فصل: تفسير الآيات رقم (41- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، وقالت فرقة سبب الآية أبو جندل بن سهيل بن عمرو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، لأن أمر أبي جندل كان والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقالت فرقة نزلت في عمار وصهيب وخباب وأصحابهم الذين أوذوا بمكة وخرجوا عنها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولاً وآخراً‏.‏ وقرأ الجمهور «لنبوئنهم» وقرأ ابن مسعود ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب‏.‏ «لنثوينهم» وهاتان اللفظتان معناهما التقرير، فقالت فرقة‏:‏ الحسنة عِدَةٌ ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة، وإليها كانت الإشارة بقوله ‏{‏حسنة‏}‏ وقالت فرقة‏:‏ الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي ‏{‏لنبوئنهم‏}‏ أو «لنثوينهم» على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة، وهذا على أن ‏{‏حسنة‏}‏ هي المباءة والمثوى، وأن الفعل الظاهر عامل فيها، وقال أبو الفتح‏:‏ نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحساناً، وجعلت ‏{‏حسنة‏}‏ موضع إحساناً، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له‏:‏ خذ ما وعدك الله في الدنيا، ‏{‏ولأجر الآخرة أكبر‏}‏، ثم يتلو هذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد، وكل أمل أبلغه المهاجرون، و«أجر الآخرة» هنا إشارة إلى الجنة، والضمير في ‏{‏يعلمون‏}‏ عائد إلى كفار قريش، وجواب ‏{‏لو‏}‏ مقدر محذوف، ومفعول ‏{‏يعلمون‏}‏ كذلك، وفي هذا نظر، وقوله ‏{‏الذين صبروا‏}‏ من صفة المهاجرين الذين وعدهم الله، والصبر يجمع عن الشهوات وعلى المكاره في الله تعالى، و«التوكل» تتفاضل مراتبه، فمطيل فيه وذلك مباح حسن ما لم يغل حتى يسبب الهلاك، ومتوسط يسعى جميلاً، وهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قيدها وتوكل»، ومقصر لا نفع في تقصيره وإنما له ما قدر له، وقوله ‏{‏وما أرسلنا من قبلك‏}‏ الآية، هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يكون البشر رسولاً من الله تعالى، فأعلمهم الله تعالى مخاطباً لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يرسل إلى الأمم ‏{‏إلا رجالاً‏}‏‏.‏

ولم يرسل ملكاً ولا غير ذلك، و‏{‏رجالاً‏}‏ منصوب ب ‏{‏أرسلنا‏}‏ و‏{‏إلا‏}‏ إيجاب، وقرأ الجمهور بضم الياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة «يُوحِي» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ عاصم من طريق حفص وحده «نوحِي» بالنون وكسر الحاء، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن ثم قال تعالى ‏{‏فاسألوا‏}‏، و‏{‏أهل الذكر‏}‏ هنا اليهود والنصارى، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقال الأعمش وسفيان بن عيينة‏:‏ المراد من أسلم منهم، وقال ابن جبير وابن زيد‏:‏ ‏{‏أهل الذكر‏}‏ أهل القرآن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذان القولان فيهما ضعف، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين بما ذكر، لأنهم يكذبون هذه الصنائف، وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏أهل الذكر‏}‏ هنا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم ولا يتهمون لشهادة لنا لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم من مذهبهم، لا أنّا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألون ويستندون إليهم، وقوله ‏{‏بالبينات‏}‏ متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة الباء متعلقة ب ‏{‏أرسلنا‏}‏ في أول الآية، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً، ففي الآية تقديم وتأخير، ‏{‏والزبر‏}‏ الكتب المزبورة، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت، و‏{‏الذكر‏}‏ في هذه الآية القرآن، وقوله ‏{‏لتبين‏}‏ يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل، وشرحك ما أشكل مما نزل، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

هذه الآية لأهل مكة، وهم المراد ب ‏{‏الذين‏}‏ في قول الأكثر، وقال مجاهد‏:‏ المراد نمرود بن كنعان، والأول أظهر، ونصب ‏{‏السيئات‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما أن ينصب بقوله ‏{‏أفأمن‏}‏ وتكون ‏{‏السيئات‏}‏ على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به، ويكون قوله ‏{‏أن يخسف‏}‏ بدلاً منها‏.‏ والوجه الثاني أن ينصب ب ‏{‏مكروا‏}‏، وعدي ‏{‏مكروا‏}‏ لأنه بمعنى عملوا وفعلوا، و‏{‏السيئات‏}‏ على هذا معاصي الكفر وغيره، قاله قتادة، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش، أن قوماً في هذه الأمة، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم، و‏{‏تقلبهم‏}‏ سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها، و«المعجز» المفلت هرباً كأنه عجز طالبه، وقوله ‏{‏على تخوف‏}‏ أي على جهة التخوف، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

تخوف السير منها تامكاً فرداً *** كما تخوف عود النبعة السفن

والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى «التخوف» في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك، حتى سمع هذا البيت، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة «التخوف»، فقال له يا أمير المؤمنين‏:‏ إن أبي يتخوفني مالي، فقال عُمر‏:‏ الله كبر ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏، ومنه قول طرفة‏:‏

وجامل خوف من نبيه *** زجرُ المعلى أبداً والسفيح

ويروى من نبته، ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألأم على الهجاء وكل يوم *** تلاقيني من الجيران غول

تخوف غدرهم مالي وهدي *** سلاسل في الحلوق لها صليل

يريد الأهاجي، ومنه قول النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تخوفهم حتى أذل سراتهم *** بطعن ضرار بعد قبح الصفائح

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين‏:‏ أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها، ويؤيد هذا قوله ‏{‏فإن ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع‏:‏ والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل، وقالت فرقة‏:‏ «التخوف» هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا القول تكلف ما، وقوله ‏{‏أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء‏}‏ الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «أو لم يروا» بالياء على لفظ الغائب، وكذلك في العنكبوت، فهي جارية على قوله‏:‏ ‏{‏أو يأخذهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أو يأتيهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يشعرون‏}‏، ورجحها الطبري، وقرأ حمزة والكسائي «أولم تروا» بالتاء في الموضعين، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما‏:‏ أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق، واختلف عنه في العنكبوت، وقوله ‏{‏من شيء‏}‏ لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله ‏{‏يتفيأ ظلاله‏}‏ لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل، والرؤية هنا هي رؤية القلب، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين، وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيأ» بالتاء من فوق، وهي قراءة عيسى ويعقوب، وقرأ الجمهور «يتفيأ»، قال أبو علي‏:‏ إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس، فيعم، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب، وكذلك قول حميد بن ثور‏:‏

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه *** ولا الفيء من برد العشي تذوق

فهو على المهيع، وكذلك قول علقمة بن عبدة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَتَبع أفياء الظلال عشية *** على طرق كأنهن سيوف

وكذلك قول امرئ القيس‏:‏

يفيء عليها الظل *** وأما النابغة الجعدي فقال‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

فسلام الإله يغدو عليهم *** وفيء الفردوس ذات الظلال

فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع، وقال رؤبة بن العجاج‏:‏ يقال بعد الزوال فيء وظل، ولا يقال قبله إلا ظل فقط، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملاً على لفظ ما أو لفظ شيء، وهو في المعنى لجمع، وقرأ الثقفي «ظُلَلُه» بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء، وقوله ‏{‏عن اليمين والشمائل‏}‏ أفرد اليمين وهو يراد به الجمع، فكأنه للجنس، والمراد عن الأيمان والشمائل، كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏جرير‏]‏

الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وكما قال الآخر‏:‏

ففي الشامتين الصخر إن كان هدني *** رزية شبلي مخدر في الضراغم

والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر، أي تقدره ذا يمين وشمال، وتقدره يستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية، وفيه تجوز واتساع، ومن ذهب إلى أن ‏{‏اليمين‏}‏ من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب، وما قال بعض الناس من أن ‏{‏اليمين‏}‏ أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال، ولذلك جمع ‏{‏الشمائل‏}‏، وأفرد ‏{‏اليمين‏}‏، فتخليط من القول يبطل من جهات، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً، ثم بعث الله الشمس عليه دليلاً فقبض إليه الظل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة، وظلال متقطعة، فهي شمائل كثيرة، وكأن الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء، وفي هذا القول تجوز في تفيأ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبداً مندفعاً عن اليمين إلى الزوال، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل، وقالت فرقة «الظلال» هنا الأشخاص هي المراد أنفسها، والعرب تعبر أحياناً عن الأشخاص بالظل، ومنه قول عبدة بن الطيب‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية *** وفار للقوم باللحم المراجيل

وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تتبع أفياء الظلال عشية *** أي أفياء الأشخاص‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قد قدره، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف

والداخر المتصاغر المتواضع، ومنه قول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس *** ومنجحر في غير أرضك في حجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

وقعت ‏{‏ما‏}‏ في هذه الآية لما يعقل، قال الزجاج‏:‏ قوله ‏{‏ما في السماوات‏}‏ يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان، وقوله ‏{‏وما في الأرض من دابة‏}‏ بين، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله ‏{‏والملائكة‏}‏ ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏والملائكة‏}‏ هو الذي يعم «السماوات والأرض»، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك، إنما هو للحيوان أجمع، وقوله ‏{‏يخافون ربهم‏}‏ عام لجميع الحيوان، وقوله ‏{‏من فوقهم‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان، والآخر أن يتعلق قوله ‏{‏من فوقهم‏}‏ بقوله ‏{‏يخافون‏}‏، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق، وقوله ‏{‏ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى، وقوله ‏{‏وقال الله‏}‏ الاية، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعداً، بما ينصه من قوله ‏{‏إنما هو إله واحد‏}‏، قالت فرقة المفعول الأول ب ‏{‏تتخذوا‏}‏ قوله ‏{‏إلهين‏}‏، وقوله ‏{‏اثنين‏}‏ تأكيد وبيان بالعدد، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود وبذكر عدده تأكيداً، ومنه قوله ‏{‏إله واحد‏}‏ لأن لفظ ‏{‏إله‏}‏ يقتضي الانفراد، وقال قوم منهم‏:‏ المفعول الثاني محذوف تقديره معبوداً أو مطاعاً ونحو هذا، وقالت فرقة‏:‏ المفعول الأول ‏{‏اثنين‏}‏، والثاني قوله ‏{‏إلهين‏}‏، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين، ومثله قوله تعالى ‏{‏ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2-3‏]‏ ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول ل ‏{‏تتخذوا‏}‏، وقوله ‏{‏فإياي‏}‏ منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل لأنه قد عمل في الضمير المتصل به، وقوله ‏{‏وله ما في السموات‏}‏ الآية، الواو في قوله ‏{‏وله‏}‏ عاطفة على قوله‏:‏ ‏{‏إله واحد‏}‏، وجائز أن يكون واو ابتداء، و‏{‏ما‏}‏ عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل، و‏{‏السماوات‏}‏ هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي، و‏{‏الدين‏}‏ الطاعة والملك كما قال زهير في دين عمرو‏:‏ وحالت بيننا فدك‏.‏ أي في طاعته وملكه و«الواصب» القائم، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال الشاعر ‏[‏أبي الأسود‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه *** يوماً بذم الدهر أجمع واصبا

ومنه قول حسان‏:‏ ‏[‏المديد‏]‏

غيرته الريح تسفي به وهزيم رعده واصب *** وقالت فرقة‏:‏ هو من الوصب وهو التعب، أي وله الدين على تعبه ومشقته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ف «واصب» على هذا جار على النسب أي ذا وصب، كما قال‏:‏ أضحى فؤادي به فاتناً، وهذا كثير، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ «الواصب» الواجب، وهذا نحو قوله‏:‏ الواصب الدائم، وقوله ‏{‏أفغير‏}‏، توبيخ ولفظ استفهام ونصب «غير» ب ‏{‏تتقون‏}‏، لأنه فعل لم يعمل في سوى «غير» المذكورة، والواو في قوله ‏{‏وما بكم‏}‏ يجوز أن تكون واو ابتداء، ويجوز أن تكون واو الحال، ويكون الكلام متصلاً بقول ‏{‏أفغير الله تتقون‏}‏، كأنه يقال على جهة التوبيخ‏:‏ أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه، والباء في قوله ‏{‏بكم‏}‏ متعلقة بفعل تقديره وما نزل أو ألم ونحو هذا، و‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي، والفاء في قوله ‏{‏فمن الله‏}‏ دخلت بسبب الإبهام الذي في ‏{‏ما‏}‏ التي هي بمعنى الذي، فأشبه الكلام الشرط، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله وأفضاله، إيجاده داخل في ذلك فما بعده، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى، و‏{‏الضر‏}‏ وإن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن، و‏{‏تجأرون‏}‏ معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحها، وهو عند جهد يلحقها أو في أثر دم يكون من بقر تذبح، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته، ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

يراوح من صلوات الملي *** ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا

وأنشده أبو عبيدة‏:‏

بأبيل كلما صلى جأر *** والأصوات تأتي غالباً على فعال أو فعيل‏:‏ وقرأ الزهري «يجَرَون» بفتح الجيم دون همز حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم، كما خففت «تسلون» من «تسألون»، وقوله ‏{‏ثم إذا كشف الضر‏}‏ قرأ الجمهور «كشف»، وقرأ قتادة «كاشف»، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة، و‏{‏فريق‏}‏ هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالاً من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها، وقوله ‏{‏ليكفروا‏}‏ يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة أي فصار أمرهم ليكفروا، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد، كقوله ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك، ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏بربهم يشركون‏}‏، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر، لقوله‏:‏ ‏{‏بما آتيناهم‏}‏ أي بما أنعمنا عليهم، وقرأ الجمهور ‏{‏فتمتعوا فسوف تعلمون‏}‏ على معنى قل لهم يا محمد، وروى أبو رافع عن النبي عليه السلام «فيُمتعوا» بياء من تحت مضمومة «فسوف يعلمون» على معنى ذكر الغائب وكذلك في الروم، وهي قراءة أبي العالية، وقرأ الحسن «فتمتعوا» على الأمر «فسوف يعلمون» بالياء على ذكر الغائب، وعلى ما روى أبو رافع يكون «يمتعوا» في موضع نصب عطفاً على «يكفروا» إن كانت اللام لام كي، أو نصباً بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏ويجعلون‏}‏ للكفار، وقوله ‏{‏لما لا يعلمون‏}‏ يريد الأصنام، ومعناه لا يعلمون فيهم حجة ولا برهاناً، ويحتمل أن يريد بقوله‏:‏ ‏{‏يعلمون‏}‏ الأصنام، أي يجعلون لجمادات لا تعلم شيئاً ‏{‏نصيباً‏}‏، فالمفعول محذوف، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل، وبحسب أنه إسناد منفي، وهذا كله ضعيف، و«النصيب» المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها، والقسم لها من الغلات، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به كما قال بعضهم، و«الفرية» اختلاق الكذب وقوله ‏{‏ويجعلون لله البنات‏}‏ الآية، هذا تعديد لقبح قول الكفار‏:‏ الملائكة بنات الله ورد عليهم من وجهين، أحدهما نسبة النسل إلى الله تعالى عن ذلك، والآخر أنهم نسبوا من النسل الأخس المكروه عندهم، و‏{‏ما‏}‏ في قوله ‏{‏ما يشتهون‏}‏ مرتفعة بالابتداء، والخبر في المجرور قبله، وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب عطفاً على ‏{‏البنات‏}‏، والبصريون لا يجيزون هذا لأنه من باب ضربتني، وكان يلزم عندهم أن يكون لأنفسهم ما يشتهون، والمراد بقوله ‏{‏ما يشتهون‏}‏‏:‏ الذكران من الأولاد، وقوله ‏{‏وإذا بشر‏}‏ لما صرح بالشيء المبشر به حسن ذكر البشارة فيه وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير، وقوله ‏{‏ظل وجهه مسوداً‏}‏ عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم، وقد يعلو وجه المغموم سواد وربدة وتذهب شراقته، فلذلك يذكر له السواد، و‏{‏كظيم‏}‏ بمعنى كاظم كعليم وعالم، والمعنى أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى، وقوله ‏{‏يتوارى من القوم‏}‏ الآية، هذا التواري الذي ذكر الله تعالى إنما هو بعد البشارة بالأنثى، وما يحكى أن الرجل منهم كان إذا أصاب امرأته الطلق توارى حتى يخبر بأحد الأمرين، فليس المراد في الآية، ويشبه أن ذلك كان إذا أخبر بسارّ خرج، وإن أخبر بسوء بقي على تواريه ولم يحتج إلى إحداثه، ومعنى ‏{‏يتوارى‏}‏ يتغيب، وتقدير الكلام يتوارى من القوم مدبراً ‏{‏أيمسكه أم يدسه‏}‏‏؟‏ وقرأت فرقة «أيمسكه» على لفظ «ما أم يدسها» على معنى الأنثى، وقرأ الجحدري «أيمسكها أم يدسها» على معنى الأنثى في الموضعين، وقرأ الجمهور «على هُون» بضم الهاء، وقرأ عيسى بن عمر «على هوان»، وهي قراءة عاصم الجحدري، وقرأ الأعمش «على سوء»، ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله وهم يتجلد له، أم يدسها فيدفنها حية، فهو الدس في التراب، ثم استفتح تعالى بالإخبار بسوء حكمهم وفعلهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قالت فرقة ‏{‏مثل‏}‏ في هذه الآية بمعنى صفة، أي لهؤلاء صفة السوء ولله الوصف الأعلى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لا يضطر إليه، لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله ‏{‏مثل‏}‏ على بابه، وذلك أنهم إذا قالوا إن البنات لله فقد جعلوا له مثلاً أبا البنات من البشر، وكثرة البنات عندهم مكروه ذميم، فهو مثل السوء الذي أخبر الله تعالى أنه لهم ليس في البنات فقط، لكن لما جعلوه هم في البنات جعله هو لهم على الإطلاق في كل سوء، ولا غاية أبعد من عذاب النار، وقوله ‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ على الإطلاق أيضاً في الكمال المستغني، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏المثل الأعلى‏}‏ لا إله إلا الله، وباقي الآية بين، وقوله ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس‏}‏ الآية، وآخذ هو تفاعل من أخذ، كأن أحد المتواخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهة المخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء، وهي لغتان واخذ وآخذ، و‏{‏يؤاخذ‏}‏ يصح أن يكون من آخذ، وأما كونها من واخذ فبين، والضمير في ‏{‏عليها‏}‏ عائد على الأرض، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها، وتمكن الإشارة لها كما قال لبيد في الشمس‏:‏

حتى إذا ألقت يداً في كافر *** وأجنَّ عورات البلاد ظلامُها

ومنه قول تعالى ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ ولم يجر للشمس ذكر، وقوله ‏{‏من دابة‏}‏ دخلت ‏{‏من‏}‏ لاستغراق الجنس، وظاهر الآية أن الله تعالى أخبر أنه لم أخذ الناس بعقاب يستحقونه بظلمهم في كفرهم ومعاصيهم لكان ذلك العقاب يهلك منه جميع ما يدب على الأرض من حيوان فكأنه بالقحوط أو بأمر يصيبهم من الله تعالى، وعلى هذا التأويل قال بعض العلماء‏:‏ كاد الجُعَل أن يهلك بذنوب بني آدم، ذكره الطبري، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله تعالى ليهزل الحوت في الماء والطير في الهواء بذنوب العصاة»، وسمع أبو هريرة رجلاً يقول‏:‏ إن الظالم لا يهلك إلا نفسه، فقال أبو هريرة‏:‏ بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلاً بذنوب الظلمة، وقد نطقت الشريعة في أخبارها بأن الله تعالى أهلك الأمم بريها وعاصيها بذنوب العصاة منهم، وقالت فرقة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏من دابة‏}‏، يريد من أولئك الظلمة فقط، ويدل على هذا التخصيص، أن الله لا يعاقب أحداً بذنب أحد، واحتجب بقول الله تعالى ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ وهذا معنى آخر، وذلك أن الله تعالى لا يجعل العقوبة تقصد أحداً بسبب إِذْنَاب غيره، ولكن إذا أرسل عذاباً على أمة عاصية، لم يمكن البري التخليص من ذلك العذاب، فأصابه العذاب لا بأنه له مجازاة، ونحو هذا قوله

‏{‏واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال «نعم إذا كثر الخبث»، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء، وذلك بترك التغير ومداهنة أهل الظلم ومداومة جوارهم، و«الأجل المسمى» في هذه الآية هو بحسب شخص شخص، وفي معنى الآية مع أمائرها اختصار وإيجاز، وقوله ‏{‏ما يكرهون‏}‏ يريد البنات، و‏{‏ما‏}‏ في هذا الموضع تقع لمن يعقل من حيث هو صنف وقرأ الحسن «ألسنتهم الكذب» بسكون النون كراهية توالي الحركات، وقرأ الجمهور «الكذِب» بكسر الذال، ف ‏{‏أن‏}‏ بدل منه، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام «الكُذُب» بضم الكاف والذال والباء على صفة الألسنة، و‏{‏أن لهم‏}‏ مفعول ب ‏{‏تصف‏}‏، و‏{‏الحسنى‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ الذكور من الأولاد، وهو الأسبق من معنى الآية، وقالت فرقة يريد الجنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويؤيد هذا قوله ‏{‏لا جرم أن لهم النار‏}‏ ومعنى الآية على هذا التأويل يجعلون لله المكروه ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة، كما تقول لرجل أنت تعصي الله، وتقول مع ذلك أنت تنجو، أي هذا بعيد مع هذا، ثم حكم عليهم بعد ذلك بالنار، وقد تقدم القول في ‏{‏لا جرم‏}‏، وقرأ الجمهور «أن لهم» بفتح الهمزة، وإعرابها بحسب تقدير ‏{‏جرم‏}‏، فمن قدرها بكسب فعلهم فهو نصب، ومن قدرها بوجب فهو رفع، وقرأ الحسن وعيسى بن عمران «إن لهم» بكسر الهمزة وقرأ السبعة سوى نافع «مفرَطون» بفتح الراء وخفتها، ومعناه مقدمون إلى النار والعذاب، وهي قراءة الحسن والأعرج وأصحاب ابن عباس، وقد رويت عن نافع، وهو مأخوذ من فرط الماء وهم القوم الذين يتقدمون إلى المياه لإصلاح الدلاء والأرشية، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أنا فرطكم على الحوض» ومنه قول القطامي‏:‏

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجل فرّاطٌ لورّاد

وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏مفرطون‏}‏ معناه مخلفون متركون في النار منسيون فيها، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي هند، وقال آخرون ‏{‏مفرطون‏}‏ معناه مبعدون في النار، وهذا قريب من الذي قبله، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «مُفَرِّطون» بكسر الراء وتشديدها وفتح الفاء، ومعناه مقصرون في طاعة الله تعالى، وقد روي عنه فتح الراء مع شدها، وقرأ نافع وحده «مُفرِطون» بكسر الراء وخفتها، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي رجاء وشيبة بن نصاح وأكثر أهل المدينة، أي يتجاوزون الحد في معاصي الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 66‏]‏

‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

هذه آية ضرب مثلاً لهم بمن تقدم وفي ضمنها وعيد لهم وتأنيس للنبي صلى الله عليه ولم، وقوله ‏{‏اليوم‏}‏ يحتمل أن يريد يوم الإخبار بهذه الآية، وهو بعد موت أولئك الأمم المذكورة، أي لا ولي لهم منذ ماتوا واحتاجوا إلى الغوث إلا الشيطان، ويحتمل أن يريد يوم القيامة، والألف واللام فيه للعهد، أي «هو وليهم» في «اليوم» المشهور وهو وقت الحاجة والفصل، ويحتمل أن يريد ‏{‏فهو وليهم‏}‏ مدة حياتهم، ثم انقطعت ولايته بموتهم، وعبر عن ذلك بقوله ‏{‏اليوم‏}‏ تمثيلاً للمخاطبين بمدة حياتهم، كما تقول لرجل شاب تحضه على طلب العلم‏:‏ يا فلان لا يدرس أحد من الناس إلا اليوم، تريد في مثل سنك هذه‏.‏ فكأنه قال لهؤلاء‏:‏ ‏{‏فهو وليهم‏}‏ في مثل حياتكم هذه، وهي التي كانت لهم، وسائر الآية وعيد، وقوله ‏{‏وما أنزلنا عليك الكتاب‏}‏ يريد القرآن، وقوله ‏{‏لتبين‏}‏ في موضع المفعول من أجله، وقوله ‏{‏وهدى ورحمة‏}‏ عطف عليه، كأنه قال إلا للبيان أي لأجل البيان لهم، وقوله ‏{‏الذي اختلفوا فيه‏}‏ لفظ عام لأنواع كفر الكفرة من الجحد بالله تعالى، أو بالقيامة، أو بالنبوءات، أو غير ذلك، ولكن الإشارة في هذه الآية إنما هي لجحدهم الربوبية وتشريكهم الأصنام في الألوهية، ويدل على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدالة على أن الأنعم وسائر الأفعال إنما هي من الله تعالى، لا من الأصنام‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏والله أنزل من السماء ماء‏}‏ الآية، لما أمره بتبيين ما اختلف فيه، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور لا يخالف فيها عاقل، و«حياة الأرض وموتها» استعارة وتشبيه بالحيوان، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة فهي كالميت، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية فهي كالحي، وقوله ‏{‏يسمعون‏}‏ يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه، لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، و‏{‏الأنعام‏}‏ هي الأصناف الأربعة‏:‏ الإبل والبقر والضأن والمعز، و‏{‏العبرة‏}‏ الحال المعتبر فيها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وابن مسعود بخلاف والحسن وأهل المدينة «نَسقيكم» بفتح النون من سقى يسقي، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «نُسقيكم» بضم النون من أسقى يُسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة، قال بعض أهل اللغة، هما لغتان بمعنى واحد، وقالت فرقة‏:‏ تقول لمن تسقيه بالشفة أو في مرة واحدة سقيته وتقول لمن تُعِدُّ سقيه أو تمنحه شرباً أسقيته، وهذا قول من قرأ «نسقيكم»، لأن ألبان الأنعام من المستمر للبشر، وأنشد من قال إنهما لغتان بمعنى، قول لبيد‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

سقى قومي بني بدر وأسقى *** نميراً والقبائل من هلال

وذلك لازم لأنه لا يدعو لقومه بالقليل، وقرأ أبو رجاء «يسقيكم» بالياء أي يسقيكم الله، وقرأت فرقة «تسقيكم» بالتاء وهي ضعيفة وكذلك اختلف القراء في سورة المؤمنين وقوله ‏{‏مما في بطونه‏}‏، الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور كما قال الشاعر‏:‏ مثل الفراخ نتفت حواصله، وهذا كثير لقوله تعالى ‏{‏إن هذه تذكرة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 55‏]‏ وقيل‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏مما في بطونه‏}‏، لأن الأنعام والنعم واحد فرد الضمير على معنى النعم وقالت فرقة‏:‏ الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها، فكأن العبرة إنما هي في الأنعام، و«الفرث» ما ينزل إلى الأمعاء، و«السائغ» السهل في الشرب اللذيذ، وقرأت فرقة «سيّغاً» بشد الياء، وقرأ عيسى الثقفي «سيْغاً» بسكون الياء وهي تخفيف من سيغ كميت وهين، وليس وزنهما فعلاً، لأن اللفظة واوية، ففعل منها سوغ، وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏

‏{‏وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قال الطبري‏:‏ التقدير ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب‏}‏ ما ‏{‏تتخذون‏}‏، وقالت فرقة‏:‏ التقدير ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب‏}‏ شيء ‏{‏تتخذون منه‏}‏، ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ومن ثمرات‏}‏، عطفاً على ‏{‏الأنعام‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 66‏]‏ أي ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة، ويجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏مما‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 66‏]‏، أي ونسقيكم أيضاً مشروبات من ثمرات، والسكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة، فقال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يشرب ويؤكل حلالاً من هاتين الشجرتين وقال بهذا القول ابن جبير وإبراهيم والشعبي وأبو زيد، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر، وقال الشعبي ومجاهد‏:‏ السكر السائغ من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ، و«الرزق الحسن» العنب والتمر، قال الطبري‏:‏ والسكر أيضاً في كلام العرب ما يطعم، ورجح الطبري هذا القول، ولا مدخل للخمر فيه ولا نسخ من الآية شيء، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر، وفي هذه المقالة درك، لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ «حُرمت الخمر بعينها، والسَّكَر من غيرها» هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف، أي جميع ما يسكر منه حرم على حد تحريم الخمر قليله وكثيره، ورواه العراقيون، و«السُّكْر» بضم السين وسكون الكاف وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فقليله حلال، وباقي الآية بين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏ الآية، الوحي في كلام العرب إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك، ومنه وحي الرؤيا، ومنه وحي الإلهام، وهو الذي في آياتنا هذه باتفاق من المتأولين، والوحي أيضاً بمعنى الأمر، كما قال تعالى ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب «إلى النّحَل» بفتح الحاء و‏{‏أن‏}‏ في قوله ‏{‏أن اتخذي‏}‏ مفسرة، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكُواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن آدم من الأجباح والحيطان ونحوها، و«عرش» معناه هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صيغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ومن هذا هي لفظة العريش، ويقال عرش يعرِش بكسر الراء وضمها، وقرئ بهما، قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف عن عاصم، وجمهور الناس على كسر، وقرأ بالضم أبو عبد الرحمن وعبيد بن نضلة، وقال ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏يعرشون‏}‏ قال الكروم، وقال الطبري ‏{‏ومما يعرشون‏}‏ يعني ما يبنون من السقوف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا منهما تفسير غير متقن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كلي من كل الثمرات‏}‏ الآية، المعنى ثم ألهمها أن كلي، فعطف ‏{‏كلي‏}‏ على ‏{‏اتخذي‏}‏، و‏{‏من‏}‏ للتبعيض، أي كلي جزءاً أو شيئاً من كل الثمرات، وذلك أنها إنما تأكل النوار من أشجار، و«السبل» الطرق وهي مسالكها في الطيران وغيرها، وأضافها إلى «الرب» من حيث هي ملكه وخلقه التي يسر لك ربك، وقوله ‏{‏ذللاً‏}‏ يحتمل أن يكون حالاً من ‏{‏النخل‏}‏، أي مطيعة منقادة لما يسرت له، قاله قتادة، وقال ابن زيد‏:‏ فهم يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، وقرأ ‏{‏أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71-72‏]‏، ويحتمل أن يكون حالاً من «السبل» أي مسهلة مستقيمة، قال مجاهد‏:‏ لا يتوعر عليها سبيل تسلكه، ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة أمر العسل في قوله ‏{‏يخرج من بطونها‏}‏، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا‏:‏ أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة، فظاهر هذا أنه من غير الفم، و«اختلاف الألوان» في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ جرست نحْلُهُ العرفطَ حين شبهت رائحته برائحة المغافير، وقوله ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ الضمير للعسل، قاله الجمهور‏:‏ ولا يقتضي العموم في كل على وفي كل إنسان، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار منبه منه في أنه دواء كما كثر الشفاء به وصار خليطاً ومعيناً للأدوية في الأشربة والمعاجين، وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل، حتى إنه يدهن به الدمل والضرحة ويقرأ ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم، وقال مجاهد‏:‏ الضمير للقرآن، أي فيه شفاء، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها أهل البيت ورجال بني هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي‏:‏ فقال له رَجل ممن حضر‏:‏ جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين، وبُهت الآخر، وظهرت سخافة قوله، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك، ثم اعترض بمن ينكث من الناس لأنهم موضع عبرة، و‏{‏أرذل العمر‏}‏ آخرُه الذي تفسد فيه الحواس ويخْتل النطق، وخص ذلك بالرذيلة وإن كانت حال الطفولية كذلك، من حيث كانت هذه لأرجاء معها، والطفولية إنما هي بدأة والرجاء معها متمكن، وقال بعض الناس‏:‏ أول أرذل العمر خمسة وسبعون سنة روي ذلك عن علي رضي الله عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا في الأغلب، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان، والمعْنى، منكم من يرد إلى أرذل عمره ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره، واللام في ‏{‏لكي‏}‏ يشبه أن يكون لام صيرورة، وليس ببين، والمعنى ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً، وهذه عبارة عن قلة علمه لا أنه لا يعلم شيئاً البتة، ولم تحل ‏{‏لا‏}‏ بين «كي» ومعمولها لتصرفها، وأنها قد تكون زائدة ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير، وقوله ‏{‏والله فضل بعضكم على بعض في الرزق‏}‏ إخبار يراد به العبرة، وإنما هي قاعدة يبنى المثل عليها، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يسمح بأن يشرك في ألوهيته الأوثان والأنصاب، وهم خلقه وغيرها مما عبد كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه، هذا تأويل الطبري، وحكاه عن ابن عباس وحكي عنه أن الآية مشيرة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، قال المفسرون‏:‏ هذه الآية كقوله تعالى ‏{‏ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏، ثم وقفهم على جحدهم نعمة الله في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواطن النظر المؤدية إلى الإيمان، وقرأ الجمهور وحفص عن عاصم «يجحدون» بالياء من تحت، وقرأ أبو بكر عن عاصم «تجحدون» بالتاء، وهي قراءة أبي عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه، وهي على معنى قل لهم يا محمد‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا يكون الجحد إلا بعد معرفة، وقوله ‏{‏والله جعل لكم‏}‏ الآية، آية تعديد نعم، و«الأزواج» الزوجات، ولا يترتب في هذه الآية الأنواع ولا غير ذلك، وقوله ‏{‏من أنفسكم‏}‏ يحتمل أن يريد خلقته حواء من نفس آدم وجسمه، فمن حيث كانا مبتدأ الجميع ساغ حمل أمرهما على الجميع حتى صار الأمر كأن النساء خلقن من أنفس الرجال، وهذا قول قتادة، والأظهر عندي أن يريد بقوله ‏{‏من أنفسكم‏}‏، أي من نوعكم وعلى خلقتكم، كما قال تعالى

‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ وقوله ‏{‏وجعل لكم من أزواجكم بنين‏}‏، ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، واختلف الناس في قوله ‏{‏وحفدة‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ «الحفدة» أولاد البنين، وقال الحسن‏:‏ هم بنوك وبنو بنيك، وقال ابن مسعود وأبو الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير‏:‏ «الحفدة» الأصهار وهم قرابة الزوجة، وقال مجاهد‏:‏ «الحفدة» الأنصار والأعوان والخدم، وحكى الزجاج أن الحفدة البنات في قول بعضهم، قال الزهراوي لأنهن خدم الأبوين لأن لفظة البنين لا تدل عليهن، ألا ترى أنهن ليس في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ وإنما الزينة في الذكور، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ «الحفدة» أولاد زوجة الرجل من غيره، ولا خلاف أن معنى الحفد الخدمة والبر والمشي مسرعاً في الطاعة ومنه في القنوت‏:‏ وإليك نسعى ونحفد، والحفدان خبب فوق المشي، ومنه قول الشاعر وهو جميل بن معمر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

حفد الولائد بينهن وأسلمت *** بأكفهن أرمة الإجمال

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

كلفت مجهولها نوقاً ثمانية *** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الفرق التي ذكرت أقوالها إنما بنيت على أن كل أحد جعل له من زوجه بنون وحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس، ويحتمل عندي أن قوله‏:‏ ‏{‏من أزواجكم‏}‏ إنما هو على العموم والاشتراك، أي من أزواج البشر جعل الله لهم البنين، ومنهم جعل الخدمة فمن لم تكن له قط زوجة فقد جعل الله له حفدة، وحصل تحت النعمة، وأولئك الحفدة هم من الأزواج، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم، وتستقيم لفظة «الحفدة» على مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة، وقالت فرقة‏:‏ «الحفدة» هم البنون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يستقيم على أن تكون الواو عاطفة صفة لهم، كما لو قال جعلنا لهم بنين وأعواناً أي وهم لهم أعوان، فكأنه قال‏:‏ وهم حفدة وقوله ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ يريد الله‏:‏ من الأشياء التي تطيب لمن رزقها، ولا يقتصر هنا على الحلال لأنهم كفار لا يكتسبون بشرع، وفي هذه الآية رد على من قال من المعتزلة‏:‏ إن الرزق إنما يكون الحلال فقط، و‏{‏لكم‏}‏ تعلق في لفظة ‏{‏من‏}‏ إذ هي للتبعيض، فيقولون‏:‏ ليس الرزق المعدد عليهم من جميع ما بأيديهم إلا ما كان حلالاً، وقرأ الجمهور «يؤمنون»، وتجيء الآية على هذه القراءة توقيفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم على إيمانهم بالباطل وكفرهم بنعمة الله، وقرأ أبو عبد الرحمن «تؤمنون» بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم على معنى قل لهم يا محمد، ويجيء قوله بعد ذلك ‏{‏وبنعمت الله هم يكفرون‏}‏ إخباراً مجرداً عنهم وحكماً عليهم لا توقيفاً، وقد يحتمل التوقيف أيضاً على قلة اطراد في القول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 75‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذه آية تقريع للكفار وتوبيخ وإظهار لفساد نظرهم ووضع لهم من الأصنام في الجهة التي فيها سعي الناس وإليها هممهم، وهي طلب الرزق، وهذه الأصنام لا تملك إنزال المطر ولا إثبات نعمة، ومع أنها لا تملك لا تستطيع أن تحاول ذلك من ملك الله تعالى، وقوله ‏{‏رزقاً‏}‏ مصدر ونصبه على المفعول ب ‏{‏يملك‏}‏، وقوله ‏{‏شيئاً‏}‏ ذهب كثير من النحويين إلى أنه منصوب على البدل، من قوله ‏{‏رزقاً‏}‏ و‏{‏رزقاً‏}‏ اسم، وذهب الكوفيون وأبو علي معهم إلى أنه منصوب بالمصدر في قوله ‏{‏رزقاً‏}‏ ولا نقدره اسماً، وهو كقوله تعالى ‏{‏ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 25-26‏]‏ فت ‏{‏كفاتاً‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 25‏]‏ مصدر منصوب به ‏{‏أحياء‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 26‏]‏ ومنه أيضاً في قوله عز وجل ‏{‏أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14-15‏]‏ فنصب ‏{‏يتيماً‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 15‏]‏ ب ‏{‏إطعام‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14‏]‏، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلولا رجاء النصر منك ورهبة *** عقابك قد صاروا لنا كالموارد

والمصدر يعمل مضافاً باتفاق لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف اللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعُد عن حال الفعلية، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر‏:‏

ضعيف النكاية أعداءه *** البيت‏:‏

وقوله‏:‏ عن الضرب مسمعاً، وقوله ‏{‏يملك‏}‏ على لفظ ‏{‏ما‏}‏، وقوله ‏{‏يستطيعون‏}‏ على معناها بحسب اعتقاد الكفار في الأصنام أنها تعقل، ويحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏يستطيعون‏}‏ للذين يعبدون، المعنى لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها، وقوله ‏{‏فلا تضربوا‏}‏ أي لا تمثلوا لله الأمثال، وهو مأخوذ من قولك‏:‏ ضريب هذا أي مثله، والضرب النوع، تقول‏:‏ الحيوان على ضروب، وهذان من ضرب واحد، وباقي الآية بين وقوله ‏{‏ضرب الله مثلاً‏}‏ الآية، هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر، ولا يلزم من هذا أن العبيد كلهم بهذه الصفة كما انتزع بعض من ينتحل الفقه، وقد قال في المثال‏:‏ لا يقدر على شيء فيلزم على هذا الانتزاع أن يكون مؤمناً ينفق بحسب الطاعة، وذلك أنه أشرف أن يكون مثالاً، والرزق ما صح الانتفاع به، وقال أبو منصور في عقيدته‏:‏ الرزق ما وقع الاغتذاء به، وهذه الآية ترد على هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ و‏{‏أنفقوا مما رزقناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏ وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جعل رزقي في ظل رمحي»، وقوله‏:‏ «أرزاق أمتي في سنابك خيلها، وأسنة رماحها، فالغنيمة كلها رزق»، والصحيح أن ما صح الانتفاع به هو الرزق، وهو مراتب أعلاها ما تغذي به، وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله‏:‏

«يقول ابن آدم‏:‏ مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي معنى اللباس يدخل المركوب ونحوه، واختلف الناس في الذي هو له هذا المثيل فقال قتادة وابن عباس‏:‏ هو مثل الكافر والمؤمن فكأن الكافر مملوك مصروف عن الطاعة فهو لا يقدر على شيء لذلك‏.‏ ويشبه ذلك العبد المذكور‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتمثيل على هذا التأويل إنما وقع في جهة الكافر فقط، جعل له مثالاً، ثم قرن بالمؤمن المرزوق إلا أن يكون المرزوق ليس بمؤمن، وإنما هو مثال للمؤمن، فيقع التمثيل من جهتين، وقال مجاهد والضحاك‏:‏ هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التأويل أصوب، لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وعبد كان له، وروي تعيين غير هذا ولا يصح إسناده‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمثل لا يحتاج إلى تعيين أحد، وقوله ‏{‏الحمد لله‏}‏ شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له، وهذا كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك‏:‏ الله أكبر، على هذا يكون كذا وكذا، فلما قال هنا ‏{‏هل يستوون‏}‏‏؟‏ فكأن الخصم قال له لا فقال الحمد لله ظهرت الحجة، وقوله ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ يريد لا يعلمون أبداً ولا يداخلهم إيمان، ويتمكن على هذا قوله‏:‏ ‏{‏أكثرهم‏}‏، لأن الأقل من الكفار هو الذي آمن من أولئك، ولو كان معنى قوله ‏{‏لا يعلمون‏}‏ أي الآن، لكان قوله ‏{‏أكثرهم‏}‏ بمعنى الاستيعاب لأنه لم يكن أحد منهم يعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 79‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

هذا مثل لله عز وجل والأصنام، فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق، و«الكَلّ» الثقل والمؤنة، وكل محمول فهو كَلّ، وسمي اليتيم كلاً، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أكول المال الكَلِّ قبل شبابه *** إذا كان عظم الكَلِّ غير شديد

كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ثم لا يأتي من جهتها خير البتة، هذا قول قتادة، وقال ابن عباس‏:‏ هو مثل للكافر، وقرأ ابن مسعود «يوجه»، وقرأ علقمة «يوجِّهُ» وقرأ الجمهور، «يوجهه»، وهي خط المصحف، وقرأ يحيى بن وثاب «يُوجَّه»، وقرأ ابن مسعود أيضاً «توجهه» على الخطاب، وضعف أبو حاتم قراءة علقمة لأنه لازم، والذي ‏{‏يأمر بالعدل‏}‏ هو الله تعالى، وقال ابن عباس‏:‏ هو المؤمن‏.‏ و«الصراط» الطريق، وقوله ‏{‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ الآية، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه، وقوله ‏{‏وما أمر الساعة‏}‏ آية إخبار بالقدرة وحجة على الكفار، والمعنى على ما قال قتادة وغيره‏:‏ ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك، ف ‏{‏أو‏}‏ على هذا على بابها في الشك، وقيل هي للتخيير، و«لمح البصر» هو وقوعه على المرئي، وقوى هذا الإخبار بقوله ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏ ومن قال ‏{‏وما أمر الساعة‏}‏ له وما إتيانها ووقوعها بكم على جهة التخويف من حصولها ففيه بعد تجوز كثير، وبُعْد من قول النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها، ووجه التأويل أن القيامة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب ‏{‏كلمح البصر‏}‏ كما يقال‏:‏ ما السنة إلا لحظة، إلا أن قوله ‏{‏أو هو أقرب‏}‏ يرد أيضاً هذه المقالة، وقوله ‏{‏والله أخرجكم‏}‏ الآية، آية تعديد نعمة بينة لا ينكرها عاقل، وهي نعمة معها كفرها وتصريفها في الإشراك بالذي وهبها، فالله عز وجل أخبر بأنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئاً، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلماً إلى درك المعارف، ليشكر على ذلك ويؤمن بالمنعم عليه، و«أمهات» أصله أمات، وزيدت الهاء مبالغة وتأكيداً، كما زادوا الهاء في أهرقت الماء، قاله أبو إسحاق، وفي هذا المثل نظر وقول غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي «إمهاتكم» بكسر الهمزة، وقرأ الأعمش «في بطون أمِّهاتكم» بحذف الهمزة وكسر الميم المشددة، وقرأ ابن أبي ليلى بحذف الهمزة وفتح الميم مشددة، قال أبو حاتم‏:‏ حذف الهمزة ردي ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب والترجي الذي في «لعل» هو بحسبنا، وهذه الآية تعديد نعم وموضع اعتبار، وقوله ‏{‏ألم تروا إلى الطير‏}‏ الآية، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش وابن هرمز «ألم تروا» بالتاء، وقرأ أهل مكة والمدينة «ألم يروا» بالياء على الكناية عنهم، واختلف عن الحسن وعاصم وأبي عمرو وعيسى الثقفي، و«الجو» مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل هو ما يلي الأرض منها، وما فوق ذلك هو اللوح، و«الآية» عبرة بينة تفسيرها تكلف بحت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

هذه آية تعديد نعمة الله على الناس في البيوت، فذكر أولاً بيوت التمدن وهي التي للإقامة الطويلة وهي أعظم بيوت الإنسان، وإن كان الوصف ب ‏{‏سكناً‏}‏ يعم جميع البيوت، والسكن مصدر يوصف به الواحد، ومعناه يسكن فيها وإليها ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة، وقوله ‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً‏}‏ يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لأن هذه هي من الجلود، لكونها نابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام، ويكون قوله ‏{‏ومن أصوافها‏}‏ عطفاً على قوله ‏{‏من جلود الأنعام‏}‏، أي جعل بيوتاً أيضاً، ويكون قوله ‏{‏أثاثاً‏}‏ نصباً على الحال، و‏{‏تستخفونها‏}‏ أي تجدونها خفافاً وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «ظعَنكم» بفتح العين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «ظعْنكم» بسكون العين، وهما لغتان، وليس بتخفيف، و«ظعن» معناه رحل والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز والبقر، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان فلذلك اقتصر على هذه، ويحتمل أن ترك ذلك القطن والحرير والكتان إعراضاً والكتان في لفظ السرابيل، والأثاث متاع البيت واحدتها أثاثة، هذا قول أبي زيد الأنصاري، وقال غيره الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم‏:‏ لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة، تقول شعر أثيث ونبات أثيث إذا كثر والتف، وقوله ‏{‏إلى حين‏}‏ يريد به وقتاً غير معين، وهو بحسب كل إنسان إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث، ومن هذه اللفظة قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

أهاجتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الزيّ الجميل من الأثاث

وقوله‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر‏}‏ الآية، نعم عددها الله عليهم بحسب أحوالهم وبلادهم، وأنها الأشياء المباشرة لهم، لأن بلادهم من الحرارة وقهر الشمس بحيث للظل غناء عظيم ونفع ظاهر، وقوله ‏{‏مما خلق‏}‏ يعم جميع الأشخاص المظلة، و«الأكنان» جمع كن وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، و«السرابيل» جميع ما يلبس على جميع البدن كالقميص والقرقل، والمجول والدرع والجوشن والخفتان ونحوه، وذكر وقاية الحر إذا هو أمس في تلك البلاد على ما ذكرنا، والبرد فيها معدوم في الأكثر، وإذا جاء في الشتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السربال المتقدم الذكر، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط، قاله الطبري عن عطاء الخراساني، الا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج لأنه ليس في بلادهم، قال ابن عباس‏:‏ إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قط‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأيضاً فذكر أحدهما يدل على الآخر، ومنه قول الشاعر‏:‏

وما أدري إذا يممت أرضاً *** أريد الخير أيهما يليني

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه التي ذكرناها هي بلاد الحجاز، وإلا ففي بلاد العرب ما فيه برد شديد، ومنه قول متمم‏:‏

إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا‏.‏ *** ومنه قول الآخر‏:‏

في ليلة من جمادى ذات أندية‏.‏ *** البيتين، وغير هذا، والسرابيل التي تقي البأس هي الدرع، ومنه قول كعب بن زهير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

شم العرانين أبطال لبوسهمُ *** من نسج داود في الهيجا سرابيل

وقال أوس بن حجر‏:‏

ولنعم حشو الدرع والسربال *** فهذا يراد به القميص، و«البأس» مس الحديد في الحرب، وقرأ الجمهور «يتم نعمته»، وقرأ ابن عباس «تتم نعمته» على أن النعمة هي تتم، وروي عنه «تتم نعمه» على الجمع وقرأ الجمهور «تسلمون» من الإسلام، وقرأ ابن عباس «تَسلمون» من السلامة، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب، وما في «لعل» من الترجي والتوقع فهو في حيز البشر المخاطبين، أي لو نظر الناظر هذه الحال لترجى منها إسلامهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 85‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

هذه الآية فيها موادعة نسختها آية السيف، والمعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، وإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه، ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة، ويقرون أنها من عنده ثم يكفرون به تعالى، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها، هذا قول مجاهد، فسماهم منكرين للنعمة تجوزاً، إذ كانت لهم أفعال المنكر من الكفر برب النعمة وتشريكهم في النعمة الأوثان على وجه ما، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من الضر والنفع، وقال السدي‏:‏ «النعمة» هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم تعالى بأنهم يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه الطبري، ثم حكم على أكثرهم بالكفر وهم أهل مكة، وذلك أنه كان فيهم من قد داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك، وقوله ‏{‏ويوم نبعث‏}‏ الآية وعيد، والتقدير واذكر يوم نبعث ويرد ‏{‏شهيداً‏}‏ على كفرهم وإِيمانهم، ف «شهيد» بمعنى، شاهد وذكر الطبري أن المعنى ثم ينكرونها اليوم ‏{‏ويوم نبعث من كل أمة شهيداً‏}‏، أي ينكرون كفرهم فيكذبهم الشهيد وقوله ‏{‏ثم لا يؤذن‏}‏ أي لا يؤذن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطن، لأن في القرآن أن ‏{‏كل نفس تأتي تجادل عن نفسها‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 111‏]‏ ويترتب أن تجيء كل نفس تجادل فإذا استقرتَ أقوالهم بعث الله الشهود من الأمم فتكذب الكفار، فلم يؤذن للمكذبين بعد في معذرة، و‏{‏يستعتبون‏}‏ معناه يعتبون، يقال أعتبت الرجل إذا كفيته ما عتب فيه، كما تقول أشكيته إذا كفيته ما شكا، فكأنه قال ولا هم يكفون ما يعتبون فيه ويشق عليهم والعرب تقول استفعل بمعنى أفعل، تقول أدنيت الرجل واستدنيته وقال قوم معناه لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم، وقال الطبري معنى ‏{‏يستعتبون‏}‏ يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة عمل‏.‏ وقوله ‏{‏وإذا رأى الذين ظلموا العذاب‏}‏ الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفرة الظالمين في كفرهم إذا أراهم الله عذاب الله وشارَفُوها وتحققوا كنه شدتها، فإن ذلك الأمر الهائل الذي نزل بهم لا يخفف بوجه ولا يؤخر عنهم، وإنما مقصد الآية الفرق بين ما يحل بهم وبين رزايا الدنيا، فإن الإنسان لا يتوقع أمراً من خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه وفي أن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه، وكذلك متى حل به كان طامعاً في أن يخف، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيراً، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة إذا عاينه الكافر لا طماعية فيه بتخفيف ولا بتأخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 89‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

أخبر الله تعالى في هذه الآية أن المشركين إذا رأوا يوم القيامة بأبصارهم الأوثان والأصنام وكل معبود من دون الله لأنها تحشر معهم توبيخاً لهم على رؤوس الأشهاد أشاروا إليهم وقالوا هؤلاء كنا نعبد من دون الله، أرادوا بذلك تذنيب المعبودين وإدخالهم في المعصية، وأضافوا الشركاء إلى أنفسهم من حيث هم جعلوهم شركاء، وهذا كما يصف رجل آخر بأنه خير فتقول أنت ما فعل خيرك فأضفته إليه من حيث وصفه هو بتلك الصفة، والضمير في ‏{‏أقول‏}‏ عائد على الشركاء، فمن كان من المعبودين من البشر ألقى القول المعهود بلسانه، وما كان من الجمادات تكلمت بقدرة الله بتكذيب المشركين في وصفهم بأنهم آلهة وشركاء لله، ففي هذا وقع الكذب لا في العبادة وقال الطبري‏:‏ المعنى إنكم لكاذبون، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكأنهم كذبوهم في التذنيب لهم وقوله ‏{‏وألقوا إلى الله‏}‏، الضمير في ‏{‏ألقوا‏}‏ عائد على المشركين، والمعنى ألقوا إليه الاستسلام، وألقوا ما بأيديهم وذلوا لحكمه، ولم تكن لهم حيلة ولا دفع، و‏{‏السلم‏}‏ الاستسلام، وقرأ الجمهور «السلَم» بفتح اللام، وروى يعقوب عن أبي عمرو سكون اللام، وقرأ مجاهد «السُّلُم» بضم السين واللام، وقوله ‏{‏وضل عنهم‏}‏ معناه وتلف عنهم كذبهم على الله وافتراؤهم الكفر والتشريك، وقوله ‏{‏الذين كفروا‏}‏ الآية، في ضمن ‏{‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ لأنه حل بهم عذاب الله وباشروا نقمته، ثم فسروه فأخبر أن الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الدخول في الدين وسلوك سبيل الله زادهم عذاباً أجلّ من العذاب العام لجميع الناس عقوبة على إفسادهم، فيحتمل أن يكون قوله ‏{‏الذين‏}‏ بدلاً من الضمير في ‏{‏يفترون‏}‏، و‏{‏زدناهم‏}‏ فعل مستأنف إخباره، ويحتمل أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ ابتداء و‏{‏زدناهم‏}‏ خبره، وروي في ذلك أن الله تعالى يسلط عليهم عقارب وحيات لها أنياب كالنخل الطوال، قاله ابن مسعود، وقال عبيد بن عمير‏:‏ لها أنياب كالنخل وعقارب كالبغال الدهم، ونحو هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، إن لجهنم سواحل فيها هذه الحيات وهذه العقارب، فيفر الكافر إلى السواحل من النار، فتلقاهم هذه الحيات والعقارب، فيفرون منها إلى النار فتتبعهم حتى تجد حر النار، فترجع، قال وهي في أسراب، وقوله تعالى ‏{‏ويوم نبعث‏}‏ الآية، هذه الآية في ضمنها وعيد، والمعنى واذكر يون نبعث في كل أمة شهيداً عليها، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها، وإيمانها وهداها، ويجوز أن يبعث الله شهيداً من الصالحين مع الرسل، وقد قال بعض الصحابة‏:‏ إذا رأيت أحداً على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيداً عليه يوم القيامة، ‏{‏من أنفسهم‏}‏ بحسب أن بعثة الرسل كذلك، في الدنيا وذلك أن الرسول الذي من نفس الأمة في اللسان والسير وفهم الأغراض والإشارات يتمكن له إفهامهم والرد على معانديهم، ولا يتمكن ذلك من غير من هو من الأمة، فلذلك لم يبعث الله قط نبياً إلا من الأمة المبعوث إليهم، وقوله ‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى هذه الأمة و‏{‏الكتاب‏}‏ القرآن، وقوله ‏{‏تبياناً‏}‏ اسم وليس بالمصدر، وهو كالنقصان، والمصادر في مثل هذا، التاء فيها مفتوحة كالترداد والتكرار، ونصب ‏{‏تبياناً‏}‏ على الحال‏.‏

وقوله ‏{‏لكل شيء‏}‏ أي مما يحتاج في الشرع ولا بد منه في الملة كالحلال والحرام والدعاء إلى الله والتخويف من عذابه، وهذا حصر ما اقتضته عبارات المفسرين، وقال ابن مسعود‏:‏ أنزل في هذا القرآن كل علم، وكل شيء قد بين لنا في القرآن، ثم تلا هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أجمل آية في كتاب الله آية في سورة النحل، وتلا هذه الآية، وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب، فتعجب وقال‏:‏ يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا فوالله، إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق، وحكى النقاش قال‏:‏ يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و‏{‏العدل‏}‏ هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق، ‏{‏والإحسان‏}‏ هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على حد الاجزاء داخل في الإحسان، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري‏:‏ ‏{‏العدل‏}‏ لا إله ألا الله، و‏{‏الإحسان‏}‏ أداء الفرائض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا القسم الأخير نظر، لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل عليه السلام، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه، حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حديث سؤال جبريل عليه السلام، بقوله‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد أداء الفرائض مكملة ‏{‏وإيتاء ذي القربى‏}‏ لفظ يقتضي صلة الرحم ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، وتركه مبهماً أبلغ، لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية وإن علت يرى أنه مقصر، وهذا المعنى المأمور به في جانب ‏{‏ذي القربى‏}‏ داخل تحت ‏{‏العدل‏}‏ و‏{‏الإحسان‏}‏، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماماً به وخصاً عليه، و‏{‏الفحشاء‏}‏ الزنى، قاله ابن عباس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وغيره من المعاصي التي شنعتها ظاهرة وفاعلها أبداً متستر بها، وكأنهم خصوها بمعاني الفروج، والمنكر أعم منه، لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل والإذايات على اختلاف أنواعها، و‏{‏البغي‏}‏ هو إنشاء ظلم الإنسان والسعاية فيه، وهو داخل تحت ‏{‏المنكر‏}‏ لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماماً به لشدة ضرره بالناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي»، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الباغي مصروع، وقد وعد الله تعالى من بُغِي عليه بالنصر»، وفي بعض الكتب المنزلة‏:‏ لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتغيير المنكر فرض على الولاة، إلا أن المغير لا يعنّ لمستور، ولا يعمل ظناً، ولا يتجسس، ولا يغير إلا ما بدت صفحته، ويكون أمره ونهيه بمعروف، وهذا كله لغير الولاة ألزم وفرض على المسلمين عامة، ما لم يخف المغير إذاية أو ذلاً، ولا يغير المؤمن بيده ما وجد سلطاناً، فإن عدمه غير بيده، إلا أنه لا يصل إلى نصب القتال والمدارأة وإعمال السلاح إلا مع الرياسة والإمام المتبع، وينبغي للناس أن يغير المنكر منهم كل أحد تقي وغير تقي، ولو لم يغير إلا تقي لم يتغير منكر في الأغلب، وقد ذم الله تعالى قوماً بأنهم لم يتناهوا عن منكر فعلوه، فقد وصفهم بفعله وذمهم لما لم يتناهوا عنه وكل منكر فيه مدخل للنظر فلا مدخل لغير حملة العلم فيه، فهذه نبذة من القول في تغيير المنكر تضمنت ثمانية شروط، وروي أن جماعة رفعت على عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها بأنهم لم يبينوا عليه كبيرة ظلم، ولا جوروه له في شيء، فقام فتى من القوم، فقال يا أمير المؤمنين‏:‏ إن الله أمر ‏{‏بالعدل والإحسان‏}‏، وأنه عدل ولم يحسن، قال‏:‏ فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل، وقوله ‏{‏وأوفوا بعهد الله‏}‏، الآية مضمن قوله ‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ الآية، افعلوا كذا وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير قوله ‏{‏وأوفوا‏}‏، و«عهد الله» لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وبالجملة كل ما كان طاعة بين العاهد وبين ربه، كان فيه نفع للغير أو لم يكن، وقوله ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان‏}‏ خص في هذه الألفاظ العهود التي تقترن بها أيمان تهمماً بها وتنبيهاً عليها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا في كل ما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق فهو الذي قاله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» ويقال تأكيد وتوكيد ووكد وأكد وهما لغتان، وقال الزجاج‏:‏ الهمزة مبدلة من الواو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا غير بين، لأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك، و‏{‏كفيلاً‏}‏ معناه متكفلاً بوفائكم، وباقي الآية وعيد في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده، وقالت فرقة‏:‏ نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، رواه أبو ليلى عن مزيدة، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد‏:‏ نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فزادها الإسلام شدة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة»، وهذا حديث معنى، وإن كان السبب بعض هذه الأشياء، فألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكماً، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل فحلته بعد إبرامه، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت سعد كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه، قاله عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقيل كانت امرأة موسوسة تسمى خطية تغزل عند الحجر وتفعل ذلك، وقال مجاهد وقتادة، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة و‏{‏أنكاثاً‏}‏ نصب على الحال، والنكث النقض، و«القوة» في اللغة واحدة قوى الغزل والحبل، وغير ذلك مما يظفر، ومنه قول الأغلب الراجز‏:‏

حبل عجوز فتلت سبع قوى *** ويظهر لي أن المراد ب «القوة» في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ولو قدرناها واحدة القوى لم يكن معها ما ينقض ‏{‏أنكاثاً‏}‏، والعرب تقول أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له، قال مجاهد‏:‏ المعنى من بعد إمرار قوة، و«الدخل» الدغل بعينه، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن فيتمكن الحالف من ضره بما يريده، وقوله ‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏، قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة، قوية فداخلتها، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى، فقال الله تعالى ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة و«الربا» الزيادة، ويحتمل أن يكون القول معناه لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم أي أزيد خيراً، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود، و‏{‏يبلوكم‏}‏ معناه يختبركم، والضمير في ‏{‏به‏}‏ يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به، ويحتمل أن يعود على الربا، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة، وقوله ‏{‏هي أربى‏}‏ موضع ‏{‏أربى‏}‏ عند البصريين رفع وعند الكوفيين نصب، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين لأنه لا يكون مع النكرة، و‏{‏أمة‏}‏ نكرة، وحجة الكوفيين أن ‏{‏أمة‏}‏ وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص، وفي هذا نظر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يبتلي عباده بالأوامر والنواهي ليذهب كل أحد إلى ما يسر له، وذلك منه تعالى بحق الملك، وأنه لا يسأل عما يفعل، ولو شاء لكان الناس كلهم في طريق واحد، إما في هدى وإما في ضلالة، ولكنه تعالى شاء أن يفرق بينهم، ويخص قوماً بالسعادة وقوماً بالشقاوة و‏{‏يضل‏}‏ و‏{‏يهدي‏}‏ معناه يخلق ذلك في القلوب خلافاً لقول المعتزلة، ثم توعد في آخر الآية بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله، وهذا سؤال توبيخ، وليس ثم سؤال تفهم، وذلك هو المنفي في آيات‏.‏