فصل: تفسير الآيات رقم (38- 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏‏}‏

مقصد إبراهيم عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن‏}‏ التنبيه على اختصاره في الدعاء، وتفويضه إلى ما علم الله من رغائبه وحرصه على هداية بنيه والرفق بهم وغير ذلك، ثم انصرف إلى الثناء على الله تعالى بأنه علام الغيوب، وإلى حمده على هباته، وهذه من الآيات المعلمة أن علم الله تعالى بالأشياء هو على التفصيل التام‏.‏

وروي في قوله‏:‏ ‏{‏على الكبر‏}‏ أنه لما ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبعة عشر عاماً، وروي أقل من هذا، و‏{‏إسماعيل‏}‏ أسنّ من ‏{‏إسحاق‏}‏، فيما روي، وبحسب ترتيب هذه الآية-وروي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ بشر إبراهيم وهو ابن مائة وسبعة عشر عاماً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رب اجعلني مقيم الصلاة‏}‏، دعا إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابراً عليه متمسكاً به، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا فإنما القصد إدامة الأمر واستمراره‏.‏

وقرأ طلحة والأعمش «دعاء ربنا» بغير ياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن كثير «دعائي» بياء ساكنة في الوصل، وأثبتها بعضهم دون الوقف في الوصل‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف‏.‏ وروى ورش عن نافع‏:‏ إثبات الياء في الوصل، وقرأت فرقة «ولوالديّ» واختلف في تأويل ذلك، وقالت فرقة‏:‏ كان هذا من إبراهيم قبل يأسه من إيمان أبيه وتبينه أنه عدو لله، فأراد أباه وأمه، لأنها كانت مؤمنة، وقيل‏:‏ أراد آدم ونوحاً عليهما السلام‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير «ولوالدي» بإفراد الأب وحده، وهذا يدخله ما تقدم من التأويلات، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «ولولديّ» على أنه دعاء لإسماعيل وإسحاق، وأنكرها عاصم الجحدري، وقال إن في مصحف أبيّ بن كعب «ولأبوي»، وقرأ يحيى بن يعمر «ولوُلْدي» بضم الواو وسكون اللام، والولد لغة في الولد، ومنه قول الشاعر- أنشده أبو علي وغيره‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فليت زياداً كان في بطن أمِّه *** وليت زياداً كان وُلْدَ حمار

ويحتمل أن يكون الولد جمع ولد كأسد في جمع أسد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الحساب‏}‏ معناه يوم يقوم الناس للحساب، فأسند القيام للحساب إيجازاً، إذ المعنى مفهوم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتوجه أن يريد قيام الحساب نفسه، ويكون القيام بمعنى ظهوره وتلبس العباد بين يدي الله به، كما تقول‏:‏ قامت السوق وقامت الصلاة، وقامت الحرب على ساق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين، وتسلية للمظلومين، والخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏تحسبن‏}‏ لمحمد عليه السلام، والمراد بالنهي غيره ممن يليق به أن يحسب مثل هذا‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف «ولا تحسب الله غافلاً» بإسقاط النون، وكذلك «ولا تحسب الله مخلف وعده» ‏[‏إبراهيم‏:‏ 47‏]‏ وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن والأعرج‏:‏ «نؤخرهم» بنون العظمة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «يؤخرهم» بالياء، أي الله تعالى‏.‏

و ‏{‏تشخص‏}‏ معناه‏:‏ تحد النظر لفزع ولفرط ذلك بشخص المحتضر، و«المهطع» المسرع في مشيه- قاله ابن جبير وقتادة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك بذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه- وهذا هو أرجح الأقوال- وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه، فمن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

بمهطع سرج كأن عنانه *** في رأس جذع من أوال مشذب

ومن ذلك قول عمران بن حطان‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إذا دعانا فأهطعنا لدعوته *** داع سميع فلونا وساقونا

ومنه قول ابن مفرغ‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

بدجلة دارهم ولقد أراهم *** بدجلة مهطعين إلى السماع

ومن ذلك قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

بمستهطع رسل كأن جديله *** بقيدوم رعد من صوام ممنع

وقال ابن عباس وأبو الضحى‏:‏ الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد «المهطع»‏:‏ الذي لا يرفع رأسه‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وقد يكون الإهطاع الوجهين جميعاً الإسراع وإدامة النظر، و«المقنع» هو الذي يرفع رأسه قدماً بوجهه نحو الشيء، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الشماخ‏]‏ ‏[‏الوافر‏]‏

يباكرن العضاة بمقنعات *** نواجذهن كالحدأ الوقيع

يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر‏.‏

وقال الحسن في تفسير هذه الآية‏:‏ وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد‏.‏ وذكر المبرد- فيما حكي عن مكي- أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأول أشهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يرتد إليهم طرفهم‏}‏ أي لا يطوفون من الحذر والجزع وشدة الحال، وقوله‏:‏ ‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ تشبيه محض، لأنها ليست بهواء حقيقة، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه، ويحتمل أن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي- حناجرهم- فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هاتين الجهتين يشبه قلب الجبان وقلب الرجل المضطرب في أموره بالهواء، فمن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ولا تكن من أخدان كل يراعه *** هواء كسقب الناب جوفاً مكاسره

ومن ذلك قول حسان‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألا أبلغ أبا سفيان عني *** فأنت مجوف نخب هواء

ومن ذلك قول زهير‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

كأن الرحل منه فوق صعل *** من الظلمان جوجؤه هواء

فالمعنى‏:‏ أنه في غاية الخفة في إجفاله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنذر الناس‏}‏ الآية، المراد ب ‏{‏يوم‏}‏ يوم القيامة ونصبه على أنه مفعول ب ‏{‏أنذر‏}‏ ولا يجوز أن يكون ظرفاً، لأن القيامة ليست بموطن إنذار، وقوله‏:‏ ‏{‏فيقول‏}‏ رفع عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏يأتيهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولم تكونوا‏}‏ إلى آخر الآية، معناه‏:‏ يقال لهم، فحذف ذلك إيجازاً، إذ المعنى يدل عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم من زوال‏}‏ هو المقسم عليه نقل المعنى، و‏{‏من زوال‏}‏ معناه من الأرض بعد الموت‏.‏ أي لا بعث من القبور، وهذه الآية ناظرة إلى ما حكى عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏وسكنتم‏}‏ أيها المعرضون عن آيات الله من جميع العالم ‏{‏في مساكن الذين ظلموا أنفسهم‏}‏ بالكفر من الأمم السالفة، فنزلت بهم المثلات، فكان نولكم الاعتبار والاتعاظ‏.‏

وقرأ الجمهور «وتبين» بتاء‏.‏ وقرأ السلمي- فيما حكى المهدوي- «ونُبين» بنون عظمة مضمومة وجزم، على معنى‏:‏ أو لم يبين، عطف على ‏{‏أو لم تكونوا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏ قال أبو عمرو‏:‏ وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ بضم النون ورفع النون الأخيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وعند الله مكرهم‏}‏ هو على حذف مضاف تقديره‏:‏ وعند الله عقاب مكرهم أو جزاء مكرهم، ويحتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد مكروا مكرهم‏}‏ أن يكون خطاباً لمحمد عليه السلام، والضمير لمعاصريه، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم‏.‏

وقرأ السبعة سوى الكسائي‏:‏ «وإن كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال» بكسر اللام من ‏{‏لتزول‏}‏ وفتح الأخيرة، وهي قراءة علي بن أبي طالب وجماعة سكنوا وهذا على أن تكون «إن» نافية بمعنى ما، ومعنى الآية‏:‏ تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، هذا تأويل الحسن وجماعة من المفسرين، وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم، أي وإن كان شديداً إنما يفعل لتذهب به عظام الأمور‏.‏

وقرأ الكسائي‏:‏ «وإن كان مكرهم لَتزولُ منه الجبال» بفتح اللام الأولى من ‏{‏لتزول‏}‏ وضم الأخيرة، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن وثاب، وهذا على أن تكون «إن» مخففة من الثقيلة، ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته، أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه، وهذا أشد في العبرة‏.‏

وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب «وإن كاد مكرهم»، ويترتب مع هذه القراءة في ‏{‏لتزول‏}‏ ما تقدم‏.‏ وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي بن كعب «ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال»‏.‏ وحكى الطبري عن بعض المفسرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود إذ علق التابوت من الأنسر، ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد ان أجاعها ودخل هو وحاجبه في التابوت، فعلت بهما الأنسر حتى قال له نمرود‏:‏ ماذا ترى‏؟‏ قال‏:‏ أرى بحراً وجزيرة- يريد الدنيا المعمورة- ثم قال‏:‏ ماذا ترى‏؟‏ قال‏:‏ أرى غماماً ولا أرى جبلاً، فكأن الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب‏.‏ وذلك عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تحسبن الله‏}‏ الآية، تثبيت للنبي عليه السلام ولغيره من أمته، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسب مثل هذا، ولكن خرجت العبارة هكذا، والمراد بما فيها من الزجر من شارك النبي عليه السلام في أن قصد تثبيته‏.‏

وقرأ جمهور الناس «مخلف وعده» بالإضافة، «رسلَه» بالنصب، وإضافة «مخلف» إلى الوعد، إذ للإخلاف تعلق بالوعد على تجوز، وإنما حقيقة تعلقه بالرسل، وهذا نحو قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه *** وسائره باد إلى الشمس أجمع

وكقولك‏:‏ هذا معطي درهم زيداً‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ «مخلف وعدَه رسلِه» بنصب الوعد وخفض الرسل، على الإضافة، وهذه القراءة ذكرها الزجاج وضعفها، وهي تحول بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهي كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

فزججتها بمزجّة *** زج القلوص أبي مزادة

وأما إذا حيل في نحو هذا بالظرف فهو أشهر في الكلام كما قال الشاعر‏:‏

لله در اليوم من لامها *** وقال آخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

كما خط الكتاب بكفِّ يوماً *** يهوديٍّ يقارب أو يزيل

والمعنى‏:‏ لا تحسب يا محمد- أنت ومن اعتبر بالأمر من أمتك وغيرهم- أن الله لا ينجز ميعاده في نصره رسله، وإظهارهم، ومعاقبة من كفر بهم، في الدنيا أو في الآخرة، فإن الله عزيز لا يمتنع منه شيء، ذو انتقام من الكفرة لا سبيل إلى عفوه عنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض‏}‏ الآية، ‏{‏يوم‏}‏ ظرف للانتقام المذكور قبله‏.‏ ورويت في «تبديل الأرض» أقوال، منها في الصحيح‏:‏ أن الله يبدل هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي، وفي الصحيح‏:‏ أن الله يبدلها خبزة يأكل المؤمن منها من تحت قدميه‏.‏ وروي أنها تبدل أرضاً من فضة‏.‏ وروي‏:‏ أنها أرض كالفضة من بياضها‏.‏ وروي أنها تبدل من نار‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ تبديل الأرض‏:‏ هو نسف جبالها وتفجير بحارها وتغييرها حتى لا يرى فيها عوج ولا أمت‏:‏ فهذه حال غير الأولى، وبهذا وقع التبديل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وسمعت من أبي رضي الله عنه‏:‏ أنه روي‏:‏ أن التبديل يقع في الأرض، ولكن يبدل لكل فريق بما تقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه، وفريق يكون على فضة- إن صح السند بها- وفريق الكفرة يكونون على نار‏.‏ ونحو هذا مما كله واقع تحت قدرة الله تعالى‏.‏

وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء لم يعص الله فيها‏.‏ ولا سفك فيها دم، وليس فيها معلم لأحد، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش»، وروي عنه أنه قال‏:‏ «الناس وقت التبديل على الصراط»، وروي أنه قال «الناس حينئذ أضياف الله فلا يعجزهم ما لديه»‏.‏

و ‏{‏برزوا‏}‏ مأخوذ من البراز، أي ظهروا بين يديه لا يواريهم بناء ولا حصن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الواحد القهار‏}‏ صفتان لائقتان بذكر هذه الحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏المجرمين‏}‏ هم الكفار، و‏{‏مقرنين‏}‏ مربوطين في قرن، وهو الحبل الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

وابن اللبون إذا ما لز في قرن *** لم يستطع صولة البزل القناعيس

و ‏{‏الأصفاد‏}‏ الأغلال، واحدها‏:‏ صفد، يقال‏:‏ صفده وأصفده وصفده‏:‏ إذا غلله، والاسم‏:‏ الصفاد، ومنه قول سلامة بن جندل‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وزيد الخيل قد لاقى صفاداً *** يعض بساعد وبعظم ساق

وكذلك يقال في العطاء، و«الصفد» العطاء، ومنه قول النابغة‏.‏

فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد *** و«السرابيل»‏:‏ القمص، و«القطران» هو الذي تهنأ به الإبل، وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه، ويقال‏:‏ «قَطِران» بفتح القاف وكسر الطاء، ويقال‏:‏ «قِطْران» بكسر القاف وسكون الطاء، ويقال‏:‏ «قَطْران» بفتح القاف وسكون الطاء‏.‏

وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف، وابن عباس وأبو هريرة وعلقمة وسنان بن سلمة وعكرمة وابن سيرين وابن جبير والكلبي وقتادة وعمرو بن عبيد «من قطر آن» و«القطر»‏:‏ القصدير، وقيل‏:‏ النحاس‏.‏ وروي عن عمر أنه قال‏:‏ ليس بالقطران ولكنه النحاس يسر بلونه‏.‏ و«آن» وهو الطائب الحار الذي قد تناهى حره؛ قال الحسن‏:‏ قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره‏.‏ وقال ابن عباس المعنى‏:‏ أنى أن يعذبوا به‏.‏

وقرأ جمهور الناس «وجوهَهم» بالنصب، «النارُ» بالرفع‏.‏ وقرأ ابن مسعود «وجوهُهم» بالرفع‏.‏ «النارَ» بالنصب‏.‏ فالأولى على نحو قوله‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ فهي حقيقة الغشيان، والثانية على نحو قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يغشون حتى ما تهر كلابهم *** لا يسألون عن السواد المقبل

فهي بتجوز في الغشيان، كأن ورود الوجوه على النار غشيان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏ أي لكي يجزي، واللام متعلقة بفعل مضمر، تقديره‏:‏ فعل هذا، وأنفذ هذا العقاب على المجرمين ليكون في ذلك جزاء المسيء على إساءته‏.‏ وجاء من لفظة الكسب بما يعم المسيء والمحسن، لينبه على أن المحسن أيضاً يجازى بإحسانه خيراً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سريع الحساب‏}‏ أي فاصله بين خلقه بالإحاطة التي له بدقيق أمرهم وجليلها‏.‏ لا إله غيره، وقيل لعلي بن أبي طالب‏:‏ كيف يحاسب الله العباد في وقت واحد مع كثرتهم‏؟‏ قال‏:‏ كما يرزقهم في وقت واحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هذا بلاغ للناس‏}‏ الآية، إشارة إلى القرآن والوعيد الذي يتضمنه ووصفه بالمصدر في قوله‏:‏ ‏{‏بلاغ‏}‏ والمعنى‏:‏ هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به‏.‏

وقرأ جمهور الناس «ولينذَروا» بالياء وفتح الذال على بناء الفعل للمفعول‏.‏ وقرأ يحيى بن عمارة وأحمد بن يزيد بن أسيد‏:‏ «ليَنذَروا به» بفتح الياء والذال كقول العرب‏:‏ نذرت بالشيء إذا أشعرت وتحرزت منه وأعددت وروي أن قوله‏:‏ ‏{‏وليذكر أولو الألباب‏}‏ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

سورة الحجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏2‏)‏ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ‏(‏4‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏ و‏{‏تلك‏}‏ يمكن أن تكون إشارة إلى حروف المعجم- بحسب بعض الأقوال- ويمكن أن تكون إشارة إلى الحكم والعبر ونحوها التي تضمنتها آيات التوراة والإنجيل، وعطف القرآن عليه‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ في الآية، ما نزل من الكتب قبل القرآن، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏الكتاب‏}‏ القرآن، ثم تعطف الصفة عليه‏.‏

وقرأ نافع وعاصم «ربَما» بتخفيف الباء‏.‏ وقرأ الباقون بشدها، إلا أن أبا عمرو قرأها على الوجهين، وهما لغتان، وروي عن عاصم «رُبُما» بضم الراء والباء مخففة، وقرأ طلحة بن مصرف «ربتما» بزيادة تاء، وهي لغة‏.‏ و‏{‏ربما‏}‏ للتقليل وقد تجيء شاذة للتكثير، وقال قوم‏:‏ إن هذه من ذلك، ومنه‏:‏ رب رفد هرقته‏.‏ ومنه‏:‏

رب كأس هرقت يا ابن لؤي‏.‏ *** وأنكر الزجاج أن تجيء «رب» للتكثير‏.‏ و«ما» التي تدخل عليها «رب» قد تكون اسماً نكرة بمنزلة شيء، وذلك إذا كان في الضمير عائد عليه، كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

ربما تكره النفوس من الأم *** ر له فرجة كحل العقال

التقدير‏:‏ رب شيء، وقد تكون حرفاً كافاً لرب وموطئاً لها لتدخل على الفعل إذ ليس من شأنها أن تدخل إلا على الأسماء، وذلك إذا لم يكن ثم ضمير عائد كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏جذيمة الأبرش‏]‏ ‏[‏المديد‏]‏

ربما أوفيت في علم *** ترفعن ثوبي شمالات

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكذلك دخلت «ما» على «من» كافة، في نحو قوله‏:‏ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه‏.‏ ونحو قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإنا لمما نضرب الكبش ضربة *** على رأسه تلقي اللسان من الفم

قال الكسائي والفراء‏:‏ الباب في «ربما» أن تدخل على الفعل الماضي، ودخلت هنا على المستقبل إذ هذه الأفعال المستقبلة من كلام الله تعالى لما كانت صادقة حاصلة ولا بد جرت مجرى الماضي الواقع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد تدخل رب على الماضي الذي يراد به الاستقبال، وتدخل على العكس‏.‏ والظاهر في ‏{‏ربما‏}‏ في هذه الآية أن «ما» حرف كاف- هكذا قال أبو علي، قال‏:‏ ويحتمل أن تكون اسماً، ويكون في ‏{‏يود‏}‏ ضمير عائد عليه، التقدير‏:‏ رب ود أو شيء يوده ‏{‏الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويكون ‏{‏لو كانوا مسلمين‏}‏ بدلاً من «ما»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ تقدير الآية‏:‏ ربما كان يود الذين كفروا‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهذا لا يجيزه سيبويه، لأن كان لا تضمر عنده‏.‏

واختلف المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن لو كانوا مسلمين، فقالت فرقة‏:‏ هو عند معاينة الموت في الدنيا- حكى ذلك الضحاك- وفيه نظر، لأنه لا يقين للكافر حينئذ بحسن حال المسلمين، وقالت فرقة‏:‏ هو عند معاينة أهوال يوم القيامة- قاله مجاهد- وهذا بين، لأن حسن حال المسلمين ظاهر، فتود، وقال ابن عباس وأنس بن مالك‏:‏ هو عند دخولهم النار ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنة، واحتج لهذا القول بحديث روي في هذا من طريق أبي موسى الأشعري وهو‏:‏ أن الله إذا أدخل عصاة المسلمين النار نظر إليهم الكفار فقالوا‏:‏ ليس هؤلاء من المسلمين فماذا أغنت عنهم لا إله إلا الله‏؟‏ قال‏:‏ فيغضب الله تعالى لقولهم، فيقول‏:‏ أخرجوا من النار كل مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«فحينئذ يود الذين كفروا أن لو كانوا مسلمين»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن العبر في هذه الآية حديث الوابصي الذي في صدر ذيل الأمالي، ومقتضاه أنه ارتد ونسي القرآن إلا هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذرهم يأكلوا‏}‏ الآية وعيد وتهديد، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ وعيد ثان، وحكى الطبري عن بعض العلماء أنه قال‏:‏ الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين‏؟‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ويلههم‏}‏ أي يشغلهم أملهم في الدنيا والتزيد منها عن النظر والإيمان بالله ورسوله‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا من قرية‏}‏ الآية، أي لا تستبطئن هلاكهم فليس قرية مهلكة إلا بأجل وكتاب معلوم محدود‏.‏ والواو في قوله‏:‏ ‏{‏ولها‏}‏ هو واو الحال‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة «إلا لها» بغير واو‏.‏ وقال منذر بن سعيد‏:‏ هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ‏(‏6‏)‏ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏قالوا‏}‏ يراد به كفار قريش‏.‏ ويروى أن القائلين كانوا‏:‏ عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، وأشباههما‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ «يا أيها الذي ألقي إليه الذكر»‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ كلام على جهة الاستخفاف، أي بزعمك ودعواك، وهذه المخاطبة كما تقول لرجل جاهل أراد أن يتكلم فيما لا يحسن‏:‏ يا أيها العالم لا تحسن تتوضأ‏.‏

و ‏{‏لو ما‏}‏ بمعنى لو لا، فتكون تحضيضاً- كما في هذه الآية- وقد تكون دالة على امتناع الشيء لوجود غيره، كما قال ابن مقبل‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما *** ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ «ما تنزل الملائكة» بفتح التاء والرفع وقرأ عاصم- في رواية أبي بكر- «ما تُنزلُ» بضم التاء والرفع، وهي قراءة يحيى بن وثاب، وقرأ حمزة والكسائي وحفص «ما ننزلُ بنون العظمة-» الملائكةَ بالنصب، وهي قراءة طلحة بن مصرف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏ قال مجاهد‏:‏ المعنى‏:‏ بالرسالة والعذاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر أن معناه‏:‏ كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي رآها الله لعباده، لا على اقتراح كافر، ولا باختيار معترض‏.‏

ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في إثرها إن لم يؤمنوا‏.‏ فكأن الكلام‏:‏ ما تنزل الملائكة إلا بالحق وواجب، لا باقتراحكم؛ وأيضاً فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب، أي تؤخروا، و«النظرة»‏:‏ التأخير، المعنى‏:‏ فهذا لا يكون، إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر‏}‏ رد على المستخفين في قولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏‏.‏ وهذا كما يقول لك رجل على جهة الاستخفاف‏:‏ يا عظم القدر، فتقول له- على جهة الرد والنجة‏:‏ نعم أنا عظيم القدر‏.‏ ثم تأخذ في قولك- فتأمله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ قالت فرقة‏:‏ الضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي يحفظه من أذاكم ويحوطه من مكركم وغيره، ذكر الطبري هذا القول ولم ينسبه؛ وفي ضمن هذه العدة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أظهر الله به الشرع وحان أجله‏.‏ وقالت فرقة- وهي الأكثر- الضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد على القرآن وقاله مجاهد وقتادة، والمعنى‏:‏ ‏{‏لحافظون‏}‏ من أن يبدل أو يغير، كما جرى في سائر الكتب المنزلة، وفي آخر ورقة من البخاري عن ابن عباس‏:‏ أن التبديل فيها إنما كان في التأويل وأما في اللفظ فلا؛ وظاهر آيات القرآن أنهم بدلوا اللفظ، ووضع اليد في آية الرجم هو في معنى تبديل الألفاظ‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏لحافظون‏}‏ باختزانه في صدور الرجال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمعنى متقارب، وقال قتادة‏:‏ هذه الآية نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك‏}‏ الآية، تسلية للنبي عليه السلام وعرض أسوة، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ وغير ذلك، فقد تقدم منا إرسال الرسل في شيع الأولين، وكانت تلك سيرتهم في الاستهزاء بالرسل‏.‏ و‏{‏شيع‏}‏ جمع شيعة، وهي الفرقة التابعة لرأس ما‏:‏ مذهب أو رجل أو نحوه وهي مأخوذة من قولهم‏:‏ شيعت النار‏:‏ إذا استدمت وقدها بحطب أو غيره، فكأن الشيعة تصل أمر رأسها وتظهره وتمده بمعونة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أرسلنا‏}‏ يقتضي رسلاً، ثم أوجز باختصار ذكرهم لدلالة الظاهر من القول على ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏نسلكه‏}‏ يعود على الاستهزاء والشرك ونحوه- وهو قول الحسن وقتادة وابن جرير وابن زيد- ويكون الضمير في ‏{‏به‏}‏ يعود أيضاً على ذلك بعينه، وتكون باء السبب، أي لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ في موضع الحال‏.‏

ويحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏نسلكه‏}‏ عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن، أي مكذباً به مردوداً مستهزأ به ندخله في قلوب المجرمين، ويكون الضمير في ‏{‏به‏}‏ عائداً عليه أيضاً أي لا يصدقون به‏.‏

ويحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏نسلكه‏}‏ عائداً على الاستهزاء والشرك، والضمير في ‏{‏به‏}‏ يعود على القرآن، فيختلف- على هذا- عود الضميرين‏.‏

والمعنى في ذلك كله ينظر بعضه إلى بعض‏.‏

و ‏{‏نسلكه‏}‏ معناه‏:‏ ندخله، يقال‏:‏ سلكت الرجل في الأمر، أي أدخلته فيه، ومن هذا قول الشاعر ‏[‏عدي بن زيد‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

وكنت لزاز خصمك لم أعرد *** وقد سلكوك في يوم عصيب

ومنه قول الآخر ‏[‏عبد مناف بن ربع الهذلي‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

حتى إذا سلكوهم في قتايدة *** شلاكما تطرد الجمالة الشردا

ومنه قول أبي وجزة يصف حمر وحش‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

حتى سلكن الشوى منهن في مسك *** من نسل جوابة الآفاق مهداج

قال الزجاج‏:‏ ويقرأ‏:‏ «نُسلِكه» بضم النون وكسر اللام، و‏{‏المجرمين‏}‏ في هذه الآية يراد بهم كفار قريش ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ عموم معناه الخصوص فيمن حتم عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقد خلت سنة الأولين‏}‏ أي على هذه الوتيرة‏.‏

وتقول‏:‏ سلكت الرجل في الأمر، وأسلكته، بمعنى واحد‏.‏ ويروى‏:‏ حتى إذا أسلكوهم في قتايدة؛ البيت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم‏}‏، الضمير في ‏{‏عليهم‏}‏ عائد على قريش وكفرة العصر المحتوم عليهم‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فظلوا‏}‏ يحتمل أن يعود عليهم- وهو أبلغ في إصرارهم- وهذا تأويل الحسن‏:‏ و‏{‏يعرجون‏}‏ معناه‏:‏ يصعدون‏.‏

وقرأ الأعمش وأبو حيوة «يعرِجون» بكسر الراء، والمعارج الأدراج، ومنه‏:‏ المعراج، ومنه قول كثير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

إلى حسب عود بني المر قبله *** أبوه له فيه معارج سلم

ويحتمل أن يعود على ‏{‏الملائكة‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 7‏]‏ لقولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 7‏]‏، فقال الله تعالى‏:‏ «ولو رأوا الملائكة يصعدون ويتصرفون في باب مفتوح في السماء، لما آمنوا»‏:‏ وهذا تأويل ابن عباس‏.‏

وقرأ السبعة سوى ابن كثير‏:‏ «سُكّرت» بضم السين وشد الكاف، وقرأ ابن كثير وحده بتخفيف الكاف، وهي قراءة مجاهد‏.‏ وقرأ ابن الزهري بفتح السين وتخفيف الكاف، على بناء الفعل لفاعل‏.‏ وقرأ أبان بن تغلب «سحرت أبصارنا»، ويجيء قوله‏:‏ ‏{‏بل نحن قوم مسحورون‏}‏ انتقالاً إلى درجة عظمى من سحر العقل والجملة‏.‏

وتقول العرب‏:‏ سكرت الريح تسكر سكوراً‏:‏ إذا ركدت ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولاً، وتقول سكر الرجل من الشراب سكراً‏:‏ إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما للإنسان أن ينفذ فيه، ومن هذا المعنى‏:‏ سكران لا يبت- أي لا يقطع أمراً، وتقول العرب‏:‏ سكرت الفتق في مجاري الماء سكراً‏:‏ إذا طمسته وصرفت الماء عنه، فلم ينفذ لوجهه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذه اللفظة «سكّرت»- بشد الكاف- إذا كانت من سكر الشراب أو من سكور الريح فهي فعل عدي بالتضعيف، وإن كانت من سكر مجاري الماء فتضعيفها للمبالغة، لا للتعدية، لأن المخفف من فعله متعد‏.‏ ورجح أبو حاتم هذه القراءة، لأن «الأبصار» جمع، والتثقيل مع الجمع أمثل، كما قال‏:‏ ‏{‏مفتحة لهم الأبواب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 50‏]‏ ومن قرأ «سُكرت»- بضم السين وتخفيف الكاف، فإن كانت اللفظة من سكر الماء فهو فعل متعد؛ وإن كانت من سكر الشراب أو من سكور الريح، فيضمنا أن الفعل بني للمفعول إلى أن ننزله متعدياً، ويكون هذا الفعل من قبيل‏:‏ رجح زيد ورجحه غيره، وغارت، وغارت العين وغارها الرجل‏:‏ فتقول- على هذا- سكر الرجل، وسكره غيره، وسكرت الريح، وسكرها شيء غيرها‏.‏

ومعنى هذه المقالة منهم‏:‏ أي غيرت أبصارنا عما كانت عليه، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الشياء كما كانت تفعل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعبر بعض المفسرين عن هذه اللفظة بقوله‏:‏ غشي على أبصارنا وقال بعضهم عميت أبصارنا، وهذا ونحوه تفسير بالمعنى لا يرتبط باللفظ‏.‏

ولقال أيضاً هؤلاء المبصرون عروج الملائكة، أو عروج أنفسهم، بعد قولهم‏:‏ ‏{‏سكرت أبصارنا‏}‏ بل سحرنا حتى ما نعقل الأشياء كما يجب، أي صرف فينا السحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 21‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها- عقب ذلك بهذه الآية- فكأنه قال‏:‏ وإن في السماء لعبراً منصوبة غير هذه المذكورة، وكفرهم بها، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو‏.‏

و «البروج»‏:‏ المنازل، واحدها برج، وسمي بذلك لظهوره، ووضوحه، ومنه تبرج المرأة‏:‏ ظهورها وبدوها، والعرب تقول‏:‏ برج الشيء‏:‏ إذا ظهر وارتفع‏.‏

و «حفظ السماء» هو بالرجم بالشهب «على ما تضمنته الأحاديث الصحاح‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» إن الشياطين تقرب من السماء أفواجاً «، قال‏:‏ فينفرد المارد منها، فيعلو فيسمع، فيرمى بالشهاب‏.‏ فيقول لأصحابه- وهو يلتهب- إنه من الأمر كذا وكذا- فيزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة، فيزيدون مع الكلمة مائة ونحو هذا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن الشهب تجرح وتؤذي ولا تقتل، وقال الحسن‏:‏ تقتل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي الأحاديث ما يدل على أن الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت الإسلام وحفظ السماء حفظاً تاماً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لم يكن إلا بعد النبي عليه السلام، بدليل أن الشعراء لم يشبهوا به في السرعة إلا بعد الإسلام‏.‏ وذكر الزهراوي عن أبي رجاء العطاردي أنه قال‏:‏ كنا لا نرى الرجم بالنجوم قبل الإسلام‏.‏

و ‏{‏رجيم‏}‏ فعيل بمعنى مفعول‏.‏ فإما من رجم الشهب، وإما من الرجم الذي هو الشتم والذم‏.‏ ويقال‏:‏ تبعت الرجل واتبعته بمعنى واحد‏.‏ و‏{‏إلا‏}‏ بمعنى‏:‏ لكن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا قول، والظاهر أن الاستثناء من الحفظ، وقال محمد بن يحيى عن أبيه‏:‏ ‏{‏إلا من استرق السمع‏}‏، فإنها لم تحفظ منه- ذكره الزهراوي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض مددناها‏}‏ روي في الحديث‏:‏» أن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة فثبتها الله بالجبال «يقال‏:‏ رسا الشيء يرسو‏:‏ إذا رسخ وثبت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏موزون‏}‏ قال الجمهور‏:‏ معناه مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن- على هذا- مستعار‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة والفلز كله وغير ذلك مما يوزن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ الأول أعم وأحسن‏.‏

و ‏{‏معايش‏}‏ جمع معيشة‏.‏ وقرأها الأعمش بالهمز وكذلك روى خارجة عن نافع‏.‏ والوجه ترك الهمز لأن أصل ياء معيشة الحركة‏.‏ فيردها إلى الأصل الجمع، بخلاف‏:‏ مدينة ومدائن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن لستم له برازقين‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏من‏}‏ في موضع نصب وذلك على ثلاثة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أن يكون عطفاً على ‏{‏معايش‏}‏، كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش، وهي ما يؤكل ويلبس، ثم عدد النعم في الحيوان والعبيد والصناع وغير ذلك مما ينتفع به الناس وليس عليهم رزقهم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن تكون ‏{‏من‏}‏ معطوفة على موضع الضمير في ‏{‏لكم‏}‏ وذلك أن التقدير‏:‏ وأنعشناكم وأنعشنا أمماً غيركم من الحيوان‏.‏ فكأن الآية- على هذا- فيها اعتبار وعرض آية‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ أن تكون ‏{‏من‏}‏ منصوبة بفعل مضمر يقتضيه الظاهر، تقديره‏:‏ وأنعشنا من لستم له برازقين‏.‏

ويحتمل أن تكون ‏{‏من‏}‏ في موضع خفض عطفاً على الضمير في ‏{‏لكم‏}‏ وهذا قلق في النحو لأن العطف على الضمير المجرور، وفيه قبح، فكأنه قال‏:‏ ولمن لستم له برازقين، وأنتم تنتفعون به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن من شيء‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ وهو المطر خاصة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وينبغي أن تكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات‏.‏

و «الخزائن» المواضع الحاوية، وظاهر هذا أن الماء والريح ونحو ذلك موجود مخلوق، وهو ظاهر في قولهم في الريح‏:‏ عتت على الخزان وانفتح منها قدر حلقة الخاتم، ولو كان قدر منخر الثور لأهلك الأرض؛ إلى غير هذا من الشواهد‏.‏ وذهب قوم إلى أن كونها في القدرة هو خزنها، فإذا شاء الله أوجدها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أيضاً ظاهر في أشياء كثيرة‏.‏ وهو لازم في الاعتراض إذا عممنا لفظة ‏{‏شيء‏}‏ وكيفما كان الأمر فالقدرة تسعه وتتقنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ننزله‏}‏ ما كان من المطر ونحوه‏:‏ فالإنزال فيه متمكن، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به، إنزال على تجوز‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ «وما نرسله»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بقدر معلوم‏}‏ روي فيه عن ابن مسعود وغيره‏:‏ أنه ليس عام أكثر مطراً من عام، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 27‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقال‏:‏ لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة‏:‏ إذا حملت، والرياح تلقح الشجر والسحاب، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة، وتتجه صفة ‏{‏الرياح‏}‏ ب ‏{‏لواقح‏}‏ على أربعة أوجه‏:‏

أولها وأولاها‏:‏ أن نجعلها لاقحة حقيقية، وذلك أن الرياح منها ما فيها عذاب أو حر ونار، ومنها ما فيه رحمة ومطر أو نصر أو غير ذلك، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه، فهي لاقحة بهذا الوجه، وإن كانت أيضاً تلقح غيرها وتصير إليه نفعها‏.‏ والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمي الشمال الحايل والعقيم ومحوة، لأنها تمحو السحاب‏.‏ وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الريح الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس»؛ ومن هذا قول الطرماح‏:‏

قلق لا فبان الريا *** ح للاقح منها وحائل

ومن قول أبي وجزة‏:‏

من نسل جوابة الآفاق *** فجعلها حاملاً تنسل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون وصفها ب ‏{‏لواقح‏}‏ من باب قولهم‏:‏ ليل نائم، أي فيه نوم ومعه، ويوم عاصف ونحوه‏:‏ فهذا على طريق المجاز‏.‏

والثالث‏:‏ أن توصف الرياح ب ‏{‏لواقح‏}‏ على جهة النسب، أي ذات لقح، كقول النابغة‏:‏

كليني لهم يا أميمة ناصب *** أي ذي نصب‏.‏

والرابع‏:‏ أن تكون ‏{‏لواقح‏}‏ جمع ملقحة على حذف زوائدة، فكأنه لقحة، فجمعها كما تجمع لاقحة، ومثله قول الشاعر ‏[‏سيبويه‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** وأشعث ممن طوحته الطوائح

وإنما طوحته المطاوح، وعلى هذا النحو فسرها أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏{‏لواقح‏}‏ ملاقح، وكذلك العبارة عنها في كتاب البخاري‏:‏ لواقح ملاقح ملقحة‏.‏

وقرأ الجمهور «الرياح» بالجمع، وقرأ الكوفيون- حمزة وطلحة بن مصرف والأعمش ويحيى بن وثاب- «الريح» بالإفراد، وهي للجنس، فهي في معنى الجمع، ومثلها الطبري بقولهم‏:‏ «قميص أخلاق وأرض أغفال»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته، فكذلك ريح لواقع لأنها متفرقة الهبوب، وكذلك‏:‏ دار بلاقع، أي كل موضع منها بلقع‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ إن في قراءة عبد الله «وأرسلنا الرياح يلقحن»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الريح من نفس الرحمن»، ومعنى الإضافة هنا هي من إضافة خلق إلى خالق، كما قال‏:‏ ‏{‏من روحي‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ ومعنى نفس الرحمن‏:‏ أي من تنفيسه وإزالته الكرائب والشدائد‏.‏ فمن التنفس بالريح النصر بالصبا وذرو الأرزاق بها، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده‏.‏

ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه الله فسر هذا الحديث بنحو هذا وأنشد في تفسيره‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت *** على نفس محزون تجلت همومها

وهذا من جملة التنفيس والعرب تقول‏:‏ أسقى وسقى بمعنى واحد، وقال لبيد‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

سقى قومي بني مجد واسقى *** نميراً، والقبائل من هلال

فجاء باللغتين، وقال أبو عبيدة‏:‏ أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى، وأما إذا كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال‏:‏ أسقى، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي، فإنما يقال فيه‏:‏ أسقى، ومنه قول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقفت على رسم لمية ناقتي *** فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني أحجاره وملاعبه

قال القاضي أبو محمد‏:‏ على أن بيت لبيد دعاء، وفيه اللغتان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت‏}‏ الآيات، هذه الآيات مع الآيات التي قبلها تضمنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى وما يوجب توحيده وعبادته، فمعنى هذه‏:‏ وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه من العدم إلى وجود الحياة، وبرده عند البعث من مرقده ميتاً، ونميت بإزالة الحياة عمن كان حياً، ‏{‏ونحن الوارثون‏}‏، أي لا يبقى شيء سوانا، وكل شيء هالك إلا وجهه لا رب غيره‏.‏

ثم أخبر تعالى بإحاطة علمه بمن تقدم من الأمم، بمن تأخر في الزمن من لدن أهبط آدم إلى الأرض إلى يوم القيامة، وأعلم أنه هو الحاشر لهم الجامع لعرض القيامة على تباعدهم في الأزمان والأقطار، وأن حكمته وعلمه يأتيان بهذا كله على أتم غاياته التي قدرها وأرادها‏.‏

وقرأ الأعرج «يحشِرهم» بكسر الشين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ بهذا سياق معنى الآية، وهو قول جمهور المفسرين‏:‏ وقال الحسن‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولقد علمنا المستقدمين‏}‏ أي في الطاعة، والبدار إلى الإيمان والخيرات، و‏{‏المستأخرين‏}‏ بالمعاصي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإن كان اللفظ يتناول كل تقدم وتأخر على جميع وجوهه فليس يطرد سياق معنى الآية إلا كما قدمنا، وقال ابن عباس ومروان بن الحكم وأبو الجوزاء‏:‏ نزل قوله‏:‏ ‏{‏ولقد علمنا‏}‏ الآية، في قوم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تصلي وراءه امرأة جميلة، فكان بعض القوم يتقدم في الصفوف لئلا تفتنه، وكان بعضهم يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة، فنزلت الآية فيهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وما تقدم الآية من قوله‏:‏ ‏{‏ونحن الوارثون‏}‏ وما تأخر من قوله‏:‏ ‏{‏وإن ربك يحشرهم‏}‏، يضعف هذه التأويلات، لأنها تذهب اتصال المعنى، وقد ذكر ذلك محمد بن كعب القرظي لعون بن عبد الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ الآية، ‏{‏الإنسان‏}‏ هنا للجنس، والمراد آدم، قال ابن عباس سمي بذلك لأنه عهد إليه فنسي، ودخل من بعده في ذلك إذ هو من نسله، و«الصلصال»‏:‏ الطين الذي إذا جف صلصل، هذا قول فرقة، منها من قال‏:‏ هو طين الخزف، ومنها قول الفراء‏:‏ هو الطين الحر يخالطه رمل دقيق‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ خلق من ثلاثة‏:‏ من طين لازب وهو اللازق والجيد، ومن ‏{‏صلصال‏}‏ وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء ثم ينحسر فتشقق وتصير مثل الخزف، ومن ‏{‏حمإ مسنون‏}‏ وهو الطين في الحمأة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكان الوجه أن يقال- على هذا المعنى- صلال، ولكن ضوعف الفعل من فائه وأبدلت إحدى اللامين من صلاص صاداً‏.‏ وهذا مذهب الكوفيين، وقاله ابن جني والزبيدي ونحوهما على البصرة، ومذهب جمهور البصريين‏:‏ إنهما فعلان متباينان، وكذلك قالوا في ثرة وثرثارة‏.‏ قال بعضهم تقول‏:‏ صل الخزف ونحوه‏:‏ إذا صوت بتمديد‏:‏ فإذا كان في صوته ترجيع كالجرس ونحوه قلت‏:‏ صلصل، ومنه قول الكميت‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

فينا العناجيج تردي في أعنتها *** شعثاً تصلصل في أشداقها اللجم

وقال مجاهد وغيره‏:‏ ‏{‏صلصال‏}‏ هنا إنما هو مأخوذ من صل اللحم وغيره‏:‏ إذا انتن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فجعلوا معنى ‏{‏صلصال‏}‏ ومعنى ‏{‏حمإ‏}‏ في لزوم أنتن شيئاً واحداً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و«الحمأ» جمع حمأة وهو الطين الأسود المنتن يخالطه ماء‏.‏ و«المسنون» قال معمر‏:‏ هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتصريف يرد هذا القول‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ «المسنون»‏:‏ الرطب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تفسير لا يخص اللفظة‏.‏ وقال الحسن، المعنى‏:‏ سن ذريته على خلقه‏.‏ والذي يترتب في ‏{‏مسنون‏}‏ إما أن يكون بمعنى محكوك محكم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المسن والسنان، وقولهم‏:‏ سننت السكين وسننت الحجر‏:‏ إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

ثم دافعتها إلى القبة الخضرا *** ء وتمشي في مرمر مسنون

أي محكم الإملاس بالسن، وإما أن يكون بمعنى المصبوب، تقول‏:‏ سننت التراب والماء إذا صببته شيئاً بعد شيء، ومنه قول عمرو بن العاص لمن حضر دفنه‏:‏ إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سناً، ومن هذا‏:‏ هو سن الغارة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية- على هذا- من حمأ مصبوب موضوع بعضه فوق بعض على مثال وصورة‏.‏

‏{‏الجان‏}‏ يراد به جنس الشياطين، ويسمون‏:‏ جنة وجاناً لاستتارهم عن العين‏.‏ وسئل وهب بن منبه عنهم فقال‏:‏ هم أجناب، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس تفعل هذا كله، منها السعالي والغول وأشباه ذلك‏.‏

وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «والجأن» بالهمز‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمراد بهذه الحلقة إبليس أبو الجن، وفي الحديث‏:‏ «أن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر» وفي سورة البقرة إيعاب هذا وقوله ‏{‏من قبل‏}‏ لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، وخلق آدم آخر الخلق‏.‏ و‏{‏السموم‏}‏- في كلام العرب- إفراط الحر حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ السموم بالليل، والحرور بالنهار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأما إضافة ‏{‏نار‏}‏ إلى ‏{‏السموم‏}‏ في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار أنواعاً، ويكون ‏{‏السموم‏}‏ أمراً يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ؛ وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم‏:‏ مسجد الجامع، ودار الآخرة، على حذف مضاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏28‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏30‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏إذ‏}‏ نصب بإضمار فعل تقديره‏:‏ اذكر إذ قال ربك، و«البشر» هنا آدم، وهو مأخوذ من البشرة، وهي وجه الجلد، في الأشهر من القول‏.‏ ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ «وافقوا البشر» وقيل البشرة ما يلي اللحم، ومنه قولهم في المثل‏:‏ إنما يعاتب الأديم ذو البشرة لأن تلك الجهة هي التي تبشر‏.‏

وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور- فهي مخلوقات لطاف- فأخبرهم‏:‏ أنه لا يخلق جسماً حياً ذا بشرة وأنه يخلقه ‏{‏من صلصال‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ «والبشر» والبشارة أيضاً أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران‏.‏

و ‏{‏سويته‏}‏ معناه‏:‏ كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب، وقوله‏:‏ ‏{‏من روحي‏}‏ إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فقعوا‏}‏ من وقع يقع، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم، وإشارة، كما قال بعض الناس، وشبهوه بقول الشاعر ‏[‏أبي الأخزر الحماني‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف

وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا‏.‏

وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس‏:‏ أنه قال‏:‏ خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا، فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقول ابن عباس- من الأولين- يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم، ويحتمل أن يريد‏:‏ في أنه بقي منهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كلهم أجمعون‏}‏ هو-عند سيبويه- تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمن الأول‏.‏ وقال غيره‏:‏ ‏{‏كلهم‏}‏ لو وقف عليه- لصلحت للاستيفاء، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل‏:‏ كل الناس يعرف كذا، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر، فلما قال‏:‏ ‏{‏أجمعون‏}‏ رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد‏.‏ وقال ابن المبرد‏:‏ لو وقف على ‏{‏كلهم‏}‏ لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال‏:‏ ‏{‏أجمعون‏}‏ دل على أنهم سجدوا في موطن واحد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله‏:‏ ‏{‏أجمعون‏}‏ حالاً‏.‏ بمعنى مجتمعين، يلزمه- على هذا- أن يكون أجمعين، يقرب من التنكير إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تأبى قوله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا إبليس‏}‏ قيل‏:‏ إنه استثناء من الأول، وقيل‏:‏ إنه ليس من الأول‏.‏ وهذا متركب على الخلاف في ‏{‏إبليس‏}‏، هل هو من الملائكة أم لا‏؟‏ والظاهر- من كثير من الأحاديث ومن هذه الآية- أنه من الملائكة وذلك أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لم يذنب في ترك السجود‏.‏

وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن‏:‏ أن إبليس إنما كان من قبيل الجن ولم يكن قط ملكاً؛ ونسب ابن فورك القول إلى المعتزلة، وتعلق من قال هذا بقوله في صفته‏:‏ ‏{‏كان من الجن‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ وقالت الفرقة الأخرى‏:‏ لا حجة في هذا لأن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال‏:‏ يا إبليس‏}‏، قيل‏:‏ إنه- حينئذ- سماه ‏{‏إبليس‏}‏، وإنما كان اسمه- قبل- عزازيل، وهو من الإبلاس وهو الإبعاد، أي يا مبعد، وقالت طائفة‏:‏ ‏{‏إبليس‏}‏ كان اسمه، وليس باسم مشتق، بل هو أعجمي، ويقضي بذلك أنه لا ينصرف، ولو كان عربياً مشتقاً لكان كإجفيل- من أجفل- وغيره، ولكان منصرفاً، قاله أبو علي الفارسي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألا تكون‏}‏ «أن» في موضع نصب، وقيل‏:‏ في موضع خفض، والأصل‏:‏ ما لك ألا تكون‏؟‏ وقول إبليس ‏{‏لم أكن لأسجد لبشر‏}‏ ليس هذا موضع كفره عند الحذاق، لأن إبايته إنما هي معصية فقط، وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن الله خلق خلقاً مفضولاً وكلف أفضل منه أن يذل له، فكأنه قال‏:‏ وهذا جور، وذلك أن إبليس لما ظن أن النار أفضل من الطين ظن أن نفسه أفضل من آدم من النار يأكل الطين، فقاس وأخطأ في قياسه، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله المالك للجميع لا رب غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 44‏]‏

‏{‏قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏37‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏43‏)‏ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏منها‏}‏ للجنة، وإن لم يجر ذكرها في القصة تتضمنها، ويحتمل أن يعود الضمير على ضيفة الملائكة، وال ‏{‏رجيم‏}‏ المشتوم أي المرجوم بالقول والشتم، و‏{‏يوم الدين‏}‏ يوم الجزاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

ولم يبق سوى العدوا *** ن دناهم كما دانوا

وسأل إبليس «النظرة إلى يوم البعث» فأعطاه الله إياها إلى «وقت معلوم»، واختلف فيه فقيل إلى يوم القيامة أي يكون آخر من يموت من الخلق، قاله الطبري وغيره وقيل إلى وقت غير معين ولا مرسوم بقيامة ولا غيرها، بل علمه عند الله وحده، وقيل بل أمره كان إلى يوم بدر وأنه قتل يوم بدر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وإن كان روي فهو ضعيف، والمنظر المؤخر، وقوله ‏{‏رب‏}‏ مع كفره يخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهو الظاهر من حاله وما تقتضيه فيه الآيات والأحاديث، وهذا لا يدفع في صدر كفره، وقوله ‏{‏بما أغويتني‏}‏ قال أبو عبيدة وغيره أقسم بالإغواء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأنه جعله بمنزلة قول «رب» بقدرتك علي وقضائك ويحتمل أن تكون باء سبب، كأنه قال «رب» والله لأغوينهم بسبب إغوائك لي ومن أجله وكفاء له‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى تجلداً منه ومبالغة في الجد أي بحالي هذه وبعدي عن الخير والله لأفعلن ولأغوين، ومعنى ‏{‏لأزينن لهم في الأرض‏}‏ أي الشهوات والمعاصي، والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ لذرية آدم وإن كان لم يجر لهم ذكر، فالقصة بجملتها حيث وقعت كاملة تتضمنهم، و«الإغواء»‏:‏ الإضلال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج «المخلَصين» بفتح اللام، أي الذين أخلصتهم أنت لعبادتك وتقواك، وقرأ الجمهور «المخلِصين» بكسر اللام، أي الذين أخلصوا الإيمان بك وبرسلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال هذا صراط‏}‏ الآية‏:‏ القائل هو الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذلك بواسطة، وقرأ الضحاك وحميد والنخعي وابو رجاء وابن سيرين وقتادة وقيس بن عباد ومجاهد وغيرهم «علي مستقيم» من العلو والرفعة، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى الإخلاص لما استثني إبليس من أخلص‏.‏ قال الله له هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله، وقرأ جمهور الناس «علي مستقيم»، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص، لما قسم إبليس الناس هذين القسمين، قال الله هذه طريق علي، أي هذا أمر إلى مصيره، والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك، وهذا نحو قوله تعالى ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ الآية على هذه القراءة تتضمن وعيداً، ثم ابتدأ الإخبار عن سلامة عباده المتقين من إبليس وخاطبه بأنه لا حجة له عليهم ولا ملكه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر من قوله ‏{‏عبادي‏}‏‏:‏ الخصوص في أهل الإيمان والتقوى لا عموم الخلق، وبحسب هذا يكون ‏{‏إلاَّ من اتبعك‏}‏ مستثنى من غير الأول، التقدير لكن من اتبعك من الغاوين لك عليهم سلطان، وإن أخذنا العباد عاماً في عباد الناس إذ لم يقرر الله لإبليس سلطاناً على أحد فإنا نقدر الاستثناء في الأقل في القدر من حيث لا قدر للكفار، والنظر الأول أصوب، وإنما الغرض أن لا تقع في استثناء الأكثر من الأقل، وإن كان الفقهاء قد جوزوه، قال أبو المعالي ليس معروفاً في استعمال العرب، وهذه الآية أمثل ما احتج به مجوزوه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا حجة لهم في الآية على ما بينته، وقوله ‏{‏جهنم لموعدهم‏}‏ أي موضع اجتماعهم، والموعد يتعلق بزمان ومكان، وقد يذكر المكان ولا يحد زمان الموعد، و‏{‏أجمعين‏}‏ تأكيد وفيه معنى الحال، وقوله ‏{‏لها سبعة أبواب‏}‏ قيل إن النار بجملتها سبعة أطباق أعلاها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم وفيه أبو جهل، ثم الهاوية، وإن في كل طبق منها باباً، فالأبواب على هذا بعضها فوق بعض، وعبر في هذه الآية عن النار جملة ب ‏{‏جهنم‏}‏ إذ هي أشهر منازلها وأولها وهي موضع عصاة المؤمنين الذين لا يخلدون، ولهذا روي أن جهنم تخرب وتبلى، وقيل إن النار أطباق كما ذكرنا لكن «الأبواب السبعة» كلها في جهنم على خط استواء، ثم ينزل من كل باب إلى طبقة الذي يفضى إليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واختصرت ما ذكر المفسرون في المسافات التي بين الأبواب وفي هواء النار، وفي كيفية الحال إذ هي أقوال أكثرها لا يستند، وهي في حيز الجائز، والقدرة أعظم منها، عافانا الله من ناره وتغمدنا برحمته بمنه‏.‏ وقرأ الجمهور «جزء» بهمز، وقرأ ابن شهاب «جزُء» بضم الزاي، وقرأت فرقة «جزّ» بشد الزاي دون همز وهي قراءة ابن القعقاع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ذكر الله تعالى ما أعد لأهل الجنة عقب ذكره ما أعد لأهل النار ليظهر التباين، وقرأ الجمهور و«عُيون» بضم العين، وقرأ نبيح والجراح وأبو واقد ويعقوب في رواية رويس «وعِيون» بكسر العين مثل بيوت وشيوخ، وقرأ الجمهور «ادخُلوها» على الأمر بمعنى يقال لهم «ادخُلوها»، وقرأ رويس عن يعقوب «أدخَلوها» على بناء الفعل للمفعول وضم التنوين في «عيونٌ»، ألقى عليه حركة الهمزة، و«السلام» هاهنا يحتمل أن يكون السلامة، ويحتمل أن يكون التحية، و«الغل» الحقد، وذكر الله تعالى في هذه الآية أن ينزع الغل من قلوب أهل الجنة، ولم يذكر لذلك موطناً، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط، وجاء في بعضها أن ذلك على أبواب الجنة، وفي لفظ بعضها أن الغل ليبقى على أبواب الجنة كمعاطن الإبل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا على أن الله تعالى يجعل ذلك تمثيلاً بلون يخلقه هناك ونحوه، وهذا كحديث ذبح الموت، وقد يمكن أيضاً أن يسل من الصدور، ولذلك جواهر سود فيكون كمبارك الإبل، وجاء في بعض الأحاديث أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والذي يقال في هذا أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين‏}‏‏.‏ وذكر أن ابناً لطلحة كان عنده فاستأذن الأشتر فحبسه مدة ثم أذن له فدخل، فقال ألهذا حبستني وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له فقال علي نعم إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏ الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد روي أن المستأذن غير الأشتر و‏{‏إخواناً‏}‏ نصب على الحال، وهذه أخوة الدين والود، والأخ من ذلك يجمع على إخوان وإخوة أيضاً، والأخ من النسب يجمع أخوة وإخاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

وأي بني الإخاء تصفو مذاهبه *** ويجمع أيضاً إخواناً و‏{‏سرر‏}‏ جمع سرير، و‏{‏متقابلين‏}‏ الظاهر أن معناه في الوجوه، إذ الأسرة متقابلة فهي أحسن في الرتبة، قال مجاهد لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وقيل ‏{‏متقابلين‏}‏ في المودة، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ، و«النصب» التعب، يقع على القليل والكثير، ومن الكثير قول موسى عليه السلام ‏{‏لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏ ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كليني لهم يا أمية ناصب *** و‏{‏نبئ‏}‏ معناه أعلم، و‏{‏عبادي‏}‏ مفعول ب ‏{‏نبئ‏}‏، وهي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ف ‏{‏عبادي‏}‏ مفعول و«أن» تسد مسد المفعولين الباقيين واتصف ذلك وهي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد، ألا ترى أنك إذا قلت أعجبني أن زيداً منطلق إنما المعنى أعجبني انطلاق زيد لأن دخولها إنما هو على جملة ابتداء وخبر فسدت لذلك مسد المفعولين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد تتعدى ‏{‏نبئ‏}‏ إلى مفعولين فقط ومنه قوله تعالى ‏{‏من أنبأك هذا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 3‏]‏، وتكون في هذا الموضع بمعنى أخبر وعرف، وفي هذا كله نظر، وهذه آية ترجية وتخويف، وروي في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لنا تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وروي في هذه الآية أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه عند باب بني شيبة في الحرم، فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم ثم ولى فجاءه جبريل عن الله، فقال‏:‏ يا محمد أتقنط عبادي‏؟‏ وتلا عليه الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها، إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة فأكد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قرأ أبو حيوة «ونبهُم» بضم الهاء من غير همز، وهذا ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول، و‏{‏ضيف‏}‏ مصدر وصف به فهو للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد كعدل وغيره، قال النحاس وغيره‏:‏ التقدير عن أصحاب ضيف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويغني عن هذا أن هذا المصدر عومل معاملة الأسماء كما فعل في رهن ونحوه، والمراد ب «الضيف» هنا الملائكة الذين جاؤوا لإهلاك قوم لوط وبشروا إبراهيم، وقد تقدم قصصهم‏.‏ وقوله ‏{‏سلاماً‏}‏ مصدر منصوب بفعل مضمر تقديره سلمنا أو نسلم سلاماً، والسلام هنا التحية، وقوله ‏{‏سلاماً‏}‏ حكاية قولهم فلا يعمل القول فيه، وإنما يعمل إذا كان ما بعده ترجمة عن كلام ليس يحكى بعينه كما تقول لمن قال لا إله إلا الله قلت حقاً ونحو هذا وقوله ‏{‏إنا منكم وجلون‏}‏ أي فزعون، وإنما وجل إبراهيم عليه السلام منهم لما قدم إليهم العجل الحنيذ فلم يرهم يأكلون، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام، وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل والمنزول به، وقرأ الجمهور «لا توجل» مستقبل وجل، وقرأ الحسن «لا تُؤجل» بضم التاء على بناء الفعل للمفعول من أوجل، لأن وجل لا يتعدى، وكانت هذه البشارة بإسحاق، وذلك بعد مولد إسماعيل بمدة، وقول إبراهيم ‏{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 39‏]‏ وليس يقتضي أنهما حينئذ وهبهما بل قبل الحمد بكثير‏.‏ وقرأ الجمهور «أبشرتموني» بألف الاستفهام، وقرأ الأعرج «بشرتموني» بغير ألف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏على أن مسني الكبر‏}‏، أي في حالة قد مسني فيها الكبر، وقرأ ابن محيصن «الكُبْر» بضم الكاف وسكون الباء، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تُبشرونَ» بفتح النون التي هي علامة الرفع، والفعل على هذه القراءة غير معدى، وقرأ الحسن البصري «تبشروني» بنون مشددة وياء، وقرأ ابن كثير بشد النون دون ياء، وهذه القراءة أدغمت فيها نون العلامة في النون التي هي للمتكلم موطئة للياء، وقرأ نافع «تبشرونِ» بكسر النون، وغلط أبو حاتم نافعاً في هذه القراءة، وقال إن شاهد الشعر في هذا اضطرار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حمل منه، وتقدير هذه القراءة أنه حذفت النون التي للمتكلم وكسرت النون التي هي علامة الرفع بحسب الياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها، ونحو هذا قول الشاعر أنشده سيبويه‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تراه كالثغام يعل مسكاً *** يسوء الفاليات إذا فليني

ومنه قول الآخر‏:‏

أبالموت الذي لا بد أني *** ملاق لا أباك تخوفيني

ومن حذف هذه النون قول الشاعر‏:‏

قدني من نصر الخبيبين قدي *** يريد عبد الله ومصعباً ابني الزبير، وكان عبد الله يكنى أبا خبيب، وقرأ الحسن «فبم تَبشُرون» بفتح التاء وضم الشين، وقول إبراهيم عليه السلام ‏{‏فبم تبشرون‏}‏ تقرير على جهة التعجب والاستبعاد لكبرهما، أو على جهة الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرة الدنيوية لمضي العمر واستيلاء الكبر‏.‏ قال مجاهد‏:‏ عجب من كبره ومن كبر امرأته، وقد تقدم ذكر سنة وقت البشارة‏.‏ وقولهم ‏{‏بشرناك بالحق‏}‏ فيه شدة ما، أي بشر بما بشرت به ودع غير ذلك، وقرأ جمهور الناس «القانطين» والقنوط‏:‏ أتم اليأس، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن مصرف ورويت عن عمرو «القنطين»، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة، «من يقنَط» بفتح النون في كل القرآن، وقرأ أبو عمرو والكسائي «ومن يقنِط» بكسر النون، وكلهم قرأ من ‏{‏بعد ما قنطوا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏ بفتح النون، ورد أبو عبيدة قراءة أهل الحرمين وأنكر أن يقال قِنط بكسر النون، وليس كما قال لأنهم لا يجمعون إلا على قوي في اللغة مروي عندهم، وهي قراءة فصيحة إذ يقال قَنَط يقنَط يقنِط مثل نَقَم ونقِم، وقرأ الأعمش هنا «يقنِط» بكسر النون، وقرأ ‏{‏من بعد ما قنطوا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏ بكسر النون أيضاً، فقرأ باللغتين، وقرأ الأشهب «يقنُط» بضم النون وهي قراءة الحسن والأعمش أيضاً وهي لغة تميم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 65‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

القائل هنا إبراهيم عليه السلام، وقوله‏:‏ ‏{‏فما خطبكم‏}‏ سؤال فيه عنف، كما تقول لمن تنكر حاله‏:‏ ما دهاك وما مصيبتك‏؟‏ وأنت إنما تريد استفهاماً عن حاله فقط‏.‏ لأن «الخطب» لفظة إنما تستعمل في الأمور الشداد، على أن قول إبراهيم عليه السلام ‏{‏أيها المرسلون‏}‏ وكونهم أيضاً قد بشروه يقتضي أنه قد كان عرف أنهم ملائكة حين قال ‏{‏فما خطبكم‏}‏، فيحتمل قوله ‏{‏فما خطبكم‏}‏ مع هذا أنه أضاف الخطب إليهم من حيث هم حملته إلى يوم المعذبين أي ما هذا الخطب الذي تتحملونه وإلى أي أمة‏.‏ و‏{‏لقوم مجرمين‏}‏ يراد به أهل مدينة سدوم الذين بعث فيهم لوط عليه السلام، والمجرم الذي يجر الجرائر ويرتكب المحظورات، وأصل جرم وأجرم كسب، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

جريمة ناهض في رأس نيق *** أي كسب عقاب في قنة شامخ، ولكن اللفظة خصّت في عرفها بالشر، لا يقال لكاسب الأجر مجرم، وقولهم ‏{‏إلا آل‏}‏ استثناء منقطع، والأول القوم الذين يؤول أمرهم إلى المضاف إليه، كذا قال سيبويه، وهذا نص في أن لفظة ‏{‏آل‏}‏ ليست لفظة أهل كما قال النحاس، ويجوز على هذا إضافة ‏{‏آل‏}‏ إلى الضمير، وأما أهيل فتصغير أهل، واجتزوا به عن تصغير «آل»، فرفضوا «أويلاً» وقرأ جمهور السبعة «لمُنجُّوهم» وقرأ حمزة والكسائي «لمنْجُوهم» بسكون النون وضم الجيم مخففة، والضمير في ‏{‏لمنجوهم‏}‏ في موضع خفض بالإضافة، وانحذفت النون للمعاقبة، هذا قول جمهور النحويين، وقال الأخفش الضمير في موضع نصب وانحذفت النون لأنه لا بد من اتصال هذا الضمير‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، وقوله ‏{‏إلا امرأته‏}‏ استثناء بعد استثناء وهما منقطعان فيما حكى بعض النحاة لأنهم لم يجعلوا امرأته الكافرة من آله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، لأنها قبل الاستثناء داخلة في اللفظ الذي هو الأول، وليس كذلك الأول مع «المجرمين»، فيظهر الاستثناء الأول منقطعاً والثاني متصلاً، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى الثاني في حكم أمر الأول، ومثل بعض الناس في هذا بقولك‏:‏ لي عندك مائة درهم إلا عشرة دراهم إلا درهمين، فرجعت الدرهمان في حكم التسعين الدرهم، وقال المبرد‏:‏ ليس هذا المثال بجيد، لأنه من خلق الكلام ورثه إذ له طريق إلى أداء المعنى المقصود بأجمل من هذا التخليق، وهو أن يقول لي عندك مائة إلا ثمانية، وإنما ينبغي أن يكون مثالاً للآية قولك‏:‏ ضربت بني تميم إلا بني دارم إلا حاجباً، لأن حاجباً من بني دارم فلما كان المستثنى الأول في ضمنه ما لا يجري الحكم عليه، والضرورة تدخله في لفظه ولا يمكنك العبارة عنه دون ذلك يجري الحكم عليهم اضطررت إلى استثناء ثان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونزعة المبرد في هذا نبيلة، وقرأ جميعهم سوى عاصم في رواية أبي بكر «قدّرنا» بتشديد الدال في كل القرآن، وقرأ عاصم «قدَرنا» بتخفيفها، ونقل في رواية حفص، والتخفيف يكون بمعنى التثقيل كما قال الهذلي أبو ذؤيب‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ومفرهة عنس قدرت لساقها *** فخرت كما تتابع الريح بالقفل

يريد قدرت ضربي لساقها، وكقول النبي عليه السلام في الاستخارة‏:‏ «واقدر لي الخير حيث كان»، ويكون أيضاً بمعنى سن ووفق ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏{‏يزيد بن مفرغ‏]‏

بقندهار ومن تقدير منيته *** يرجع دونه الخبر

وكسرت الألف من ‏{‏إنها‏}‏ بسبب اللام التي في قوله ‏{‏لمن‏}‏ والغابر الباقي في الدهر وغيره، وقالت فرقة منهم النحاس‏:‏ هو من الأضداد، يقال في الماضي وفي الباقي، وأما في هذه الآية فهي للبقاء أي من الغابرين في العذاب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاء آل لوط المرسلون‏}‏ الآيات، تقدم القول وذكر القصص في أمر لوط وصورة لقاء الرسل له، وقيل إن الرسل كانوا ثلاثة، جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وقيل كانوا اثني عشر وقوله ‏{‏منكرون‏}‏ أي لا يعرفون في هذا القطر، وفي هذه اللفظة تحذير وهو من نمط ذمه لقومه وجريه إلى أن لا ينزل هؤلاء القوم في تلك المدينة خوفاً منه أن يظهر سوء فعلهم وطلبهم الفواحش، فقالت الرسل للوط بل جئناك بما وعدك الله من تعذيبهم على كفرهم ومعاصيهم، وهو الذي كانوا يشكون فيه ولا يحققونه، وقرأت فرقة «فاسر» بوصل الألف، وقرأت فرقة «فأسر» بقطع الألف، يقال سرى وأسرى بمعنى، إذا سار ليلاً، وقال النابغة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أسرت عليه من الجوزاء سارية *** فجمع بين اللغتين في بيت، وقرأ اليماني «فيسر بأهلك»، وهذا الأمر بالسرى هو عند الله تعالى، أي يقال لك، و«القطع» الجزء من الليل، وقرأت فرقة «بقطَع» بفتح الطاء حكاه منذر بن سعيد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتبع أدبارهم‏}‏ أي كن خلفهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد ولا يتلوى، و‏{‏حيث‏}‏ في مشهورها ظرف مكان، وقالت فرقة أمر لوط أن يسير إلى زغر، وقيل‏:‏ إلى موضع نجاة غير معروف عندنا، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏حيث‏}‏ قد تكون ظرف زمان، وأنشد أبو علي في هذا بيت طرفة‏:‏ ‏[‏المديد‏]‏

للفتى عقل يعيش به *** حيث تهدي ساقه قدمه

كأنه قال مدة مشيه وتنقله، وهذه الآية من حيث أمر أن يسري ‏{‏بقطع من الليل‏}‏ ثم قيل له «حيث تؤمر»‏.‏ ونحن لا نجد في الآية أمراً له لا في قوله ‏{‏بقطع من الليل‏}‏ أمكن أن تكون ‏{‏حيث‏}‏ ظرف زمان، و‏{‏يلتفت‏}‏ مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد‏:‏ المعنى لا ينظر أحد وراءه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونهوا عن النظر مخافة العقلنة وتعلق النفس بمن خلف، وقيل بل لئلا تتفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها‏.‏ وقيل ‏{‏يلتفت‏}‏ معناه يتلوى من قولك لفت الأمر إذا لويته، ومنه قولهم للعصيدة لفيتة لأنها تلوى، بعضها على بعض‏.‏