ ‏{‏وما كنا للغيب حافظين‏}‏ أي حين واثقناك، إنما قصدنا ألا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه‏.‏

وروي أن معنى قولهم‏:‏ ‏{‏للغيب‏}‏ أي الليل، الغيب‏:‏ الليل- بلغة حمير- فكأنهم قالوا‏:‏ وما شهدنا عندك إلا بما علمناه من ظاهر حاله، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو أو التدليس عليه‏.‏ ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها- وهي مصر، قاله ابن عباس وغيره، وهذا مجاز، والمراد أهلها، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏والعير‏}‏، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح، وحكى أبو المعالي في التلخيص عن بعض المتكلمين أنه قال‏:‏ هذا من الحذف وليس من المجاز، قال‏:‏ وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هي له‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحذف المضاف هو عين المجازم وعظمه- هذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر- وليس كل حذف مجازاً، ورجح أبو المعالي- في هذه الآية- أنه مجاز، وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة، ومن حيث هو نبي فلا يبعد أن تخبره بالحقيقة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وإن جوز فبعيد، والأول أقوى، وهنا كلام مقدر يقتضيه الظاهر، تقديره‏:‏ فلما قالوا هذه المقالة لأبيهم قال‏:‏ ‏{‏بل سولت‏}‏، وهذا على أن يتصل كلام كبيرهم إلى هنا، ومن يرى أن كلام كبيرهم تم في قوله‏:‏ ‏{‏إن ابنك سرق‏}‏، فإنه يجعل الكلام هنالك تقديره‏:‏ فلما رجعوا قالوا‏:‏ ‏{‏إن ابنك سرق‏}‏ الآية‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏بل سولت لكم أنفسكم أمراً‏}‏‏.‏ إنما هو ظن سيء بهم، كما كان في قصة يوسف قبل، فاتفق أن صدق ظنه هناك، ولم يتحقق هنا، و‏{‏سولت‏}‏ معناه‏:‏ زينت وخيلت وجعلت سولاً، والسول ما يتمناه الإنسان ويحرص عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فصبر جميل‏}‏ إما ابتداء وخبره أمثل أو أولى، وحسن الابتداء بالنكرة من حيث وصفت‏.‏ وإما خبر ابتداء تقديره، فأمري أو شأني، أو صبري صبر جميل؛ وهذا أليق بالنكرة أن تكون خبراً، ومعنى وصفه بالجمال‏:‏ أنه ليس فيه شكوى إلى بشر ولا ضجر بقضاء الله تعالى‏.‏ ثم ترجى عليه السلام من الله أن يجبرهم عليه وهم يوسف وبنيامين وروبيل الذي لم يبرح الأرض، ورجاؤه هذا من جهات‏:‏ إحداها‏:‏ الرؤيا التي رأى يوسف فكان يعقوب ينتظرها‏.‏

والثانية‏:‏ حسن ظنه بالله تعالى في كل حال‏.‏

والثالثة‏:‏ ما أخبروه به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه فوقع له- من هنا- تحسس ورجاء‏.‏

والوصف «بالعلم والإحكام» لائق بما يرجوه من لقاء بنيه، وفيها تسليم لحكمة الله تعالى في جميع ما جرى عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به، ‏{‏تولى عنهم‏}‏ أي زال بوجهه عنهم وجعل يتفجع ويتأسف، قال الحسن‏:‏ خصت هذه الأمة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب‏:‏ ‏{‏يا أسفي‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمراد‏:‏ «يا أسفي»‏.‏ لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفاً نحو‏:‏ يا غلاماً ويا أبتا، ونادى الأسف على معنى احضر فهذا من أوقاتك‏.‏ وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏يا أسفى‏}‏ على جهة الندبة، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلداً منه عليه السلام، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل، وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏يا أسفى‏}‏ نداء فيه استغاثة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع و‏{‏يا أسفى‏}‏ لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام‏.‏

‏{‏وابيضت عيناه‏}‏ أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن، وروي «أن يعقوب عليه السلام حزن حزن سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط»، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ ابن عباس ومجاهد «من الحَزَن» بفتح الحاء والزاي، وقرأ قتادة بضمهما وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي‏.‏

‏{‏وهو كظيم‏}‏ يمعنى كاظم، كما قال ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والفجر‏.‏ وقال ناس‏:‏ ‏{‏كظيم‏}‏ بمعنى‏:‏ مكظوم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله ‏{‏إذ نادى وهو مكظوم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏ وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم بثه في صدره، وجري كظيم على باب كاظم أبين‏.‏ وفسر ناس «الكظيم» بالمكروب وبالمكمود- وذلك كله متقارب- وقال منذر بن سعيد‏:‏ الأسف إذا كان من جهة من هو أقل من الإنسان فهو غضب، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما آسفونا انتقمنا منهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏ ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم‏:‏ فأسفت فلطمتها؛ وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو حزن وهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحرير هذا المنزع‏:‏ أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا تالله تفتأ‏}‏ الآية، المعنى تالله لا تفتأ فتحذف لا في هذه الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فقلت يمين الله أبرح قاعداً *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

ومنه قول الاخر‏:‏

تالله يبقى على الأيام ذو حيد *** بمشمخر به الظيان والآس

أراد لا يبرح ولا يبقى، وقال الزجاجي‏:‏ وقد تحذف أيضاً ما في هذا الموضع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وخطأه بعض النحويين، ومن المواضع التي حذفت فيها لا ويدل عليها الكلام قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلا وأبي دهماء زالت عزيزة *** على قومها ما قبل الزَّنْدَ قادِحُ

وقوله ما قبل الزند قادح يوجب أن المحذوف «لا»، وليست «ما»، وفتئ بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل، تقول‏:‏ والله لا فتئت قاعداً كما تقول‏:‏ لا زلت ولا برحت، ومنه قول أوس بن حجر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فما فتئت حتى كأن غبارها *** سرادق يوم ذي رياح يرفَّع

و «الحرض»‏:‏ الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور «حَرَضاً» بفتح الراء والحاء‏.‏‏.‏‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما، وقرأت فرقة «حُرْضاً» بضم الحاء وسكون الراء‏.‏ وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد، كعدل وعدو، وقيل في قراءة الحسن‏:‏ انه يراد‏:‏ فتات الشنان أي بالياً متعتتاً، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم‏:‏ رجل حارض، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث ويذكر، ومن هذا المعنى قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إني امرؤ لجَّ بي حبٌّ فأحرضني *** حتى بليت وحتى شفني السقم

وقد سمع من العرب‏:‏ رجل محرض، قال الشاعر- وهو امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضاً *** كأحراضِ بكر في الديار مريض

و «الحرض»- بالجملة- الذي فسد ودنا موته، قال مجاهد‏:‏ «الحرض»‏:‏ ما دون الموت، قال قتادة‏:‏ «الحرض»‏:‏ البالي الهرم، وقال نحو الضحاك والحسن، وقال ابن إسحاق‏:‏ ‏{‏حرضاً‏}‏ معناه فاسد لا عقل له؛ فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له‏:‏ أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى الهلاك‏.‏ فأجابهم يعقوب عليه السلام رادّاً عليهم‏:‏ أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف في ذلك‏.‏ و«البث» ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أنه يبثه وينشره، وأكثر ما يستعمل «البث» في المكروه، وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ «البث» أشد الحزن، وقد يستعمل «البث» في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع‏:‏ ولا يولج الكف ليعلم «البث»، ومنه قولهم‏:‏ أبثك حديثي‏.‏

وقرأ عيسى‏:‏ «وحَزَني» بفتح الحاء والزاي‏.‏

وحكى الطبري بسند‏:‏ أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له فرعون‏:‏ ما بلغ بك هذا يا إبراهيم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنه يعقوب، فقال‏:‏ ما بلغ بك هذا يا يعقوب‏؟‏ قال له‏:‏ طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه‏:‏ يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي‏؟‏ فقال‏:‏ يا رب خطيئة فاغفرها لي، وأسند الطبري إلى الحسن قال‏:‏ كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر‏:‏ إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ ‏{‏اذهبوا‏}‏ إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل، ‏{‏فتحسسوا‏}‏، أي استقصوا ونقروا، والتحسس‏:‏ طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع، ويستعمل في الخير والشر، فمن استعماله في الخير هذه الآية، وفي الشر نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ولا تحسسوا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من يوسف‏}‏ يتعلق بمحذوف يعمل فيه ‏{‏تحسسوا‏}‏ التقدير‏:‏ فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف‏.‏ لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازاً‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «تيأسوا» وقرأت فرقة «تأيسوا» على ما تقدم، وقرأ الأعرج «تِئسوا» بكسر التاء‏.‏

وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختاراً‏.‏ وهذان قد منعا الأوبة‏.‏

و «الروح»‏:‏ الرحمة‏.‏ ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين‏.‏ إذ فيه إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل بصفات الله تعالى‏.‏

وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز «من رُوح الله» بضم الراء‏.‏ وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي بوحه فيرجى، ومن هذا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع *** ومن هذا قول عبيد‏:‏

وكل ذي غيبة يؤوب *** وغائب الموت لا يؤوب

ويظهر من حديث الذي قال‏:‏ إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح‏.‏ فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من الناس، إنه يئس من روح الله، وليس الأمر كذلك، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمناً إذ لا يغفر الله لكافر، فبقي أن يتأول الحديث، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب، فذلك معنى بين، وإما أن تكون من القدرة، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالاً، ولا يلزمه بهذا كفر‏.‏ قال النقاش‏:‏ وقرأ ابن مسعود «من فضل» وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «من رحمة الله»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما دخلوا عليه‏}‏ الآية، في هذا الموضع اختصار محذوفات يعطيها الظاهر، وهي‏:‏ أنهم نفذوا من الشام إلى مصر ووصلوها والضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد على يوسف، و‏{‏الضر‏}‏ أرادوا به المسغبة التي كانوا بسبيلها وأمر أخيهم الذي أهم أباهم وغم جميعهم، و«البضاعة» القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح، وال ‏{‏مزجاة‏}‏ معناها المدفوعة المتحيل لها، ومنه إزجاء السحاب، ومنه إزجاء الإبل كما قال الشاعر‏:‏

على زواحف تزجى مخهارير *** وكما قال النابغة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

وهبت الريح من تلقاء ذي أزل *** تزجى مع الليل من صرّادها صرما

وقال الأعشى‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

الواهب المائة الهجان وعبدها *** عوذاً تزجي خلفها أطفالها

وقال الآخر‏:‏

بحاجة غير مزجاة من الحاج *** وقال حاتم‏:‏

ليبكِ على ملحان ضيف مدفع *** وأرملة تزجي مع الليل أرملا

فجملة هذا أن من يسوق شيئاً ويتلطف في تسييره فقد أزجاه فإذا كانت الدراهم مدفوعة نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها فهي مزجاة، فقيل‏:‏ كان ذلك لأنها كانت زيوفاً- قاله ابن عباس- وقال الحسن‏:‏ كانت قليلة، وقيل‏:‏ كانت ناقصة- قاله ابن جبير- وقيل‏:‏ كانت بضاعتهم عروضاً، فلذلك قالوا هذا‏.‏

واختلف في تلك العروض‏:‏ ما كانت‏؟‏ فقيل‏:‏ كانت السمن والصوف- قاله عبد الله بن الحارث- وقال علي بن أبي طالب‏:‏ كانت قديد وحش- ذكره النقاش- وقال أبو صالح وزيد بن أسلم‏:‏ كانت الصنوبر والحبة الخضراء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهي الفستق‏.‏

وقيل‏:‏ كانت المقل، وقيل‏:‏ كانت القطن، وقيل‏:‏ كانت الحبال والأعدال والأقتاب‏.‏

وحكى مكي أن مالكاً رحمه الله قال‏:‏ المزجاة‏:‏ الجائزة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا أعرف لهذا وجهاً، والمعنى يأباه‏.‏ ويحتمل أن صحف على مالك وأن لفظه بالحاء غير منقوطة وبالراء‏.‏ واستند مالك رحمه الله في أن الكيل على البائع إلى هذه الآية، وذلك ظاهر منها وليس بنص‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وتصدق علينا‏}‏ معناه بما بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة، قاله السدي وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الصدقة غير محرمة على أولئك الأنبياء وإنما حرمت على محمد، قاله سفيان بن عيينة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ كانت الصدقة عليهم محرمة ولكن قالوا هذا تجوزاً واستعطافاً منهم في المبايعة، كما تقول لمن تساومه في سلعة‏:‏ هبني من ثمنها كذا وخذ كذا، فلم تقصد أن يهبك، وإنما حسنت له الانفعال حتى يرجع معك إلى سومك، وقال ابن جريج‏:‏ إنما خصوا بقولهم ‏{‏وتصدق علينا‏}‏ أمر أخيهم بنيامين، أي أوف لنا الكيل في المبايعة وتصدق علينا بصرف أخينا إلى أبيه‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إن الله يجزي المتصدقين‏}‏ قال النقاش‏:‏ يقال‏:‏ هو من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً على غير دينهم، ولو قالوا‏:‏ إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة، كذبوا، فقالوا له لفظاً يوهمه أنهم أرادوه وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 92‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

روي أن يوسف عليه السلام لما قال إخوته ‏{‏مسنا وأهلنا الضر‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 88‏]‏ واستعطفوه- رق ورحمهم، قال ابن إسحاق‏:‏ وارفض دمعه باكياً فشرع في كشف أمره إليهم، فيروى أنه حسر قناعه وقال لهم‏:‏ ‏{‏هل علمتم‏}‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فعلتم بيوسف وأخيه‏}‏ يريد من التفريق بينهما في الصغر والتمرس بهما وإذاية بنيامين‏.‏ بعد مغيب يوسف‏.‏ فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه، ولم يشر إلى قصة بنيامين الآخرة لأنهم لم يفعلوا هم فيها شيئاً، ونسبهم إما إلى جهل المعصية، وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة، فلما خاطبهم هذه المخاطبة- ويشبه أن يكون قد اقترن بها من هيئته وبشره وتبسمه ما دلهم- تنبهوا ووقع لهم من الظن القوي أنه يوسف، فخاطبوه مستفهمين استفهام مقرر‏.‏

وقرأت فرقة «أأنك يوسف» بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بإدخال ألف بين همزتين وتحقيقهما «أإنك»، وقرأت فرقة بتسهيل الثانية «إنك»، وقرأ ابن محيصن وقتادة وابن كثير «إنك» على الخبر وتأكيده وقرأ أبي بن كعب «أأنك أو أنت يوسف» قال أبو الفتح‏:‏ ينبغي أن يكون هذا على حذف خبر «إن» كأنه قال‏:‏ أئنك لغير يوسف أو أنت يوسف‏؟‏ وحكى أبو عمرو الداني‏:‏ أن في قراءة أبي بن كعب‏:‏ «أو أنت يوسف» وتأولت فرقة ممن قرأ «إنك» إنها استفهام بإسقاط حرف الاستفهام، فأجابهم يوسف كاشفاً أمره قال‏:‏ ‏{‏أنا يوسف وهذا أخي‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ أراد ‏{‏من يتق‏}‏ في ترك المعصية ويصبر في السجن‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏من يتق‏}‏ الزنى ويصبر على العزوبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومقصد اللفظ إنما هو العموم في العظائم، وإنما قال هذان ما خصصا، لأنها كانت من نوازله، ولو فرضنا نزول غيرها به لاتقى وصبر‏.‏

وقرأ الجمهور «من يتق ويصبر» وقرأ ابن كثير وحده‏:‏ «ومن يتق ويصبر» بإثبات الياء، واختلف في وجه ذلك، فقيل‏:‏ قدر الياء متحركة وجعل الجزم في حذف الحركة، وهذا كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد

قال أبو علي‏:‏ وهذا مما لا نحمله عليه، لأنه يجيء في الشعر لا في الكلام، وقيل‏:‏ «من» بمعنى الذي و«يتقي» فعل مرفوع، و«يصبر» عطف على المعنى لأن «من» وإن كانت بمعنى الذي ففيها معنى الشرط، ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصدق وأكن‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏ وقيل‏:‏ أراد «يصبر» بالرفع لكنه سكن الراء تخفيفاً، كما قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏ويأمركم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ بإسكان الراء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا‏:‏ تالله لقد آثرك الله علينا‏}‏ الآية، هذا منهم استنزال ليوسف وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه‏.‏

و ‏{‏آثرك‏}‏ لفظ يعم جميع التفضيل وأنواع العطايا، والأصل فيها همزتان وخففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، والمصدر إيثار، و‏{‏خاطئين‏}‏ من خطئ يخطأ، وهو المتعمد للخطأ، والمخطئ من أخطأ، وهو الذي قصد الصواب فلم يوفق إليه، ومن ذلك قول الشاعر- وهو أمية بن الأسكر- ‏[‏الوافر‏]‏

وإن مهاجرين تكتفاه *** غداة إذ لقد خطئا وخابا

وقوله‏:‏ ‏{‏لا تثريب عليكم‏}‏ عفو جميل، وقال عكرمة‏:‏ أوحى الله إلى يوسف‏:‏ بعفوك على إخوتك رفعت لك ذكرك؛ وفي الحديث‏:‏ أن أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لما وردا مهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنهما لقبح فعلهما معه قبل، فشق ذلك عليهما وأتيا أبا بكر فكلفاه الشفاعة، فأبى، وأتيا عمر فكذلك، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى ابن عمه علي، وذهب عبد الله إلى أخته أم سلمة، فقال علي رضي الله عنه‏:‏ الرأي أن تلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفل فتصيحان به‏:‏ ‏{‏تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين‏}‏ فإنه لا يرضى أن يكون دون أحد من الأنبياء فلا بد لذلك أن يقول‏:‏ لا تثريب عليكما، ففعلا ذلك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تثريب عليكم‏}‏ الآية‏.‏

والتثريب‏:‏ اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء معتقد ونحوه، وقد عبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير، ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب»، أي لا يعير، أخرجه الشيخان في الحدود‏.‏

ووقف بعض القرأة ‏{‏عليكم‏}‏ وابتدأ ‏{‏اليوم يغفر الله لكم‏}‏ ووقف أكثرهم‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ وابتدأ ‏{‏يغفر الله لكم‏}‏ على جهة الدعاء- وهو تأويل ابن إسحاق والطبري، وهو الصحيح- و‏{‏اليوم‏}‏ ظرف، فعلى هذا فالعامل فيه ما يتعلق به ‏{‏عليكم‏}‏ تقديره‏:‏ لا تثريب ثابت أو مستقر عليكم اليوم‏.‏ وهذا الوقف أرجح في المعنى، لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏‏}‏

حكمه بعد الأمر إلقاء القميص على وجه أبيه بأن أباه يأتي بصيراً ويزول عماه دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله‏.‏ قال النقاش‏:‏ وروي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله إياه حين خرج من النار وكان من ثياب الجنة‏.‏ وكان بعد لإسحاق ثم ليعقوب ثم كان دفعه ليوسف فكان عنده في حفاظ من قصب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله يحتاج إلى سند، والظاهر أنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل أحد، وهكذا تبين الغرابة في أن وجد ريحه من بعد، ولو كان من قميص الجنة لما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد‏.‏

وأما «أهلهم» فروي‏:‏ أنهم كانوا ثمانين نسمة، وقيل ستة وسبعين نفساً بين رجال ونساء- وفي هذا العدد دخلوا مصر ثم خرج منها أعقابهم مع موسى في ستمائة ألف‏.‏ وذكر الطبري عن السدي أنه لما كشف أمره لإخوته سألهم عن أبيهم‏:‏ ما حاله‏؟‏ فقالوا‏:‏ ذهب بصره من البكاء‏.‏ فحينئذ قال لهم‏:‏ ‏{‏اذهبوا بقميصي‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما فصلت العير‏}‏ الآية، معناه‏:‏ فصلت العير من مصر متوجهة إلى موضع يعقوب، حسبما اختلف فيه، فقيل‏:‏ كان على مقربة من بيت المقدس، وقيل كان بالجزيرة والأول أصح لأن آثارهم وقبورهم حتى الآن هناك‏.‏

وروي أن يعقوب وجد ‏{‏ريح يوسف‏}‏ وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام، قاله ابن عباس، وقال‏:‏ هاجت ريح فحملت عرفه؛ وروي‏:‏ أنه كان بينهما ثمانون فرسخاً- قاله الحسن- وابن جريج قال‏:‏ وقد كان فارقه قبل ذلك سبعاً وسبعين سنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قريب من الأول‏.‏

وروي‏:‏ أنه كان بينهما مسيرة ثلاثين يوماً، قاله الحسن بن أبي الحسن، وروي عن أبي أيوب الهوزني‏:‏ أن الريح استأذنت في أن توصل عرف يوسف إلى يعقوب، فأذن لها في ذلك‏.‏ وكانت مخاطبة يعقوب هذه لحاضريه، فروي‏:‏ أنهم كانوا حفدته، وقيل‏:‏ كانوا بعض بنيه، وقيل‏:‏ كانوا قرابته‏.‏

و ‏{‏تفندون‏}‏ معناه‏:‏ تردون رأيي وتدفعون في صدري، وهذا هو التفنيد في اللغة، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي *** فليس ما فات من أمري بمردود

ويقال‏:‏ أفند الدهر فلاناً‏:‏ إذا أفسده‏.‏

قال ابن مقبل‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه *** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

ومما يعطي أن الفند الفساد في الجملة قول النابغة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إلا سليمان إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحددها عن الفند

وقال منذر بن سعيد‏:‏ يقال‏:‏ شيخ مفند‏:‏ أي قد فسد رأيه، ولا يقال‏:‏ عجوز‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتفنيد يقع إما لجهل المفند، وإما لهوى غلبه، وإما لكذبه، وإما لضعفه وعجزه لذهاب عقله وهرمه، فلهذا فسّر الناس التفنيد في هذه الآية بهذه المعاني ومنه قوله عليه السلام أو هرماً مفنداً‏.‏

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ معناه تسفهون، وقال ابن عباس- أيضاً- تجهلون، وقال ابن جبير وعطاء‏:‏ معناه‏:‏ تكذبون، وقال ابن إسحاق‏:‏ معناه‏:‏ تضعفون، وقال ابن زيد ومجاهد‏:‏ معناه‏:‏ تقولون‏:‏ ذهب عقلك، وقال الحسن‏:‏ معناه‏:‏ تهرمون‏.‏

والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب إنما كان لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف‏.‏ قال الطبري‏:‏ أصل التفنيد الإفساد‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏لفي ضلالك‏}‏ يريدون في انتكافك وتحيرك، وليس هو بالضلال الذي هو في العرف ضد الرشاد، لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به، وقد تأول بعض الناس على ذلك، ولهذا قال قتادة رحمه الله‏:‏ قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله عليه السلام، وقال ابن عباس‏:‏ المعنى‏:‏ لفي خطئك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين، فلذلك يقال له‏:‏ ذو الحزنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

روي عن ابن عباس‏:‏ أن ‏{‏البشير‏}‏ كان يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ حدثني أبي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت الواعظ أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يقول‏:‏ إن يوسف عليه السلام لما قال‏:‏ ‏{‏اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 93‏]‏ قال يهوذا لإخوته‏:‏ قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة؛ فتركوه وذلك‏.‏ وقال هذا المعنى السدي‏.‏ و‏{‏ارتد‏}‏ معناه‏:‏ رجع هو، يقال‏:‏ ارتد الرجل ورده غيره، و‏{‏بصيرا‏}‏ معناه‏:‏ مبصراً، ثم وقفهم على قوله‏:‏ ‏{‏إني أعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ وهذا- والله أعلم- هو انتظاره لتأويل الرؤيا- ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله تعالى فقط‏.‏

وروي‏:‏ أنه قال للبشير‏:‏ على أي دين تركت يوسف‏؟‏ قال‏:‏ على الإسلام قال‏:‏ الحمد لله، الآن كملت النعمة‏.‏

وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «فلما أن جاء البشير من بين يدي العير»، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنه قال‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فلما أن جاء البشير‏}‏ زائدة، والعرب تزيدها أحياناً في الكلام بعد لما وبعد حتى فقط، تقول‏:‏ لما جئت كان كذا، ولما أن جئت، وكذلك تقول‏:‏ ما قام زيد حتى قمت، وحتى أن قمت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏:‏ يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا‏}‏ الآية، روي أن يوسف عليه السلام لما غفر لإخوته، وتحققوا أيضاً أن يعقوب يغفر لهم، قال بعضهم لبعض‏:‏ ما يغني عنا هذا إن لم يغفر الله لنا‏؟‏‏!‏ فطلبوا- حينئذ- من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطأ، فقال لهم يعقوب‏:‏ ‏{‏سوف أستغفر‏}‏، فقالت فرقة‏:‏ سوفهم إلى السحر، وروي عن محارب بن دثار أنه قال‏:‏ كان عم لي يأتي المسجد فسمع إنساناً يقول‏:‏ اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي، فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسئل عبد الله بن مسعود عن ذلك، فقال‏:‏ إن يعقوب عليه اسلام أخر بنيه إلى السحر، ويقوي هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ينزل ربنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر إلى سماء الدنيا فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏» الحديث‏.‏ ويقويه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إنما سوفهم يعقوب إلى قيام الليل، وقالت فرقة- منهم سعيد بن جبير- سوفهم يعقوب إلى الليالي البيض، فان الدعاء فيهن يستجاب وقيل‏:‏ إنما أخرهم إلى ليلة الجمعة، وروى ابن عباس هذا التأويل عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «أخرهم يعقوب حتى تأتي له الجمعة»‏.‏

ثم رجاهم يعقوب عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو الغفور الرحيم‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلما دخلوا‏}‏ الآية، ها هنا محذوفات يدل عليها الظاهر، وهي‏:‏ فرحل يعقوب بأهله أجمعين وساروا حتى بلغوا يوسف، فلما دخلوا عليه‏.‏

و ‏{‏آوى‏}‏ معناه‏:‏ ضم وأظهر الحماية بهما، وفي الحديث‏:‏ «أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله» وقيل‏:‏ أراد «بالأبوين»‏:‏ أباه وأمه- قاله ابن إسحاق والحسن- وقال بعضهم‏:‏ أباه وجدته- أم أمه- حكاه الزهراوي- وقيل‏:‏ أباه وخالته، لأن أمه قد كانت ماتت- قاله السدي-‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأول أظهر- بحسب اللفظ- إلا لو ثبت بسند أن أمه قد كانت ماتت‏.‏

وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «آوى إليه أبويه وإخوته»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا مصر‏}‏ معناه‏:‏ تمكنوا واسكنوا واستقروا، لأنهم قد كانوا دخلوا عليه، وقيل‏:‏ بل قال لهم ذلك في الطريق حين تلقاهم- قاله السدي وهذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه، أن يقوله الإنسان في جميع ما ينفذه بقوله في المستقبل، وقال ابن جريج‏:‏ هذا مؤخر في اللفظ وهو متصل في المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏سوف أستغفر لكم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا التأويل ضعف‏.‏

و ‏{‏العرش‏}‏‏:‏ سرير الملك، وكل ما عرش فهو عريش وعرش، وخصصت اللغة العرش لسرير الملك، و‏{‏خرجوا‏}‏ معناه‏:‏ تصوبوا إلى الأرض، واختلف في هذا السجود، فقيل‏:‏ كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل‏:‏ بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود- على أي هيئة كان- فإنما كان تحية لا عبادة‏.‏ قال قتادة‏:‏ هذه كانت تحية الملوك عندهم‏.‏ وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الضمير في ‏{‏له‏}‏ لله عز وجل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ورد على هذا القول‏.‏

وحكى الطبري‏:‏ أن يعقوب لما بلغ مصر في جملته كلم يوسف فرعون في تلقيه فخرج إليه وخرج الملوك معه فلما دنا يوسف من يعقوب وكان يعقوب يمشي متوكئاً على يهوذا- قال‏:‏ فنظر يعقوب إلى الخيل والناس فقال‏:‏ يا يهوذا، هذا فرعون مصر، قال‏:‏ لا هو ابنك، قال‏:‏ فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فمنعه يعقوب من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فقال‏:‏ السلام عليك يا مذهب الأحزان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونحو هذا من القصص، وفي هذا الوقت قال يوسف ليعقوب‏:‏ إن فرعون قد أحسن إلينا فادخل عليه شاكراً، فدخل عليه، فقال فرعون‏:‏ يا شيخ ما مصيرك إلى ما أرى‏؟‏ قال‏:‏ تتابع البلاء عليّ‏.‏ قال‏:‏ فما زالت قدمه حتى نزل الوحي‏:‏ يا يعقوب، أتشكوني إلى من لا يضرك ولا ينفعك‏؟‏ قال‏:‏ يا رب ذنب فاغفره‏.‏ وقال أبو عمرو الشيباني‏:‏ تقدم يوسف يعقوب في المشي في بعض تلك المواطن فهبط جبريل فقال له‏:‏ أتتقدم أباك‏؟‏ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ قال يوسف ليعقوب‏:‏ هذا السجود الذي كان منكم، هو ما آلت إليه رؤياي قديماً في الأحد عشر كوكباً وفي الشمس والقمر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قد جعلها ربي حقاً‏}‏ ابتداء تعديد نعم الله تعالى عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏وقد أحسن بي‏}‏، أي أوقع وناط إحسانه بي‏.‏ فهذا منحى في وصول الإحسان بالباء، وقد يقال‏:‏ أحسن إليَّ، وأحسن فيّ، ومنه قول عبد الله بن أبي ابن سلول‏:‏ يا محمد أحسن في مواليّ؛ وهذه المناحي مختلفة المعنى، وأليقها بيوسف قوله‏:‏ ‏{‏بي‏}‏ لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد هو الغاية التي صار إليها‏.‏

وذكر يوسف عليه السلام إخراجه من السجن، وترك إخراجه من الجب لوجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا أوضح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وجاء بكم من البدو‏}‏ يعم جمع الشمل والتنقل من الشقاوة إلى النعمة بسكنى الحاضرة، وكان منزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام في بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية‏.‏

و ‏{‏نزغ‏}‏ معناه‏:‏ فعل فعلاً أفسد به، ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده»‏.‏

وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لما يشاء‏}‏ أي من الأمور أن يفعله، واختلف الناس في كم كان بين رؤيا يوسف وبين ظهورها‏:‏ فقالت فرقة أربعون سنة- هذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد، وقال عبد الله بن شداد‏:‏ ذلك آخر ما تبطئ الرؤيا- وقالت فرقة- منهم الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض- ثمانون سنة‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ ثمانية عشر، وقيل‏:‏ اثنان وعشرون قاله النقاش- وقيل‏:‏ ثلاثون، وقيل‏:‏ خمس وثلاثون- قاله قتادة- وقال السدي وابن جبير‏:‏ ستة وثلاثون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إن يوسف عليه السلام عمر مائة وعشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إن يعقوب بقي عند يوسف نيفاً على عشرين سنة ثم توفي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه، وأراد من صورة جمعهم- لا إله إلا هو- وقال النقاش‏:‏ كان ذلك الوحي في الجب، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 15‏]‏ وهذا محتمل‏.‏

ومما روي في أخبار يعقوب عليه السلام‏:‏ قال الحسن‏:‏ إنه لما ورده البشير لم يجد عنده شيئاً يثيبه به فقال له‏:‏ والله ما أصبت عندنا شيئاً، وما خبرنا منذ سبه ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت‏.‏

ومن أخباره‏:‏ أنه لما اشتد بلاؤه وقال‏:‏ يا رب أعميت بصري وغيبت عني يوسف، أفما ترحمني‏؟‏ فأوحى الله إليه‏:‏ سوف أرحمك وأرد عليك ولدك وبصرك، وما عاقبتك بذلك إلا أنك طبخت في منزلك حملاً فشمه جار لك ولم تساهمه بشيء، فكان يعقوب بعد يدعوه إلى غدائه وعشائه‏.‏ وحكى الطبري‏:‏ أنه لما اجتمع شمله كلفه بنوه أن يدعو الله لهم حتى يأتي الوحي بأن الله قد غفر لهم‏.‏ قال‏:‏ فكان يعقوب يصلي ويوسف وراءه وهم وراء يوسف، ويدعو لهم فلبث كذلك عشرين سنة ثم جاءه الوحي‏:‏ إني قد غفرت لهم وأعطيتهم مواثيق النبوة بعدك‏.‏ ومن أخباره‏:‏ أنه لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يدفنه بالشام، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام، ثم مات يوسف فدفن بمصر، فلما خرج موسى- بعد ذلك- من أرض مصر احتمل عظام يوسف حتى دفنها بالشام مع آبائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قرأ ابن مسعود «آتيتن» و«علمتن» بحذف الياء على التخفيف، وقرأ ابن ذر «رب آتيتني» بغير «قد»‏.‏

وذكر كثير من المفسرين‏:‏ أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين، ورأى أن الدنيا كلها قليلة فتمنى الموت في قوله‏:‏ ‏{‏توفني مسلماً وألحقني بالصالحين‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ «لم يتمن الموت نبي غير يوسف»، وذكر المهدوي تأويلاً آخر- وهو الأقوى عندي- أن ليس في الآية تمني موت- وإنما عدد يوسف عليه السلام نعم الله عنده ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره أي ‏{‏توفني‏}‏- إذا حان أجلي- على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين، وإنما تمنى الموافاة على الإسلام لا الموت‏.‏ وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضرّ نزل به» الحديث بكماله‏.‏ وروي عنه عليه السلام أنه قال في بعض دعائه‏:‏ «وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون»، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ اللهم قد رقّ عظمي وانتشرت وعييت فتوفني غير مقصر ولا عاجز‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيشبه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لضر نزل به- إنما يريد ضرر الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك ويبقى تمني الموت مخافة فساد الدين مباحاً، ويدلك على هذا قول النبي عليه السلام‏:‏ «يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل فيقول‏:‏ يا ليتني مكانه، ليس به الدين لكن ما يرى من البلاء والفتن»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فقوله‏:‏ ليس به الدين- يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة الناس كيف تكون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آتيتني من الملك‏}‏ قيل‏:‏ ‏{‏من‏}‏ للتبعيض وقيل‏:‏ لبيان الجنس؛ وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏من تأويل الأحاديث‏}‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏الأحاديث‏}‏ الأحلام، وقيل‏:‏ قصص الأنبياء والأمم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاطر‏}‏ منادى، وقوله ‏{‏أنت وليي‏}‏ أي القائم بأمري الكفيل بنصرتي ورحمتي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء الغيب‏}‏ الآية، ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من قصة يوسف، وهذه الآية تعريض لقريش وتنبيه على آية صدق محمد، وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه‏.‏

والضمير في ‏{‏لديهم‏}‏ عائد إلى إخوة يوسف، وكذلك الضمائر إلى آخر الآية، و‏{‏أجمعوا‏}‏ معناه‏:‏ عزموا وجزموا، و‏{‏الأمر‏}‏ هنا هو إلقاء يوسف في الجب، و«المكر» هو أن تدبر على الإنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والخديعة هي أن تفعل بإنسان وتقول له ما يوجب أن يفعل هو فعلاً فيه عليه ضرر‏.‏ وحكى الطبري عن أبي عمران الجوني أنه قال‏:‏ والله ما قص الله نبأهم ليعيرهم بذلك، إنهم لأنبياء من أهل الجنة، ولكن قص الله علينا نبأهم لئلا يقنط عبده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 108‏]‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

هاتان الآيتان تدلان أن الآية التي قبلهما فيها تعريض لقريش ومعاصري محمد عليه السلام، كأنه قال‏:‏ فإخبارك بالغيوب دليل قائم على نبوتك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وإن كنت أنت حريصاً على إيمانهم، أي يؤمن من شاء الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو حرصت‏}‏ اعتراض فصيح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما تسألهم‏}‏ الآية، توبيخ للكفرة وإقامة الحجة عليهم، أي ما أسفههم في أن تدعوهم إلى الله دون أن تبغي منهم أجراً فيقول قائل‏:‏ بسبب الأجر يدعوهم‏.‏

وقرأ مبشر بن عبيد‏:‏ «وما نسألهم» بالنون‏.‏

ثم ابتدأ الله تعالى الإخبار عن كتابة العزيم‏.‏ أنه ذكر وموعظة لجميع العالم- نفعنا الله به ووفر حظنا منه بعزته-‏.‏

وقرأت الجماعة «وكأيّن» بهمز الألف وشد الياء، قال سيبويه‏:‏ هي كاف التشبيه اتصلت بأي، ومعناها معنى كم في التكثير‏.‏ وقرأ ابن كثير «وكائن» بمد الألف وهمز الياء، وهو من اسم الفاعل من كان، فهو كائن ولكن معناه معنى كم أيضاً‏.‏ وقد تقدم استعاب القراءات في هذه الكلمة في قوله‏:‏ ‏{‏وكأين من نبي قتل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏‏.‏

وال ‏{‏آيه‏}‏ هنا المخلوقات المنصوبة للاعتبار والحوادث الدالة على الله سبحانه في مصنوعاته، ومعنى ‏{‏يمرون عليها‏}‏ الآية- أي إذا جاء منها ما يحس أو يعلم في الجملة لم يتعظ الكافر به، ولا تأمله ولا أعتبر به بحسب شهواته وعمهه، فهو لذلك كالمعرض، ونحو هذا المعنى قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تمر الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا *** ويصدع قلبي أن يهب هبوبها

وقرأ السدي «والأرضَ» بالنصب بإضمار فعل، والوقف- على هذا- في ‏{‏السماوات‏}‏ وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد «والأرضُ» بالرفع على الابتداء، والخبر قوله‏:‏ ‏{‏يمرون‏}‏ وعلى القراءة بخفض «الأرضِ» ف ‏{‏يمرون‏}‏ نعت الآية‏.‏ وفي مصحف عبد الله‏:‏ «والأرض يمشون عليها»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يؤمن أكثرهم‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ هي في أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله ثم يشركون من حيث كفروا بنبيه، أو من حيث قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله‏.‏ وقال عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد هي في كفار العرب، وإيمانهم هو إقرارهم بالخالق والرازق والمميت، فسماه إيماناً وإن أعقبه إشراكهم بالأوثان والأصنام-فهذا الإيمان لغوي فقط من حيث هو تصديقها‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطواف والتلبية‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول‏:‏ لبيك لا شريك لك، يقول له‏:‏ قط قط، أي قف هنا ولا تزد‏:‏ إلا شريك هو لك‏.‏

وال ‏{‏غاشية‏}‏ ما يغشي ويغطي ويغم، وقرأ أبو حفص مبشر بن عبد الله‏:‏ «يأتيهم الساعة بغتة» بالياء، و‏{‏بغتة‏}‏ معناه‏:‏ فجأة، وذلك أصعب، وهذه الآية من قوله‏:‏ ‏{‏وكأين‏}‏ وإن كانت في الكفار-بحكم ما قبلها- فإن العصاة يأخذون من ألفاظها بحظ، ويكون الإيمان حقيقة والشرك لغوياً كالرياء، فقد قال عليه السلام‏:‏

«الرياء‏:‏ الشرك الأصغر»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ الآية، إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة بأسرها‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ المعنى‏:‏ هذا أمري وسنتي ومنهاجي‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏:‏ «قل هذا سبيلي» «والسبيل»‏:‏ المسلك، وتؤنث وتذكر، وكذلك الطريق، و‏{‏بصيرة‏}‏‏:‏ اسم لمعتقد الإنسان في الأمر من الحق واليقين، و«البصيرة» أيضاً في كلام العرب‏:‏ الطريقة في الدم، وفي الحديث المشهور‏:‏ «تنظر في النصل فلا ترى بصيرة»، وبها فسر بعض الناس قول الأشعر الجعفي‏:‏

راحوا بصائرهم على أكتافهم *** وبصيرتي يعدو بها عتد وأي

يصف قوماً باعوا دم وليهم فكأن دمه حصلت منه طرائق على أكتفاهم إذ هم موسومون عند الناس ببيع ذلك الدم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويجوز أن تكون «البصيرة» في بيت الأشعر على المعتقد الحق، أي جعلوا اعتقادهم طلب النار وبصيرتهم في ذلك وراء ظهورهم، كما تقول‏:‏ طرح فلان أمري وراء ظهره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أنا ومن اتبعني‏}‏ يحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في ‏{‏ادعوا‏}‏ ويحتمل أن تكون الآية كلها أمارة بالمعروف داعية إلى الله الكفرة به والعصاة‏.‏

و ‏{‏سبحان الله‏}‏ تنزيه لله، أي وقل‏:‏ سبحان الله، وقل متبرئاً من الشرك‏.‏ وروي أن هذه الآية‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ إلى آخرها كانت مرقومة على رايات يوسف عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

هذه الآية تتضمن الرد على مستغربي إرسال الرسل من البشر كالطائفة التي قالت‏:‏ أبعث الله بشراً رسولاً، وكالطائفة التي اقترحت ملكاً وغيرهما‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «يوحَى إليهم» بالياء وفتح الحاء، وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر، وقرأ في رواية حفص‏:‏ «نوحِي» بالنون وكسر الحاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن وطلحة‏.‏

و ‏{‏القرى‏}‏‏:‏ المدن، وخصصها دون القوم المنتوين- أهل العمود- فإنهم في كل أمة أهل جفاء وجهالة مفرطة، قال ابن زيد‏:‏ ‏{‏أهل القرى‏}‏ أعلم وأحلم من أهل العمود‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فإنهم قليل نبلهم ولم ينشئ الله فيهم رسولاً قط‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم يبعث الله رسولاً قط من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتبدي مكروه إلا في الفتن وحين يفر بالدين، كقوله عليه السلام «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً» الحديث‏.‏ وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تعرب في الإسلام» وقال‏:‏ من «بدا جفا» وروى عنه معاذ بن جبل أنه قال‏:‏ «الشيطان ذيب الإنسان كذيب الغنم يأخذ الشاة القاصية فإياكم والشعاب وعليكم بالمساجد والجماعات والعامة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويعترض هذا ببدو يعقوب، وينفصل عن ذلك بوجهين أحدهما‏:‏ أن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود بل هو بتقر في منازل وربوع‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر‏.‏

ثم أحالهم على الاعتبار في الأمم السالفة في أقطار الأرض التي كذبت رسلها فحاق بها عذاب الله، ثم حض على الآخرة والاستعداد لها والاتقاء من الموبقات فيها، ثم وقفهم موبخاً بقوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولدار الآخرة‏}‏ زيادة في وصف إنعامه على المؤمنين، أي عذب الكفار ونجى المؤمنين، ولدار الآخرة أحسن لهم‏.‏

وأما إضافة «الدار» إلى ‏{‏الآخرة‏}‏ فقال الفراء‏:‏ هي إضافة الشيء إلى نفسه كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

فإنك لو حللت ديار عبس *** عرفت الذل عرفان اليقين

وفي رواية‏:‏

فلو أقوت عليك ديار إلخ‏.‏

وكما يقال‏:‏ مسجد الجامع، ونحو هذا، وقال البصريون‏:‏ هذه على حذف مضاف تقديره‏:‏ ولدار الحياة الآخرة أو المدة الآخرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الأسماء التي هي للأجناس كمسجد وثوب وحق وجبل ونحو ذلك- إذا نطق بها الناطق لم يدر ما يريد بها، فتضاف إلى معرف مخصص للمعنى المقصود فقد تضاف إلى جنس آخر كقولك‏:‏ جبل أحد، وقد تضاف إلى صفة كقولك‏:‏ مسجد الجامع وحق اليقين، وقد تضاف إلى اسم خاص كقولك جبل أحد ونحوه‏.‏

وقرأ الحسن والأعمش والأعرج وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وعلقمة «يعقلون» بالياء، واختلف عن الأعمش‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ قراءة العامة‏:‏ «أفلا تعقلون» بالتاء من فوق‏.‏

ويتضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏}‏ أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوا أممهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات، صاروا في حيز من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن تدخل ‏{‏حتى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل‏}‏‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن وعائشة- بخلاف- وعيسى وقتادة ومحمد بن كعب والأعرج وأبو رجاء وابن أبي مليكة «كُذّبوا» بتشديد الذال وضم الكاف، وقرأ الباقون «كُذِبوا» بضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها- وهي قراءة علي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والأعمش وابن جبير ومسروق والضحاك وإبراهيم وأبي جعفر، ورواها شيبة بن نصاح عن القاسم عن عائشة- وقرأ مجاهد والضحاك وابن عباس وعبد الله بن الحارث- بخلاف عنهم- «كَذَبوا» بفتح الكاف والذال، فأما الأولى فتحتمل أن يكون الظن بمعنى اليقين، ويكون الضمير في ‏{‏ظنوا‏}‏ وفي ‏{‏كذبوا‏}‏ للرسل، ويكون المكذبون مشركي من أرسل إليه؛ المعنى‏:‏ وتيقن الرسل أن المشركين كذبوهم وهموا على ذلك وأن الانحراف عنه ويحتمل أن يكون الظن على بابه، والضميران للرسل، والمكذبون مؤمنو من أرسل إليه، أي مما طالت المواعيد حسب الرسل أن المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم‏.‏

وأما القراءة الثانية- وهي ضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها- فيحتمل أن يكون المعنى- حتى إذا استيأس الرسل من النصر أو من إيمان قومهم- على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك- وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوءة، أو فيما توعدوهم به من العذاب- لما طال الإمهال واتصلت العافية- فلما كان المرسل إليهم- على هذا التأويل- مكذبين- بني الفعل للمفعول في قوله‏:‏ «كُذِبوا»- هذا مشهور قول ابن عباس وابن جبير- وأسند الطبري‏:‏ أن مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير‏:‏ يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ‏:‏ ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏ فهذا هو أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مخففة‏.‏ فقال له ابن جبير‏:‏ يا أبا عبد الرحمن؛ إنما يئس الرسل من قومهم أن يجيبوهم، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم، فحينئذ جاء النصر‏.‏ فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال‏:‏ فرجت عني فرج الله عنك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فرضي الله عنهم كيف كان خلقهم في العلم‏.‏ وقال بهذا التأويل- في هذه القراءة- ابن مسعود ومجاهد، ورجح أبو علي الفارسي هذا التأويل، وقال‏:‏ إن رد الضمير في ‏{‏ظنوا‏}‏ وفي «كذبوا» على المرسل إليهم- وإن كان لم يتقدم لهم ذكر صريح- جائز لوجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ذكر الرسل يقتضي ذكر مرسل إليه‏.‏

والآخر‏:‏ أن ذكرهم قد أشير إليه في قوله‏:‏ ‏{‏عاقبة الذين‏}‏، وتحتمل هذه القراءة أيضاً أن يكون الضمير في ‏{‏ظنوا‏}‏ وفي ‏{‏كذبوا‏}‏ عائد على الرسل، والمعنى‏:‏ كذبهم من أخبرهم عن الله، والظن على بابه- وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم- والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم- قاله ابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن جبير- وقال‏:‏ ألم يكونوا بشراً‏؟‏ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا هو الذي نكره‏.‏ وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ هذا غير جائز على الرسل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم‏؟‏

وأما القراءة الثالثة- وهي فتح الكاف والذال- فالضمير في ‏{‏ظنوا‏}‏ للمرسل إليهم، والضمير في «كذبوا» للرسل، ويحتمل أن يكون الضميران للرسل، أي ظن الرسل أنهم قد كذبوا من حيث نقلوا الكذب وإن كانوا لم يتعمدوه، فيرجع هذا التأويل إلى المعنى المردود الذي تقدم ذكره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جاءهم نصرنا‏}‏ أي بتعذيب أممهم الكافرة، ثم وصف حال مجيء العذاب في أنه ينجي الرسل وأتباعهم، وهم الذين شاء رحمتهم، ويحل بأسه بالمجرمين الكفرة‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فنُنْجي»- بنونين- من أنجى‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «فننَجي»- النون الثانية مفتوحة، وهو من نجى ينجّي‏.‏ وقرأ أبو عمرو أيضاً وقتادة «فنجّي»- بنون واحدة وشد الجيم وسكون الياء- فقالت فرقة‏:‏ إنها كالأولى أدغمت النون الثانية في الجيم؛ ومنع بعضهم أن يكون هذا موضع إدغام لتنافر النون والجيم في الصفات لا في المخارج، وقال‏:‏ إنما حذفت النون في الكتاب لا في اللفظ وقد حكيت هذه القراءة عن الكسائي ونافع‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر «فنجيَ» بفتح الياء على وزن فعل‏.‏ وقرأت فرقة «فننجيَ»- بنونين وفتح الياء- رواها هبيرة عن حفص عن عاصم- وهي غلط من هبيرة‏.‏ وقرأ ابن محيصن ومجاهد «فنجى»- فعل ماض بتخفيف الجيم وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن بن أبي الحسن وابن السميفع وأبي حيوة، قال أبو عمرو الداني‏:‏ وقرأت لابن محيصن «فنجّى»- بشد الجيم- على معنى فنجى النصر‏.‏

و «البأس»‏:‏ العذاب‏.‏ وقرأ أبو حيوة «من يشاء»- بالياء- وجاء الإخبار عن هلاك الكافرين، بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يرد بأسنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية- إذ في هذه الألفاظ وعيد بين، وتهديد لمعاصري محمد عليه السلام‏.‏ وقرأ الحسن «بأسه»، بالهاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏قصصهم‏}‏ عام ليوسف وأبويه وإخوته وسائر الرسل الذين ذكروا على الجملة، ولما كان ذلك كله في القرآن قال عنه ‏{‏ما كان حديثاً يفترى‏}‏ فإذا تأملت قصة يوسف ظهر أن في غرائبها وامتحان الله فيها لقوم في مواضع، ولطفه لقوم في مواضع، وإحسانه لقوم في مواضع، معتبراً لمن له لب وأجاد النظر، حتى يعلم أن كل أمر من عند الله وإليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ صيغة منع، وقرينه الحال تقتضي أن البرهان يقوم على أن ذلك لا يفترى، وذلك بأدلة النبوءة وأدلة الإعجاز، و«الحديث»- هنا- واحد الأحاديث، وليس للذي هو خلاف القديم ها هنا مدخل‏.‏

ونصب ‏{‏تصديقَ‏}‏ إما على إضمار معنى كان، وإما على أن تكون ‏{‏لكن‏}‏ بمعنى لكن المشددة‏.‏

وقرأ عيسى الثقفي «تصديقُ» بالرفع، وكذلك كل ما عطف عليه، وهذا على حذف المبتدأ، التقدير‏:‏ هو تصديق‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ النصب على تقدير‏:‏ ولكن كان، والرفع على‏:‏ ولكن هو‏.‏ وينشد بيت ذي الرمة بالوجهين‏:‏

وما كان مالي من تراث ورثته *** ولا دية كانت ولا كسي مأثم

ولكن عطاءُ الله من كل رحلة *** إلى كل محجوب السرادق خضرم

رفع عطاء الله، والنصب أجود‏.‏

و ‏{‏الذي بين يديه‏}‏ هو التوراة والإنجيل، والضمير في ‏{‏يديه‏}‏ عائد على القرآن، وهم اسم كان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كل شيء‏}‏ يعني من العقائد والأحكام والحلال والحرام‏.‏ وباقي الآية بين‏.‏