فصل: تفسير الآيات رقم (51- 54)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏أشهدتهم‏}‏ عائد علىلكفار، وعلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين، وأهل الطبائع، والمتحكمين من الأطباء، وسواهم من كل من يتخوض في هذه الأشياء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحدثني أبي رضي الله عنه، قال‏:‏ سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاد المهدوي بالمهدية، يقول سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين، وقيل الضمير في ‏{‏أشهدتهم‏}‏ عائد على ذرية إبليس، فهذه الآية، على هذا تتضمن تحقيرهم، والقول الأول أعظم فائدة، وأقول‏:‏ إن الغرض المقصود أولاً بالآية، هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم والمعظمين للجن حين يقولون أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته، وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول ب ‏{‏المضلين‏}‏، وتندرج هذه الطوائف في معناهم، وقرأ الجمهور، «وما كنتُ» وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف «وما كنتَ»، والصفة ب ‏{‏المضلين‏}‏، تترتب في الطوائف المذكورة، وفي ذرية إبليس لعنه الله، و«العضد» استعارة للمعين المؤازر، وهو تشبيه بالعضد للإنسان الذي يستعين به، وقرأ الجمهور «عَضُداً» بفتح العين وضم الضاد، وقرأ أبو عمرو والحسن بضمهما، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد، وقرأ عكرمة «عُضْداً» بضم العين وسكون الضاد، وقرأ عيسى بن عمر «عَضَداً» بفتح العين والضاد، وفيه لغات غير هذا لم يقرأ بها، وقوله ‏{‏ويوم يقول‏}‏ الآية وعيد، المعنى واذكر يوم، وقرأ طلحة ويحيى والأعمش وحمزة «نقول» بنون العظمة، وقرأ الجمهور بالياء أي «يقول» الله تعالى للكفار الذين أشركوا به من الدنيا سواه‏:‏ ‏{‏نادوا شركائي‏}‏ أي على وجه الاستغاثة بهم، وقوله ‏{‏شركائي‏}‏ أي على دعواكم أيها المشركون وقد بين هذا بقوله ‏{‏الذين زعمتم‏}‏ وقرأ ابن كثير وأهل مكة «شركاي» بياء مفتوحة، وقرأ الجمهور‏:‏ «شركائي» بهمزة‏.‏ فمنهم من حققها، ومنهم من خففها، و«الزعم» إنما هو مستعمل أبداً في غير اليقين، بل أغلبه في الكذب، ومنه هذه الآية، وأرفع موضعه أن يستعمل «زعم» بمعنى أخبر، حيث تبقى عهدة الخبر على المخبر، كما يقول سيبويه رحمه الله‏:‏ زعم الخليل‏.‏ وقوله ‏{‏فدعوهم‏}‏ فلم يستجيبوا لهم ظاهره أن ذلك يقع حقيقة، ويحتمل أن يكون استعارة، كأن فكرة الكفار ونظرهم في أن تلك الجمادات، لا تغني شيئاً ولا تنفع، هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة، والأول أبين، واختلف المتأولون في قوله ‏{‏موبقاً‏}‏ قال عبد الله ابن عمرو وأنس بن مالك ومجاهد‏:‏ هو واد في جهنم يجري بدم وصديد، قال أنس‏:‏ يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين، فقوله على هذا ‏{‏بينهم‏}‏ ظرف، وقال الحسن ‏{‏موبقاً‏}‏ معناه عداوة و‏{‏بينهم‏}‏ على هذا ظرف، وبعض هذه الفرقة، يرى أن الضمير في قوله ‏{‏بينهم‏}‏ يعود على المؤمنين والكافرين، ويحتمل أن يعود على المشركين ومعبوداتهم، وقال ابن عباس ‏{‏موبقاً‏}‏ معناه مهلكاً بمنزلة موضع وهو من قولك وبق الرجل وأوبقه غيره إذا أهلكه، فقوله ‏{‏بينهم‏}‏ على هذا التأويل، يصح أن يكون ظرفاً، والأظهر فيه أن يكون اسماً، بمعنى جعلنا تواصلهم أمراً مهلكاً لهم، ويكون ‏{‏بينهم‏}‏ مفعولاً أولاً ل ‏{‏جعلنا‏}‏، وعبر بعضهم عن الموبق بالموعد وهذا ضعيف، ثم أخبر عز وجل عن رؤية المجرمين النار، ومعاينتهم لها، ووقوع العلم لهم بأنهم مباشروها، وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين، ولو قال بدل ‏{‏ظنوا‏}‏ وأيقنوا لكان الكلام متسقاً، على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد قاله الحسن، بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون، وإلا، فقد يقع ويحسن، لا يكاد توجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن وتأمل هذه الآية، وتأمل قول دريد‏:‏

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** وقرأ الأعمش «فظنوا أنهم ملاقوها»، وكذلك في مصحف ابن مسعود، وحكى أبو عمرو الداني عن علقمة، أنه قرأ‏:‏ «ملافوها» بالفاء مشددة من لففت، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» و«المصرف» المعدل، والمرغ، ومنه قول أبي كبير الهذلي‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

أزهير هل عن شيبة بن مصرف *** أم لا خلود لباذل متكلف

وهو مأخوذ من الانصراف من شيء إلى شيء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ ولقد خوفنا ورجينا وبالغنا في البيان، وهذا كله بتمثيل وتقريب للأذهان، وقوله‏:‏ ‏{‏من كل مثل‏}‏ أي من كل مثال له نفع في الغرض المقصود بهم، وهو الهداية، وقوله ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ خبر مقتضب في ضمنه، فلم ينفع فيهم تصريف الأمثال، بل هم منحرفون يجادلون بالباطل وقوله ‏{‏الإنسان‏}‏ يريد الجنس، وروي أن سبب هذه الآية هو النضر بن الحارث، وقيل ابن الزبعرى‏.‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد نام عن صلاة الليل، فأيقظه، فقال له علي إنما نفسي بيد الله، ونحو هذا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب خده بيده ويقول‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ فقد استعمل الآية على العموم في جميع الناس، و«الجدل» الخصام والمدافعة بالقول، فالإنسان أكثر جدلاً من كل ما يجادل من ملائكة وجن وغير ذلك إن فرض وفي قوله ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ تعليم تفجع ما على الناس، ويبين فيما بعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

هذه آية‏:‏ تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم، لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مصيبون، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا، فكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم، و‏{‏الناس‏}‏ يراد به كفار عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها، و‏{‏الهدى‏}‏ هو شرع الله والبيان الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، و«الاستغفار» هنا طلب المغفرة على فارط الذنب كفراً وغيره، و‏{‏سنة الأولين‏}‏ هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظلمة والريح وغير ذلك، ‏{‏أو يأتيهم العذاب قبلاً‏}‏ أي مقابلة عياناً، والمعنى عذاباً غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيم وكذلك صدق هذا الوعيد في بدر، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏قبلاً‏}‏ معناه فجأة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ومجاهد وعيسى بن عمر «قِبَلا» بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ عاصم والكسائي وحمزة والحسن والأعرج «قُبُلاً» بضم القاف والباء، ويحتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى قبل، لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، والآخر أن يكون جمع قبيل، أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً، وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً‏:‏ «قُبْلاً» بضم القاف وسكون الباء، وقوله ‏{‏وما نرسل المرسلين‏}‏ الآية، كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار، قال‏:‏ وليس الأمر كما يظنوا، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار، و‏{‏يدحضوا‏}‏ معناه يزهقوا، و«الدحض» الطين الذي يزهق فيه، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وردت ونجى اليشكريّ نجاؤه *** وحاد كما حاد البعير عن الدحض

وقوله ‏{‏واتخذوا‏}‏ إلى آخر الآية توعيد، و«الآيات» تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏وما أنذروا هزواً‏}‏ يريد من عذاب الآخرة، والتقدير ما أنذروه فحذف الضمير و«الهزاء»‏:‏ السخر والاستخفاف، كقولهم أساطير الأولين، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا وقوله ‏{‏ومن أظلم‏}‏ استفهام بمعنى التقرير، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه، فالمعنى لا أحد ‏{‏أظلم ممن‏}‏ هذه صفته، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال، ونسب السيئات إلى اليدين، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في المعاني، استعارة، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح، فإنه تعالى‏:‏ ‏{‏جعل على قلوبهم أكنة‏}‏ وهي جمع كنان، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه، هل هو حقيقة أو مجاز، والحقيقة في هذا غير مستحلية، والتجوز أيضاً فصيح، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحاملة، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير، وأما «الوقر» في الآذان، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعاً تاماً، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر، فلا يسمع، وشبهوا به، وكذلك العمى والصم والبكم، كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز، و«الوقر»‏:‏ الثقل في السمع، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبداً، وهذا يخرج على أحد تأويلين‏:‏ أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص، ممن حتم الله عليه أن لا يؤمن ولا يهتدي أبداً، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد‏:‏ وإن تدعهم إلى الهدى جميعاً فلن يؤمنوا جميعاً أبداً، أي إنهم ربما آمن الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

لما أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم، أنهم لا يهتدون أبداً، عقب ذلك بأنه للمؤمنين، ‏{‏الغفور ذو الرحمة‏}‏، ويتحصل للكفار من صفته تعالى بالغفران والرحمة، ترك المعاجلة، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب المبيد لهم، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون عنه منجي، قالت فرقة هو أجل الموت، وقالت فرقة هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يوم بدر، والحشر و«الموثل» المنجى يقال‏:‏ وأل الرجل يئل إذا نجا‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

لا وألت نفسك خيلتها *** للعامريين ولم تكلم

ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

وقد أخالس رب البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل

ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله، وفي قوله ‏{‏وتلك القرى‏}‏ حذف مضاف تقديره ‏{‏وتلك‏}‏ أهل ‏{‏القرى‏}‏ يدل على ذلك قوله ‏{‏أهلكناهم‏}‏ فرد الضمير على أهل القرى، و‏{‏القرى‏}‏‏:‏ المدن، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم‏.‏ ‏{‏وتلك‏}‏ ابتداء، و‏{‏القرى‏}‏ صفته، و‏{‏أهلكناهم‏}‏ خبر، ويصح أن يكون ‏{‏تلك‏}‏ منصوباً بفعل يدل عليه ‏{‏أهلكناهم‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور «لَمُهلكهم» بضم الميم وفتح اللام، من أهلك، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء، ولمكانه، ويكون مصدراً فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «لَمَهلكهم» بفتح الميم واللام وقرأ في رواية حفص «لِمَهلكهم» بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر من هلك، وهو في مشهور اللغة غير متعد، فالمصدر على هذا مضاف إلى الفاعل، لأنه بمعنى‏:‏ وجعلنا لأن هلكوا موعداً، وقالت فرقة إن هلك يتعدى، تقول أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد، وأنشد أبو علي في ذلك‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

ومَهْمَهٍ هالك من تعرجا *** فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافاً إلى المفعول، وقوله ‏{‏وإذ قال موسى‏}‏ الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، المعنى‏:‏ اذكر واتل، و‏{‏موسى‏}‏ هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران، وهو موسى بن مشنى، ويقال ابن منسى، وأما «فتاه» فعلى قول من قال موسى بن عمران، فهو يوشع بن نون بن إفراييل بن يوسف بن يعقوب، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون، ولكنه قول غير صحيح، رده ابن عباس وغيره و«الفتي» في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً، قيل للخادم فتى، على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي»، فهذا اندب إلى التواضع، و«الفتى» في الآية هو الخادم، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل، وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك قال لا، فأوحى الله إليه بلى‏:‏ عبدنا خضر، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك، وأمر أن يتزود حوتاً، ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة ‏{‏لا أبرح‏}‏ أسير، أي لا أزال، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر، ومن هذا قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم *** ببطحاء ذي قار عياب اللطائم

وذكر الطبري عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يوماً، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر نحو ما تقدم، وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام، وما أراه يصح، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم، والتواضع للعالم، وقرأ الجمهور «مَجمَع» بفتح الميمين، وقرأ الضحاك «مَجمِع» بكسر الميم الثانية، واختلف الناس في ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ أين هو‏؟‏ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى الجنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام، هو ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا‏.‏ وروي عن أبي بن كعب أنه قال ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ بإفريقية، وهذا يقرب من الذي قبله، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيراً، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ يريد بحراً ملحاً وبحراً عذباً، فعلى هذا إنما كان الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر، لأنهما بحرا علم، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر، وقوله ‏{‏أو أمضي حقباً‏}‏ معناه أو أمضي على وجهي زماناً، واختلف القراء، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم «حقباً» بسكون القاف، وقرأ الجمهور «حقباً» بضمه، وهو تثقيل حقب، وجمع الحقب أحقاب، واختلف في الحقب، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد سبعون، وقال الفراء «الحقب» سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة «الحقب» جمع حقبة، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏بينهما‏}‏ للبحرين، قاله مجاهد، وقيل هو لموسى والخضر، والأول أصوب، وقرأ عبيد الله بن مسلم «مجمِع» بكسر الميم الثانية، وقال ‏{‏نسيا‏}‏ وإنما كان النسيان من الفتى وحده، نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله من حيث كان لهما زاداً، وكانا بسبب منه فنسب فعل الواحد فيه إليهما، وهذا كما تقول فعل بنو فلان لأمر إنما فعله منهم بعض، وروي في الحديث أن يوشع رأى الحوت قد حش من المكتل إلى البحر فرآه قد اتخذ السرب، وكان موسى نائماً فأشفق أن يوقظه، وقال أوخر حتى يستيقظ، فلما استيقظ نسي يوشع أن يعلمه، ورحلا حتى جاوزا «والسبيل»‏:‏ المسلك و«السرب»‏:‏ المسلك في جوف الأرض، فشبه به مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده، بل بقي كالطاق وهذا الذي ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله جمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغاً، وقال قتادة، صار موضع سلوكه حجراً صلداً‏.‏ وقال ابن زيد إنما اتخذ ‏{‏سبيله سرباً‏}‏ في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهؤلاء يتأولون ‏{‏سرباً‏}‏ بمعنى تصرفاً وجولاناً من قولهم فحل سارب، أي مهمل يرعى حيث شاء، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسارب بالنهار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏، أي متصرف وقالت فرقة اتخذ ‏{‏سرباً‏}‏ في التراب من المكتل إلى البحر، وصادف في طريقه حجراً فثقبه، وظاهر الأمر أن السرب، إنما كان في الماء، ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست قط شيئاً إلا حيي، ومن غريبه أيضاً أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجراً طريقاً، وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى ذلك الطريق إلى الجزيرة في البحر وفيها وجد الخضر، وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر، يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتدا على آثارهما قصصاً‏}‏ وروي في قوله ‏{‏فلما جاوزا‏}‏ أن موسى عليه السلام نزل عند صخرة عظيمة في ضفة البحر، فنسي يوشع الحوت هنالك، ثم استيقظ موسى ورحلا مرحلة بقية الليل وصدر يومهما، فجاع موسى ولحقه تعب الطريق، فاستدعى الغداء، قال أبي رضي الله عنه سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم، و«النصب» التعب والمشقة، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «نُصُباً» بضم النون والصاد، ويشبه أن يكون جمع نصب وهو تخفيف نصب وقوله ‏{‏أرأيت‏}‏ الآية حكى الطبري عن فرقة أنهة قالت الصخرة هي الشام عند نهر الذيب، وقد تقدم ذكر الخلاف في موضع هذه القصة، وقوله ‏{‏نسيت الحوت‏}‏ يريد نسيت ذكر ما جرى فيه لك، وأما الكسائي وحده «أنسانيه»، وقرأت فرقة «أنسانيه» وقرأ ابن كثير في الوصل «أنسانيهي» بياء بعد الهاء، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وما أنسانيه أن أذكركه إلا الشيطان»‏.‏

وقوله ‏{‏أن أذكره‏}‏ بدل من ‏{‏الحوت‏}‏ بدل اشتمال، وقوله ‏{‏واتخذ سبيله في البحر عجباً‏}‏ يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيله عجباً للناس، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏واتخذ سبيله في البحر‏}‏ تام الخبر، فاستأنف التعجب فقال من قبل نفسه‏:‏ ‏{‏عجباً‏}‏ لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه الأيسر ثم حيي بعد ذلك، قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته، أتيت به فإذا هو شقة حوت، وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأنا رأيته والشق الذي فيه شيء عليه قشرة رقيقة يشق تحتها شوكة وشقة الآخر، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏واتخذ سبيله‏}‏ الآية إخبار من الله تعالى، وذلك على وجهين‏:‏ إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البرح عجباً أي تعجب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجباً للناس، وقرأ أبو حيوة «واتخاذ سبيله» فهذا مصدر معطوف على الضمير في ‏{‏أذكره‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ذلك‏}‏ الآية، المعنى قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثم، فرجعا يقصان أثرهما لئلا يخطئان طريقهما، وقرأ الجمهور «نبغي» بثبوت الياء، وقرأ عاصم وقوم «نبغ» دون ياء، وكان الحسن يثبتها إذا وصل ويحذفها إذا وقف، و«قص الأثر» اتباعه وتطلبه في موضع خفائه، و«العبد» هو الخضر في قول الجمهور بمقتضى الأحاديث، وخالف من لا يعتد بقوله فقال ليس، صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر، والخضر نبي عند الجمهور، وقيل هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله، وروي في الحديث أن موسى عليه السلام وجد الخضر مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال له السلام عليك، فرفع الخضر رأسه وقال وأنى بأرضك السلام‏؟‏ ثم قال له من أنت‏؟‏ قال أنا موسى، قال موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال نعم، قال له ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا‏؟‏ قال بلى، ولكني أحببت لقاءك، وأن أتعلم منك، قال له إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها‏.‏ وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم‏.‏ وروي أن موسى وجد الخضر قاعداً على تيح البحر، وسمي الخضر خضراً لأنه جلس على فروة يابسة فاهتزت تحته خضراء، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، و«الرحمة» في هذه الآية النبوءة، وقد ذكرنا الحديث المضمن أن سبب هذه القصة أن موسى عليه السلام، قيل له تعلم أحداً أعلم منك، قال‏:‏ لا، وحكى الطبري حديثاً آخر، مضمنه‏:‏ أن موسى عليه السلام قال‏:‏ من قبل نفسه‏:‏ أي رب، أي عبادك أعلم‏؟‏ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة خير تهديه، قال رب فهل في الأرض أحد‏؟‏ قال نعم فسأل السبيل إلى لقيه، والحديث الأول في صحيح البخاري، وقرأ الجمهور «من لدنّا» بتشديد النون وقرأ أبو عمرو من «لدُنا» بضم الدال وتخفيف النون، قال أبو حاتم هما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 73‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى‏:‏ هل يتفق لك ويخف عليك، وهذا كما في الحديث «هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله ‏{‏هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم «رُشُداً» بضم الراء والشين، وقرأ أبو عمرو «رَشَداً» بفتح الراء والشين، ونصبه على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون مفعولاً ثانياً ب ‏{‏تعلمني‏}‏ والآخر أن يكون حالاً من الضمير في قوله ‏{‏أتبعك‏}‏ ثم قال الخضر، ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ أي إنك يا موسى، لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي، لأن الظواهر التي علمك لا تعطيه، ‏{‏وكيف تصبر على‏}‏ ما تراه خطأً، ولم تخبر بوجه الحكمة فيه ولا طريق الصواب، فقرب له موسى المر بوعده أنه سيجده، ثم استثنى حين حكم على نفسه بأمر فقوى الخضر وصاته وأمره بالإمساك عن السؤال والإكنان لما يراه حتى يبتدئه الخضر لشرح ما يجب شرحه، وقرأ نافع فلا «تسألَنّي» بفتح اللام، وتشديد النون وإثبات الياء وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه حذف الباء فقال «تسألَنّ»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «تسألني» بسكون اللام وثبوت الياء، وقرأ الجمهور «خبْراً» بسكون الباء، وقرأ الأعرج «خبُراً» بضمها، وقوله ‏{‏فانطلقا‏}‏ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر حتى مرت بهما سفينة، فعرف الخضر فحملا بغير قول إلى مقصد أمه الخضر، وعرفت ‏{‏السفينة‏}‏ بالألف واللام تعريف الجنس لا لعهد عينها، فلما ركبا عمد الخضر إلى وتد فجعل يضرب في جنب السفينة حتى قلع به، فيما روي لوحين من ألواحها فذلك هو معنى ‏{‏خرقها‏}‏ فلما رأى ذلك موسى غلبه ظاهر الأمر على الكلام حين رأى فعلاً يؤدي إلى غرفة جميع من في السفينة، فوقفه بقوله ‏{‏أخرقتها‏}‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «لتغرق أهلها» بالتاء وقرأ أبو رجاء «لتغَرِّق» بشد الراء وفتح الغين، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلُها» برفع الأهل، وإسناد الفعل إليهم و«الإمر» الشنيع من الأمور كالداهية والإد ونحوه، ومنه أمر إمْر ابن أبي كبشة ومنه أمر القوم إذا كثروا، وقال مجاهد «الإمر» المنكر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والامر أخص من المنكر، فقال الخضر مجاوباً لموسى‏:‏ ‏{‏ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ فتنبه موسى لما أتى معه، فاعتذر بالنسيان، وذلك أنه نسي العهد الذي كان بينهما، هذا قول الجمهور، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«كانت الأولى من موسى نسياناً»، وفيه عن مجاهد أنه قال «كانت الأولى نسياناً»، والثانية شرطاً، والثالثة عمداً، وهذا كلام معترض لأن الجميع شرط ولأن العمد يبعد على موسى عليه السلام، وإنما هو التأويل إذ جنب صيغة السؤال أو النسيان، وروى الطبري عن أبي بن كعب أنه قال‏:‏ إن موسى عليه السلام لم ينس، ولكن قوله هذا من معاريض الكلام، ومعنى هذا القول صحيح، والطبري لم يبينه، ووجهه عندي أن موسى عليه السلام إنما رأى العهد في أن يسأل ولم ير إنكار هذا الفعل الشنيع سؤالاً بل رآه واجباً، فلما رأى الخضر قد أخذ العهد على أعم وجوهه فضمنه السؤال والمعارضة والإنكار وكل اعتراض إذ السؤال أخف من هذه كلها أخذ معه في باب المعاريض، التي هي مندوحة عن الكذب، فقال له ‏{‏لا تؤاخذني بما نسيت‏}‏ ولم يقل له‏:‏ إني نسيت العهد، بل قال لفظاً يعطي للمتأول أنه نسي العهد، ويستقيم أيضاً تأويله وطلبه، مع أنه لم ينس العهد لأن قوله ‏{‏لا تؤاخذني بما نسيت‏}‏ كلام جيد طلبه، وليس فيه للعهد ذكر هل نسيه أم لا، وفيه تعريض أنه نسي العهد، فجمع في هذا اللفظ بين العذر والصدق وما يخل بهذا القول إلا أن الذي قاله وهو أبي بن كعب روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «كانت الأولى من موسى نسياناً» و‏{‏ترهقني‏}‏ معناه تكلفني وتضيف علي ومما قص من أمرهما، أنهما لما ركبا السفينة وجرت، نزل عصفور على جنب السفينة، فنقر في الماء نقرة، فقال الخضر لموسى، ماذا ترى هذا العصفور نقص من ماء البحر‏؟‏ فقال موسى قليلاً، فقال‏:‏ يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من ماء البحر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فقيل معنى هذا الكلام وضع العلم موضع المعلومات، وإلا فعلم الله تعالى يشبه بمتناه إذ لا يتناهى، والبحر لو فرضت له عصافير على عدد نقطه لانتهى، وعندي أن الاعتراض باق لأن تناهي معلومات الله محال، إذ يتناهى العلم بتناهي المعلومات، وقيل فراراً عن هذا الاعتراض، يحتمل أن يريد من علم الله الذي أعطاه العلماء قبلهما، وبعدهما إلى يوم القيامة، فتجيء نسبة علمهما إلى البشر نسبة تلك النقطة إلى البحر، وهذا قول حسن لولا أن في بعض طرق الحديث «ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كنقرة هذا العصفور»، فلم يبق مع هذا إلا أن يكون التشبيه بتجوز، إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة من نقطة بالإضافة إلى البحر، فكأنها لا شيء إذ لا يوجد لها إلى البحر نسبة معلومة، ولم يعن الخضر لتحرير موازنة بين المثال وبين علم الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 78‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فانطلقا‏}‏ في موضع نزولهما من السفينة، فمرا بغلمان يلعبون، فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء، فاقتلع رأسه، ويقال رضه بحجر، ويقال ذبحه وقال بعض الناس كان الغلام لم يبلغ الحلم، ولذلك قال موسى ‏{‏زكية‏}‏ أي لم تذنب، وقالت فرقة بل كان بالغاً شاباً، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

غلام إذا هز القناة سقاها *** وهذا في صفة الحجاج، وفي الخبر أن هذا الغلام، كان يفسد في الأرض ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر ونافع والجمهور «زاكية»، وقرأ الحسن وعاصم والجحدري «زكية» والمعنى واحد، وقد ذهب القوم إلى الفرق وليس ببين، وقوله ‏{‏بغير نفس‏}‏ يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، ولا بغير نفس وقرأ الجمهور «نكراً» وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وشيبة «نكُراً» بضم الكاف واختلف عن نافع، ومعناه‏:‏ شيئاً ينكر، واختلف الناس أيهما أبلغ قوله ‏{‏إمراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 71‏]‏ أو قوله ‏{‏نكراً‏}‏ فقالت فرقة هذا قتل بين، وهناك مترقب ف ‏{‏نكراً‏}‏ أبلغ وقالت فرقة هذا قتل واحد، وذلك قتل جماعة ف ‏{‏إمراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 71‏]‏ أبلغ وعندي أنهما المعنيين، قوله ‏{‏إمراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 71‏]‏ أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و‏{‏نكراً‏}‏ أبين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ونصف القرآن بعد الحروف انتهى إلى النون من قوله ‏{‏نكراً‏}‏ وقوله ‏{‏ألم أقل لك‏}‏ زجر وإغلاظ ليس في قوله أولاً ‏{‏ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ وقوله بعد هذا ‏{‏يريد‏}‏ بعدها القصة، فأعاد الضمير عليها وإن كانت لم يتقدم لها ذكر صريح، من حيث كانت في ضمن القول، وقرأ الجمهور «فلا تصاحبني» ورواها أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني»، وقرأ عيسى أيضاً «فلا تُصحبني» بضم التاء وكسر الحاء ورواها سهل عن أبي عمرو، والمعنى فلا تصحبني علمك، وقرأ الأعرج «فلا تَصحبنّي»‏:‏ بفتح التاء والباء وشد النون، وقوله ‏{‏قد بلغت من لدني عذراً‏}‏ أي قد أعذرت إلي، وبلغت إلى العذر من قبلي، ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلاً للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام التلوم ثلاثة فتأمله، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من «لَدُنّي» بفتح وضم الدال وشد النون‏.‏

وهي «لدن» اتصلت بها نون الكناية التي في ضربني ونحوه، فوقع الإدغام، وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافع وعاصم «لَدُني» كالأولى إلا أن النون مخففة، فهي «لدن» اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لَدْني» بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وهي تخفيف «لدني» التي ذكرناها قبل هذه وروي عن عاصم «لُدْني» بضم اللام وسكون الدال قال ابن مجاهد وهي غلط قال أبو علي هذا التغليظ يشبه أن يكون من جهة الرواية فأما على قياس العربية فهي صحيحة، وقرأ الحسن «لَدْني» بفتح اللام وسكون الدال، وقرأ الجمهور «عذْراً» وقرأ أبو عمرو وعيسى «عذُراً» بضم الدال، وحكى الداني أن أبي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم «عذري» بكسر الراء وياء بعدها وأسند الطبري، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه، فقال يوماً رحمة الله علينا، وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، ولكنه قال ‏{‏فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً‏}‏ وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر، حتى يقص علينا من أمرهما»، وروي في تفسير هذه الآية أن الله جعل هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر، حجة على موسى وعجباً له، وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة، نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم، فلما أنكر أمر الغلام، قيل له أين إنكارها هذا من وكرك للقبطي وقضائك عليه‏؟‏ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك حجر البير لبنات شعيب دون أجر‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فانطلقا‏}‏ يريد انطلق الخضر وموسى يمشيان لارتياد الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علم الله فمرا بقرية فطلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا، وفي حديث‏:‏ أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم، وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله، واختلف الناس في «القرية»‏:‏ فقال محمد بن سيرين هي الأبلة‏.‏ وهي أبخل قرية وأبعدها من السماء، وقالت فرقة هي أنطاكية، وقالت فرقة هي برقة، وقالت فرقة هي بجزيرة الأندلس، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة هي أبو حوران، وهي بناحية أذربيجان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك، وقرأ الجمهور «يضَيّفوهما» بفتح الضاد وشد الياء، وقرأ أبو رجاء «يضيفوهما»، بكسر الضاد وسكون الياء وهي قراءة ابن محيصن، وابن الزبير، والحسن وأبي رزين، والضيف مأخوذ من ضاف إلى المكان إذا مال إليه، ومنه الإضافة، وهي إمالة شيء إلى شيء، وقرأ الأعمش «فأبوا أن يطعموهما»، وقوله في الجدار ‏{‏يريد‏}‏ استعارة، وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكان الجماد إنسان لكان ممتثلاً لذلك الفعل، فمن ذلك قول الأعشى‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والقتل

فأسند النهي إلى الطعن‏.‏ ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

يريد الرمح صدر أبي براء *** ويرغب عن دماء بني عقيل

ومنه قول عنترة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وشكا إلي بعبرة وتحمحم *** وقد فسر هذا المعنى بقوله لو كان يدري ما المحاورة البيت، ومنه قول الناس‏:‏ داري تنظر إلى دار فلان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتراءى نارهما، وهذا كثير جداً وقرأ الجمهور «ينقض» أي يسقط، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه «أن يُنقض» بضم الميم وتخفيف الضاد وهي قراءة أبي، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعكرمة «أن يناقص»، بالصاد غير منقوطة بمعنى ينشق طولاً، يقال انقاص الجدار وطي البير، وانقاصت السن، إذا انشقت طولاً، وقيل إذا تصدعت كيف كان، ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فراق كقيص السن فالصبر انه *** لكل أناس عبرة وحبور

ويروى عثرة وجبور بالثاء والجيم، وقرأ ابن مسعود والأعمش «يريد لينقض» واختلف المفسرون في قوله ‏{‏فأقامه‏}‏ فقالت فرقة هدمه وقعد يبنيه، ووقع هذا في مصحف ابن مسعود، ويؤيد هذا التأويل قول، ‏{‏لو شئت لتخذت عليه أجراً‏}‏ لأنه فعل يستحق أجراً، وقال سعيد بن جبير مسحه بيده وأقامه فقام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وروي في هذا الحديث وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم السلام فقال موسى للخضر‏:‏ ‏{‏لو شئت لتخذت عليه أجراً‏}‏ أي طعاماً تأكله، وقرأ الجمهور «لتخذت» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتخذت» وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم، ومن قولهم تخذ قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المزق‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها *** نسيقاً كأفحوص القطاة المطرق

وفي حرف أبي بن كعب‏:‏ «لو شئت لأوتيت عليه أجراً»، ثم قال الخضر لموسى بحسب شرطهما ‏{‏هذا فراق بيني وبينك‏}‏ واشترط الخضر، وأعطاه موسى أن لا يقع سؤال عن شيء، والسؤال أقل وجوه الاعتراضات، فالإنكار والتخطئة أعظم منه، وقوله ‏{‏لو شئت لتخذت عليه أجراً‏}‏ وإن لم يكن سؤالاً ففي ضمنه الإنكار لفعله، والقول بتصويب أخذ الأجر، وفي ذلك تخطئة ترك الأجر، والبين الصلاح، الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما، وذلك مستعار فيه من الظرفية، ويستعمل استعمال السماء، وأما فصله، وتكريره ‏{‏بيني وبينك‏}‏ وعدوله عن بيننا، فلمعنى التأكيد، والسين في قوله ‏{‏سأنبئك‏}‏ مفرقة بين المحاورتين والصحبتين، ومؤذنة بأن الأولى قد انقطعت، ثم أخبره في مجلسه ذلك وفي مقامه ‏{‏بتأويل‏}‏ تلك القصص والتأويل هنا المآل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور «لمساكين» بتخفيف السين، جمع مسكين، واختلف في صفتهم، فقالت فرقة كانت لقوم تجار، ولكنهم من حيث هم مسافرون على قلة، وفي لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة غصب جائر، عبر عنهم ب «مساكين»، إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كما تقول لرجل غني إذا وقع في وهدة وخطب مسكين وقالت فرقة‏:‏ كانوا عشرة إخوة‏:‏ أهل عاهات خمسة منهم‏:‏ عاملون بالسفينة لا قدرة بهم على العمل، وقرأت فرقة «لمسّاكين» بتشديد السين‏.‏ واختلف في تأويل ذلك فقالت فرقة أراد ب «المساكين» ملاحي السفينة وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل المركب وكل الخدمة يصلح لإمساكه، فسمي الجميع «مساكين»، وقالت فرقة‏:‏ أراد «المسّاكين» دبغة المسوك، وهي الجلود واحدها مسك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأظهر في ذلك القراءة الأولى وأن معناها أن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق لهم، واحتج الناس بهذه الآية في أن المسكين الذي له البلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء، وأنه أصلح حالاً من الفقير، واحتج من يرى خلاف هذا بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد

وتحرير هذا عندي أنهما لفظان يدلان على ضعف الحال جداً، ومع المسكنة انكشاف وذل وسؤال، ولذلك جعلها الله صنفين، في قسم الصدقات، فأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو‏:‏ «ليس المسكين بهذا الطواف» فجعل المساكين في اللغة أهل الحاجة الذين قد كشفوا وجوههم، وأما قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء الذين أحصروا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏‏.‏ فجعل الفقراء أهل الحاجة الذين لم يكشفوا وجوههم، وقد تقدم القول في هذه المسألة بأوعب من هذا‏.‏ وقوله ‏{‏وكان وراءهم ملك‏}‏ قال قوم معناه أمامهم، وقالوا وراء من الأضداد، وقرأ ابن جبير وابن عباس‏:‏ «وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة» صحيحة وقرأ عثمان بن عفان «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله ‏{‏وراءهم‏}‏ هو عندي على بابه وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعاً بها الزمن، وذلك أن الحادث المقدم الوجود هو الإمام، وبين اليد‏:‏ لما يأتي بعده في الزمن، والذي يأتي بعد‏:‏ هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر ببادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها‏:‏ أن هؤلاء وعملهم، وسعيهم، يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ «أمامهم»، أراد في المكان، أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده، وقوله تعالى في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلنا في الزمن، وقوله

‏{‏من وراءهم جهنم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 10‏]‏ مطرد كما قلنا مراعاة الزمن وقول النبي صلى الله عليه وسلم «الصلاة أمامك» يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ، ووقع لقتادة في كتاب الطبري ‏{‏وكان وراءهم ملك‏}‏ قال قتادة أمامهم، ألا ترى أنه يقول ‏{‏من وراءهم جهنم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 10‏]‏ وهي بين أيديهم‏.‏ وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجمة التي كان الحس بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج ويجوز إن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب، فكان وراءهم حقيقة، وقيل اسم هذا الغاصب هدد بن بدد، وقيل اسمه الجلندا، وهذا كله غير ثابت، وقوله ‏{‏كل سفينة‏}‏ عموم معناه الخصوص في الجياد منها الصحاح المارة به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

تقدم القول في ‏{‏الغلام‏}‏، والخلاف في بلوغه أو صغره، وفي الحديث‏:‏ أن ذلك الغلام طبع يوم طبع كافراً، وهذا يؤيد ظاهره أنه كان غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبراً عنه، مع كونه بالغاً‏.‏ وقيل اسم الغلام جيسور بالراء، وقيل جيسون بالنون، وهذا أمر كله غير ثابت، وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين»، وقرأ أبو سعيد الخدري «فكان أبواه مؤمنان» فجعلها كان التي فيها الأمر والشأن، وقوله ‏{‏فخشينا‏}‏ قيل هو في جملة الخضر، فهذا متخلص‏.‏ والضمير عندي للخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا فيه، وقيل هو في جهة الله تعالى، وعنه عبر الخضر قال الطبري معناه فعلمنا وقال غيره معناه فكرهنا والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل، وإن كان اللفظ يدافعه، أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين، لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين، وقرأ ابن مسعود «فخاف ربك» وهذا بين في الاستعارة وهذا نظير ما يقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى‏:‏ فإن جميع ما في هذا كله، من ترج وتوقع، وخوف، وخشية، إنما هو بحبكم أيها المخاطبون، و‏{‏يرهقهما‏}‏ معناه يحثهما ويكلفهما بشدة، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه، وقرأ الجمهور «أن يبَدّلهما» بفتح الباء وشد الدال، وقرأ ابن محيصن والحسن وعاصم «يبدلهما» بسكون الباء وتخفيف الدال، و«الزكاة»‏:‏ شرف الخلق، والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية، و«الرحم» الرحمة، والمراد عند فرقة أي يرحمهما، وقيل أي يرحمانه، ومنه قول رؤبة بن العجاج‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يا منزل الرحم على إدريسا *** ومنزل اللعن على إبليسا

وقرأ ابن عامر «رحُماً» بضم الحاء، وقرأ الباقون «رحْماً» بسكونها، واختلف عن أبي عمرو، وقرأ ابن عباس «ربهما أزكى منه» و‏{‏أقرب رحماً‏}‏ وروي عن ابن جريج أنهما بدلا غلاماً مسلماً، وروي عن ابن جريج أنهما بدلا جارية، وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبياً، وذكره المهدوي عن ابن عباس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بعيد، ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم، وروي عن ابن جريج أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملاً بغلام مسلم، وقوله ‏{‏وأما الجدار فكان لغلامين‏}‏ هذان الغلامان صغيران، بقرينة وصفهما باليتم، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ» هذا الظاهر، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما، واختلف الناس في «الكنز»‏:‏ فقال عكرمة وقتادة كان مالاً جسيماً، وقال ابن عباس كان علماً في مصحف مدفونة، وقال عمر مولى غفرة كان لوحاً من ذهب قد كتب فيه عجباً للموقن بالرزق كيف يتعب، وعجباً للموقن بالحساب كيف يغفل، وعجباً للومقن بالموت كيف يفرح، وروي نحو هذا مما هو في معناه، قوله ‏{‏وكان أبوهما صالحاً‏}‏ ظاهر اللفظ والسابق منه أن والدهما دنيّة، وقيل هو الأب السابع، وقيل العاشر، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح، وفي الحديث

«إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته»، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ وفي الثانية ‏{‏فأردنا أن يبدلهما‏}‏ وفي الثالثة ‏{‏فأراد ربك أن يبلغا‏}‏ وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظة عيب، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله ‏{‏وإذا مرضت فهو يشفيني‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند المرض إلى نفسه، إذ هو معنى نقص ومصيبة، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيراً، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏، وتقديم فعل الله تعالى في قوله ‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏، وإنما قال الخضر في الثانية ‏{‏فأردنا‏}‏ لأنه أمل قد كان رواه هو وأصحابه الصالحون، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين، وتمنى البديل لهما، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى‏.‏ لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر، والله أعلم، و«الأشد» كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن، فقيل خمس وثلاثون، وقيل ست وثلاثون، وقيل أربعون، وقيل غير هذا مما فيه ضعف، وقول الخضر ‏{‏وما فعلته عن أمري‏}‏ يقتضي أن الخضر نبي، وقد اختلف الناس فيه‏:‏ فقيل هو نبي، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم، وتقول فرقة إنه حي، لأنه شرب من عين الحياة، وهو باق في الأرض، وأنه يحج البيت، وغير هذا، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، كلها لا يقوم على ساق، ولو كان الخضر عليه السلام حياً يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد»

، وقوله ذلك تأويل أي مآل، وقرأت فرقة «تستطع»، وقرأ الجمهور «تسطع» قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع» المصحف، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربك الغفور ذو الرحمة لو يأخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 58‏]‏ إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى الله عليه وسلم في قومه؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

اختلف فيمن سأله عن هذه القصة، فقيل سألته طائفة من أهل الكتاب، وروى في ذلك عقبة بن عامر حديثاً ذكره الطبري وقيل إنما سألته قريش، حين دلتها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك، و«ذو القرنين»‏:‏ هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه، فيقال المقدوني، وذكر ابن إسحاق في كتاب الطبري أنه يوناني، وقال وهب بن منبه هو رومي، وذكر الطبري حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن ذا القرنين شاب من الروم» وهو حديث واهي السند، فيه عن شيخين من تجيب، واختلف الناس في وجه تسميته ب ‏{‏ذي القرنين‏}‏، فأحسن الأقوال أنه كان ذا ضفرتين من شعر هما قرناه، فسمي بهما، ذكره المهدوي وغيره، والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

فلثمت فاها آخذاً بقرونها *** شرب النزيف لبرد ماء الحشرج

ومنه حديث في غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أم عطية‏:‏ فضفرنا رأسها ثلاثة قرون، وكثيراً تجيء تسمية النواصي قروناً، وروي أنه كان في أول ملكه يرى في نومه أنه يتناول الشمس، ويمسك قرنين لها بيديه، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب على ما ذرت عليه، وسمي «ذا القرنين»، وقالت فرقة سمي «ذا القرنين» لأنه بلغ المغرب والمشرق، فكأنه حاز قرني الدنيا، وقالت فرقة إنه بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرنيها، فسمي بذلك، أو قرني الشيطان بها، وقال وهب بن منبه‏:‏ سمي بذلك لأن جنبتي رأسه كانتا من نحاس، وقال وهب بن منبه أيضاً كان له قرنان تحت عمامته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله بعيد، وقال علي بن أبي طالب‏:‏ إنما سمي «ذا القرنين» لأنه ضرب على قرن رأسه فمات‏:‏ ثم حيي ثم ضرب على قرن رأسه الآخر فمات، فسمي بذلك لأنه جرح على قرني رأسه جرحين عظيمين في يومين عظيمين من أيام حربه فسمي بذلك، وهذا قريب، والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا، ودانت له الملوك كلها، فروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة‏:‏ مؤمنان وكافران، والمؤمنان‏:‏ سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران نمرود وبخت نصر، وقوله ‏{‏وآتيناه من كل شيء سبباً‏}‏ معناه علماً في كل أمر، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء، وقوله ‏{‏كل شيء‏}‏ عموم، معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه، وثم لا محالة أشياء لم يؤتَ منها سبباً يعلمها به، واختلف في ‏{‏ذي القرنين‏}‏ فقيل هو نبي، وهذا ضعيف‏.‏ وقيل هو ملَك بفتح اللام، وروي عن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلاً يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه فقال «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب» وقيل هو عبد ملِك بكسر اللام صالح، نصح لله فأيده، قاله علي بن أبي طالب، وقال فيكم اليوم مثله، وعنى بذلك نفسه، والله أعلم‏.‏ وقوله ‏{‏فأتبع سبباً‏}‏ الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «فاتّبع» بشد التاء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «فأتبع» بسكون التاء على وزن أفعل، قال بعض اللغويين هما بمعنى واحد، وكذلك تبع، وقالت فرقة «أتبع» بقطع الألف‏:‏ هي عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، و«اتبع» إنما يتضمن معنى الاقتفاء دون هذه القرائن، قاله أبو زيد وغيره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واستقرأ هذا القائل هذه المقالة من القرآن كقوله عز وجل ‏{‏فأتبعه شهاب ثاقب‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏، وكقوله ‏{‏فأتبعهم فرعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ ‏[‏طه‏:‏ 78‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏فأتبعه الشيطان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 175‏]‏، وهذا قول حكاه النقاش عن يونس بن حبيب، وإذا تأملت «اتّبع» بشد التاء لم تربط لك هذا المعنى ولا بد‏.‏ و«السبب» في هذه الآية، الطريق المسلوكة، لأنها سبب الوصول إلى المقصد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «في عين حَمِئة»، على وزن فَعِلة، أي ذات حُماة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، والباقون في «عين حامية»، أي حارة، وقد اختلف في ذلك قراءة معاوية وابن عباس فقال ابن عباس «حمئة»، وقال معاوية «حامية»، فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة، فقال لهما أما العربية فأنتما أعلم بها مني، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثاط، والثاط الطين‏.‏ فلما انفصلا قال رجل لابن عباس‏:‏ لوددت أني حضرت يا أبا العباس، فكنت أنجدك بشعر تبع الذي يقول فيه في ذكر ذي القرنين‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

قد كان ذو القرنين جدي مسلماً *** ملكاً تدين له الملوك ويحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي *** أسباب أمر من حيكم مرشد

فرأى مغار الشمس عند غروبها *** في عين ذي خلب وثاط حرمد

فالخلب‏:‏ الطين، والثاط‏:‏ الحمأة، الحرمد‏:‏ الأسد، ومن قرأ «حامئة»، وجهها إلى الحرارة، وروي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس وهي تغيب فقال «في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من الله لأحرقت ما على الأرض»، وروى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال

«أتدري أين تغرب يا أبا ذر‏؟‏» قلت لا، قال «إنها تغرب في عين حامية»، فهذا يدل على أن العين هنالك حارة، و«حامية» هي قراءة طلحة بن عبيد الله، وعمرو بن العاص وابنه، وابن عمر، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين‏:‏ فيقال يحتمل أن تكون العين حارة، ذات حمأة فكل قراءة وصف بصفة من أحوالها، وذهب بعض البغداديين إلى أن ‏{‏في‏}‏ بمنزلة عند، كأنها مسامتة من الأرض فيما يرى الرائي ل ‏{‏عين حمئة‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ قوله ‏{‏في عين‏}‏ إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها، أي هي آخر الأرض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وظاهر هذه الأقوال تخيل والله أعلم، قال أبو حاتم‏:‏ وقد يمكن أن تكون «حاميئة» مهموزة، بمعنى ذات حمأة، فتكون القراءتان بمعنى واحد، واستدل بعض الناس عل أن ذا القرنين نبي، بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قلنا يا ذا القرنين‏}‏ ومن قال إنه ليس بنبي، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام، و‏{‏إما أن تعذب‏}‏ بالقتل على الكفر ‏{‏وإما أن تتخذ فيهم حسناً‏}‏ أي بالإجمال على الإيمان، واتباع الهدى، فكأنه قيل له هذه لا تعطيها إلا إحدى خطتين‏:‏ إما أن تكفر فتعذبها، وإما أن تؤمن فتحسن إليها، وذهب الطبري إلى أن اتخاذ الحسن هو الأسر مع كفرهم، فالمعنى، على هذا، أنهم كفروا ولا بد فخيره الله بين قتلهم أو أسرهم، ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولكن تقسيم ‏{‏ذي القرنين‏}‏ بعد هذا الأمر إلى كفر أو إيمان، يريد هذا القول بعض الرد، فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 91‏]‏

‏{‏قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏ظلم‏}‏ في هذه الآية بمعنى كفر، ثم توعد الكافرين بتعذيبه إياهم قبل عذاب الله، وعقب لهم بذكر عذاب الله، لأن تعذيب ذي القرنين هو اللاحق عندهم، المحسوس لهم، الأقرب نكاية فلما جاء إلى وعد المؤمنين، قدم تنعيم الله تعالى الذي هو اللاحق عن المؤمنين، والآخر بإزائه حقير، ثم عبر أخيراً بذكر إحسانه في قول اليسر، وجعله قولاً، إذ الأفعال كلها خلق الله تعالى، فكأنه سلمها، ولم يراع تكسبه، وقرأت فرقة «نُكراً» بضم الكاف، وفرقة «نكْراً» بسكون الكاف، ومعناه المنكر الذي تنكره الأوهام لعظمه وتستهوله، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ ‏{‏جزاء الحسنى‏}‏ بإضافة الجزاء إلى ‏{‏الحسنى‏}‏، وذلك يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أن يريد ب ‏{‏الحسنى‏}‏ الجنة، والجنة هي الجزاء، فأضاف ذلك كما قال «دار الآخرة» والدار هي الآخرة، والثاني أن يريد ب ‏{‏الحسنى‏}‏ أعمالهم الصالحة في إيمانهم، فوعدهم بجزاء الأعمال الصالحة، وقرأ حمزة الكسائي وحفص عن عاصم «جزاءً الحسنى» بنصب الجزاء على المصدر في موضع الحال، و«الحسنى»‏:‏ ابتداء خبره في المجرور، ويراد بها الجنة، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق «جزاءٌ» بالرفع والتنوين ‏{‏الحسنى‏}‏ وقرأ ابن عباس ومسروق‏:‏ «جزاءَ» نصب بغير التنوين ‏{‏الحسنى‏}‏ بالإضافة، قال المهدوي‏:‏ ويجوز حذف التنوين لالتقاء الساكنين، ووعدهم بذلك بأنه ييسر عليهم أمور دنياهم، وقرأ ابن القعقاع‏:‏ «يسُراً» بضم السين، وقوله ‏{‏ثم أتبع سبباً‏}‏ المعنى‏:‏ ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده، فيجيء سبب الوصول، وكان ذو القرنين، على ما وقع في كتب التواريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، والإعداد الموفي، والحزم المستيقظ المتقد، والتأييد المتواصل، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة ولا مر بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته، وكل من عارضه أو توقف عن أمره جعله عظة وآية لغيره، وله في هذا المعنى أخبار كثيرة وغرائب‏.‏ وكرهت التطويل بها لأنها علم تاريخ‏.‏ وقرأ الجمهور «مطلِع» بكسر اللام، وقرأ الحسن بخلاف وابن كثير وأهل مكة «مَطلَع الشمس» بفتح اللام، و«القوم»‏:‏ الزنج، قاله قتادة وهم الهنود وما وراءهم، وقال النقاش في قوله ‏{‏لم نجعل لهم من دونها ستراً‏}‏ معناه‏:‏ أنه لهم بنيان، إذ لا تحمل أرضهم البناء، وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب، وقيل يدخلون في ماء البحر، قاله الحسن وقتادة وابن جريج، وكثر النقاش في غيره في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم وفعلها، لقدرة الله تعالى فيهم، ونيلها منهم، ولو كان لهم أسراب تغني لكان ستراً كثيفاً، وإنما هم في قبضة القدرة، سواء كان لهم أسراب أو دور أو لم يكن، ألا ترى أن الستر، عندنا نحن، إنما هو من السحاب والغمام وبرد الهوى، ولو سلط الله علينا الشمس لأحرقتنا، فسبحان المنفرد بالقدرة التامة، وقوله ‏{‏كذلك‏}‏ معناه‏:‏ فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، فأوجز بقوله ‏{‏كذلك‏}‏ ثم أخبر الله تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين، وما تصرف من أفعاله ويحتمل أن يكون ‏{‏كذلك‏}‏ استئناف قول، ولا يكون راجعاً على الطائفة الأولى، فتأمله، والأول أصوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 95‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

قرأت فرقة «اتّبع» بشد التاء، وقرأت فرقة «أتبع» بتخفيفها، وقد تقدم ذكره وهذه الآية تقتضي أنه لما بلغ مطلع الشمس، أي أدنى الأرض من مطلع الشمس، ‏{‏أتبع‏}‏ بعد ذلك ‏{‏سبباً‏}‏، أي طريقاً آخر، فهو، والله أعلم، إما يمنة وإما يسرة من مطلع الشمس، و«السدان» فيما ذكر أهل التفسير، جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض، وبين طرفي الجبلين فتح، هو موضع الردم، قال ابن عباس‏:‏ الجبلان اللذان بينهما السد‏:‏ أرمينية وأذربيجان، وقالت فرقة‏:‏ هما من وراء بلاد الترك، ذكره المهدوي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله غير متحقق، وإنما هما في طريق الأرض مما يلي المشرق ويظهر من ألفاظ التواريخ، أنه إلى ناحية الشمال، وأما تعيين موضع فيضعف، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم‏:‏ «السُّدين» بضم السين، وكذلك «سُداً» حيث وقع، وقرأ حفص عن عاصم بفتح ذلك كله من جميع القرآن، وهي قراءة مجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي، وقرأ ابن كثير «السَّدين» بفتح السين وضم «سداً» في يس، واختلف بعد فقال الخليل وسيبويه‏:‏ الضم هو الاسم والفتح هو المصدر، وقال الكسائي‏:‏ الضم والفتح لغتان بمعنى واحد، وقرأ عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرأ «بين السُّدين» بالضم وبعد ذلك «سَداً» بالفتح، وهي قراءة حمزة والكسائي، وحكى أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة، وقال ابن أبي إسحاق‏:‏ وما رأته عيناك فهو «سُد» بالضم، وما لا يرى فهو «سَد» بالفتح، والضمير في ‏{‏دونهما‏}‏ عائد على الجبلين، أي‏:‏ وجدهم في الناحية التي تلي عمارة الناس إلى المغرب، واختلف في القوم، فقيل‏:‏ هم بشر، وقيل جن، والأول أصح من وجوه، وقوله ‏{‏لا يكادون يفقهون قولاً‏}‏ عبارة عن بعد السانهم عن ألسنة الناس، لكنهم فقهوا وأفهموا بالترجمة ونحوها، وقرأ حمزة والكسائي «يُفقهون» من أفقه، وقرأ الباقون «يَفقهون» من فقه، والضمير في ‏{‏قالوا‏}‏‏:‏ للقوم الذين من دون السدين، و‏{‏يأجوج ومأجوج‏}‏‏:‏ قبيلتان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعاً كثيرة، اختلف الناس في عددها، فاختصرت ذكره لعدم الصحة، وفي خلقهم تشويه‏:‏ منهم المفرط الطول، ومنهم مفرط القصر، على قدر الشبر، وأقل، وأكثر، ومنهم صنف‏:‏ عظام الآذان، الأذن الواحدة وبرة والأخرى زعرى يصيف بالواحدة ويشتو في الأخرى وهي تعمه، واختلفت القراءة فقرأ عاصم وحده «يأجوج ومأجوج» بالهمز وقرأ الباقون‏:‏ «ياجوج وماجوج» بغير همزة فأما من همز، فاختلف‏:‏ فقالت فرقة‏:‏ هو أعجمي علتاه في منع الصرف‏:‏ العجمة والتأنيث، وقالت فرقة‏:‏ هو معرب من أجج وأج، علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث، وأما من لم يهمز فإما أن يراهما اسمين أعجميين، وإما أن يسهل من الهمز، وقرأ رؤبة بن العجاج‏:‏ «آجوج ومأجوج» بهمزة بدل الياء، واختلف الناس في «إفسادهم» الذي وصفوهم به، فقال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ «إفسادهم»‏:‏ أكل بني آدم، وقالت فرقة «إفسادهم» إنما عندهم توقعاً، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم، وقالت فرقة‏:‏ «إفسادهم» هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وهذا أظهر الأقوال، لأن الطائفة الشاكية إنما تشكت من ضرر قد نالها، وقولهم ‏{‏فهل نجعل لك خرجاً‏}‏ استفهام على جهة حسن الأدب، و«الخرج»‏:‏ المجبي، وهو الخراج، وقال فوم‏:‏ الخرج‏:‏ المال يخرج مرة، والخراج المجبي المتكرر، فعرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد، قال ابن عباس ‏{‏خرجاً‏}‏‏:‏ أجراً وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «خرجاً» وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً» وهي قراءة طلحة بن مصرف والأعمش والحسن بخلاف عنه وروي في أمر ‏{‏يأجوج ومأجوج‏}‏ أن أرزاقهم هي من التنين يمطرونها، ونحو هذا مما لم يصح، وروي أيضاً أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف، والأنثى لا تموت حتى تخرج من بطنها ألف، فهم لذلك إذا بلغوا العدد ماتوا، ويروى أنهم يتناكحون في الطرق كالبهائم، وأخبارهم تضيق بها الصحف، فاختصرتها لضعف صحتها وقوله ‏{‏قال ما مكني‏}‏ الآية، المعنى قال لهم ذو القرنين‏:‏ ما بسطه الله لي من القدرة والملك، خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، ويعمل منكم بالأيدي، وقرأ ابن كثير «ما مكنني» بنونين، وقرأ الباقون «ما مكني» بإدغام النون الأولى في الثانية، وهذا من تأييد الله تعالى لذي القرنين، فإنه «تهدما» في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه، فإن القوم، لو جمعوا له خرجاً لم يمنعه منهم أحد، ولوكلوه إلى البنيان، ومعونتهم بالقوة أجمل به، وأمر يطاول مدة العمل، وربما أربى على المخرج، و«الردم» أبلغ من السد، إذ السد كل ما سد به، و«الردم» وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه‏:‏ إذا رقعه برقاع متكاثفة، بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

هل غادر الشعراء من متردم *** أي من قول يركب بعضه على بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 100‏]‏

‏{‏آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

قرأ عاصم وحمزة «ايتوني» بمعنى جيئوني، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي «آتوني» بمعنى أعطوني، وهذا كله إنما هو استدعاء إلى المناولة، لا استدعاء العطية والهبة، لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخرج، فلم يبق الاستدعاء المناولة، وإعمال القوة، و«ايتوني»‏:‏ أشبه بقوله‏:‏ فأعينوني بقوة، ونصب «الزبر» به على نحو قول الشاعر‏:‏ أمرتك الخير، حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور «زبَر» بفتح الباء، وقرأ الحسن بضمها، وكل ذلك جمع زبرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى‏:‏ فرصفه وبناه، حتى إذا ساوى بين الصدفين، فاختصر ذلك لدلالة الظاهر عليه، وقرأ الجمهور «ساوى» وقرأ قتادة «سوى»، و«الصدفان»‏:‏ الجبلان المتناوحان، ولا يقال للواحد صدف وإنما يقال صدفان لاثنين لأن أحدهما يصادف الآخر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «الصَّدَفين» بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «الصُّدفين» بضم الصاد والدال، وهي قراءة مجاهد والحسن، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال، وهي قراءة أبي رجاء وأبي عبد الرحمن وقرأ الماجشون «بفتح الصاد وضم الدال، وقراءة قتادة» بين الصَّدْفين «، بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد‏:‏ هما الجبلان المتناوحان، وقيل» الصدفان «‏:‏ السطحان الأعليان من الجبلين، وهذا نحو من الأول، وقوله ‏{‏قال انفخوا‏}‏ إلى آخر الآية معناه أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها، حتى تحمى، ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو الرصاص أو بالحديد، بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه، على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد استأنف وصف طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل، وقرأ بعض الصحابة‏:‏» بقطر أفرغ عليه «، وقال أكثر المفسرين‏:‏» القطر «‏:‏ النحاس المذاب، ويؤيد هذا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم» جاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال كيف رأيته‏؟‏ قال رأيته كالبرد المحبر‏:‏ طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد رأيته «، وقالت فرقة» القطر «‏:‏ الرصاص المذاب، وقالت فرقة الحديد المذاب، وهو مشتق من قطر يقطر، والضمير في قوله ‏{‏استطاعوا‏}‏ ل ‏{‏يأجوج ومأجوج‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 94‏]‏، وقرأت فرقة» فما اسْطاعوا «بسكون السين وتخفيف الطاء، وقرأت فرقة بشد الطاء، وفيها تكلف الجمع بين ساكنين و‏{‏يظهروه‏}‏ معناه‏:‏ يعلونه بصعود فيه، ومنه في الموطأ‏:‏ والشمس في حجرتها قبل أن تظهر، ‏{‏وما اسطاعوا له نقباً‏}‏ لبعد عرضه وقوته ولا سبيل سوى هذين إما ارتقاء وإما نقب، وروي أن في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسين فرسخاً، وروي غير هذا مما لا ثبوت له، فاختصرناه، إذ لا غاية للتخرص، وقوله في هذه الآية ‏{‏انفخوا‏}‏ يريد بالأكيار، وقوله ‏{‏اسطاعوا‏}‏ بتخفيف الطاء، على قراءة الجمهور قيل هي لغة بمعنى استطاعوا وقيل بل استطاعوا بعينه، كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء، فقالوا‏:‏ ‏{‏اسطاعوا‏}‏، وحذف بعضهم منه الطاء فقال‏:‏» استاع «يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة وقرأ حمزة وحده» فما اسطّاعوا «بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي‏:‏ هي غير جائزة، وقرأ الأعمش‏:‏» فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا «بالتاء في الموضعين، وقوله ‏{‏هذا رحمة‏}‏ الآية القائل‏:‏ ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به، وقرأ ابن أبي عبلة» هذه رحمة «، و» الوعد «‏:‏ يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر» دكاً «مصدر دك يدك إذا هدم ورض، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي» دكاء «بالمد، وهذا على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره جعله مثل دكاء، وأما النصب في ‏{‏دكاً‏}‏ فيحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً ل» جعل «، ويحتمل أن يكون» جعل «بمعنى خلق، وينصب ‏{‏دكاً‏}‏ على الحال، وكذلك أيضاً النصب في قراءة من مد يحتمل الوجهين، والضمير في ‏{‏تركنا‏}‏ لله عز وجل، وقوله ‏{‏يومئذ‏}‏ يحتمل أن يريد به يوم القيامة لأنه قد تقدم ذكره، فالضمير في قوله ‏{‏بعضهم‏}‏ على ذلك لجميع الناس، ويحتمل أن يريد بقوله ‏{‏يومئذ‏}‏ يوم كمال السد، فالضمير في قوله ‏{‏بعضهم‏}‏ على ذلك

‏{‏يأجوج ومأجوج‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 94‏]‏، واستعارة «الموج» لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض كالمولهين من هم وخوف ونحوه، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض، وقوله ‏{‏ونفخ في الصور‏}‏ إلى آخر الآية معني به يوم القيامة بلا احتمال لغيره، فمن تأول الآية كلها في يوم القيامة، اتسق تأويله، ومن تأول الآية إلى قوله ‏{‏يموج في بعض‏}‏ في أمر يأجوج ومأجوج، تأول القول وتركناهم يموجون دأباً على مر الدهر وتناسل القرون منهم فنائهم، ثم ‏{‏نفخ في الصور‏}‏ فيجتمعون، و‏{‏الصور‏}‏‏:‏ في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح، هو القرن الذي ينفخ فيه للقيامة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا الجبهة وأصغى بالأذن متى يؤمر»، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «قولوا حسبنا الله وعلى الله توكلنا، ولو اجتمع أهل منى ما أقلوا ذلك القرن»، وأما «النفخات»، فأسند الطبري إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «» الصور «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين»، وقال بعض الناس «النفخات» اثنتان‏:‏ نفخة الفزع، وهي نفخة الصعق، ثم الأخرى التي هي للقيام، وملك الصور هو إسرافيل، وقالت فرقة ‏{‏الصور‏}‏ جمع صورة، فكأنه أراد صور البشر والحيوان نفخ فيها الروح، والأول أبين وأكثر في الشريعة، وقوله ‏{‏وعرضنا جهنم‏}‏ معناه‏:‏ أبرزناها لهم لتجمعهم وتحطمهم، ثم أكد بالمصدر عبارة عن شدة الحال، وروى الطبري في هذا حديثاً مضمنه أن النار ترفع لليهود والنصارى كأنها السراب، فيقال هل لكم في الماء حاجة‏؟‏ فيقولون نعم، وهذا مما لا صحة له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 106‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏أعينهم‏}‏ كناية عن البصائر، لأن عين الجارحة لا نسبة بينها وبين الذكر، والمعنى‏:‏ الذين فكرهم بينها وبين ‏{‏ذكري‏}‏ والنظر في شرعي حجاب، وعليها ‏{‏غطاء‏}‏ ثم قال إنهم ‏{‏كانوا لا يستطيعون سمعاً‏}‏ يريد لإعراضهم ونفارهم عن دعوة الحق، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «أفحسِب الذين» بكسر السين بمعنى‏:‏ أظنوا، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن وابن يعمر ومجاهد وابن كثير بخلاف عنه‏:‏ «أفحسْبُ» بسكون السين وضم الباء بمعنى أكافيهم ومنتهى غرضهم، وفي مصحف ابن مسعود «أفظن الذين كفروا»، وهذه حجة لقراءة الجمهور، وقال جمهور المفسرين يريد كل من عبد من دون الله كالملائكة وعزير وعيسى، فيدخل في ‏{‏الذين كفروا‏}‏ بعض العرب واليهود والنصارى، والمعنى أن ذلك ليس كظنهم، بل ليس من ولاية هؤلاء المذكورين شيء، ولا يجدون عندهم منتفعاً و‏{‏أعتدنا‏}‏ معناه‏:‏ يسرنا، و«النزل» موضع النزول، و«النزل» أيضاً ما يقدم للضيف أو القادم من الطعام عند نزوله، ويحتمل أن يراد بالآية هذا المعنى أن المعد لهم بدل النزول جهنم، كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً‏}‏ الآية المعنى‏:‏ قل لهؤلاء الكفرة على جهة التوبيخ‏:‏ هل نخبركم بالذين خسروا عملهم وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم مع ذلك يظنون أنهم يحسنون فيما يصنعونه فإذا طلبوا ذلك، فقل لهم‏:‏ ‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه‏}‏، وقرأ ابن وثاب «قل سننبئكم»، وهذه صفة المخاطبين من كفار العرب المكذبين، بالبعث، و«حبطت» معناه‏:‏ بطلت، و‏{‏أعمالهم‏}‏‏:‏ يريد ما كان لهم من عمل خير، وقوله ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ يحتمل أن يريد أنه لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار لا محالة، ويحتمل أن يريد المجاز والاستعارة، كأنه قال فلا قدر لهم عندنا يومئذ، فهذا معنى الآية عندي، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يؤتى بالأكول الشروب الطويل فلا يزن بعضوة» ثم يقرأ ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ وقالت فرقة‏:‏ إن الاستفهام تم في قوله ‏{‏أعمالاً‏}‏ ثم قال‏:‏ هم ‏{‏الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏}‏ فقال سعد بن أبي وقاص هم عباد اليهود والنصارى، وأهل الصوامع والديارات، وقال علي بن أبي طالب هم الخوارج، وهذا إن صح عنه، فهو على جهة مثال فيمن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن وروي أن ابن الكواء سأله عن ‏{‏الأخسرين أعمالاً‏}‏ فقال له أنت وأصحابك، ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك ‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه‏}‏ وليس من هذه الطوائف من يكفر بلقاء الله، وإنما هذه صفة مشركي عبدة الأوثان، فاتجه بهذا ما قلناه أولاً وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواماً أخذوا بحظهم من صدر الآية، وقوله ‏{‏أعمالاً‏}‏ نصب على التمييز، وقرأ الجمهور «فحبِطت» بكسر الباء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال «فحبَطت» بفتح الباء، وقرأ كعب بن عجرة والحسن وأبو عمرو ونافع والناس «فلا نقيم لهم» بنون العظمة، وقرأ مجاهد «فلا يقيم»، بياء الغائب، يريد فلا يقيم الله عز وجل، وقرأ عبيد بن عمير‏:‏ «فلا يقوم» ويلزمه أن يقرأ «وزن»، وكذلك قول مجاهد «يقول لهم يوم القيامة»، وقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ترك إقامة الوزن و‏{‏جزاؤهم‏}‏ خبر الابتداء في قوله ‏{‏ذلك‏}‏، وقوله ‏{‏جهنم‏}‏ بدل منه، و‏{‏ما‏}‏ في قوله ‏{‏بما كفروا‏}‏ مصدرية و«الهزء» الاستخفاف والسخرية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 110‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

لما فرغ من ذكر الكفرة والأخسرين أعمالاً الضالين، عقب بذكر حالة المؤمنين ليظهر التباين، وفي هذا بعث النفوس على اتباع الحسن القويم، واختلف المفسرون في ‏{‏الفردوس‏}‏ فقال قتادة إنه أعلى الجنة وربوتها، وقال أبو هريرة إنه جبل تنفجر منه أنهار الجنة، وقال أبو أمامة، إنه سرة الجنة، ووسطها، وروى أبو سعيد الخدري أنه تنفجر منه أنهار الجنة، وقال عبد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكرم والأعناب خاصة من الثمار، وقاله كعب الأحبار، واستشهد قوم لذلك بقول أمية بن أبي الصلت‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة *** فيها الفراديس والفومان والبصل

وقال الزجاج قيل إن ‏{‏الفردوس‏}‏ سريانية، وقيل رومية، ولم يسمع ب ‏{‏الفردوس‏}‏ في كلام العرب إلا في بيت حسان‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإن ثواب الله كل موحد *** جنان من الفردوس فيها يخلد

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»، وقالت فرقة ‏{‏الفردوس‏}‏ البستان بالرومية، وهذا اقتضاب القول في ‏{‏الفردوس‏}‏ وعيون ما قيل، وقوله ‏{‏نزلاً‏}‏ يحتمل الوجهين اللذين قدمناهما قبل، و«الحلول» بمعنى التحول، قال مجاهد‏:‏ متحولاً، ومنه قول شصار‏:‏ ‏[‏مجزوء الرجز‏]‏

لكل دولة أجل ثم يتاح لها حول *** وكأنه اسم جمع، وكأن واحده حوالة، وفي هذا نظر، وقال الزجاج عن قوم‏:‏ هي بمعنى الحيلة في التنقل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف متكلف، وأما قوله ‏{‏قل لو كان البحر‏}‏ إلى آخر الآية، فروي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي عليه السلام كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها، ومبعوث إليها، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم، وأنت مقصر، قد سئلت في الروح ولم تجب فيه، ونحو هذا من القول، فنزلت الآية معلمة باتساع معلومات الله عز وجل، وأنها غير متناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكير، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه، وهو قوله ‏{‏قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي‏}‏ و«الكلمات»‏:‏ هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، ومعلومات الله سبحانه لا تناهى، و‏{‏البحر‏}‏ متناه، ضرورة، وقرأ الجمهور‏:‏ «تنفد» بالتاء من فوق، وقرأ عمرو بن عبيد «ينفد» بالياء وقرأ ابن مسعود وطلحة‏:‏ قبل أن تقضي كلمات ربي، وقوله ‏{‏مداداً‏}‏ أي زيادة، وقرأ الجمهور‏:‏ «مداداً» وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش ومجاهد والأعرج «مدداً»، فالمعنى لو كان البحر ‏{‏مداداً‏}‏ تكتب به معلومات الله عز وجل، لنفد قبل أن يستوفيها، وكذلك إلى ما شئت من العدد، و‏{‏إنما أنا بشر مثلكم‏}‏ لم أعط إلا ما أوحي إلي وكشف لي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي‏:‏ «ينفد» بالياء من تحت، وقرأ الباقون بالتاء، وقوله ‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم‏}‏ المعنى‏:‏ ‏{‏إنما أنا بشر‏}‏ ينتهي علمي إلى حيث ‏{‏يوحى إلي‏}‏ ومهم ما يوحى إلي، أنما إلهكم إله واحد، وكان كفرهم بعبادة الأصنام فلذلك خصص هذا الفصل مما أوحي إليه، ثم أخذ في الموعظة، والوصاة البينة الرشد، و‏{‏يرجو‏}‏ على بابها، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏يرجو‏}‏ بمعنى يخاف، وقد تقدم القول في هذا المقصد، فمن كان يؤمن بلقاء ربه وكل موقن بلقاء ربه، فلا محالة أنه بحالتي خوف ورجاء، فلو عبر بالخوف لكان المعنى تاماً على جهة التخويف والتحذير، وإذا عبر بالرجاء فعلى جهة الإطماع وبسط النفوس إلى إحسان الله تعالى، أي ‏{‏فمن كان يرجو‏}‏ النعيم المؤبد من ربه ‏{‏فليعمل‏}‏ وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى، وقال ابن جبير في تفسيرها لا يرائي في عمله وقد روي حديث أنها نزلت في الرياء، حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يجاهد ويحب أن يحمده الناس، وقال معاوية بن أبي سفيان هذه آخر آية نزلت من القرآن‏.‏