فصل: تفسير الآيات رقم (6- 9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام، وقوله ‏{‏فلعلك‏}‏ تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك، و«الباخع نفسه» هو مهلكها وجداً وحزناً على أمر ما، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه *** لشيء نحته عن يديه المقادر

يريد نحته فخفف وقوله ‏{‏على آثارهم‏}‏، استعارة فصيحة، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم، وقوله ‏{‏بهذا الحديث‏}‏ أي بالقرآن الذي يحدثك به، و‏{‏أسفاً‏}‏ نصب على المصدر، قال الزجاج‏:‏ و«الأسف» المبالغة في حزن أو غضب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و«الأسف» في هذا الموضع الحزن، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضباً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما آسفونا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏ أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة‏:‏ هنا ‏{‏أسفاً‏}‏ غضباً، قال مجاهد ‏{‏أسفاً‏}‏ جزعاً وقال قتادة أيضاً‏:‏ حزناً، ومن هذه اللفظة قول الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أرى رجلاً منكم أسيفاً كأنما *** يضم إلى كشحيه كفّاً مخضبا

يريد حزيناً كأنه مقطوع اليد، وقوله ‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة‏}‏، الآية بسط في التسلية أي لا تهتم للدنيا وأهلها فأمرها وأمرهم أقل بفنائه وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحاناً وخبرة، واختلف في المراد، ب ‏{‏ما‏}‏، فقال ابن جبير عن ابن عباس‏:‏ أراد الرجال وقاله مجاهد، وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء، وقالت فرقة أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل في هذا الجبال الصم وكلا ما لا زين فيه كالحيات والعقارب، وقالت فرقة‏:‏ أراد كل ما على الأرض عموماً وليس شيء إلا فيه زينة من جهة خلقه وصنعته وإحكامه‏.‏ وفي معنى هذه الآية، قول النبي عليه السلام‏:‏ «الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» و‏{‏زينة‏}‏ مفعول ثاني أو مفعول من أجله بحسب معنى «جعل»‏.‏ وقوله ‏{‏لنبلوهم أيهم أحسن عملاً‏}‏ أي لنختبرهم وفي هذا وعيد ما، قال سفيان الثوري‏:‏ ‏{‏أحسنهم عملاً‏}‏ أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العسقلاني‏:‏ أحسن عملاً‏:‏ أترك لها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكان أبي رضي الله عنه يقول‏:‏ أحسن العمل أخذ بحق واتفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه‏.‏ وقوله ‏{‏وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً‏}‏، أي يرجع كل ذلك تراباً غير متزين بنبات ونحو، و«الجرز» الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة، فهي البلقع، وهذه حالة الأرض العامرة الخالية بالدين لا بد لها من هذا في الدنيا جزءاً جزءاً من الأرض ثم يعمها ذلك بأجمعها عند القيامة، يقال‏:‏ جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه إذا ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها ولا نفع، وأرضون أجراز، قال الزجاج‏:‏ والجرز الأرض التي لا تنبت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما ينبغي أن يقول‏:‏ التي لم تنبت، و«الصعيد» وجه الأرض وقيل «الصعيد» التراب خاصة، وقيل «الصعيد» الأرض الطيبة وقيل، «الصعيد» الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسبت‏}‏ الآية، مذهب سيبويه في ‏{‏أم‏}‏ إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام كأنه قال‏:‏ بل أحسبت إضراباً عن الحديث الأول واستفهاماً عن الثاني وقال بعض النحويين‏:‏ هي بمنزلة ألف الاستفهام، وأما معنى الكلام فقال الطبري‏:‏ هو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجباً بمعنى إنكار ذلك عليه أي لا تعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشنع، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق، وذكر الزهراوي‏:‏ أن الآية تحتمل معنى آخر وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق، وذكر الزهراوي‏:‏ أن الآية تحتمل معنى آخر وهو أن تكون استفهاماً له هل علم أصحاب الكهف عجباً، بمعنى إثبات أنهم عجب وتكون فائدة تقريره جمع نفسه لام لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته فيقال له‏:‏ وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظه حسبت فتأمله، و‏{‏الكهف‏}‏ النقب المتسع في الجبل وما لم يتسع منها فهو غار، وحكى النحاس عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ ‏{‏الكهف‏}‏ الجبل وهذا غير شهير في اللغة، واختلف الناس في ‏{‏الرقيم‏}‏، فقال كعب، ‏{‏الرقيم‏}‏ القرية التي كانت بإزاء ‏{‏الكهف‏}‏، وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ ‏{‏الرقيم‏}‏ الوادي الذي كان بإزائه وهو واد بين عصبان وأيلة دون فلسطين، وقال ابن عباس أيضاً هو الجبل الذي فيه ‏{‏الكهف‏}‏، وقال السدي‏:‏ ‏{‏الرقيم‏}‏ الصخرة التي كانت على ‏{‏الكهف‏}‏، وقال ابن عباس ‏{‏الرقيم‏}‏ كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى، وقيل من دين قبل عيسى، وقال ابن زيد‏:‏ كتاب عمى الله علينا أمره ولم يشرح لنا قصته، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏الرقيم‏}‏ كتاب في لوح نحاس، وقال ابن عباس‏:‏ في لوح رصاص كتب فيه القوم الكفار الذين فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخاً لهم ذكروا وقت فقدهم وكم كانوا وبني من كانوا، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏الرقيم‏}‏ لوح من حجارة كتبوا فيه قصة ‏{‏أصحاب الكهف‏}‏ ووضعوه على باب الكهف، ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوماً مؤرخين للحوادث وذلك من قبل المملكة وهو أمر مفيد، وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ومنه كتاب مرقوم، ومنه الأرقم لتخطيطه، ومنه رقمة الوادي أي مكان جري الماء وانعطافه يقال عليك بالرقمة وخل الضفة وقال النقاش عن قتادة‏:‏ ‏{‏الرقيم‏}‏ دراهمهم، وقال أنس بن مالك والشعبي ‏{‏الرقيم‏}‏ الكلب، وقال عكرمة ‏{‏الرقيم‏}‏ الدواة، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏الرقيم‏}‏ كان لفتية آخرين في السراة جرى لهم ما جرى ل ‏{‏أصحاب الكهف‏}‏، وروي عن ابن عباس أنه قال ما أدري ما ‏{‏الرقيم‏}‏ أكتاب أو بنيان، وروي أنه قال‏:‏ كل بالقرآن أعلمه إلا الحنان والأواه والرقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏الفتية‏}‏ فيما روي، قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه دقليوس، ويقال دقينوس، وروي أنهم كانوا مطوقين بالذهب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى، وقيل كانوا قبل عيسى، وأما أسماؤهم فهي أعجمية، والسند في معرفتها واه، ولكن التي ذكر الطبري هي هذه، مكسيليمنيا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومجسيلينيا وتمليخا وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، مرطوس وكشوطونس، وبيرونس، ودينموس، ويطونس، واختلف الرواة في قصص هؤلاء الفتية وكيف كان اجتماعهم وخروجهم إلى الكهف‏؟‏ وأكثر المؤرخون في ذلك، ولكن نختصر من حديثهم ونذكر ما لا تستغني الآية عنه، ونذكر من الخلاف عيونه بحول الله، روى مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة فوقع للفتية علم من بعض النحويين حسب ما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم بحسب الخلاف الذي ذكرناه، فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرفع أمرهم إلى الملك، وقيل له إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك في مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما روي ‏{‏ربنا رب السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 14‏]‏ إلى قوله ‏{‏وإذ اعتزلتموهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 16‏]‏، وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم، بل أستأني، فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلاً، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم إني أعرف كهفاً في جبل كذا كان أبي يدخل فيه غنمه، فلنذهب إليه فنختفي فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم، وقيل إنهم كانوا مثقفين فحضر عيد أخرجوا له فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا في اللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك، وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم كانوا من أبناء الأشراف فحضر عيد لأهل المدينة فرأى الفتيان ما يمتثله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام والذبح لها، فوقع الإيمان في قلوبهم وأجمعوا على مفارقة الناس لئلا ينالهم العذاب معهم، فزايلوا الناس، وذهبوا إلى الكهف، وروى وهب بن منبه أن أمرهم إنما كان أن حوارياً لعيسى ابن مريم، جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فآجر نفسه من صاحب الحمام فكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة، فنشر فيهم الإيمان وعرفهم الله تعالى، فآمنوا واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به، فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة بغي أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاءه مرة أخرى فنهاه فشتمه وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعاً، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتله، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف، وقال عبيد بن عمير‏:‏ إن أصحاب الكهف كانوا فتية أبناء العظماء مطوقين مسورين ذوي ذوائب قد داخلهم الإيمان أفذاذاً، وأزمع واحد منهم الفرار بدينه من بلد الكفر، فأخرجهم الله في يوم واحد لما أراده بهم، فخرج أحدهم فجلس في ظل شجرة على بعد من المدينة، فخرج ثان، فلما رأى الجالس جلس إليه، ثم الثالث ثم الباقون حتى كمل جميعهم في ظل الشجرة، فألقى الله في نفوسهم أن غرضهم واحد، فتساءلوا، ففزع بعضهم من بعض وتكتموا، ثم تراضوا برجلين منهم، وقالوا لنفرد أو تواثقا وليفش كل واحد منكما سره إلى صاحبه، فإن اتفقتما كنا معكما، فنهضا بعيداً وتكلما فأفصحا بالإيمان والهروب بالدين فرجعا وفضحا الأمر وتابعهما الآخرون ونهضوا إلى الكهف، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلب معهم، واسم الكلب حمران، وقل قطير، فدخلوا الغار على جميع هذه الأقوال فروت فرقة أن الله عز وجل «ضرب على آذانهم» عند ذلك لما أراده من سترهم، وخفي على أهل المملكة مكانهم، وعجب الناس من غرابة فقدهم، فأرخوا ذلك ورقموه في لوحين من رصاص أو نحاس، وجعلوه على باب المدينة فيه اسماؤهم وأسماء آبائهم وذكر شرفهم، وأنهم فقدوا بصورة كذا في وقت كذا، وقيل إن الذي كتب هذا وتهمم به رجلان قاضيان مؤمنان يكتمان إيمانهما من أهل بيت المملكة، وتسترا بذلك ودفنا اللوحين عندهما‏:‏ وقيل على الرواية بأن الملك أتى باب الغار، وأنهما دفنا ذلك في بناء الملك على الغار، وروت فرقة أن الملك لما ذهب الفتية أمر بقص آثارهم، فانتهى ذلك بمتبعيهم إلى باب الغار، فعرف الملك، فركب في جنده حتى وقف عليه، فأمر بالدخول عليهم فهاب الرجال ذلك، فقال له بعض وزرائه ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم، قال نعم، قال فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش، ابن عليهم باب الغار ودعهم يموتوا فيه، ففعل، وقد «ضرب الله على آذانهم» قبل ذلك لما أراد من تأمينهم، وأرخ الناس أمرهم في اللوحين، أو أرخه الرجلان بحسب الخلاف، واسم أحد الرجلين فيما ذكر الطبري بندروس، واسم الآخر روناس، وروي أن هذا الملك الذي فر الفتية من دينه، كان قد امتحن الله به المؤمنين حيث أحس بهم، يقتلهم ويعلقهم أشخاصاً ورؤوساً على أسوار مدينته، وكان يريد أن يذهب فيما ذكر، دين عيسى، وكان هو وقومه من الروم، ثم أخبر الله تعالى عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف أي دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام، دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة، وهي الرزق فيما ذكر المفسرون، وأن يهيئ لهم من أمرهم ‏{‏رشداً‏}‏ أي خلاصاً جميلاً، وقرأ الجمهور «رَشَداً» بفتح الراء والشين، وقرأ أبو رجاء «رُشْداً» بضم الراء وسكون الشين، والأولى أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط، فإنها كافية، ويحتمل ذكر «الرحمة» أن يراد بها أمر الآخرة وقد اختصرت هذا القصص، ولم أغفل من مهمه شيئاً بحسب اجتهادي، والله المعين برحمته، وقوله ‏{‏فضربنا على آذانهم‏}‏ الآية عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم، ويعبر عن هذا ونحوه ب «الضرب» لتبين قوة المباشرة وشدة اللصوق في الأمر المتكلم فيه والإلزام، ومنه ضرب الذلة والمسكنة، ومنه ضرب الجزية، ومنه ضرب البعث‏.‏

ومنه قول الفرزدق‏:‏ الكامل‏]‏

ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتاب المنزل

فهذا يستعمل في اللزوم البليغ، وأما تخصيص «الآذان» بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلَّما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع، ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى الله عليه وسلم «ذلك رجل بال الشيطان في أذنه» أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم لا يقوم بالليل، وقوله «عدداً» نعت للسنين، والقصد به العبارة عن التكثير، أي تحتاج إلى عدد وهي ذات عدد، قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يكون نصب ‏{‏عدداً‏}‏ على المصدر، و«البعث» التحريك بعد سكون، وهذا مطرد مع لفظة البعث حيث وقعت، وقد يكون السكون في الشخص أو عن الأمر المبعوث فيه وإن كان الشخص متحركاً، وقوله ‏{‏لنعلم‏}‏ عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود، وهذا على نحو كلام العرب أي لنعلم ذلك موجوداً، وإلا فقد كان الله تعالى علم ‏{‏أي الحزبين‏}‏ أحصى الأمد وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء، و«الحزبان» الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إذ ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين، وقالت فرقة‏:‏ هما حزبان من الكافرين اختلفا في مدة أصحاب الكهف، وقالت فرقة‏:‏ هما حزبان من المؤمنين، وهذا لا يرتبط من ألفاظ الآية، وأما قوله ‏{‏أحصى‏}‏ فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض، و‏{‏أمداً‏}‏ منصوب به على المفعول، و«الأمد» الغاية، وتأتي عبارة عن المدة من حيث للمدة غاية هي أمدها على الحقيقة، وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏أحصى‏}‏ هو أفعل، و‏{‏أمداً‏}‏ على هذا نصب على التفسير، ويلحق هذا القول من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و‏{‏أحصى‏}‏ فعل رباعي، ويحتج لقول أبي إسحاق بأن أفعل من الرباعي قد كثر، كقولك ما أعطاه للمال، وآتاه للخير، وقال النبي عليه السلام في صفه جهنم‏:‏

«هي أسود من القار» وقال في صفة حوضه عليه السلام «ماؤه أبيض من اللبن» وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فهو لما سواها أضيع» وهذه كلها أفعل من الرباعي، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أمداً‏}‏ معناه عدداً، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب، وقال الطبري‏:‏ نصب ‏{‏أمداً‏}‏ ب ‏{‏لبثوا‏}‏، وهذا غير متجه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

لما اقتضى قوله ‏{‏لنعلم أي الحزبين أحصى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 12‏]‏ اختلافاً وقع في أمر الفتية، عقب بالخير عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم ‏{‏بالحق‏}‏ الذي وقع، وفي مجموع هذه الآيات جواب قريش عن سؤالهم الذي أمرتهم به بنو إسرائيل‏.‏ و«القص» الإخبار بأمر يسرد، لا بكلام يروى شيئاً شيئاً، لأن تلك المخاطبة ليست بقصص، وقوله ‏{‏وزدناهم هدى‏}‏ أي يسرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عز وجل ومباعدة الناس والزهد في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان‏.‏ وقوله ‏{‏وربطنا على قلوبهم‏}‏ عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال‏:‏ فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها، ومنه الربط على قلب أم موسى، وقوله ‏{‏إذ قاموا فقالوا‏}‏ يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد، وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول، وقرا الأعمش «إذ قاموا قياماً فقالوا»، وقولهم‏:‏ ‏{‏لقد قلنا إذاً شططاً‏}‏ أي لو دعونا من دون ربنا إلهاً، والشطط الجور، وتعدي الحد والغلو بحسب الأمر، ومنه اشتط الرجل في السوم إذا طلب في سلعته فوق قيمتها، ومنه شطوط النوى والبعد، ومن اللفظة قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألا يالقومي قد اشتط عواذلي *** ويزعمن أن أودى بحقي باطلي

وقولهم‏:‏ ‏{‏هؤلاء قومنا‏}‏ مقالة تصلح أن تكون مما قالوا في مقامهم بين يدي الملك، وتصلح أن تكون من قول بعضهم لبعض عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه، وقولهم‏:‏ ‏{‏لولا يأتون‏}‏ تحضيض بمعنى التعجيز، لأنه تحضيض على ما لا يمكن، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن تلفت دعواهم، و«السلطان» الحجة، وقال قتادة‏:‏ المعنى بعذر بين، وهذه عبارة محلقة، ثم عظموا جرم الداعين مع الله آلهة وظلمهم بقوله على جهة التقرير ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ وقولهم ‏{‏وإذ اعتزلتموهم‏}‏ الآية أن القيام في قوله ‏{‏إذ قاموا‏}‏ عزماً كما تضمن التأويل الواحد وكان القول منهم فيما بينهم فهذه المقالة يصح أن تكون من قولهم الذي قالوه عند قيامهم، وإن كان القيام المذكور مقامهم بين يدي الملك فهذه المقالة لا يترتب أن تكون من مقالهم بين يدي الملك، بل يكون في الكلام حذف تقديره وقال بعضهم لبعض، وبهذا يترجح أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قاموا فقالوا‏}‏ إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم، وقوله ‏{‏إلا الله‏}‏ إن فرضنا الكفار الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ولا علم لهم به، وإنما يعتقدون الألوهية في أصنامهم فقط، فهو استثناء منقطع ليس من الأول، وإن فرضناهم يعرفون الله ويعظمونه كما كانت تفعل العرب لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل، لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله تعالى، وفي مصحف ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله»، قال قتادة هذا تفسيرها، قال هارون وفي بعض مصاحفه «وما يعبدون من دوننا»، فعلى ما قال قتادة تكون ‏{‏إلا‏}‏ بمنزلة غير، و‏{‏ما‏}‏ من قوله ‏{‏وما يعبدون‏}‏ في موضع نصب عطفاً على الضمير في قوله ‏{‏اعتزلتموهم‏}‏، ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض إذ فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله تعالى فإنه سيبسط لنا رحمته وينشرها علينا ويهيئ لنا من أمرنا ‏{‏مرفقاً‏}‏، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة من الله كانوا في أمر آخرتهم، وقرأ نافع وابن عامر «مَرفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء، وهو مصدر كالرفق فيما حكى أبو زيد، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق «مِرفَقاً» بكسر الميم وفتح الفاء، ويقالان جميعاً في الأمر وفي الجارحة، حكاه الزجاج، وذكر مكي عن الفراء أنه قال‏:‏ لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون «المرفق» من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء، وخالفه أبو حاتم، وقال «المَرفق» بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما بعد لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

بين هاتين الآيتين اقتضاب يبينه ما تقدم من الآيات، تقديره فآووا وضرب الله على آذانهم ومكثوا كذلك، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تزّاور» بتشديد الزاي وإدغام التاء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تزَاور» بتخفيفها بتقدير تتزاور فحذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن عامر وابن أبي إسحاق وقتادة «تزور» في وزن تحمر، وقرأ الجحدري وأبو رجاء «تزوار» بألف بعد الواو، ومعنى اللفظة على كل هذا التصريف تعدل وتروغ وتميل، وهذه عبارات المفسرين، أما أن الأخفش قال «تزور» معناه تنتقض والزور الميل، والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين كقول ابن أبي ربيعة‏:‏

وجنبي خيفة القوم أزور *** ومن اللفظة قول عنترة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

فازور من وقع القنا بلبانه *** ومنه قول بشر بن أبي حازم‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تؤم بها الحداة مياه نخل *** وفيها عن أبانين ازورار

وفي حديث غزوة مؤتة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سرير جعفر وزيد بن حارثة، وقرأ الجمهور «تقرضهم» بالتاء، وفرقة «يقرضهم» بالياء، أي الكهف كأنه من القرض وهو القطع، أي يقتطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس، وجمهور من قرأ بالتاء، فالمعنى أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة وهو قول ابن عباس، فيتأولون «تقرضهم» بمعنى تتركهم، أي كأنها عنده تقطع كلّ ما لا تناله عن نفسها، وفرقة ممن قرأ بالتاء تأول أنها كانت بالعشي تنالهم، فكأنها «تقرضهم» أي تقتطعهم مما لا تناله، وقالوا كان في مسها لهم بالعشي صلاح لأجسامهم، وحكى الطبري أن العرب تقول‏:‏ قرضت موضع كذا أي قطعته، ومنه قول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف *** شمالاً وعن أيمانهن الفوارس

ومنه أقرضني درهماً أي اقطعه لي من مالك، وهذه الصفة مع ‏{‏الشمس‏}‏ تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته، وحكى الزجاج وغيره قال‏:‏ كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش، وقاله عبد الله بن مسلم وهذا نحو ما قلناه، غير أن الكهف كان مستور الأعلى من المطر، وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك، وقوله ‏{‏ذات اليمين وذات الشمال‏}‏ يحتمل أن يريد ذات يمين الكهف بأن نقدر باب الكهف بمثابة وجه إنسان فإن الشمس تجيء منه أول النهار عن يمين، وآخره عن شمال، ويحتمل أن يريد ذات يمين الشمس وذات شمالها، بأن نقدر الشعاع الممتد منها إلى الكهف بمثابة وجه إنسان، والوجه الأول أصح و«الفجوة» المتسع وجمعها فجى، قال قتادة‏:‏ في فضاء منه، ومنه الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنف فإذا وجد فجوة نص، وقال ابن جبير‏:‏ ‏{‏في فجوة‏}‏ في مكان داخل، وقوله ‏{‏ذلك من آيات الله‏}‏ الإشارة إلى الأمر بجملته، وعلى قول الزجاج إن الشمس كانت تزاور وتقرض دون جحاب تكون الإشارة إلى هذا المعنى خاصة ثم تابع بتعظيم الله عز وجل والتسليم له وما يقتضي صرف الآمال إليه، وقوله ‏{‏وتحسبهم‏}‏ الآية، صفة حال قد نقضت وجاءت أفعالها مستقبلة تجوزاً واتساعاً و‏{‏أيقاظاً‏}‏ جمع يقظ كعضد وأعضاد، وهو المنتبه قال أهل التفسير‏:‏ كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون، فلذلك كان الرائي يحسبهم ‏{‏أيقاظاً‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم، ورب نائم على أحوال لم يتغير عن حالة اليقظة فيحسبه الرائي يقظاناً وإن كان مسدود العينين، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ، وقرأ الجمهور «ونقلبهم» بنون العظمة، وقرأ الحسن «وَتَقلُّبُهم» بالتاء المفتوحة وضم اللام والباء، وهو مصدر مرتفع بالابتداء، قاله أبو حاتم، وحكى ابن جني القراءة عن الحسن بفتح التاء وضم اللام وفتح الباء، وقال هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال وترى أو تشاهد تقلبهم، وأبو حاتم أثبت، ورأت فرقة أن التقلب هو الذي من أجله كان الرائي يحسبهم ‏{‏أيقاظاً‏}‏ وهذا وإن كان التقلب لمن صادف رؤيته دليلاً على ذلك، فإن ألفاظ الآية لم تسقه إلا خبراً مستأنفاً، وقال أبو عياض‏:‏ كان هذا التقليب مرتين في السنة، وقالت فرقة كل سبع سنين مرة، وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا، وذكر بعض المفسرين أن تقلبهم إنما كان حفظاً من الأرض، وروي عن ابن عباس أنه قال لو مستهم الشمس لأحرقتهم، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وآية الله في نومهم هذه المدة الطويلة وحياتهم دون تغد أذهب في الغرابة من حفظهم مع مس الشمس ولزوم الأرض ولكنها روايات تجلب‏.‏ وتتأمل بعد، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك وهم في غمرة النوم لا ينتبهون كما يعتري كثيراً من النوام، لأن القوم لم يكونوا موتى‏.‏ وقوله ‏{‏وكلبهم‏}‏ أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة كان لصيد أحدهم فيما روي، وقيل كان لراع مروا عليه فصحبهم وتبعه الكلب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحدثني أبي رضي الله عنه، قال‏:‏ سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة‏:‏ إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله، وقيل كان أنمر، وقيل أحمر، وقالت فرقة كان رجلاً طباخاً لهم حكاه الطبري ولم يسم قائله، وقالت فرقة‏:‏ كان أحدهم وكان قعد عند باب الغار طليعة لهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلباً لأنه منها كالكلب من الإنسان، ويقال له كلب الحيار‏:‏ أما أن هذا القول يضعفه بسط الذراعين، فإنهما في العرف من صفة الكلب حقيقة ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ «ولا يبتسط أحدكم ذراعيه في السجود ابتساط الكلب»، وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ «وكالبهم باسط ذراعيه» فيحتمل أن يريد ب «الكالب» هذا الرجل، على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة، المستخفي بنفسه، ويحتمل أن يريد ب «الكالب» الكلب، وقوله ‏{‏باسط ذراعيه‏}‏ أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنها حكاية حال، ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب، و«الوصيد» العتبة لباب الكهف أو موضعها حيث ليست‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير «الوصيد» الفناء، وقال ابن عباس أيضاً «الوصيد» الباب، وقال ابن جبير أيضاً «الوصيد» التراب، والقول الأول أصح، والباب الموصد هو المغلق، أي قد وقف على وصيده، ثم ذكر الله عز وجل ما حفهم من الرعب واكتنفهم من الهيبة، وقرأ «لوِ اطلعت» بكسر الواو جمهور القراء، وقرأ الأعمش وابن وثاب «لوُ اطلعت» بضمها‏.‏ وقد ذكر ذلك عن نافع وشيبة وأبي جعفر، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عباس وأهل مكة والمدينة «لملّئت» بشد اللام على تضعيف المبالغة أي ملئت ثم ملئت ثم ملئت، وقرأ الباقون «لمُلِئت» بتخفيف اللام والتخفيف أشهر في اللغة، وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإذ فتك النعمان بالناس محرماً *** فملئ من كعب بن عوف سلاسله

وقالت فرقة إنما حفهم هذا الرعب لطول شعورهم وأظفارهم، ذكره المهدوي والزجاج، وهذا قول بعيد، ولو كانت حالهم هكذا، لم يقولوا ‏{‏لبثنا يوماً أبو بعض يوم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ وإنما الصحيح في أمرهم، أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها، لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يبل لهم ثوب، ولا تغيرت صفة، ولا أنكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم، ولروي ذلك، وقرأ الجمهور «رعْباً» بسكون العين، وقرأ «رعُباً» بضمها أبو جعفر وعيسى، قال أبو حاتم‏:‏ هما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكر الله في جهتهم، والعبرة التي فعلها فيهم، و«البعث» التحريك عن سكون، واللام في قوله ‏{‏ليتساءلوا‏}‏ لام الصيرورة، لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم، وقول القائل ‏{‏كم‏}‏ لبثتم يقتضي أنه هجس في خاطره طول نومهم، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني، لا تباين التي ناموا فيها، وأما أن يجدد الأمر جداً فبعيد، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم «بورِقكم» بكسر الراء وقرأ أبو عمرو وحده وأبو بكر عن عاصم «بورْقكم» بسكون الراء وهما لغتان، وحكى الزجاج قراءة «بوِرْقكم» بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام، وروي عن أبي عمرو الإدغام، وإنما هو إخفاء، لأن الإدغام مع سكون الراء متعذر، وأدغم ابن محيصن القاف في الكاف قال أبو حاتم‏:‏ وذلك إنما يجوز مع تحريك الراء، وقرأ علي بن أبي طالب «بوارقكم»، اسم جمع كالحامل والباقر، وقرأ أبو رجاء، «بورقكم» بكسر الواو والراء والإدغام، ويروى أنهم انتبهوا جياعاً، وأن المبعوث هو تلميخا، وروي أنهم صلوا كأنما ناموا ليلة واحدة، وبعثوا تلميخا في صبيحتها، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه بطول السنين، وروي أن راعياً هدمه ليدخل فيه غنمه، فأخذ تلميخاً ثياباً رثة منكرة ولبسها، وخرج من الكهف، فأنكر ذلك البناء المهدوم إذ لم يعرفه، ثم مشى فجعل ينكر الطريق والمعالم ويتحير، وهو في ذلك لا يشعر شعوراً تاماً، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة، فرأى على بابها أمارة الإسلام، فزادت حيرته وقال كيف هذا بلد دقيوس، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا، فنهض إلى باب آخر فرأى نحواً من ذلك، حتى مشى الأبواب كلها، فزادت حيرته، ولم يميز بشراً، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى، فاستراب بنفسه وظن أنه جن، أو انفسد عقله، فبقي حيران يدعو الله تعالى، ثم نهض إلى بائع الطعام الذي أراد شراءه فقال يا عبد الله بعني من طعامك بهذه الورق، فدفع إليه دراهم كأخفاف الربع فيما ذكر، فعجب لها البياع، ودفعها إلى آخر بعجبه، وتعاطاها الناس وقالوا له هذه دراهم عهد فلان الملك، من أين أنت، وكيف وجدت هذا الكنز‏؟‏ فجعل يبهت ويعجب، وقد كان بالبلد مشهوراً هو وبيته، فقال‏:‏ ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس من هذه المدينة فقال الناس هذا مجنون، اذهبوا به إلى الملك، ففزع عند ذلك فذهب به حتى جيء به الملك، فلما لم ير دقيوس الكافر تأنس، وكان ذلك الملك مؤمناً فاضلاً يسمى ببدوسيس فقال له الملك أين وجدت هذا الكنز‏؟‏ فقال له إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة فأوينا إلى الكهف الذي في جبل الجلوس، فلما سمع الملك ذلك قال في بعض ما روي، لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية فلنسر إلى الكهف معه حتى نرى أصحابه، فسار وروي أنه أو بعض جلسائه قال‏:‏ هؤلاء هم الفتية الذين أرخ أمرهم على عهد دقيوس الملك، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه، فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا‏:‏ أدخل عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمر، وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سُرُّوا وخرجوا إلى الملك، وعظموه وعظمهم، ثم رجعوا إلى كهفهم، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حيث حدثهم تمليخا، فانتظرهم الناس فلما أبطأ خروجهم، دخل الناس إليهم فرعب كل من دخل، ثم أقدموا فوجدوهم موتى، فتنازعوا بحسب ما يأتي في تفسير الآية التي بعد هذه، وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف، فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ هذه الآية، واعتمدت الأصح، والله المعين برحمته، وفي هذه البعثة بالورق الوكالة وصحتها، وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلاً عند عثمان رضي الله عنهم، وقرأ الجمهور «فلْينظر» بسكون لام الأمر، وقرأ الحسن «فلِينظر» بكسرها، و‏{‏أزكى‏}‏ معناه أكثر فيما ذكر عكرمة، وقال قتادة معناه خير، وقال مقاتل‏:‏ المراد أطيب، وقال ابن جبير‏:‏ المراد أحل‏.‏

قال أبو القاضي أبو محمد‏:‏ وهو من جهة ذبائح الكفرة وغير ذلك فروي أنه أراد شراء زبيب، وقيل بل شراء تمر، وقوله ‏{‏وليتلطف‏}‏ أي في اختفائه وتحيله، وقرأ الحسن «ولِيتلطف» بكسر اللام، والضمير في ‏{‏إنهم‏}‏ عائد على الكفار، آل دقيوس، و‏{‏يظهروا عليكم‏}‏ معناه يثقفوكم بعلوهم وغلبتهم، وقولهم ‏{‏يرجموكم‏}‏ قال الزجاج معناه بالحجارة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهو الأصح، لأنه كان عازماً على قتلهم لو ظفر بهم، و«الرجم» فيما سلف هي كانت على ما ذكر قتلة مخالف دين الناس، إذ هي أشفى لحملة ذلك الدين، ولهم فيها مشاركة، وقال حجاج، ‏{‏يرجموكم‏}‏ معناه بالقول، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

الإشارة بذلك في قوله ‏{‏وكذلك‏}‏ إلى ‏{‏بعثناهم ليتساءلوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ أي كما بعثناهم ‏{‏أعثرنا عليهم‏}‏، و«أعثر» تعدية بالهمزة، وأصل العثار في القدم، فلما كان العاثر في الشيء منتبهاً له شبه به من تنبه لعلم شيء عن له وثار بعد خفائه، والضمير في قوله ‏{‏ليعلموا‏}‏ يحتمل أن يعود على الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبري، وذلك أنهم، فيما روي، دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه، وقالوا إنما تحشر الأرواح، فشق على ملكهم ذلك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد، وتضرع إلى الله في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فلما بعثهم الله، وتبين الناس أمرهم، سر الملك ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله ‏{‏إذ يتنازعون بينهم أمرهم‏}‏ على هذا التأويل، ويحتمل أن يعمل في ‏{‏أن‏}‏ على هذا التأويل، ‏{‏أعثرنا‏}‏، ويحتمل أن يعمل فيه ‏{‏ليعلموا‏}‏، والضمير في قوله ‏{‏ليعلموا‏}‏ يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور، وقوله ‏{‏إذ يتنازعون‏}‏ على هذا التأويل ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم، والعامل في ‏{‏إذ‏}‏، فعل مضمر تقديره واذكر، ويحتمل أن يعمل فيه ‏{‏فقالوا‏}‏ ‏{‏إذ يتنازعون‏}‏ ‏{‏ابنوا عليهم‏}‏‏.‏ والتنازع على هذا التأويل، إنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، و«الريب»‏:‏ الشك، والمعنى أن الساعة في نفسها وحقيقتها لا شك فيها، وإن كان الشك قد وقع لناس، فذلك لا يلحقها منه شيء، وقيل إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم فقال بعض هم أموات، وبعض هم أحياء، وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم، وتركهم فيه مغيبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر‏:‏ لنتخذن عليهم مسجداً، فاتخذوه، وقال قتادة ‏{‏الذين غلبوا‏}‏ هم الولاة، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي‏:‏ «غُلِبوا» بضم الغين وكسر اللام، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت أولاً تريد أن لا يبنى عليهم شيء، وأن لا يعرض لموضعهم، فروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت ولا بد طمس الكهف، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان لا بد، قالت يكون مسجداً، فكان، وروي أن الطائفة التي دعت إلى البنيان، إنما كانت كافرة، أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم، فمانعهم المؤمنون، وقالوا ‏{‏لنتخذن عليهم مسجداً‏}‏، وروي عن عبيد بن عمير أن الله عمى على الناس حينئذ أثرهم، وحجبهم عنهم، فلذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلماً لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏سيقولون‏}‏ يراد به أهل التوراة، من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص، وقرأ الجمهور الجمهور «ثلاثة»، وقرأ ابن محيصن «ثلاث» بإدغام التاء في الثاء، وقرأ شبل عن ابن كثير «خمَسة» بفتح الميم إتباعاً لعشرة، وقرأ ابن محيصن «خِمِسة» بكسر الخاء والميم، وقوله ‏{‏رجماً بالغيب‏}‏ معناه ظناً، وهو مستعار من الرجم، كأن الإنسان يرمي الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة، يرجمه به عسى أن يصيب، ومن هذا هو الترجمان وترجمة الكتاب، ومنه قول زهير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ *** وما هو عنها بالحديث المرجم

والواو في قوله ‏{‏وثامنهم‏}‏ طريق النحويين فيها أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم، لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا نهاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام‏.‏ وتقول فرقة منها ابن خالويه‏:‏ هي واو الثمانية، وذكر ذلك الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشاً كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية تسعة، فتدخل الواو في الثمانية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد تقدم شرحها، وهي في القرآن في قوله ‏{‏الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ وفي قوله ‏{‏وفتحت‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 19‏]‏، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏، وقوله ‏{‏سبع ليال وثمانية أيام‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏ فتوهم في هذين الموضعين أنها واو الثمانية وليست بها بل هي لازمة لا يستغني الكلام عنها، وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم «عدتهم» إليه عز وجل، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل، والمراد به قوم من أهل الكتاب، وكان ابن عباس يقول‏:‏ أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ويستدل على هذا من الآية‏:‏ بأن القرآن لما حكى قول من قال «ثلاثة وخمسة» قرن بالقول أنه رجم بالغيب فقدح ذلك فيها، ثم حكى هذه المقالة ولم يقدح فيها بشيء، بل تركها مسجلة، وأيضاً فيقوي ذلك على القول بواو الثمانية لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً‏}‏ معناه على بعض الأقوال، أي بظاهر ما أوحيناه إليك، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى، وقيل معنى «الظاهر» أن يقول ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتج هو على أمر مقرر في ذلك فإن ذلك يكون مراء في باطن من الأمر، وقال التبريزي‏:‏ ‏{‏ظاهراً‏}‏ معناه ذاهباً، وأنشد‏:‏

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها‏.‏ *** ولم يبح له في هذه الآية أن يماري، ولكن قوله ‏{‏إلا مراء‏}‏ استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب، سميت مراجعته لهم ‏{‏مراء‏}‏، ثم قيد بأنه ظاهر، ففارق المراء الحقيقي المذموم‏.‏

و «المراء» مشتق من المرية، وهو الشك، فكأنه المشاككة، والضمير في قوله ‏{‏فيهم‏}‏ عائد على أهل الكهف، وفي قوله ‏{‏منهم‏}‏ عائد على أهل الكتاب المعاصرين، وقوله ‏{‏فلا تمار فيهم‏}‏ يعني في عدتهم، وحذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها، وقوله ‏{‏ولا تقولن لشيء‏}‏ الآية، عاتب الله تعالى فيها نبيه عليه السلام على قوله للكفار غداً أخبركم بجواب أسئلتكم، ولم يستثن في ذلك، فاحتبس عنه الوحي خمسة عشر يوماً حتى شق ذلك عليه، وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة، وأمر في هذه الآية أن يقول في أمر من الأمور‏:‏ إني أفعل غداً كذا وكذا إلا وأن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل، واللام في قوله ‏{‏لشيء‏}‏ بمنزلة في أو كأنه قال لأجل شيء، وقوله ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ في الكلام حذف يقتضيه الظاهر، ويحسنه الإيجاز، تقديره‏:‏ إلا أن تقول إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول إن شاء الله، فالمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله، فليس ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ من القول الذي نهي عنه وقالت فرقة‏:‏ قوله ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ استثناء من قوله ‏{‏ولا تقولن‏}‏ وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى، وقوله ‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏}‏ قال ابن عباس والحسن معناه، والإشارة به إلى الاستثناء أي ولتستثن بعد مدة، إذا نسيت الاستثناء أولاً لتخرج من جملة من لم يعلق فعله بمشيئة الله، وقال عكرمة‏:‏ المعنى واذكر ربك إذا غضبت، وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين، ولكن من حيث تكلم الناس فيها، ينبغي أن نذكر شيئاً من ذلك، أما مالك رحمه الله وجميع أصحابه، فيما علمت، وكثير من العلماء، فيقولون لا ينفع الاستثناء ويسقط الكفّارة إلا أن يكون متصلاً باليمين، وقال عطاء له أن يستثني في قدر حلب الناقة الغزيرة، وقال قتادة إن استثنى قبل أن يقول أو يتكلم فله ثنياه، وقال ابن حنبل له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر، وقاله ابن راهويه، وقال طاوس والحسن ينفع الاستثناء ما دام الحالف في مجلسه، وقال ابن جبير ينفع الاستثناء بعد أربعة أشهر فقط، وقال ابن عباس ينفع الاستثناء ولو بعد سنة، وقال مجاهد بعد سنتين، وقال أبو العالية ينفع أبداً، واختلف الناس في التأويل على ابن عباس، فقال الطبري وغيره إنما أراد ابن عباس أنه ينفع في أن يحصل الحالف في رتبة المستثنين بعد سنة من حلفه، وأما الكفارة فلا تسقط عنه، قال الطبري ولا أعلم أحداً يقول ينفع الاستثناء بعد مدة، يقول بسقوط الكفارة، قال ويرد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم

«من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها فليكفر وليأت الذي هو خير» فلو كان الاستثناء يسقط الكفارة لكان أخف على الأمة، ولم يكن لذكر الكفارة فائدة، وقال الزهراوي‏:‏ إنما تكلم ابن عباس في أن الاستثناء بعد سنة لمن قال أنا أفعل كذا‏.‏‏.‏‏.‏ لا لحالف أراد حل يمينه، وذهبت فرقة من الفقهاء إلى أن مذهب ابن عباس سقوط الكفارة وألزموا كل من يقول ينفع الاستثناء بعد مدة، إسقاط الكفارة، وردوا على القول بعد إلزامه، وليس الاستثناء إلا في اليمين بالله، لا يكون في طلاق ونحوه، ولا في مشي إلى مكة، هذا قول مالك وجماعة، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وطاوس وحماد الاستثناء في ذلك جائز، وليس في اليمين الغموس استثناء ينفع، ولا يكون الاستثناء بالقول، وإنما يكون قولاً ونطقاً، وقوله ‏{‏وقل عسى‏}‏ الآية، قال محمد الكوفي المفسر‏:‏ إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء، وقال الجمهور هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص، وقرأ الجمهور «يهديني» بإثبات الياء، وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقرأ طلحة من مصرف دون ياء في الوصل، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، والإشارة بهذا إلى الاستدراك الذي يقع من ناسي الاستثناء‏.‏ وقال الزجاج المعنى عسى أن ييسر الله من الأدلة على نبوتي أقرب من دليل أصحاب الكهف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وما قدمته أصوب، أي عسى أن يرشدني فيما أستقبل من أمري وهذه الآية مخاطبة للنبي عليه السلام، وهي بعد تعم جميع أمته، لأنه حكم يتردد الناس بكثرة وقوعه والله الموفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

قال قتادة ومطر الوراق وغيرهما ‏{‏ولبثوا في كهفهم‏}‏ الآية حكاية عن بني إسرائيل أنهم قالوا ذلك، واحتجا بأن قراءة عبد الله بن مسعود، وفي مصحفه‏:‏ «وقالوا لبثوا في كهفهم»، وذلك عند قتادة، على غير قراءة عبد الله، عطف على ‏{‏ويقولون سبعة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏، ذكر الزهراوي، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه رداً على مقالهم وتقييداً له، قال الطبري‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ لو كان ذلك خبراً من الله، لم يكن لقوله ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ وجه مفهوم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أي ذهب بهذا القائل، وما الوجه المفهوم البارع إلا أن تكون الآية خبراً عن لبثهم، ثم قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ فخبره هذا هو الحق من عالم الغيب فليزل اختلافكم أيها المخرصون، وقال المحققون‏:‏ بل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم‏}‏ الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم، ثم اختلف في معنى قوله بعد الإخبار ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ فقال الطبري‏:‏ إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه أن هذه المدة في كونهم نياماً، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمره الله أن يرد علم ذلك إليه فقوله على هذا التأويل ‏{‏لبثوا‏}‏ الأول، يريد في نوم الكهف، و‏{‏لبثوا‏}‏ الثاني‏:‏ يريد بعد الإعثار موتى إلى مدة محمد عليه السلام، إلى وقت عدمهم بالبلى، على الاختلاف الذي سنذكره بعد، وقال بعضها إنه لما قال‏:‏ ‏{‏وازدادوا تسعاً‏}‏ لم يدر الناس أهي ساعات، أم أيام، أم جمع، أم شهور، أم أعوام‏.‏ واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمره الله برد العلم إليه، يريد في التسع فهي على هذا مبهمة، وظاهر كلام العرب والمفهوم منه أنها أعوام، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير، وقد بقيت من الحواريين بقية، وحكى النقاش ما معناه‏:‏ أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأمم، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين، وقرأ الجمهور «ثلاثمائةٍ سنينَ» بتنوين مائة ونصب «سنينَ» على البدل من «ثلاثمائةٍ»، وعطف البيان، وقيل على التفسير والتمييز وقرأ حمزة والكسائي ويحيى وطلحة والأعمش بإضافة «مائة» إلى «سنين»، وترك التنوين، وكأنهم جعلوا «سنين» بمنزلة سنة، إذ المعنى بهما واحد قال أبو علي‏:‏ إذ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب، قد تضاف إلى الجموع، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود‏:‏ «ثلاثمائة سنة»، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون»، بالواو، وقرأ أبو عمرو بخلاف‏:‏ «تَسعاً» بفتح التاء، وقرأ الجمهور «تِسعاً» بكسر التاء، وقوله ‏{‏أبصر به وأسمع‏}‏ أي ما أبصره وأسمعه‏.‏

قال قتادة‏:‏ لا أحد أبصر من الله ولا أسمع، وهذه عبارات عن الإدراك، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ أبصر به أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور‏.‏ وأسمع به العالم، فتكون أمرين، لا على وجه التعجب، وقوله ‏{‏ما لهم من دونه من ولي‏}‏ يحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ على أصحاب الكهف، أي هذه قدرته وحده، لم يواليهم غيره بتلطف لهم، ولا اشترك معه أحد في هذا الحكم، ويحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار ومشاقيه، وتكون الآية اعتراضاً بتهديد، وقرأ الجمهور «ولا يشرك في حكمه أحداً» بالياء من تحت على معنى الخبر عن الله تعالى، وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري «ولا تشرك» بالتاء من فوق، على جهة النهي للنبي عليه السلام، ويكون قوله «ولا تشرك» عطفاً على ‏{‏أبصر‏}‏ ‏{‏وأسمع‏}‏، وقرأ مجاهد «ولا يشركْ» بالياء من تحت وبالجزم، قال يعقوب لا أعرف وجهه، وحكى الطبري عن الضحاك بن مزاحم أنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة‏}‏ فقط، فقال الناس هي أشهر أم أيام أم أعوام‏؟‏ فنزلت ‏{‏سنين وازدادوا تسعاً‏}‏ وأما هل دام أهل الكهف وبقيت أشخاصهم محفوظة بعد الموت‏؟‏ فاختلفت الروايات في ذلك، فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته، مع ناس على موضع الكهف وجبله، فمشى الناس إليه، فوجدوا عظاماً، فقالوا هذه عظام أصحاب الكهف، فقال لهم ابن عباس‏:‏ أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة فسمعه راهب، فقال ما كنت أحسب أن أحداً من العرب يعرف هذا، فقيل له هذا ابن عم نبينا فسكت، وروت فرقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال «ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف، فإنهم لم يحجوا بعد»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبالشام على ما سمعت من ناس كثير، كهف كان فيه موتى، يزعم محاويه أنهم أصحاب الكهف، وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم، ومعهم كلب رمة، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة، كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه، وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم إشارة، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة، وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر محلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب في قبور ونحوها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل، وقوله ‏{‏واتل ما أوحي إليك‏}‏ الآية، من قرأ «ولا تشرك» بالنهي، عطف قوله ‏{‏واتلُ‏}‏ عليه، ومن قرأ «ولا يشرك»، جعل هذا أمراً بدئ به كلام آخر ليس من الأول، وكأن هذه الآية، في معنى الإعتاب للنبي عليه السلام، عقب العتاب الذي كان تركه الاستثناء، كأنه يقول هذه أجوبة الأسئلة فاتل وحي الله إليك، أي اتبع في أعمالك، وقيل اسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك، لا نقض في قوله، ‏{‏ولا مبدل لكلماته‏}‏، وليس لك سواه جانب تميل إليه، وتستند، و«الملتحد»‏:‏ الجانب الذي يمال إليه، ومعنى اللحد كأنه الميل في أحد شقي القبر، ومنه الإلحاد في الحق، وهو الميل عن الحق، ولا يفسر قوله ‏{‏لا مبدل لكلماته‏}‏ أمر النسخ لأن المعنى‏:‏ إما أن يكون لا مبدل سواه فتبقى الكلمات على الإطلاق، وإما أن يكون أراد من «الكلمات» الخبر ونحوه، مما لا يدخله نسخ، والإجماع أن الذي لا يتبدل هو الكلام القائم بالذات الذي بحسبه يجري القدر‏.‏ فأما الكتب المنزلة فمذهب ابن عباس أنها لا تبدل إلا بالتأويل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة، وقيل عيينة بن حصن وأصحابه والأول أصوب، لأن السورة مكية، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه، وقالوا إن ريح جباتهم تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم وجلس بينهم، وقال الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه، وروي أنه قال لهم رحباً بالذي عاتبني فيهم ربي، وروى سلمان أن المؤلفة قلوبهم، عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذويهم، قالوا ما ذكر، فنزلت الآية في ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالآية على هذا مدنية، ويشبه أن تكون الآية مكية، وفعل المؤلفة قريش فرد بالآية عليهم، ‏{‏واصبر‏}‏ معناه احبس، ومنه المصبورة التي جاء فيها الحديث‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الحيوان، أي حبسه للرمي ونحوه، وقرأ الجمهور «بالغداة»، وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وهي قراءة نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبي عبد الرحمن والحسن، وهي في الخط على القراءتين بالواو، فمن يقرأها «بالغداة» يكتبها «بالغدوة» كما تكتب «الصلوة والزكوة»، وفي قراءة من قرأ «بالغدوة» ضعف لأن «غدوة» اسم معروف فحقه أن لا تدخل عليه الألف واللام ووجه القراءة بذلك أنهم ألحقوها ضرباً من التنكير إذ قالوا حيث غدوة يريدون الغدوات فحسن دخول الألف واللام كقولهم الفينة وفينة اسم معرف، والإشارة بقوله ‏{‏يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ إلى الصلوات الخمس‏.‏ قاله ابن عمر ومجاهد وإبراهيم، وقال قتادة المراد صلاة الفجر، وصلاة العصر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة، ومن يجتمع لمذاكرة علم، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله، ومن إعطاء المال سحاً»، وقرأ أبو عبد الرحمن «بالغدو» دون هاء، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات» «والعشيات» على الجمع، وقوله ‏{‏ولا تعد عيناك‏}‏ أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا والملابس من الكفار، وقرأ الحسن «ولا تُعَدِّ عينيك» بضم التاء وفتح العين وشد الدال المكسورة، أي لا تجاوزها أنت عليهم، وروي عنه «ولا تُعْد عينك» بضم التاء وسكون العين، وقوله ‏{‏من أغفلنا‏}‏ قيل إنه أراد بذلك معيناً وهو عيينة بن حصن، والأقرع قاله خباب، وقيل إنما أراد من هذه صفته، وإنما المراد أولاً كفار قريش، لأن الآية، وقرأ الجمهور «أغفلنا قلبَه» بنصب الباء على معنى جعلناه غافلاً، وقرأ عمرو بن فائد وموسى الأسواري «أغفلنا قلبه» على معنى أهمل ذكرنا وتركه، قال ابن جني المعنى من ظننا غافلين عنه، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد و«الفرط» يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلتزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، أي أمره وهواه الذي هو بسبيله، وقد فسره المتأولون بالعبارتين‏:‏ أعني التضييع والإسراف، وعبر خباب عنه بالهلاك، وداود بالندامة، وابن زيد بالخلاف للحق، وهذا كله تفسير بالمعنى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل الحق‏}‏ الآية، المعنى وقل لهم يا محمد هذا ‏{‏الحق من ربكم‏}‏ أي هذا القرآن، أو هذا الإعراض عنكم، وترك الطاعة لكم، وصبر النفس مع المؤمنين، وقرأ قعنب وأبو السمال «وقلَ» بفتح اللام قال أبو حاتم وذلك رديء في العربية، وقوله ‏{‏فمن شاء فليؤمن‏}‏ الآية توعد وتهديد، أي فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله عز وجل، وتأولت فرقة ‏{‏فمن شاء‏}‏ الله إيمانه ‏{‏فليؤمن ومن شاء‏}‏ الله كفره ‏{‏فليكفر‏}‏، وهو متوجه، أي فحقه الإيمان وحقه الكفر، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر إلزماً وتحريضاً، ومن حيث للإنسان في ذلك التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فلِيؤمن» «ولِيكفر» بكسر اللامين ‏{‏وأعتدنا‏}‏ مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر و«السرادق» وهو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط الفسطاط، وقد تكون من نوع الفسطاط أديماً أو ثوباً أو نحوه، ومنه قول رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يا حكم بن المنذر بن الجارود *** سرادق والمجد عليك ممدود

ومنه قول سلامة بن جندل‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

هو المولج النعمان بيتا سماؤه *** صدور الفيول بعد بيت مسردق

وقال الزجاج «السرادق» كل ما أحاط بشيء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهو عندي أخص مما قال الزجاج، واختلف في «سرادق» النار فقال ابن عباس ‏{‏سرادقها‏}‏ حائط من نار وقالت فرقة ‏{‏سرادقها‏}‏ دخان يحيط بالكفار، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 30‏]‏ وقالت فرقة الإحاطة هي في الدنيا، والسرادق البحر، وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق يعلى بن أمية، فيجيء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحاط بهم‏}‏ أي بالبشر ذكر الطبري الحديث عن يعلى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البحر هي جهنم» وتلا هذه الآية‏:‏ ثم قال «والله لا أدخله أبداً أو ما دمت حياً»

، وروي عنه أيضاً عليه السلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال «سرادق النار أربعة جدور، كتف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة»، وقوله عز وجل ‏{‏يغاثوا‏}‏ أي يكون لهم مقام الغوث وهذا نحو قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** أي القائم مقام التحية و«المهل» قال أبو سعيد عن النبي عليه السلام هو دردي الزيت إذا انتهى حده، وقالت فرقة هو كل مائع سخن حتى انتهى حره، وقال ابن مسعود وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى يميع، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألواناً ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة، فقال ما رأيت في الدنيا شيئاً أدنى شبهاً «بالمهل» من هذا، يريد أدنى شبهاً بشراب أهل النار، وقالت فرقة «المهل»‏:‏ الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر الصديق في الكفن‏:‏ «إنما هو للمهلة»، يريد لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله ‏{‏ويسقى من ماء صديد‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏ وقوله ‏{‏يشوي الوجوه‏}‏ روي في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تقرب الشربة من الكافر، فإذا دنت منه تكرهها، فإذا دنت أكثر شوت وجهه، وسقطت فيها فروة وجهه، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه» و«المرتفق»، الشيء الذي يرتفق به أي يطلب رفقه، و«المرتفق» الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية، لأنه في شيء واحد من معنى الرفق، على أن الطبري قد فسر الآية به، والأظهر عندي أن يكون «المرتفق» بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره، وقال مجاهد «المرتفق» المجتمع كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة، ومنه الرفقة، وهذا كله راجع إلى الرفق، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى، والقول بين الوجه، والله المعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ اعتراض مؤكد للمعنى، مذكر بأفضال الله، منبه على حسن جزائه بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ وقوله ‏{‏أولئك‏}‏، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم جنات عدن‏}‏ ابتداء وخبر جملة، هي خبر ‏{‏إن‏}‏ الأولى، ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إن الخليفة إن الله ألبسه *** سربال ملك به ترجى الخواتيم

قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يكون خبر ‏{‏إن‏}‏ في قوله ‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ لأن المحسنين هم المؤمنون فكأن المعنى‏:‏ لا يضيع أجرهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومذهب سيبويه أن الخبر في قوله ‏{‏لا نضيع‏}‏ على حذف العائد تقديره، ‏{‏من أحسن عملاً‏}‏ منهم، و«العدن»‏:‏ الإقامة، ومنه المعدن، لأن حجره مقيم فيه ثابت، وقوله ‏{‏من تحتهم‏}‏ يريد من تحت غرفهم، ومبانيهم، وقرأ الجمهور «من أساور» وروى أبان عن عاصم «أسورة» من غير ألف، وبزيادة هاء‏.‏ وواحد الأساور إسوار، حذفت الياء من الجمع لأن الباب أساوير، وهي ما كان من الحلي في الذراع‏.‏ وقيل ‏{‏أساور‏}‏ جمع إسورة، وإسورة جمع سوار، وإنما الإسوار بالفارسية القائد ونحوه ويقال في حلي الذراع أسوار، ذكره أبو عبيدة معمر ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

والله لولا صبية صغار *** كأنما وجوهم أقمار

تضمهم من العتيك دار *** أخاف أن يصيبهم إقتار

أو لاضم ليس له أسوار *** لما رآني ملك جبار

ببابه ما وضح النهار *** أنشده أبو بكر بن الأنباري حاشية في كتاب أبي عبيدة، و«السندس»‏:‏ رقيق الديباج، و«الاستبرق» ما غلظ منه، وقال بعض الناس هي لفظة أعجمية عربت، وأصلها استبره، وقال بعضهم بل هو الفعل العربي، سمي به فهو استبرق من الريق فغير حين سمي به بقطع الألف، ويقوي هذا القول أن ابن محيصن قرأ «من سندس وإستبرق» فجاء موصول الهمزة حيث وقع ولا يجزمه، بل بفتح القاف، ذكره الأهوازي، وذكره أبو الفتح، وقال هذا سهو أو كالسهو و‏{‏الأرائك‏}‏ جمع أريكة هي السرير في المجال، والضمير في قوله ‏{‏وحسنت‏}‏ للجنات وحكى النقاش عن أبي عمران الجوني أنه قال‏:‏ «الاستبرق» الحرير المنسوج بالذهب، وحكى مكي والزهراوي وغيرهما حديثاً مضمنه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي‏:‏ «أعلم قومك أنها نزلت في هؤلاء الأربعة، وهم حضور»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ عائد على الطائفة المتجبرة التي أرادت من النبي عليه السلام أن يطرد فقراء المؤمنين ‏{‏الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ وعلى أولئك الداعين أيضاً، فالمثل مضروب للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبر في قريش أو بني تميم على الخلاف المذكور أولاً، والرجل المؤمن المقر بالربوبية، هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم ‏{‏وحففناهما‏}‏ بمعنى وجعلنا ذلك لها من كل جهة، تقول حفك الله بخير‏:‏ أي عمك به من جهاتك، و«الحفاف» الجانب من السرير والفدان ونحوه، وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع وكان موجوداً، وعلى ذلك فسره أكثر أهل هذا التأويل، ويحتمل أن يكون مضروباً بمن هذه صفته وإن لم يقع ذلك في وجود قط، والأول أظهر، وروي في ذلك أنهما كانا أخوين من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار فصنع أحدهما بماله ما ذكر واشترى عبيداً وتزوج وأثرى؛ وأنفق الآخر ماله في طاعات الله عز وجل حتى افتقر، والتقيا ففخر الغني ووبخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة، روي أنهما كانا شريكين حدادين، كسبا مالاً كثيراً وصنعا نحو ما روي في أمر الأخوين، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه، وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد، أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين، فباع أحدهما نصيبه من الآخر، وأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما هذه المحاورة، قال‏:‏ فغرقها الله في ليلة وإياها عنى بهذه الآية، وفي بسط قصصهما طول فاختصرته واقتصرت على معناه لقلة صحته، ولأن في هذا ما يفي بفهم الآية، وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله، فإن المرء لا يكاد يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس‏:‏ جنتا عنب أحاط بهما نخل، بينهما فسحة، هي مزدرع لجميع الحبوب، والماء الغيل يسقى جميع ذلك من النهر الذي قد جمل هذا المنظر، وعظم النفع، وقرب الكد، وأغنى عن النواضح وغيرها‏.‏ وقرأ الجمهور «كلتا»، وفي مصحف عبد الله «كلا»، والتاء في «كلتا» منقلبة من واو عند سيبويه وهو بالتاء أو بغير التاء اسم مفرد واقع على الشيء المثنى، وليس باسم مثنى، ومعناه كل واحدة منهما و«الأكل» ثمرها الذي يؤكل منها، قال الفراء‏:‏ وفي قراءة ابن مسعود «كل الجنتين آتى أكله»، وقوله ‏{‏ولم تظلم منه شيئاً‏}‏ أي لم تنقص عن العرف الأتم الذي يشبه فيها، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تظلمني مالي كذا لوى يدي *** لوى يده الله الذي هو غالبه

وقرأ الجمهور «وفجّرنا» بشد الجيم، وقرأ سلام، ويعقوب وعيسى بن عمر‏.‏

«وفجَرنا» بفتح الجيم دون شد، وقرأ الجمهور «نهْراً» بفتح الهاء‏.‏ وقرأ أبو السمال، والفياض بن غزوان، وطلحة بن سليمان‏:‏ «نهْراً» بسكون الهاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن عباس ومجاهد وجماعة قراء المدينة ومكة «ثُمُر» و«بثُمُره» ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ بضم الثاء والميم، جمع ثمار وقرأ أبو عمرو والأعمش وأبو رجاء بسكون الميم فيهما تخفيفاً، وهي في المعنى كالأولى، ويتجه أن يكون جمع ثمرة كبدنة وبدن، وقرأ عاصم «ثَمَر» وبثمره يفتح الميم والثاء فيهما، وهي قراءة أبي جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج، واختلف المتأولون في «الثمُر» بضم الثاء والميم، فقال ابن عباس وقتادة‏:‏ «الثُّمُر» جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، ويستشهد لهذا القول ببيت النابغة الذبياني‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

وما أثمّر من مال ومن ولد *** وقال مجاهد يراد بها الذهب والفضة خاصة، وقال ابن زيد «الثمُر» هي الأصول التي فيها الثمر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأنها ثمار وثمر ككتاب وكتب، وأما من قرأ بفتح الثاء والميم، فلا إشكال في أن المعنى ما في رؤوس الشجر من الأكل، ولكن فصاحة الكلام تقتضي أن يعبر إيجازاً عن هلاك الثمر والأصول بهلاك الثمر فقط، فخصصها بالذكر إذ هي مقصود المستغل، وإذ هلاك الأصول إنما يسوء منه هلاك الثمر الذي كان يرجى في المستقبل كما يقتضي قوله إن له «ثمراً»، إن له أصولاً كذلك تقتضي الإحاطة المطلقة بالثمر، ان الأصول قد هلكت، وفي مصحف أبي «وآتيناه ثمراً كثيراً» وقرأ أبو رجاء «وكان له ثَمر» بفتح الثاء وسكون الميم، والمحاورة مراجعة القول، وهو من حار يحور‏.‏ واستدل بعض الناس من قوله ‏{‏وأعز نفراً‏}‏ على أنه لم يكن أخاه، وقال المناقض أراد ب «النفر» العبيد والخول، إذ هم الذين ينفرون في رغائبه، وفي هذا الكلام من الكبر والزهو والاغترار ما بيانه يغني عن القول فيه، وهذه المقالة بإزاء قول عيينة والأقرع للنبي صلى الله عليه وسلم نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر، فنح عنا سلمان وقرناءه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 39‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

أفرد الجنة من حيث الوجود كذلك، إذ لا يدخلهما معاً في وقت واحد، و«ظلمه لنفسه»‏:‏ كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث، فقد نص على ذلك قتادة وابن زيد، وفي شكه في حديث العالم إن كانت إشارته ب ‏{‏هذه‏}‏ إلى الهيئة من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط، فإنما في الكلام تساخف واغترار مفرط وقلة تحصيل، وكأنه من شدة العجب بل والسرور أفرط في وصفها بهذا القول ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنيا، وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، قال‏:‏ فإن كان ثم رجوع كما يزعم فستكون حالي كذا وكذا، وليست مقالة العاصي بن وائل لخباب على حد هذه، بل قصد العاصي الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وابن الزبير، وثبت في مصاحف المدينة «منهما» يريد الجنتين المذكورتين أولاً، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والعامة، وكذلك هو مصحف أهل البصرة «منها» يريد الجنة المدخولة، وقوله ‏{‏قال له صاحبه‏}‏ حكاية أن المؤمن من الرجلين لما سمع كلام الكافر وقفه على جهة التوبيخ على كفر بالله تعالى، وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «وهو يخاصمه»، وقرأ ثابت البناني، «ويلك أكفرت»، ثم جعل يعظم الله تعالى عنده بأوصاف تضمنت النعم والدلائل على جواز البعث من القبور، وقوله ‏{‏من تراب‏}‏ إشارة إلى آدم عليه السلام، وقوله ‏{‏سواك رجلاً‏}‏ كما تقول سواك شخصاً أو حياً، أو نحو هذا من التأكيدات، وقد يحتمل أن قصد تخصيص الرجولة، على وجه تعديد النعمة، في أن لم يكن أنثى ولا خنثى، وذكر الطبري نحو هذا، واختلف القراءة في قوله ‏{‏لكنا‏}‏ فقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيبي «لكنا» في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «لكن» في الوصل و«لكنا» في الوقف، ورجحها الطبري، وهي رواية ورش وقالون عن نافع، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والحسن «لكن أنا هو الله ربي»، وقرأ عيسى الثقفي والأعمش بخلاف «لكن هو الله ربي» فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن، وأما الذي قبلها فعلى معنى لكن أنا أقول ومن هذه الفرقة، من قرأ «لكننا»، على حذف الهمزة وتخفيف النونين، وفي هذا نظر، وأما من قرأ «لكننا»، فأصله عنده لكن أنا‏:‏ حذفت الهمزة على غير قياس، وأدغمت النون في النون، وقد قال بعض النحويين‏:‏ نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء لكننا، ثم أدغمت بعد ذلك فجاء «لكنا»، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة، فمنهم من حذفها في الوصل، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف، ليدل على أصل الكلمة، ويتوجه في «لكنا» أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في «خرجنا وضربنا»، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين، ثم وجد في ‏{‏ربي‏}‏ على المعنى، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا ذكره أبو علي، ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حال الوصل، والوقف، ويتوجه في ‏{‏لكنا‏}‏ أن تكون المشهورة من أخوات إن، المعنى‏:‏ لكن قولي‏:‏ هو ‏{‏الله ربي‏}‏، أما أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه، وروى هارون عن أبي عمرو «ولكنه هو الله ربي» بضمير لحق «لكن» وباقي الآية بين، وقوله ‏{‏ولولا إذ دخلت جنتك‏}‏ الآية‏:‏ وصية من المؤمن للكافر، ‏{‏ولولا‏}‏ تحضيض، بمعنى هلا و‏{‏ما‏}‏ يحتمل أن تكون بمعنى الذي، بتقدير الذي إن شاء الله كائن، وفي ‏{‏شاء‏}‏ ضمير عائد، ويحتمل أن تكون شرطية، بتقدير ما شاء الله كان، ويحتمل أن تكون خبر ابتداء محذوف تقديره هو ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، وقوله ‏{‏لا قوة إلا بالله‏}‏ تسليم وضد لقول الكافر ‏{‏ما أظن أن تبيد هذه أبداً‏}‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة

«ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة‏؟‏ قال بلى يا رسول الله، قال ‏{‏لا قوة إلا بالله‏}‏ إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم»، وفي حديث أبي موسى‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة‏؟‏» قال افعل يا رسول الله، قال «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، واختلفت القراءة في حذف الياء من ‏{‏ترن‏}‏ وإثباتها فأثبتها ابن كثير وصلاً ووقفاً، وحذفها ابن عامر وعاصم وحمزة فيهما، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل فقط، وقرأ الجمهور «أقلَّ» بالنصب على المفعول الثاني، وقوله ‏{‏أنا‏}‏ فاصلة ملغاة وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ «أقلُّ» بالرفع، على أن يكون ‏{‏أنا‏}‏ مبتدأ و«أقل» خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والرؤية، رؤية القلب في هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

هذا الترجي ب «عسى» يحتمل أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعاً، وأذهب مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية المخاطب، وأشد إيلاماً لنفسه، و«الحسبان» العذاب كالبرد والصر ونحوه، واحد الحسبان‏:‏ حسبانة، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وهي أيضاً سهام ترمى دفعة بآلة لذلك، و«الصعيد» وجه الأرض و«الزلق» الذي لا تثبت فيه قدم، يعني أنه تذهب أشجاره ونباته، ويبقى أرضاً قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي فيها، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيه قدم، و«الغور» مصدر يوصف به الماء المفرد والمياه الكثيرة، كقولك رجل عدلٍ وامرأة عدل ونحوه، ومعناه ذاهباً في الأرض لا يستطاع تناوله وقرأت فرقة «غَوراً»، وقرأ فرقة «غُوراً»، بضم الغين، وقرأت فرقة «غُؤراً»، بضم الغين وهمز الواو، و«غور» مثل نوح، يوصف به الواحد والجمع المذكر والمؤنث، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تظل جيادها نوحاً عليه *** مقلدة أعنتها صفونا

وهذا كثير، وباقي الآية بين، وقوله تعالى ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏ الآية، هذا خبر من الله عن إحاطة العذاب بحال هذا المثل به، وقد تقدم القول في الثمر، غير أن الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد، و‏{‏يقلب كفيه‏}‏ يريد يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهف المتأسف على فائت وخسارة ونحوها، ومن عبر بيصفق فلم يتقن، وقوله ‏{‏خاوية على عروشها‏}‏ يريد أن السقوف وقعت، وهي العروش، ثم تهدمت الحيطان عليها، فهي خاوية، والحيطان على العروش ‏{‏ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً‏}‏ قال بعض المفسرين‏:‏ هي حكاية عن قول الكافر هذه المقالة في الآخرة، ويحتمل أن يريد أنه قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ويكون فيها زجر للكفرة من قريش أو غيرهم، لئلا تجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة‏:‏ «ولم تكن» بالتاء على لفظة الفئة، وقرأ حمزة والكسائي ومجاهد وابن وثاب «ولم يكن» بالياء على المعنى، «الفئة» الجماعة التي يلجأ إلى نصرها، قال مجاهد هي العشيرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهي عندي من فاء يفيء وزنها فئة، حذفت العين تخفيفاً، وقد قال أبو علي وغيره‏:‏ هي من فاوت وليست من فاء، وهذا الذي قالوه أدخل في التصريف، والأول أحكم في المعنى، وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «فئة تنصره»، وقوله ‏{‏هنالك‏}‏ يحتمل أن يكون ظرفاً لقوله ‏{‏منتصراً‏}‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏الولاية‏}‏ مبتدأ، و‏{‏هنالك‏}‏ خبره، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب «الوِلاية» بكسر الواو، وهي بمعنى الرياسة والزعامة ونحوه، وقرأ الباقون «الوَلاية» بفتح الواو وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه، ويحكى عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن، لأن فعالة، إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلداً، وليس هنا تولي أمر الموالاة، وقرأ أبو عمرو والكسائي «الحق» بالرفع على جهة النعت ل ‏{‏الولاية‏}‏، وقرأ الباقون «الحقِّ» بالخفض على النعت ‏{‏لله‏}‏ عز وجل، وقرأ أبو حيوة «لله الحقَّ» بالنصب وقرأ الجمهور «عُقُباً» بضم العين والقاف وقرأ عاصم وحمزة والحسن «عُقْباً» بضم العين وسكون القاف وتنوين الباء، وقرأ عاصم أيضاً «عقبى» بياء التأنيث، والعُقُب والعُقْب بمعنى العاقبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه، وقوله ‏{‏كماء‏}‏ يريد هي كماء، وقوله ‏{‏فاختلط به‏}‏ أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، فالباء في ‏{‏به‏}‏ باء السبب، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك، لا أنه أراد اختصاصاً بوقت الصباح، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا

و «الهشيم» المتفتت من يابس العشب، ومنه قوله تعالى ‏{‏كهشيم المحتظر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 31‏]‏ ومنه هشم الثريد، و‏{‏تذروه‏}‏، بمعنى تفرقه، وقرأ ابن عباس‏:‏ «تذريه»، والمعنى‏:‏ تقلعه وترمي به، وقرأ الحسن «تذروه الريح» بالإفراد، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله، هذا قول سيبويه، وهو معنى صحيح وقال الحسن ‏{‏كان‏}‏‏:‏ إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات، أي إن القدرة كانت، وهذا أيضاً حسن، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك ‏{‏هشيماً‏}‏ ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل صالح، يبقى في الآخرة فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة، ونحوه‏.‏ وقوله ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ لفظ الخبر، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين لأنه في المثل، قبل حقر أمر الدنيا وبنيه، فكأنه يقول في هذه‏:‏ إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة، فلا تتبعوها نفوسكم، وقوله ‏{‏زينة‏}‏ مصدر، وقد أخبر به عن أشخاص فإما أن يكون على تقدير محذوف، وتقديره مقر زينة الحياة الدنيا، وما أن نضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة، واختلف الناس في ‏{‏الباقيات الصالحات‏}‏ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل‏:‏ هي الصلوات الخمس وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، روي في هذا حديث‏:‏ «أكثروا من الباقيات الصالحات»، وقاله أيضاً ابن عباس، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، وقال ابن عباس أيضاً ‏{‏الباقيات الصالحات‏}‏‏:‏ كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ورجحه الطبري، وقال ابن عباس بكل الأقوال دليل على قوله بالعموم، وقوله ‏{‏خير ثواباً وخير أملاً‏}‏ صاحبها ينتظر الثواب وينبسط على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نسير الجبال‏}‏ الآية التقدير‏:‏ واذكر يوم، وهذا أفصح ما يتأول في هذا هنا، وقرأ نافع والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرف وأبو عبد الرحمن «نسير» بنون العظمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى‏:‏ «تسيَّر» بالتاء، وفتح الياء المشددة «الجبالُ» رفع، وقرأ الحسن‏:‏ «يُسيَّر» بياء مضمونة، والثانية مفتوحة مشددة، «الجبال» رفعاً، وقرأ ابن محيصن «تَسِير»‏:‏ بتاء مفتوحة وسين مكسورة، أسند الفعل إلى «الجبال»، وقرأ أبي بن كعب «ويوم سيرت الجبال»‏.‏

وقوله ‏{‏بارزة‏}‏ إما أن يريد أن الأرض، لذهاب الجبال والظراب والشجر، برزت وانكشفت، وإما أن يريد‏:‏ بروز أهلها، والمحشورين من سكان بطنها ‏{‏وحشرناهم‏}‏ أي أقمناهم من قبورهم، وجعلناهم لعرضة القيامة، وقرأ الجمهور «نغادر» بنون العظمة، وقرأ قتادة‏:‏ «تغادر» على الإسناد إلى القدرة أو إلى الأرض، وروى أبان بن يزيد عن عاصم‏:‏ «يغادَر» بياء وفتح الدال «أحدُ» بالرفع، وقرأ الضحاك «فلم نُغْدِر» بنون مضمومة وكسر الدال وسكون الغين، والمغادرة‏:‏ الترك، ومنه غدير الماء، وهو ما تركه السيل، وقوله ‏{‏صفاً‏}‏ إفراد نزل منزلة الجمع، أي صفوفاً، وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفدهم البصر، الحديث بطوله، وفي حديث آخر «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً، أنتم منها ثمانون صفاً»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جئتمونا‏}‏ إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين للبعث، ومضمنها التقريع والتوبيخ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره‏:‏ يقال للكفرة منهم، ‏{‏كما خلقناكم أول مرة‏}‏ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏الكتاب‏}‏ اسم جنس، يراد به كتب الناس التي أحصاها الحفظة لواحد واحد، ويحتمل أن يكون الموضوع كتاباً واحداً حاضراً، و«إشفاق المجرمين»‏:‏ فزعهم من كشفه لهم وفضحه فشكاية المجرمين إنما هي من الإحصاء لا من ظلم ولا حيف، وقدم الصغيرة اهتماماً بها، لينبه منها، ويدل أن الصغيرة إذا أحصيت، فالكبيرة أحرى بذلك، والعرب أبداً تقدم في الذكر الأقل من كل مقترنين، ونحو هذا هو قولهم‏:‏ القمران والعمران، سموا باسم الأقل تنبيهاً منهم، وقال ابن عباس‏:‏ «الصغيرة» الضحك، وهذا مثال، وباقي الآية بين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا للملائكة‏}‏ الآية، هذه الآية مضمنها تقريع الكفرة وتوقيفهم على خطاياهم في ولايتهم العدو دون الذي أنعم بكل نعمه على العموم، صغيرها وكبيرها، وتقدير الكلام‏:‏ واذكر إذ قلنا وتكررت هذه العبارة حيث تكررت هذه القصة، إذ هي توطئة النازلة فأما ذكر النازلة هنا فمقدمة للتوبيخ، وذكرها في البقرة إعلام بمبادئ الأمور، واختلف المتأولون في السجود لآدم فقالت فرقة هو السجود المعروف، ووضع الوجه بالأرض، جعله الله تعالى من الملائكة عبادة له وتكرمة لآدم، فهذا كالصلاة للكعبة، وقالت فرقة بل كان إيماء منهم نحو الأرض، وذلك يسمى سجوداً لأن السجود في كلام العرب عبارة عن غاية التواضع، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ترى الأكم فيه سجداً للحوافر *** وهذا جائز أن يكلفه قوم، فمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم»، ومنه تقبيل أبي عبيدة بن الجراح يد عمر بن الخطاب حين تلقاه في سفرته إلى الشام ذكره سعيد بن منصور في مصنفه، وقوله ‏{‏إلا إبليس‏}‏ قالت فرقة هو استثناء منقطع، لأن ‏{‏إبليس‏}‏ ليس من الملائكة، بل هو من الجن، وهم الشياطين المخلوقين من مارج من نار، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور، واختلفت هذه الفرقة فقال بعضها إبليس من الجن، وهو أولهم، وبدءتهم، كآدم من الإنس، وقالت فرقة بل كان إبليس وقبيله جناً، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته، فهو كنوح في الإنس، احتجوا بهذه الآية، وتعنيف ‏{‏إبليس‏}‏ على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة، وقالت فرقة إن الاستثناء متصل، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار، فإبليس من الملائكة وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين، وقال بعض هذه الفرقة كان في الملائكة صنف يسمى الجن وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض، وكان إبليس مدبر أمرهم ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى، إذ كان متصرفاً بالأمر والنهي، مرسلاً، والملك مشتق من المالكة، وهي الرسالة، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول ‏{‏اسجدوا‏}‏ وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور، وقوله ‏{‏ففسق‏}‏ معناه فخرج وانتزح، وقال رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

تهوين في نجد وغوراً غائراً *** فواسقاً عن قصدها جوائرا

ومنه قال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت النواة إذا خرجت عن الثمرة، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة، إنما هو في فساد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «خمس فواسق يقتلن في الحرم إنما هن مفسدات» وقوله ‏{‏عن أمر ربه‏}‏ يحتمل أن يريد خرج عن أمر ربه إياه، أي فارقه كما فعل الخارج عن طريق واحد، أي منه، ويحتمل أن يريد فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها، و‏{‏عن‏}‏ قد تجيء بمعنى بعد في مواضع كثيرة، كقولك أطعمتني عن جوع، ونحوه، فكأن المعنى‏:‏ فسق بعد أمر ربه بأن يطيع ويحتمل أن يريد فخرج بأمر ربه أي بمشيئته ذلك له ويعبر عن المشيئة ب «الأمر»، إذ هي أحد الأمور، وهذا كما تقول فعلت ذلك عن أمرك أي بجدك وبحسب مرادك، وقال ابن عباس في قصص هذه الآية‏:‏ كان إبليس من أشرف صنف، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون، وقال بعض العلماء إذا كانت خطيئة المرء من الخطأ فلترجه، كآدم، وإذا كانت من الكبر، فلا ترجه، كإبليس، ثم وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله ‏{‏أفتتخذونه‏}‏ يريد أفتتخذون إبليس، وقوله ‏{‏وذريته‏}‏ ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل، وذكر الطبري أن مجاهداً قال‏:‏ ذرية إبليس الشيطان، وكان يعدهم‏:‏ زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق، وتبن صاحب المصائب، والأعور صاحب الربا، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلاً، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح فلذلك اختصرته، وقد طول النقاش في هذا المعنى، وجلب حكايات تبعد من الصحة، فتركتها إيجازاً، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء والوسوسة شيطاناً يسمى خنزت، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان والله العليم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره، وقوله ‏{‏وهم لكم عدو‏}‏ أي أعداء، فهو اسم جنس، وقوله ‏{‏بئس للظالمين بدلاً‏}‏ أي بدل ولاية لله عز وجل بولاية إبليس وذريته، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل، وهذا هو نفس الظلم، لأنه وضع الشيء في غير موضعه‏.‏