فصل: تفسير الآيات رقم (18- 22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

المعنى من كان يريد الدنيا العاجلة ولا يعتقد غيرها ولا يؤمن بآخرة فهو يفرغ أمله ومعتقده للدنيا، فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء هذا المريد أو ما يشاء الله على قراءة من قرأ «نشاء» بالنون، وقوله ‏{‏لمن يريد‏}‏ شرط كاف على القراءتين ثم يجعل الله جهنم لجميع مريدي العاجلة على جهة الكفر من أعطاه فيها ما يشاء ومن حرمه، قال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته، وقرأ الجمهور‏:‏ «نشاء» بالنون، وقرأ نافع أيضاً «يشاء» بالياء، و«المدحور» المهان المبعد المذلل المسخوط عليه، وقوله ‏{‏ومن أراد الآخرة‏}‏ الآية، المعنى ومن أراد الآخرة إرادة يقين بها وإيمان بها وبالله ورسالاته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك كله مرتبط متلازم ثم شرط في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها وهو ملازمة أعمال الخير وأقواله على حكم الشرع وطرقه، فأولئك يشكر الله سعيهم ولا يشكر الله عملاً ولا سعياً إلا أثاب عليه وغفر بسببه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش فشكر الله له فعفر له، وقوله ‏{‏كلاًّ نمد‏}‏ الآية نصب ‏{‏كلاًّ‏}‏ ب ‏{‏نمد‏}‏، وأمددت الشيء إذا زدت فيه من غيره نوعه، ومددته إذا زدت فيه من نوعه، وقيل هما بمعنى واحد، يقال مد وأمد‏.‏ و‏{‏هؤلاء‏}‏ بدل من قوله ‏{‏كلاًّ‏}‏ فهو في موضع نصب، وقوله ‏{‏من عطاء ربك‏}‏ يحتمل أن يريد من الطاعات لمريدي الآخرة والمعاصي لمريدي العاجلة، وروي هذا التأويل عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد ب «العطاء» رزق الدنيا، وهذا تأويل الحسن بن أبي الحسن وقتادة، أي إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين ومريدي العاجلة من الكافرين ويمدهم بعطائه منها وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة، ويتناسب هذا المعنى مع قوله ‏{‏وما كان عطاء ربك محظوراً‏}‏، أي إن رزقه في الدنيا لا يضيق عن مؤمن ولا كافر، وقلما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي التي توبقه، و«المحظور» الممنوع‏.‏ وقوله ‏{‏انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏، آية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها هو الرزق، وفي ذلك يترتب أن ينظر محمد عليه السلام إلى تفضيل الله لبعض على بعض في الرزق، ونحوه من الصور والشرف والجاه والحظوظ وبين أن يكون التفضيل الذي ينظر إليه النبي عليه السلام إن أعطى الله قوماً الطاعات المؤدية إلى الجنة وأعطى آخرين الكفر المؤدي إلى النار، وهذا قول الطبري‏:‏ وهذا إنما هو النظر في تفضيل فريق على فريق، وعلى التأويل الآخر فالنظر في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين ومن الكافرين كيفما قرنتهما ثم أخبر عز وجل أن التفضيل الأكبر إنما يكون في الآخرة‏.‏

وقوله ‏{‏أكبر درجات‏}‏ ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ولا بد، أي ‏{‏أكبر درجات‏}‏ من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض إليها، وكذلك قوله ‏{‏أكبر تفضيلاً‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين، وأسند الطبري في ذلك حديثاً نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولكن قد رضي الله الجميع فما يغبط أحد أحداً، ولا يتمنى ذلك بدلاً، وقوله ‏{‏لا تجعل‏}‏ الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام، والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره، والذم هنا لاحق من الله تعالى ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عوداً أو حجراً أفضل من نفسه، ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، و«الخذلان» في هذا يكون بإسلام الله وأن لا يكفل له بنصر، و«المخذول» الذي لا ينصره من يحب أن ينصره‏.‏ والخاذل من الظبا التي تترك ولدها، ومن هذه اللفظة قول الراعي‏:‏

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما *** وسعى فلم أر مثله مخذولا

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قضى‏}‏ في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس، وأقول إن المعنى ‏{‏وقضى ربك‏}‏ أمره ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكماً، والمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك» وهي قراءة أصحابه، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى» حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك، وقال عن ميمون بن مهران‏:‏ إنه قال إن على قول ابن عباس لنوراً، قال الله تعالى ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، والضمير في ‏{‏تعبدوا‏}‏ لجميع الخلق، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له‏:‏ إنه طلق امرأته ثلاثاً فقال له الحسن‏:‏ عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال له الرجل قضي ذلك علي، فقال له الحسن وكان فصيحاً، ما قضى الله أي ما أمر الله، وقرأ هذه الآية، فقال الناس‏:‏ تكلم الحسن في القدر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏قضى‏}‏ على مشهورها في الكلام، ويكون الضمير في قوله ‏{‏تعبدوا‏}‏ للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة، لكن على التأويل الأول يكون قوله‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ عطفاً على ‏{‏أن‏}‏ الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين، و‏{‏إما‏}‏ شرطية، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ»، وروي عن ابن ذكوان «يبلغنَ» بتخفيف النون، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله ‏{‏أحدهما‏}‏ فاعلاً، وقوله ‏{‏أو كلاهما‏}‏ معطوفاً عليه، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله ‏{‏أحدهما‏}‏ بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة *** ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت

ويجوز أن يكون ‏{‏أحدهما‏}‏ فاعلاً وقوله ‏{‏أو كلاهما‏}‏ عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن، وقرأ أبو عمرو «أفِّ» بكسر الفاء وترك التنوين، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفٍّ» بالكسر والتنوين، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفَّ» بفتح الفاء، وقرأ أبو السمال «أفٌّ» بضم الفاء، وقرأ ابن عباس «أف» خفيفة، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف» بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة، «وأفّاً» بالنصب والتنوين «وأفي» بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير، «وأفاً» بألف بعد الفتحة، «وأفّْ» بسكون الفاء المشددة «وأَف» مثل رب، ومن العرب من يميل «أفاً»، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعل المذكور، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون، فلم ترد هذه في نفسها، وإنما هي مثال الأعظم منها، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن، و«الألف» وسخ الأظفار، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله ‏{‏ولا تقل لهما أف‏}‏ معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما‏.‏ وتقول ‏{‏أف‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه، وقال أبو الهدَّاج النجيبي‏:‏ قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله ‏{‏وقل لهما قولاً كريماً‏}‏ ما هذا القول الكريم‏؟‏ قال ابن المسيب‏:‏ قول العبد المذنب للسيد الفظّ، وقوله ‏{‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏ استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر ‏{‏الذل‏}‏ هنا ولم يذكر في قوله ‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 215‏]‏ وذلك بحسب عظم الحق هنا، وقرأ الجمهور «الذُّل» بضم الذال، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير «الذِل» بكسر الذال، ورويت عن عاصم بن أبي النجود، و«الذل» في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«أبعده الله وأسحقه» قالوا من يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له» وقوله ‏{‏من الرحمة‏}‏، ‏{‏من‏}‏ هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً، ويصح أن يكون لابتداء الغاية، ثم أمر الله عبادة بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقاً لهما وحناناً عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ، وليس هذا موضع نسخ، وقوله ‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم‏}‏ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك، ويجعلون ظاهر برهما رياء، ثم وعد في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله، واختلفت عبارة الناس في ‏{‏الأوابين‏}‏، فقالت فرقة هم المصلحون، وقال ابن عباس‏:‏ هم المسبحون، وقال أيضاً‏:‏ هم المطيعون المحسنون، وقال ابن المنكدر‏:‏ هم الذين يصلون العشاء والمغرب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال‏:‏ «تلك صلاة الأوابين»، وقيل غير هذا من المستغفرين ونحوه، وقال عون العقيلي‏:‏ هم الذين يصلون صلاة الضحى، وحقيقة اللفظة أنه من آب يؤوب إذا رجع، وهؤلاء كلهم لهم رجوع أبداً إلى طاعة الله تعالى، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح، قال ابن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، وفسر الجمهور ‏{‏الأوابين‏}‏ بالرجاعين إلى الخير، وقال ابن جبير‏:‏ أراد بقوله غفوراً للأوابين الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه، وهو لم يصر عليها بقلبه ولا علمها الله من نفسه، وقالت فرقة «خفض الجناح» هو ألا يمتنع من شيء يريدانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون في «ذي القربى»، فقال الجمهور‏:‏ الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم، وقال علي بن الحسين في هذه‏:‏ هم قرابة النبي عليه السلام، أمر النبي عليه السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقول الأول أبين، ويعضده العطف ب ‏{‏المسكين وابن السبيل‏}‏‏.‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا، «وابن السبيل» في آية الصدقة أخص، و«التبذير» إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح، وهو من البذر، ويحتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المبذرين‏}‏ أن يكون اسم جنس، ويحتمل أن يعني أهل مكة معينين، وذكره النقاش، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إخوان‏}‏ يعني أنهم في حكمهم، إذ المبذر ساع في فساد والشيطان أبداً ساع في فساد، و‏{‏إخوان‏}‏ جمع أخ من غير النسب، وقد يشذ، ومنه قوله تعالى في سورة النور ‏{‏أو إخوانهن أو بني إخوانهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ والإخوة جمع أخ في النسب ومقد يشذ، ومنه قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏ وقرأ الحسن والضحاك «إخوان الشيطان» على الإفراد، وكذلك في مصحف أنس بن مالك، ثم ذكر تعالى كفر الشيطان ليقع التحذير من التشبه به في الإفساد مستوعباً بيناً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تعرض‏}‏، الضمير في ‏{‏عنهم‏}‏ عائد على من تقدم ذكره من المساكين وبني السبيل، فأمر الله تعالى نبيه في هذه الآية إذا سأله منهم أحد، فلم يجد عنده ما يعطيه فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض تأدباً منه في أن لا يرده تصريحاً، وانتظار الرزق من الله تعالى يأتي فيعطي منه، أن يكون يؤنسه بالقول الميسور، وهو الذي فيه الترجية بفضل الله تعالى والتأنيس بالميعاد الحسن والدعاء في توسعة الله تبارك وتعالى وعطائه، وروي أنه عليه السلام كان يقول بعد نزول هذه الآية، إذا لم يكن عنده ما يعطي‏:‏ يرزقنا الله وإياكم من فضله، ف «الرحمة» على هذا التأويل الرزق المنتظر، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وقال ابن زيد «الرحمة» الأجر والثواب، وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم رغبة الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم ‏{‏قولاً ميسوراً‏}‏ يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال بعض أهل التأويل الأول، نزلت الآية في عمار بن ياسر وصنفه، و«الميسور» مفعول من لفظة اليسر، تقول يسرت لك كذا إذا أعدَدته، وقوله ‏{‏ولا تجعل يدك‏}‏ الآية، روي عن قالون «كل البصط» بالصاد، ورواه الأعشى عن أبي بكر، واستعير لليد المقبوضة جملة عن الإنفاق المتصفة بالبخل «الغل إلى العنق»، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل، وكل هذا في إنفاق الخير، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مثل البخيل والمتصدق»، والحديث بكامله، والعلامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطي، و«المسحور» المنفه الذي قد استنفدت قوته تقول حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة فهو حسير، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لهن الوجى لم كن عوناً على السرى *** ولا زال منها ظالع وحسير

ومنه البصر الحسير وهو الكال، وقال ابن جريج وغيره في معنى هذه الآية، لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق، ولا تبسطها كل البسط فيما نهيتك عنه، وقال قتادة‏:‏ «التبذير» النفقة في معصيه الله، وقال مجاهد‏:‏ لو أنفق إنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيراً، ولو أنفق مداً في باطل تبذيراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا فيه نظر، ولا بعض البسط لم يبح فيما نهى عنه‏.‏ ولا يقال في المعصية ولا تبذر، وإنما يقال ولا تنفق ولو باقتصاد وقوام، ولله در ابن عباس وابن مسعود فإنهما قالا‏:‏ التبذير الإنفاق وفي غير حق، فهذه عبارة تعم المعصية والسرف في المباح، وإنما نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولاً من سؤال المؤمنين لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له أو لئلا يضيع المنفق عيالاً ونحوه، ومن كلام الحكمة‏:‏ ما رأيت قط سرفاً إلا ومعه حق مضيع، وهذه من آيات فقه الحال، ولا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس، وقوله ‏{‏إن ربك يبسط‏}‏ الآية، والمعنى كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام ولا يهمنك فقر من تراه كذلك فإنه بمرأى من الله ومسمع وبمشيئة، ‏{‏ويقدر‏}‏ معناه ويضيف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان بعباده خبيراً بصيراً‏}‏ أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى، وقال بعض المفسرين وحكاه الطبري‏:‏ إن الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر، وكانت إذا شبعت طغت وقتلت غيرها وأغارت، وإذا كان الجوع والقحط شغلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قرا الأعمش وابن وثاب «ولا تقتّلوا» بتضعيف الفعل، وهذه الآية نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا الموءودة سئلت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 8‏]‏، ويقال كان جهلهم يبلغ أن يغدو أحدهم كلبه ويقتل ولده، و‏{‏خشية‏}‏ نصب على المفعول من أجله، و«الإملاق» الفقر وعدم الملك، أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس السود، وقرأ الجمهور «خِطْئاً» بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز والقصر، وقرأ ابن عامر «خطئاً» بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهي قراءة أبي جعفر، وهاتان قراءتان مأخوذتان من خطئ إذا أتى الذنب على عمد، فهي كحذر وحذر ومثل ومثل وشبه وشبه اسم ومصدر، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

الخطء فاحشة والبر نافلة *** كعجوة غرست في الأرض تؤتبر

قال الزجاج يقال خطئ الرجل يخطأ خطأً مثل أثم إثماً فهذا هو المصدر وخطأ اسم منه، وقال بعض العلماء خطئ معناه واقع الذنب عامداً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يأكله إلا الخاطئون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 37‏]‏، وأخطأ واقع الذنب عن غير تعمد، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقال أبو علي الفارسي‏:‏ وقد يقع هذا موضع هذا، وهذا موضع هذا، فأخطأ بمعنى تعمد في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

عبادك يخطئون وأنت رب *** كريم لا يليق بك الذموم

وخطئ بمعنى لم يتعمد في قول الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

والناس يلحون الأمير إذا همُ *** خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

وقد روي عن ابن عامر «خَطأً» بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة، وقرأ ابن كثير «خِطَاء» بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة، وهي قراءة الأعرج بخلاف، وطلحة وشبل والأعمش وعيسى وخالد بن إياس وقتادة والحسن بخلاف عنه، قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ هي مصدر من خاطأ يخاطئ وإن كنا لم نجد خاطَأ ولا كنا وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه، فمنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

تخاطأت النبْل احشاءه *** وخر يومي فلم أعجل

وقول الآخر في صفة كماة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَخَاطَأَه القنّاصُ حتى وجدته *** وخرطومه في مَنْقَع الماء راسب

فكأن هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل، وقرأ الحسن فيما روي عنه «خَطَاء» بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم‏:‏ لا يعرف هذا في اللغة، وهو غلط غير جائز وليس كما قال أبو حاتم، قال أبو الفتح‏:‏ الخطاء من اخْطَأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم يعني المصدر، وقرأ الحسن بخلاف «خَطاً» بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز، وقرأ أبو رجاء والزهري «خِطاً» بكسر الخاء وفتح الطاء كالتي قبلها، وهاتان مخففتان من خطأ وخطاء، وقوله ‏{‏ولا تقربوا الزنى‏}‏ تحريم‏.‏

و ‏{‏الزنى‏}‏ يمد ويقصر فمن قصره الآية، وهي لغة جميع كتاب الله، ومن مده قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أبا حَاضر من يزن يعرف زناؤه *** ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا

ويروى أبا خالد، و«الفاحشة» ما يستتر به من المعاصي لقبحه، و‏{‏سبيلا‏}‏ نصب على التمييز، التقدير وساء سبيله سبيلاً، أي لأنه يؤدي إلى النار، وقوله ‏{‏ولا تقتلوا‏}‏ وما قبله من الأفعال جزم بالنهي، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ والأول أصوب وأبرع للمعنى، والألف واللام التي في ‏{‏النفس‏}‏ هي للجنس، و‏{‏الحق‏}‏ الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله‏:‏ «لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال، كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها، فمنها قطع الطريق، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة، ومن ذلك الزندقة، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مظلوماً‏}‏ نصب على الحال، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة، و«الولي» القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء، ولهن ذلك عند أخرى، و«السلطان» الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو، قال ابن عباس والضحاك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ «السلطان» القود، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف» بالياء، وهي قراءة الجمهور، أي الولي لا يتعدى أمر الله، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل، أو يقتل اثنين بواحد، وغير وذلك من وجوه التعدي، وهذا كله كانت العرب تفعله، فلذلك وقع التحذير منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة، رجل قتل غير قاتل وليه، أو قتل بدحل الجاهلية، أو قتل في حرم الله»، وقالت فرقة‏:‏ المراد بقوله ‏{‏فلا يسرف‏}‏ القاتل الذي يتضمنه الكلام، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل» بالتاء من فوق، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة، قال الطبري‏:‏ على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده، أي فلا تقتلوا غير القاتل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية، «فلا يسرفُ» بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي، والمراد هذا التأويل فقط‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبي بن كعب‏:‏ «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً، والضمير في قوله ‏{‏إنه‏}‏ عائد على الولي، وقيل على المقتول، وهو عندي أرجح الأقوال، لأنه المظلوم، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام‏:‏» ونصر المظلوم وإبرار القسم «، وكقوله» انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً «، إلى كثير من الأمثلة‏:‏ وقيل على القتل، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر، وهذا ضعيف بعيد المقصد، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتامى، ثم لمن تلبس بشيء من أمر يتيم من غير وصي، و‏{‏اليتيم‏}‏ الفرد من الأبناء، واليتم الانفراد، يقال يتم الصبي يتيم إذا فقد أباه، قال ابن السكيت‏:‏ اليتم في البشر من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم، وفي كتاب الماوردي، أن اليتم في البشر من قبل الأم أيضاً، وجمعه أيتام كشريف وأشراف وشهيد وأشهاد، ويجمع يتامى كأسير وأسارى كأنهما الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة، قال ابن سيده‏:‏ وحكى ابن الأعرابي يتمان في يتيم، وأنشد في ذلك‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فبت أشوي ظبيتي وحليلتي *** طربا وجرو الذيب يتمان جائع

ويجوز أن يكون يتامى جمع يتمان، وفي الحديث «لا يتم بعد حلم» وقوله ‏{‏إلا بالتي هي أحسن‏}‏ يريد إلا بأحسن الحالات‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك في الوصي الغني، أن يثمر المال ويحوطه ولا يمسّ منه شيئاً على جهة الانتفاع به، هذا هو الورع والأولى الا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح فله بالفقه أن تفرض له أجرة، وأما الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه، فاختلف الناس في أكله منه بالمعروف كيف هو‏؟‏ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ يتسلف منه، فإذا أيسر رد فيه، وقال ابن المسيب، لا يشرب الماء من مال اليتيم، قيل له فما معنى ‏{‏فليأكل بالمعروف‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏؟‏ قال‏:‏ إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه، وقال مجاهد‏:‏ لا يقرب إلا التجارة ولا يستقرض منه، قال‏:‏ قوله ‏{‏فليأكل بالمعروف‏}‏ ‏[‏ذاته‏]‏ معناه من مال نفسه، وقال أبو يوسف‏:‏ لعل قوله ‏{‏فليأكل بالمعروف‏}‏ ‏[‏ذاته‏]‏ منسوخ بقوله ‏{‏لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ وقال ابن عباس‏:‏ يأكل منه الشربة من اللبن والطرفة من الفاكهة ونحو هذا مما يخدمه، ويلط الحوض ويجد النخل، وينشد الضالة فليأكل غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب، وقال زيد بن أسلم‏:‏ يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة من العيش بتعبه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه استعارة للتقلل، وقال مالك رحمه الله وغيره‏.‏ يأخذ منه أجره بقدر تعبه، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن، وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات، وفي الخبر عن قتادة أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين وتجنبوا الأكل معهم في صحفة ونحوه، فنزلت ‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ وقوله ‏{‏حتى يبلغ أشده‏}‏ غاية الإمساك عن مال اليتيم، ثم ما بعد الغاية قد بينته آية أخرى، وما بعد هذه الغايات أبداً موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي أو يقتضي ذلك الاتفاق في النازلة، ومثل هذا قول عائشة رضي الله عنها أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، وبعث بها، فلم يحرم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي، و«الأشد» جمع شد عند سيبويه، وقال أبو عبيدة‏:‏ لا واحد له من لفظه، ومعناها قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ، ف «الأشد» في مذهب مالك أمران، البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك، والرشد في المال، واختلف هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين، فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطاً لماله، وراعاه غيره من بعض أصحاب مالك، ومذهب أبي حنيفة أن الأشد هو البلوغ فقط فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة، وقال أبو إسحاق الزجاج «الأشد» في قوله أن تأتي على الصبي ثمان عشرة سنة، وإنما أراد أنها بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم، وأما أن يكون بالغ رشيد تقي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله، وقوله ‏{‏بالعهد‏}‏ لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، وقوله ‏{‏إن العهد كان مسؤولاً‏}‏ أي مطلوباً ممن عهد إليه أو عوهد هل وفى به أم لا‏؟‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا الكيل‏}‏ الآية، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم، وروي عن ابن عباس أنه كان يقف في السوق ويقول‏:‏ يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم، هذا المكيال وهذا الميزان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه، و‏{‏القسطاس‏}‏ قال الحسن هو القبان، ويقال القفان وهو القلسطون، ويقال القرسطون، وقيل‏:‏ «القسطاس» الميزان صغيراً كان أو كبيراً، وقال مجاهد ‏{‏القسطاس‏}‏ العدل، وكان يقول هي لغة رومية، فكأن الناس قيل لهم زنوا بمعدلة في وزنكم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «القُسطاس» بضم القاف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «القِسطاس» بكسر القاف، وهما لغتان، واللفظة منه للمبالغة من القسط، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت، قال أبو حاتم إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها، وقرأت فرقة «القصطاس» بالصاد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة، وكل ذلك أنها استعارات للعدل، وقوله‏:‏ في ميزان القيامة مردود، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان‏.‏

وسمعت أبي رضي الله عنه يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه إن هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة ألف ولامان وهاء فكأن الميزان يقول الله الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وعظ جميل، و«التأويل» في هذه الآية المآل‏.‏ قاله قتادة، ويحتمل أن يكون «التأويل» مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن، والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذاً لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع، وقوله ‏{‏ولا تقف‏}‏ معناه ولا تقل ولا تتبع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا»، ونقول فلان قفوتي أي موضع تهمتي، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي أي ما رميت به، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه، وقد قال ابن عباس أيضاً ومجاهد‏:‏ ‏{‏ولا تقف‏}‏ معناه، ولا ترم، ومن هذه اللفظة قول الشاعر‏:‏

ومثل الدمى شم العرانين ساكن *** بهن الحياء لا يشعن التقافيا

وقال الكميت‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ولا أرم البرى بغير ذنب *** ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول قفوت الأثر، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت، وتقول قفت الأثر، ومن هذا‏:‏ هو القائف، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث، فمعنى الآية، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية، وقرأ الجمهور «ولا تقف»، وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «ولا تقُفْ» بضم القاف وسكون الفاء، وقرأ الجراح «والفآد» بفتح الفاء وهي لغة، وأنكرها أبو حاتم وغيره، وعبر عن ‏{‏السمع والبصر والفؤاد‏}‏ ب ‏{‏أولئك‏}‏ لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها ب ‏{‏أولئك‏}‏، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى‏:‏

‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏ إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل، عبر عنها بكناية من يعقل، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب «أولئك»، وأنشد هو والطبري‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام

فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام، والضمير في ‏{‏عنه‏}‏ يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان، وبصره، وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي، ويحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏عنه‏}‏ على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولاً، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولاً، فهو على حذف مضاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور «مرَحاً» بفتح الراء مصدر من مرَح يمرَح إذا تسبب مسروراً بدنياه مقبلاً على راحته، فهذا هو المرح، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولاً، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فَقَصْرُكَ نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإقبال الناس على الصيد ونحوه تنزهاً دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وأما الرجل يستريح في اليوم النادر أو الساعة من يومه يجم بها نفسه في التفرج والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة، فليس ذلك بداخل في هذه الآية، وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب «مرِحاً» بكسر الراء على بناء اسم الفاعل، وهذا المعنى يترتب على هذه القراءة، ولكن يحسن معها معنى آخر ذكره الطبري مع القراءة الأولى وهو بهذه القراءة أليق، وهو أن قوله ‏{‏لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً‏}‏ أراد به أنك أيها المرح المختال الفخور لا تخرق الأرض ولا تطاول الجبال بفخرك وكبرك، وذهب بالألفاظ إلى هذا المعنى، ويحسن ذلك مع القراءة بكسر الراء من المرح، لأن الإنسان نهي حينئذ عن التخلق بالمرح في كل أوقاته، إذ المشي في الأرض لا يفارقه، فلم ينه إلا عن يكون مرحاً، وعلى القراءة الأخرى إنما نهي من ليس بمرح عن أن يمشي في بعض أوقاته مرحاً فيترتب في «المرِح» بكسر الراء أن يؤخذ بمعنى المتكبر المختال، وخرق الأرض قطعها، والخرق الواسع من الأرض ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

وخرق تجاوزت مجهوله *** بوجناء خرق تشكى الكلالا

ويقال لثقب الأرض، وليس هذا المعنى في الآية، ومنه قول رؤبة بن العجاج‏:‏

وقاتم الأعماق خاوي المخترق *** وقرأ الجراح الأعرابي «تخرُق» بضم الراء، وقال أبو حاتم‏:‏ لا تعرف هذه اللغة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل ذلك كان سيئة‏}‏ الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وأبو جعفر والأعرج «سيئة»، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن ومسروق «سيئه» على إضافة سيئ إلى الضمير، والإشارة على القراءة الأولى إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقول أف وقذف الناس والمرح وغير ذلك، والإشارة على القراءة الثانية إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات من بر ومعصية، ثم اختص ذكر السيئ منه بأنه مكروه عند الله تعالى، فأما من قرأ «سيئه» بالإضافة إلى الضمير فإعراب قراءته بين‏:‏ وسيئ اسم ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏مكروهاً‏}‏ خبرها، وأما من قرأ «سيئة» فهي الخبر ل ‏{‏كان‏}‏، واختلف الناس في إعراب قوله ‏{‏مكروهاً‏}‏، فقالت فرقة هو خبر ثان ل ‏{‏كان‏}‏ حمله على لفظ كل، و«سيئة» محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل، وقال بعضهم هو نعت ل ‏{‏سيئة‏}‏ لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وضعف أبو علي الفارسي هذا، وقال إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده وفقه، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ألا ترى أن قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏‏.‏

فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها

مستقبح عندهم، ولو قال قائل، أبقل أرض لم يكن قبيحاً، قال أبو علي ولكن يجوز في قوله ‏{‏مكروهاً‏}‏ أن يكون بدلاً من ‏{‏سيئة‏}‏، قال ويجوز أن يكون حالاً من الذكر الذي في قوله ‏{‏عند ربك‏}‏ ويكون قوله ‏{‏عند ربك‏}‏ في موضع الصفة ل ‏{‏سيئة‏}‏، وقرا عبد الله بن مسعود «كان سيئاته»، وروي عنه «كان سيئات» بغير هاء، وروي عنه «كان خبيثة»، وذهب الطبري إلى أن هذه النواهي كلها معطوفة على قوله أولاً‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ وليس ذلك بالبين، قوله ‏{‏ذلك مما أوحى إليك ربك‏}‏ الآية‏.‏ الإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق، و‏{‏الحكمة‏}‏ قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة، ثم عطف قوله ‏{‏ولا تجعل‏}‏ على ما تقدم من النواهي، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد كل من سمع الآية من البشر، و«المدحور»، المهان المبعد، وقوله ‏{‏أفأصفاكم‏}‏ الآية، خطاب للعرب التي كانت تقول الملائكة بنات الله، فقررهم الله على هذه الحجة، أي أنتم أيها البشر لكم الأعلى من النسل ولله الإناث‏؟‏ فلما ظهر هذا التباعد الذي في قولهم عظم الله عليهم فساد ما يقولونه وشنعته، ومعناه عظيماً في المنكر والوخامة، و«أصفاكم» معناه جعلكم أصحاب الصفوة، وحكى الطبري عن قتادة عن بعض أهل العلم أنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية في اليهود لأنهم قالوا هذه المقالة من أن الملائكة بنات الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور «صرّفنا» بتشديد الراء على معنى صرّفنا فيه الحكم والمواعظ، وقرأ الحسن «صرَفنا» بتخفيف الراء على معنى صرَفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله، وقال بعض من شدد الراء‏:‏ إن قوله ‏{‏في‏}‏ زائد، والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن، وهذا ضعيف، وقرأ الجمهور «ليذَّكَّروا» وقرأ حمزة والكسائي «ليذْكُروا» بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة طلحه ويحيى والأعمش، وما في ضمن الآية من ترج وطماعية فهو في حق البشر وبحسب ظنهم فيمن يفعل الله معه هذا، و«النفور» عبارة عن شدة الإعراض تشبيهاً بنفور الدابة، وهو في هذه الآية مصدر لا غير، وروي أن في الإنجيل في معنى هذه الآية‏:‏ يا بني إسرائيل شوقناكم فلم تشتاقوا ونحنا لكم فلم تبكوا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كان معه آلهة‏}‏ الآية إحبار بالحجة، واختلف الناس في معنى قوله ‏{‏لا تبتغوا إلى ذي العرش سبيلاً‏}‏ فحكى الطبري وغيره من المفسرين أن معناه لطلب هؤلاء الآلهة الزلفى إلى ذي العرش والقربة إليه بطاعته، فيكون السبيل على هذا التأويل بمعناها في قوله ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 19‏]‏، وقال سعيد بن جبير وأبو علي الفارسي والنقاش وقاله المتكلمون أبو منصور وغيره، إن معنى الكلام، لابتغوا إليه سبيلاً في إفساد ملكه ومضاهاته في قدرته، وعلى هذا التأويل تكون الآية بياناً للتمانع، وجارية مع قوله ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونقتضب شيئاً من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك وتعالى غيره، وذلك على ما قال أبو المعالي وغيره‏.‏ إنا لو فرضناه لفرضنا أن يريد أحدهما تسكين جسم والآخر تحريكه، ومستحيل أن تنفذ الإرادتان، ومستحيل أن لا تنفذ جميعاً، فيكون الجسم لا متحركاً ولا ساكناً، فإن صحت إرادة أحدهما دون الآخر فالذي لم تتم إرادته ليس بإله، فإن قيل نفرضهما لا يختلفان، قلنا اختلافهما جائز غير ممتنع عقلاً، والجائز في حكم الواقع، ودليل آخر، إنه لو كان الاثنان لم يمتنع أن يكونوا ثلاثة، وكذلك إلى ما لا نهاية، ودليل آخر أن الجزء الذي لا يتجزأ من المخترعات لا تتعلق به إلا قدرة واحدة، لا يصح فيها اشتراك، والآخر كذلك دأباً، فكل جزء إنما يخترعه واحد، وهذه نبذة شرحها بحسب التقصي يطول، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون» بالياء من تحت، وقرأ الجمهور «كما تقولون» و‏{‏سبحانه‏}‏ مصدر بفعل متروك إظهاره، فهو بمعنى التنزيه، موضعه هنا موضع تنزه، فلذلك عطف الفعل عليه في قوله ‏{‏وتعالى‏}‏، والتعالي تفاعل أما في الشاهد والأجرام فهو من اثنين، لأن الإنسان إذ صعد في منزله أو في جبل فكأن ذلك يعاليه، وهو يعالي ويرتقي، وأما في ذكر الله تعالى فالتعالي هو بالقدر لا بالإضافة إلى شيء آخر، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «عما يقولون» بالياء، وقرأ حمزة والكسائي «تقولون» بالتاء من فوق،‏.‏

و ‏{‏علواً‏}‏، مصدر على غير الفعل، فهو كقوله ‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ وهذا كثير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تسبح له السماوات‏}‏ الآية، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم، والاشتراك الذي أنتم بسبيله، ‏{‏السماوات السبع والأرض‏}‏، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل، وهو التسبيح، وقوله ‏{‏من فيهن‏}‏ يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها، في قوله ‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏}‏ أي ينزه الله ويحمده ويمجده، واختلف أهل العلم في التسبيح، فقالت فرقة هو تجوز، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا سخرنا الجبال معه يسبحن‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 18‏]‏ وقالت فرقة ‏{‏من شيء‏}‏ لفظ عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات البحتة، فمن هذا قول عكرمة‏:‏ الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام، وقد قدم الخوان‏:‏ أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد‏؟‏ فقال قد كان يسبح مرة، يريد أن الشجرة في زمان نموها واغتذائها تسبح، فمذ صارت خواناً مدهوناً أو نحوه صارت جماداً، وقالت فرقة‏:‏ هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة لكان أمراً مفقوهاً، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يراد بقوله ‏{‏لا تفقهون‏}‏ الكفار والغفلة، أي إنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله تعالى في الأشياء وقال الحسن‏:‏ بلغني أن معنى هذه الآية في التوراة ذكر فيه ألف شيء مما يسبح سبحت له السماوات، سبحت له الأرض، سبح كذا، سبح كذا، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر‏:‏ «يسبح له» بالياء، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «تسبح» بالتاء، والقراءتان حسنتان، وقرأ عبد الله بن مسعود وطلحة والأعمش «سبحت له السماوات»، وقوله ‏{‏إنه كان حليماً غفوراً‏}‏ فيه تنيه على إملائه لهم وصفحه عنهم في الدنيا وإمهاله لهم مع شنيع هذه المقالة، أي تقولون قولاً ينزهه عنه كل شيء من المخلوقات، ‏{‏إنه كان حليماً غفوراً‏}‏ فلذلك أمهلكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

هذه الآية تحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية، والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه السلام حجاباً، فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين، وقوله ‏{‏مستوراً‏}‏ أظهر ما فيه أن يكون نعتاً للحجاب، أي مستوراً عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين، وقيل التقدير مستوراً به على حذف العائد وقال الأخفش ‏{‏مستوراً‏}‏ بمعنى ساتر كمشؤوم وميمون فإنهما بمعنى شائم ويامن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لغير داعية إليه، تكلف، وليس مثاله بمسلم، وقيل هو على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر، وهذا معترض بأن المبالغة أبداً إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول، فلو قال حجاباً حاجباً لكان التنظير صحيحاً، وقوله ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏ الآية، الأكنة جمع كنان، وهو ما غطى الشيء، ومنه كنانة النبل، و«الوقر» الثقل في الأذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به، فعبر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطى قلبه وصمت أذنه، وقوله ‏{‏وإذا ذكرت‏}‏ الآية، يريد إذا جاءت مواضع التوحيد في القرآن أثناء قراءتك فرَّ كفار مكة من سماع ذلك إنكاراً له واستشباعاً، إذ فيه رفض آلهتهم واطراحها، وقال بعض العلماء‏:‏ إن ملأ قريش دخلوا على أبي طالب يزورونه فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ ومر بالتوحيد، ثم قال «يا معشر قيرش قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم»، فولوا ونفروا، فنزلت الآية، وأن تكون الآية وصف حال الفارين عنه في وقت توحيده في قراءته أبين وأجرى مع اللفظ، وقوله ‏{‏نفوراً‏}‏ يصح أن يكون مصدراً في موضع الحال، ويصح أن يكون جمع نافر كشاهد وشهود، لأن فعولاً من أبنية فاعل في الصفات، ونصبه على الحال، أي نافرين، وقوله ‏{‏أن يفقهوه‏}‏ ‏{‏أن‏}‏ نصب على المفعول أي «كراهة أن»، أو «منع أن»، والضمير في ‏{‏يفقهوه‏}‏ عائد على ‏{‏القرآن‏}‏، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت‏:‏ إنما عنى بقوله‏:‏ ‏{‏ولوا على أدبارهم نفوراً‏}‏ الشياطين وأنهم يفرون من قراءة القرآن، يريد أن المعنى يدل عليهم وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له خصاص»

وقوله ‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به‏}‏ الآية، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال، أو بإعراض وتغافل واستخفاف، فالضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على ‏{‏ما‏}‏، وهي بمعنى الذي، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال‏:‏ نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به، أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهم، والعامل في ‏{‏إذ‏}‏ الأولى وفي المعطوفة عليها ‏{‏يستمعون‏}‏ الأول، وقوله ‏{‏وإذ هم نجوى‏}‏ وصفهم بالمصدر، كما قالوا‏:‏ قوم رضى وعدل، وقيل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ هم نجوى‏}‏ اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم، وقوله ‏{‏مسحوراً‏}‏ الظاهر فيه أن يكون من السحر، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم، وأقواله الوخيمة برأيهم، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم ‏{‏به جنة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 25‏]‏ ونحو هذا، وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏مسحوراً‏}‏ معناه ذا سحر، وهي الرية يقال لها سحر وسُحر بضم السين، ومنه قول عائشة رضي الله عنها‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري ومنه قولهم للجبان‏:‏ انتفخ سحره، لأن الفازع تنتفخ ريته، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية، قال‏:‏ ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره‏:‏ مسحور ومسحر، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ونسحر بالطعام وبالشراب *** وقول لبيد‏:‏ بالطويل‏]‏

فإن تسألينا فيمَ نَحْنُ فإننا *** عصافيرُ من هذا الأنام المسحَّر

ومنه السحور، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر، ويشبه أن يكون من السحر، كالصبوح من الصباح، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السِّحر، بكسر السين، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 51‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

ضرب المثل له هو قولهم مسحور، ساحر، مجنون، متكهن، لأنه لم يكن عندهم متيقناً بأحد هذه، فإنما كانت منهم على جهة التشبيه، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقرب هذه الأمور على تخيل الطارين عليهم هو أنه ساحر، ثم حكم الله عليهم بالضلال، وقوله ‏{‏فلا يستطيعون سبيلاً‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما لا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان، فتجري الآية مجرى قوله ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ ونحو هذا، والآخر‏:‏ لا يستطيعون سبيلاً إلى فساد أمرك وإطفاء نور الله فيك بضربهم الأمثال لك واتباعهم كل حيلة في جهتك، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه، وقوله ‏{‏إذا كنا عظاماً‏}‏ الآية، هذه الآية في إنكارهم البعث، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد، و«الرفات» من الأشياء‏:‏ ما مر عليه الزمن حتى بلغ به غاية البلى، وقربه من حالة التراب، يقال‏:‏ رفت رفتاً فهو مرفوت، وفعال‏:‏ بناء لهذا المعنى، كالحطام، والفتات، والرصاص، والرضاض، والدقاق، ونحوه، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏رفاتاً‏}‏ غباراً، وقال مجاهد‏:‏ تراباً، واختلف القراء في هذين الاستفهامين‏:‏ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أيذا كنا تراباً أينا» جميعاً بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة، ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدة، وقرأ نافع الأولى مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ الثانية «إنا» مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة‏:‏ «أإذا أإنا» بهمزتين فيهما، وقرأ ابن عامر «إذا كنا»، مكسورة الألف من غير استفهام «ءإنا» يهمز، ثم يمد، ثم يهمز‏.‏ ويروى عنه مثل قراءة حمزة، وفي سورة الرعد توجيه هذه القراءات، و‏{‏جديداً‏}‏ صفة لما قرب حدوثة من الأشياء، وهكذا يوصف به المذكر والمؤنث، فيقال ملحفة جديد وقولهم جديدة، لغة ضعيفة، كذا قال سيبويه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كونوا حجارة أو حديداً‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ قل لهم يا محمد كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي، لا بد من بعثكم، وقوله ‏{‏كونوا‏}‏ هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع لفظة افعل، وبهذه الآية مثل بعضهم، وفي هذا عندي نظر‏:‏ وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فادرؤوا عن أنفسكم الموت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 168‏]‏، ونحوه، وأما هذه الآية، فمعناها‏:‏ كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا، الذي فطركم كذلك، هو يعيدكم، وقال مجاهد أراد ب «الخلق»، الذي يكبر في الصدور‏:‏ السماوات والأرض والجبال، وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو والحسن وابن جبير والضحاك‏:‏ أراد الموت، وقال قتادة ومجاهد‏:‏ بل أحال على فكرتهم عموماً، ورجحه الطبري، وهذا هو الأصح، لأنه بدأ بشيء صلب، ثم تدرج القول إلى أقوى منه، ثم أحال على فكرهم، إن شاؤوا في أشد من الحديد، فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء، ثم احتج عليهم عز وجل في الإعادة بالفطرة الأولى، من حيث خلقهم، واخترعهم من تراب، فكذلك يعيدهم إذا شاء، لا رب غيره، وقوله ‏{‏فسينغضون‏}‏ معناه‏:‏ يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب، قال ابن عباس‏:‏ والاستهزاء‏.‏

قال الزجاج‏:‏ تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أنغض نحوي رأسه وأقنعا *** كأنما أبصر شيئاً أطمعا

ويقال نغضت السنّ إذا تحركت وقال ذو الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ظعائن لم يسكن أكناف قرية *** بسيف ولم تنغض بهن القناطر

قال الطبري وابن سلام و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة والمعنى‏:‏ وهو قريب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه إنما هي من النبي عليه السلام، ولكنها بأمر الله، فيقربها ذلك من الوجوب، وكذلك قال عليه السلام «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وفي ضمن اللفظ توعد لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏يوم‏}‏‏:‏ بدل من قوله ‏{‏قريباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏، ويظهر أن يكون المعنى‏:‏ هو يوم، جواباً لقولهم‏:‏ ‏{‏متى هو‏}‏ ‏[‏ذاته‏]‏ ويريد‏:‏ يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور، لقيام الساعة، وقوله ‏{‏فتستجيبون‏}‏ أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة، وقوله‏:‏ ‏{‏بحمده‏}‏، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه‏:‏ بأمره، وكذلك قال ابن جريج، وقال قتادة معناه‏:‏ بطاعته ومعرفته، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جيمع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى ‏{‏بحمده‏}‏‏:‏ إما أن جميع العالمين، كما قال ابن جبير، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته، وإما أن قوله ‏{‏بحمده‏}‏ هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم في هذه الآيات‏:‏ عسى، أن الساعة قريبة، يوم يدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه، وقوله تعالى ‏{‏وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة، وتصرف الأجساد، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلاً لمغيب علم مقدار الزمن عنهم، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عول الطبري، واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أبو بعض يوم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 112-113‏]‏، والآخر‏:‏ أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم‏:‏ يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلاً، من حيث هو منقض منحصر، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها‏:‏ متاع قليل، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق ها هنا لأنه في شيء قد وقع، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود، وفي الكلام تقوية للبعث، كأنه يقول‏:‏ أنت أيها المكذب بالحشر، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبداً، لا بد أن تدعى للبعث، فتقوم، وترى أنك إنما لبثت قليلاً منقضياً منصرماً‏.‏ وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل لعبادى‏}‏ الآية اختلف النحويون في قوله ‏{‏يقولوا‏}‏ فمذهب سيبويه، أنه جواب شرط مقدر تقديره‏:‏ وقل لعبادي‏:‏ إنك إن تقل لهم يقولوا، وهذا على أصله، في أن الأمر لا يجاب، وإنما يجاب معه شرط مقدر، ومذهب الأخفش‏:‏ أن الأمر يجاب، وأن قوله ها هنا ‏{‏يقولوا‏}‏ إنما هو جواب ‏{‏قل‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يصح المعنى على هذا بأن يجعل ‏{‏قل‏}‏ مختصة بهذه الألفاظ على معنى أن يقول لهم النبي‏:‏ قولوا التي هي أحسن؛ وإنما يصح بأن يكون ‏{‏قل‏}‏ أمراً بالمحاورة في هذا المعنى بما أمكن من الألفاظ، كأنه قال بين لعبادي، فتكون ثمرة ذلك القول والبيان قولهم ‏{‏التي هي أحسن‏}‏، وهذا المعنى يجوزه مذهب سيبويه الذي قدمنا ومذهب أبي العباس المبرد‏:‏ أن ‏{‏يقولوا‏}‏ جواب لأمر محذوف، تقديره‏:‏ وقل لعبادي «قولوا التي هي أحسن» يقولوا فحذف وطوي الكلام، ومذهب الزجاج‏:‏ أن ‏{‏يقولوا‏}‏ جزم بالأمر، بتقدير ‏{‏قل لعبادي‏}‏ ليقولوا، فحذفت اللام لتقدم الأمر، وحكى أبو علي في الحلبيات في تضاعيف كلامه‏:‏ أن مذهب أبي عثمان المازني في ‏{‏يقولوا‏}‏ أنه فعل مبني، لأنه مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر؛ لأن المعنى ‏{‏قل لعبادي‏}‏ قولوا، واختلف الناس في ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ هي لا إله إلا الله، ويلزم على هذا أن يكون قوله ‏{‏لعبادي‏}‏ يريد به جميع الخلق، لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله‏.‏

ويجيء قوله بعد ذلك ‏{‏إن الشيطان ينزع بينهم‏}‏ غير مناسب للمعنى، إلا على تكره، بأن يجعل ‏{‏بينهم‏}‏ بمعنى خلالهم، وأثناءهم، ويجعل النزع بمعنى الوسوسة والإضلال، وقال الجمهور‏:‏ ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ هي المحاورة الحسنى بحسب معنى قال الحسن‏:‏ يقول‏:‏ يغفر الله لك، يرحمك الله، وقوله ‏{‏لعبادي‏}‏ خاص بالمؤمنين، فكأن الآية بمعنى قوله عليه السلام، «وكونوا عباد الله إخواناً» ثم اختلفوا، فقالت فرقة‏:‏ أمر الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب، وخفض الجناح، وإلانة القول، واطراح نزغات الشيطان، وقالت فرقة‏:‏ إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بالإنة القول للمشركين بمكة، أيام المهادنة، وسبب الآية‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة، فسبه عمر وهم بقتله، فكاد أن يثير فتنة، فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف، وقرأ الجمهور‏:‏ «ينزَغ» بفتح الزاي، وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ «ينزغ»، بكسر الزاي على الأصل قال أبو حاتم‏:‏ لعلها لغة، والقراءة بالفتح، ومعنى النزغ‏:‏ حركة الشيطان بسرعة ليوجب فساداً، ومنه قول النبي عليه السلام «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزع الشيطان في يده» فهذا يخرج اللفظة عن الوسوسة، و«عداوة الشيطان البينة» هي قصته مع آدم عليه السلام فما بعد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ الآية، هذه الآية تقوي أن التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة؛ وذلك أن هذه المخاطبة في قوله ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ هي لكفار مكة بدليل قوله ‏{‏وما أرسلناك عليهم وكيلاً‏}‏ فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال للكفار إنه أعلم بهم، ورجاهم وخوفهم، ومعنى ‏{‏يرحمكم‏}‏ بالتوبة عليكم من الكفر، قاله ابن جريج وغيره، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإنما عليك البلاغ، ولست بوكيل على إيمانهم ولا بد، فتتناسب الآيات بهذا التأويل ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه السلام ‏{‏وربك أعلم بمن في السماوات والأرض‏}‏ وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم، فهذه إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشراً، المعنى‏:‏ لا تنكروا أمر محمد عليه السلام، وإن أوتي قرآناً، فقد فضل النبيون، وأوتي داود زبوراً، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته، وتفضيل بعض الرسل، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد أفضل البشر، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس، وإما أن يكون التفضيل مقسماً فيهم‏:‏ أعطي هذا التكليم، وأعطيت هذه الخلفة، ومحمد الخمس، وعيسى الإحياء، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق، وقوله ‏{‏بمن في السماوات‏}‏، الباء متعلقة بفعل تقديره، علم من في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها ب ‏{‏أعلم‏}‏ لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لا يلزم ويصح تعلقها ب ‏{‏أعلم‏}‏ ولا يلتفت لدليل الخطاب وقرأ الجمهور‏:‏ «زَبوراً» بفتح الزاي، وهو فَعول بمعنى مفعول، وهو قليل لم يجئ إلا في قدوع وركوب وحلوب، وقرأ حمزة ويحيى والأعمش «زُبوراً» بضم الزاي، وله وجهان‏:‏ أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد، كما قالوا في جمع ظريف، ظروف، والآخر، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود، جزئ أجزاء كل جزء منها زبر، سمي بمصدر زبر يزبر، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور، فكأنه قال‏:‏ آتينا داود كتباً، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيراً، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، في آخر كتاب مسلم‏:‏ «وأهل النار خمسة‏:‏ الضعيف الذي لا زبر له»، قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم في هذه الآية، ليسوا عبدة الأصنام، وإنما هم عبدة من يعقل، واختلف في ذلك‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ هي في عبدة العزير والمسيح وأمه ونحوهم، وقال ابن عباس أيضاً، وابن مسعود‏:‏ هي في عبدة الملائكة، وقال ابن مسعود أيضاً‏:‏ هي في عبدة شياطين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أولئك الشياطين، وعبدتهم بقوا يعبدونهم فنزلت الآية في ذلك‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ هي في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه، وأي ذلك كان، فمعنى الآية‏:‏ قل لهؤلاء الكفرة ‏{‏ادعوا‏}‏ عند الشدائد، و‏{‏الضر‏}‏ هؤلاء المعبودين، فإنهم لا يملكون كشفه ولا تحويله عنكم، ثم أخبرهم على قراءة ابن مسعود وقتادة «تدعون» بالتاء، أو أخبر النبي عليه السلام على قراءة الجمهور، «يدعون» بالياء من تحت، أن هؤلاء المعبودين، يطلبون التقرب إلى الله والتزلف إليه وأن هذه حقيقة حالهم، وقرأ ابن مسعود «إلى ربك»، والضمير في ‏{‏ربهم‏}‏ للمتبعين أو للجميع، و‏{‏الوسيلة‏}‏، هي القربة، وسبب الوصول إلى البغية، وتوسل الرجل‏:‏ إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما، وقال عنترة‏:‏

إن الرجال لهم إليك وسيلة *** ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ «من سأل الله لي الوسيلة» الحديث‏.‏ و‏{‏أيهم‏}‏ ابتداء، و‏{‏أقرب‏}‏ خبر، و‏{‏أولئك‏}‏ يراد به المعبودون وهو‏:‏ ابتداء خبره ‏{‏يبتغون‏}‏ والضمير في ‏{‏يدعون‏}‏ للكفار، وفي ‏{‏يبتغون‏}‏ للمعبودين، والتقدير‏:‏ نظرهم ووكدهم أيهم أقرب وهذا كما قال عمر بن الخطاب في حديث الراية بخيبر‏:‏ فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها أي يتبارون في طلب القرب، وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله، وقال ابن فورك وغيره‏:‏ إن الكلام من قوله ‏{‏أولئك الذين‏}‏ راجع إلى النبيين المتقدم ذكرهم، ف ‏{‏يدعون‏}‏ على هذا من الدعاء، بمعنى الطلبة إلى الله، والضمائر لهم في ‏{‏يدعون‏}‏ وفي ‏{‏يبتغون‏}‏ وباقي الآية بين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من قرية‏}‏ الآية‏:‏ أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء، هذا مع السلامة وأخذها جزءاً أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة فهذا عموم في كل مدينة و‏{‏من‏}‏ لبيان الجنس، وقيل المراد الخصوص ‏{‏وإن من قرية‏}‏ ظالمة، وحكى النقاش أنه وجد في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية استقراء البلاد المعروفة اليوم، وذكر الهلاك كل قطر منها صفة، ثم ذكر نحو ذلك عن وهب بن منبه، فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش فيها، وتركت سائرها لعدم الصحة في ذلك، والمعلوم أن كل قرية تهلك، إما من جهة القحوط والخسف غرقاً، وإما من الفتن، أو منهما، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل، فأما ما هلك بالفتنة، فعن ظلم ولا بد، إما في كفر أو معاص، أو تقصير في دفاع، وحزامة، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء، وكذلك الخسف‏.‏

وقوله ‏{‏مهلكوها‏}‏ الضمير لها، وفي ضمن ذلك الأهل، وقوله ‏{‏معذبوها‏}‏ هو على حذف مضاف، فإنه لا يعذب إلا الأهل، وقوله ‏{‏في الكتاب‏}‏ يريد في سابق القضاء، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ، و«المسطور» المكتوب إسطاراً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نرسل‏}‏ الآية، هذه العبارة في معناها هي على ظاهر ما تفهم العرب، فسمى سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه منعاً، وأن الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، والتقدير‏:‏ وما منعنا الإرسال إلا التكذيب، وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض، فأوحى الله إلى محمد عليه السلام، إن شئت أن أفعل ذلك لهم، فإن تأخروا عن لاإيمان عاجلتهم العقوبة، وإن شئت استأنيت بهم، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل تستأني بهم يا رب»، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يمنعه من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستيناء، إذ قد سلفت عادته بمعالجة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة فلم يؤمنوا، قال الزجاج‏:‏ أخبر تعالى أن موعد كفار هذه الأمة الساعة، بقوله ‏{‏بل الساعة موعدهم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 46‏]‏، فهذه الآية تنظر إلى ذلك، ثم ذكر أمر ثمود، احتجاجاً إن قال منهم قائل نحن كنا نؤمن لو جاءتنا آية اقترحناها ولا نكفر بوجه، فذكر الله تعالى ثمود، بمعنى‏:‏ لا تؤمنون إن تظلموا بالآية كما ظلمت ثمود بالناقة، وقرأ الجمهور‏:‏ «ثمود» بغير تنوين، قال هارون‏:‏ أهل الكوفة ينونون «ثموداً» في كل وجه، قال أبو حاتم‏:‏ لا تنون العامة والعلماء بالقرآن «ثمود» في وجه من الوجوه، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة، ونحن نقرؤها بغير ألف، وقوله ‏{‏مبصرة‏}‏ على جهة النسب أي معها إبصار، كما قال‏:‏ ‏{‏آية النهار مبصرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ أي معها إبصار ممن ينظر، وهذا عبارة عن بيان أمرها، ووضوح إعجازها، وقرأ قوم «مُبصَرة» بضم الميم وفتح الصاد، حكاه الزجاج، ومعناه متبينة، وقرأ قتادة «مَبصَرة» بفتح الميم والصاد، وهي مَفعَلة من البصر ومثله قول عنترة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

الكفر مخبثة لنفس المنعم *** وقوله ‏{‏فظلموا بها‏}‏ أي وضعوا الفعل غير موضعه، أي بعقرها، وقيل بالكفر في أمرها، ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يرسل ‏{‏بالآيات‏}‏ غير المقترحة ‏{‏تخويفاً‏}‏ للعباد، وهي آيات معها إمهال لا معاجلة، فمن ذلك الكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك، قال الحسن والموت الذريع، وروي أن الكوفة رجفت في مدة عبد الله بن مسعود‏.‏ فقال‏:‏ أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه، ومن هذا قول النبي علي السلام في الكسوف‏:‏ «فافزعوا إلى الصلاة» الحديث، وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام‏:‏ فقسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية، وهنا فكرة العلماء، وقسم معتاد غباً كالرعد والكسوف ونحوه، وهنا فكرة الجهلة فقط، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوءة، وإنما يعتبر به توهماً لما سلف منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

قال الطبري‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس‏}‏ أي في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك، فالآية إخبار له بأنه محفوظ من الكفرة، آمن أن يقتل أو ينال بمكروه عظيم، أي فالتبليغ رسالة ربك، ولا تتهيب أحداً من المخلوقين، وهذا تأويل بيّن جار مع اللفظ، وقد روي نحوه عن الحسن بن أبي الحسن والسدي، إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده، توطئة له، فأقول‏:‏ اختلف الناس في ‏{‏الرؤيا‏}‏، فقال الجمهور‏:‏ هي رؤيا عين ويقظة، وهي ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، قالوا‏:‏ فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء بما رأى في تلك الليلة من العجائب، قال الكفار إن هذا لعجيب تحت الحداة إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً، ويقول محمد إنه جاءه من ليلة وانصرف منه، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفة المسلمين، فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآيات فعلى هذا، يحسن أن يكون معنى قوله ‏{‏وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس‏}‏ أي‏:‏ في إضلالهم وهدايتهم، وأن كل واحد ميسر لما خلق له، أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر، ولا تحزن عليهم، فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم، وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر، وسميت الرؤية في هذا التأويل «رؤيا»، إذ هما مصدران من رأى، وقال النقاش جاء ذلك على اعتقاد من اعتقد أنها منامة وإن كانت الحقيقة غير ذلك‏.‏ وقالت عائشة ‏{‏الرؤيا‏}‏ في الإسراء رؤيا منام، وهذا قول الجمهور على خلافه، وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها، وقد ذكر هذا مستوعباً في صدر السورة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الرؤيا‏}‏ التي في هذه الآية، هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة، فعجل في سنة الحديبية فرد، فافتتن المسلمون بذلك، فنزلت الآيات، وقال سهل بن سعد‏:‏ إنما هذه «الرؤيا» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر، إنما يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً، ويجيء قوله ‏{‏أحاط بالناس‏}‏ أي بأقداره، وأن كل ما قدره نافذ، فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك وقد قال الحسن بن علي، في خطبته في شأن بيعته لمعاوية ‏{‏وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين‏}‏

‏[‏الأنبياء‏:‏ 111‏]‏، وفي هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه «الرؤيا» عثمان بن عفان، ولا عمر بن عبد العزيز، ولا معاوية، وقوله ‏{‏والشجرة الملعونة في القرآن‏}‏‏:‏ معطوفة على قوله ‏{‏الرؤيا‏}‏، أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة ‏{‏والشجرة‏}‏ هنا في قول الجمهور هي شجرة الزقوم، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة الصافات قال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر، والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد، ثم أمر أبو جهل جارية له، فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه تزقموا، فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله نبيه أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختباراً ليكفر من سبق عليه الكفر، ويصدق من سبق له الإيمان، كما روي أن أبا بكر الصديق، قيل له، صبيحة الإسراء إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة بيت المقدس وانصرف منه فقال إن كان قال ذلك فلقد صدق، فقيل له‏:‏ أتصدقه قبل أن تسمع منه، قال‏:‏ أين عقولكم، أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس والسماء أبعد منها بكثير‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏والشجرة‏}‏‏:‏ إشارة إلى القوم المذكورين قبل في ‏{‏الرؤيا‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول ضعيف محدث، وليس هذا عن سهل بن سعد، ولا مثله، وقال الطبري عن ابن عباس‏:‏ إن ‏{‏الشجرة الملعونة‏}‏ يريد الملعون آكلها، لأنها لم يجر لها ذكر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويصح أن يريد ‏{‏الملعونة‏}‏، هنا فأكد الأمر بقوله ‏{‏في القرآن‏}‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏الملعونة‏}‏، المبعدة المكروهة، وهذا أراد لأنها لعنها بلفظ اللعنة المتعارف، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله، وأيضاً فما ينبت في أصل الجحيم، فهو في نهاية البعد من رحمة الله، وقوله ‏{‏ونخوفهم‏}‏ يريد‏:‏ إما كفار مكة، وإما الملوك من بني أمية بعد الخلافة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم، «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عضوضاً» والأول منها أصوب كما قلنا قبل، وقوله ‏{‏فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً‏}‏ يريد كفرهم وانتهاكهم فيه كقول أبي جهل في الزقوم والتزقم، فقد قال النقاش إن في ذلك نزلت، وفي نحوه وقرأ الأعمش «ويخوفهم» وقرأ الجمهور و«ونخوفهم» بالنون‏.‏