فصل: تفسير الآيات رقم (40- 45)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 45‏]‏

‏{‏أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏40‏)‏ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏41‏)‏ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ‏(‏42‏)‏ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى حال الكفرة في الآخرة وما يقال لهم وهم في العذاب، اقتضى ذلك أن تشفق النفوس، وأن ينظر كل سامع لنفسه ويسعى في خلاصها، فلما كانت قريش مع هذا الذي سمعت لم تزل عن عتوها وإعراضها عن أمر الله، رجعت المخاطبة إلى محمد عليه السلام على جهة التسلية له عنهم وشبههم ب ‏{‏الصم‏}‏ و‏{‏العمي‏}‏، إذ كانت حواسهم لا تفيد شيئاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن كان في ضلال مبين‏}‏ يريد بذلك قريشاً بأنفسهم، ولذلك لم يقل‏:‏ «من كان» بل جاء بالواو العاطفة، كأنه يقول‏:‏ وهؤلاء، ويؤيد ذلك أيضاً عود الضمير عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏فإنا منهم‏}‏ ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله‏:‏ ‏{‏ومن كان‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما نذهبن بك‏}‏ الآية تتضمن وعيداً واقعاً، وذهب جمهور العلماء إلى أن المتوعدين هم الكفار، وأن الله تعالى أرى نبيه الذي توعدهم في بدر والفتح وغير ذلك، وذهب الحسن وقتادة إلى أن المتوعدين هم في هذه الأمة، وأن الله تعالى أكرم نبيه على أن ينتقم منهم بحضرته وفي حياته، فوقعت النقمة منهم بعد أن ذهب به، وذلك في الفتن الحادثة في صدر الإسلام مع الخوارج وغيرهم، قال الحسن وقتادة‏:‏ أكرم الله نبيه على أن يرى في أمته ما يكره كما رأى الأنبياء، فكانت بعد ذهابه صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏{‏فإنا منهم منتقمون‏}‏ فقال‏:‏ بعلي بن أبي طالب والقول الأول من توعد الكفار أكثر، ثم أمر تعالى نبيه بالتمسك بما جاء من عند الله من الوحي المتلو وغيره‏.‏ والصراط‏:‏ الطريق‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «أوحيَ» على بناء الفعل للمفعول‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ «أوحى» على الفعل المبني للفاعل، أي أوحى الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك‏}‏ يحتمل أن يريد وإنه لشرف وحمد في الدنيا‏.‏ والقوم‏:‏ على هذا قريش ثم العرب، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، فإذا قالوا له‏:‏ فلمن يكون الأمر بعدك‏؟‏ سكت حتى نزلت هذه الآية، فكان إذا سئل بعد ذلك، قال لقريش، فكانت العرب لا تقبل على ذلك حتى قبلته الأنصار وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يزال الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» وروى أبو موسى الأشعري عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يزال الأمر في قريش ما زالوا، إذ حكوا عدلوا، وإذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»‏.‏

وروى معاوية أنه عليه السلام قال‏:‏ «لا يزال هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين»‏.‏ ويحتمل أن يريد وإنه لتذكرة وموعظة، ف «القوم» على هذا أمة بأجمعها، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن، وقوله‏:‏ ‏{‏وسوف تسئلون‏}‏ قال ابن عباس وغيره معناه‏:‏ عن أوامر القرآن ونواهيه‏:‏ وقال الحسن بن أبي الحسن معناه‏:‏ عن شكر النعمة فيه، واللفظ يحتمل هذا كله ويعمه‏.‏

واختلف المفسرون في المراد بالسؤال في قوله‏:‏ ‏{‏وسئل من أرسلنا‏}‏ فقالت فرقة، أراد‏:‏ أن اسأل جبريل، ذكر ذلك النقاش، وفيه بعد‏.‏ وقال ابن زيد وابن جبير والزهري، أراد‏:‏ واسأل الرسل إذا لقيتهم ليلة الإسراء، أما أن النبي عليه السلام لم يسأل الرسل ليلة الإسراء عن هذا، لأنه كان أثبت يقيناً من ذلك ولم يكن في شك‏.‏ وقالت فرقة، أراد‏:‏ واسألني، أو واسألنا عمن أرسلنا، والأولى على هذا التأويل أن يكون‏:‏ ‏{‏من أرسلنا‏}‏ استفهاماً أمره أن يسأل له، كأن سؤاله‏:‏ يا رب من أرسلت قبلي من رسلك‏؟‏ أجعلت في رسالته الأمر بآلهة يعبدون‏؟‏ ثم ساق السؤال محكي المعنى، فرد المخاطبة إلى محمد عليه السلام في قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء، أراد‏:‏ وسل تباع من أرسلنا وحملة شرائعهم، لأن المفهوم أنه لا سبيل إلى سؤاله الرسل إلا بالنظر في آثارهم وكتبهم وسؤال من حفظها‏.‏

وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب‏:‏ «وسئل الذين أرسلنا إليهم رسلنا»، فهذه القراءة تؤيد هذا المعنى، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ مفهوم إنه لا يسأل إلا أهلها، ومما ينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ فمفهوم أن الرد إنما هو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن المحاور في ذلك إنما هم تباعهم وحفظة الشرع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يعبدون‏}‏ أخرج ضميرهم على حد من يعقل مراعاة للفظ الآلهة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏46‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

هذه آية ضرب مثل وإسوة لمحمد عليه السلام بموسى عليه السلام ولكفار قريش بفرعون ‏{‏وملائه‏}‏‏.‏ والآيات التي أرسل بها موسى وهي التسع المذكورة وغير ذلك مما جاءت به الروايات، وخص الملأ بالذكر لأنهم يسدون مسد جميع الناس، ثم وصفهم تعالى بالضحك من آيات موسى، كما كانت قريش تضحك وتسخر من أخبار محمد عليه السلام، ثم وصف تعالى صورة عرض الآيات عليهم وإنما كانت شيئاً بعد شيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا هي أكبر من أختها‏}‏ عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه، وذلك أن أول آية عرض موسى هي‏:‏ العصا واليد، وكانت أكبر آياته، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندهم لحينها وتكبر، لأنهم قد كانوا أنسوا التي قبلها، فهذا كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

على أنها تعفو الكلومُ وإنما *** توكل بالأدنى وان جل ما يقضى

وذهب الطبري إلى أن الآيات هي الحجج والبينات‏.‏ ثم ذكر تعالى أخذهم بالعذاب في العمل والضفادع والدم وغير ذلك، وهذا كما أخذ قريش بالسنين والدخان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم‏}‏ ترج بحسب معتقد البشر وظنهم‏.‏ و‏:‏ ‏{‏يرجعون‏}‏ معناه‏:‏ يتوبون ويقلعون‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيه الساحر‏}‏ جائز أن يكون قائل ذلك من أعملهم بكفر السحر فيقول‏:‏ قوله استهزاء وهو يعلم قدر السحر وانحطاط منزلته، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏عندك‏}‏ بمعنى‏:‏ في زعمك وعلى قولك، ويحتمل أن يكون القائل ليس من المتمردين الحذاق ويطلق لفظة الساحر لأحد وجهين، إما لأن السحر كان عند عامتهم علم الوقت، فكأنه قال‏:‏ يا أيه العالم، وإما لأن هذه الاسمية قد كانت انطلقت عندهم على موسى لأول ظهورها، فاستصحبها هذا القائل في مخاطبة قلة تحرير وغباوة، ويكون القول على هذا التأويل جداً من القائل، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏إنا لمهتدون‏}‏ بمعنى إن نفعتنا دعوتك، وهذا التأويل أرجح، أعني أن كلام هذا القائل مقترن بالجد‏.‏

وقرأ ابن عامر وحده‏:‏ «يا أيُ» بياء مضمومة فقط‏.‏

ثم أخبر عنهم أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا، ولو كان الكلام هزلاً من أوله لما وقع نكث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏51‏)‏ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ‏(‏53‏)‏ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

نداء فرعون يحتمل أن يكون بلسانه في ناديه، ويحتمل أن يكون بأن أمر من ينادي في الناس، ومعنى هذه الحجة التي نادى بها أنه أراد أن يبين فضله على موسى، إذ هو ملك مصر، وصاحب الأنهار والنعم، وموسى خامل متقل لا دنيا له، قال‏:‏ فلو أن إله موسى يكون حقاً كما يزعم، لما ترك الأمر هكذا و‏:‏ ‏{‏مصر‏}‏ من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل‏.‏ و‏:‏ ‏{‏الأنهار‏}‏ التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل وعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أم أنا خير‏}‏ قال سيبويه‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ هذه المعادلة، والمعنى‏:‏ أم أنتم لا تبصرون، فوضع موضع قوله‏:‏ أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يبصر عنده، وهو أنه خير من موسى‏.‏ و«لا» على هذا النظر نافية‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏أفلا تبصرون‏}‏ أم لا تبصرون، ثم اقتصر على ‏{‏أم‏}‏ لدلالة ظاهر الكلام على المحذوف منه، وابتدأ قوله‏:‏ ‏{‏أنا خير‏}‏ إخباراً منه، فقوله‏:‏ ‏{‏أفلا‏}‏ على هذا النظر بمنزلة‏:‏ هلا ولولا على معنى التخصيص‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏أ‏}‏ بمعنى بل‏.‏

وقرأ بعض الناس‏:‏ «أما أنا خير»، حكاه الفراء، وكان مجاهد يقف على ‏{‏أم‏}‏ ثم يبتدئ‏:‏ ‏{‏أنا خير‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ وفي مصحف أبي بن كعب‏:‏ «أم أنا خير أم هذا»‏.‏ و‏{‏مهين‏}‏ معناه ضعيف وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يكاد يبين‏}‏ إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وذلك أنها كانت أحدثت في لسانه عقدة، فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله، أجيبت دعوته، لكنه بقي أثر كان البيان يقع منه، لكن فرعون عير به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يكاد يبين‏}‏ يقتضي أنه كان يبين‏.‏

وقرأ أبو جعفر بن علي‏:‏ «يَبين» بفتح الياء الأولى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلولا ألقي عليه‏}‏ يريد من السماء على معنى التكرمة‏.‏

وقراءة الجمهور‏:‏ «أُلقي» على بناء الفعل للمفعول‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ «أَلقَى» بفتح الهمزة والقاف على بنائه للفاعل «أساورة» نصباً‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «أساورة» وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «أسورة»، وهي قراءة الحسن والأعرج وقتادة وأبي رجاء ومجاهد‏.‏ وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «أساور»‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «أساوير»، ويقال سوار وأسوار لما يجعل في الذراع من الحلي، حكى أبو زيد اللغتين وأبو عمرو بن العلاء، وهو كالقلب، قاله ابن عباس، وكانت عادة الرجال يومئذ حبس ذلك والتزيي به‏.‏ و‏:‏ ‏{‏أساورة‏}‏ جمع أسوار، ويجوز أن يكون جمع أسورة، كأسقية وأساقي، وكذلك‏:‏ أساور، جمع أسوار‏.‏ والهاء في‏:‏ ‏{‏أساورة‏}‏ عوض من الياء المحذوفة، لأن الجمع إنما هو أساوير كما في مصحف ابن مسعود، فحذفوا الياء وجعلوا الهاء عوضاً منها، كما فعلوا ذلك في زنادقة وبطارقة وغير ذلك، وأساورة‏:‏ جمع سوار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مقترنين‏}‏ أي يحمونه ويشهدون له ويقيمون حجته‏.‏ ثم أخبر تعالى عن فرعون أنه استخف قومه بهذه المقالة، أي طلب خفتهم وإجابتهم إلى غرضه، فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه في الكفر لفسقهم ولما كانوا بسبيله من الفساد‏.‏ و‏:‏ ‏{‏آسفونا‏}‏ معناه‏:‏ أغضبونا بلا خلاف، وإغضاب الله تعالى هو أن تعمل الأعمال الخبيثة التي تظهر من أجلها أفعاله الدالة على إرادة السوء بمن شاء‏.‏ والغضب على هذا صفة فعل، وهو مما يتردد، فإذا كان بمعنى ما يظهر من الأفعال، فهو صفة فعل، وإذا رد إلى الإرادة فهو صفة ذات، وفي هذا نظر‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «سَلَفاً» بفتح السين واللام جمع سالف، كحارس وحرس‏.‏ والسلف‏:‏ هو الفارط من الأمم المتقدم، أي جعلناهم متقدمين للأمم الكافرة عظة ومثلاً لهم يعتبرون بهم، أو يقعون فيما وقعوا فيه، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام‏:‏ «يذهب الصالحون أسلافاً»، وقوله في ولده إبراهيم‏:‏ «ندفنه عند سلفنا الصالح عثمان بن مظعون»‏.‏ وقرأ حميد الأعرج وحمزة والكسائي‏:‏ «سُلُفاً» بضم السين واللام، وهي قراءة عبد الله وأصحابه وسعد بن عياض وابن كثير، وهو جمع‏:‏ سليف‏.‏ وذكر الطبري عن القاسم بن معن أنه سمع العرب تقول‏:‏ مضى سلف من الناس، بمعنى السلف‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب وحميد الأعرج أيضاً‏:‏ «سُلَفاً» بضم السين وفتح اللام، كأنه جمع سلفة، بمعنى الأمة والقطعة‏.‏ والآخرون‏:‏ هو من يأتي من البشر إلى يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 62‏]‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏ وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

روي عن ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية، أنه لما نزلت‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن، فيكون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ ونزل مع ذلك ذكر عيسى وحاله وكيف خلق من غير فحل، قالت فرقة‏:‏ ما يريد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى، فهذا كان صدورهم من ضربه مثلاً‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب‏:‏ «يصُدون» بضم الصاد، بمعنى‏:‏ يعرضون‏.‏ وقرأ الباقون وابن عباس وابن جبير والحسن وعكرمة‏:‏ «يصِدون» بكسر الصاد، بمعنى يضحكون، وأنكر ابن عباس ضم الصاد، ورويت عن علي بن أبي طالب، وقال الكسائي‏:‏ هما لغتان بمعنى واحد، مثل «يعرُشون ويعرِشون»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏آلهتنا‏}‏ ابتداء معنى ثان، وذلك أنه لما نزلت ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ جاء عبد الله بن الزعبري ونظراؤه فقالوا‏:‏ نحن نخصم محمداً‏:‏ آلهتنا خير أم عيسى‏؟‏ وعلموا أن الجواب أن يقال عيسى، قالوا، وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار فقال النبي عليه السلام‏:‏ «بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار،» فقالوا نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى، إذ هو خير منها، وإذ قد عبد فهو من الحصب إذاً، فقال‏:‏ ‏{‏ما ضربوه لك إلا جدلاً‏}‏ أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا جدلاً منهم ومغالطة، ونسوا أن عيسى لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة، ولا له في ذلك ذنب‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «آءالهتنا» بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف بعدها‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي‏:‏ بهمزتين مخففتين بعد الثانية ألف‏.‏ وقرأ ورش عن نافع‏:‏ بغير استفهام‏:‏ «آلهتنا» على مثال الخبر‏.‏ وقرأ قالون عن نافع‏:‏ «ءالهتنا» على الاستفهام بهمزة واحدة بعدها مدة‏.‏ وفي مصحف أبي بن كعب‏:‏ «خير أم هذا»، فالإشارة إلى محمد، وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه، وكذلك قالت فرقة ممن قرأ‏:‏ ‏{‏أم هو‏}‏ إن الإرادة محمد عليه السلام، وهو قول قتادة‏.‏ وقال ابن زيد والسدي المراد ب ‏{‏هو‏}‏ عيسى، هذا هو المترجح‏.‏

والجدال عند العرب‏:‏ المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول إنما المقصد به أن يغلب صاحبه في الظاهر إلا أن يتطلب الحق في نفسه، وروى أبو أمامة عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل» ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ما ضربوه لك إلا جدلاً‏}‏ قال أبو أمامة‏:‏ ورأى عليه السلام قوماً يتنازعون، فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل، وقال‏:‏

«لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فما ضل قوم إلا أوتوا الجدل» ثم أخبر تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد، وأخبر عن عيسى أنه عبد أنعم الله عليه بالنبوءة والمنزلة العالية، وجعله مثلاً لبني إسرائيل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء‏}‏ الآية، أي لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل، فإن القدرة تقضي ذلك وأكثر منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لجعلنا منكم‏}‏ معناه‏:‏ لجعلنا بدلاً منكم، أي لو شاء الله لجعل بدلاً من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها‏.‏ وقال مجاهد وابن عباس‏:‏ يخلف بعضهم بعضاً‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وإنه لعلم‏}‏ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد‏:‏ الإشارة به إلى عيسى‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إلى محمد عليه السلام‏.‏ وقال الحسن أيضاً وقتادة‏:‏ إلى القرآن‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «لعِلْم» بكسر العين وسكون اللام‏.‏ وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة وأبو هند الغفاري ومجاهد وأبو نضرة ومالك بن دينار والضحاك‏:‏ «لعَلَم» بفتح العين واللام، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس‏:‏ «لَلعلم» بلامين، الأولى مفتوحة‏.‏ وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «لذَكر للساعة»‏.‏

فمن قال إن الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله علم وعلم أي هو إشعار بالساعة وشرط من أشراطها، يعني خروجه في آخر الزمان، وكذلك من قال‏:‏ الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو آخر الآنبياء، فقد تميزت الساعة به نوعاً وقدراً من التمييز، وبقي التحديد التام الذي انفرد الله بعلمه، ومن قال‏:‏ الإشارة إلى القرآن، حسن قوله في قراءة من قرأ‏:‏ «لعِلْم» بكسر العين وسكون اللام، أي يعلمكم بها وبأهوالها وصفاتها، وفي قراءة من قرأ‏:‏ «لذكر»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تمترن‏}‏ أي قل لهم يا محمد لا تشكون فيها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ إشارة إلى الشرع، ثم أمره بتحذير العباد من الشيطان وإغوائه ونبههم على عداوته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 68‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

«البينات» التي جاء بها عيسى عليه السلام هي‏:‏ إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، إلى غير ذلك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الإنجيل‏.‏ والحكمة‏:‏ النبوءة قاله السدي وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏بعض‏}‏ بمعنى كل، وهذا ضعيف ترده اللغة، ولا حجة له من قول لبيد‏:‏

أو يعتلق بعض النفوس حمامها *** لأنه أراد نفسه ونفس من معه، وذلك بعض النفوس، وإنما المعنى الذي ذهب إليه الجمهور، أن الاختلاف بين الناس هو في أمور كثيرة لا تحصى عدداً، منها أمور أخروية ودينية، ومنها ما لا مدخل له في الدين، فكل نبي فإنما يبعث ليبين أمر الأديان والآخرة، فذلك بعض ما يختلف فيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ حكاية عن عيسى عليه السلام إذ أشار إلى شرعه‏.‏ و‏:‏ ‏{‏الأحزاب‏}‏ المذكورون‏:‏ قال جمهور المفسرين أراد‏:‏ اختلف بنو إسرائيل وتحزبوا، فمنهم من آمن به، وهو قليل، وكفر الغير، وهذا إذا كان معهم حاضراً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏الأحزاب‏}‏ هم الأربعة الذين كان الرأي والمناظرة صرفت إليهم في أمر عيسى عليه السلام‏.‏ وقال ابن حبيب وغيره‏:‏ ‏{‏الأحزاب‏}‏ النصارى افترقت مذاهبهم فيه بعد رفعه عليه السلام، فقالت فرقة‏:‏ هو الله، وهم اليعقوبية قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو ابن الله، وهم النسطورية قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وقالت النصارى المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏، وقالت فرقة‏:‏ هو ثالث ثلاثة، وهم الملكانية قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بينهم‏}‏ بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم، ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم‏.‏ والضمير في‏:‏ ‏{‏ينظرون‏}‏ لقريش، والمعنى‏:‏ ينتظرون‏.‏ و‏:‏ ‏{‏بغتة‏}‏ معناه‏:‏ فجأة دون مقدمة ولا إنذار بها‏.‏

ثم صرف تعالى بعض حال القيامة، وإنها لهول مطلعها والخوف المطبق بالناس فيها يتعادى ويتباغض كل خليل كان في الدنيا على غير تقى، لأنه يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله، وأما المتقون فيرون أن النفع دخل بهم من بعضهم على بعض، هذا معنى كلام علي رضي الله عنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يا عبادي‏}‏ المعنى يقال لهم، أي للمتقين‏.‏

وقرأ عاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «يا عباديَ» بفتح الياء، وهذا هو الأصل‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ «يا عبادي» بسكون الياء‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم «يا عباد» بحذف الياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وحذفها أحسن، لأنه في موضع تنوين وهي قد عاقبته، فكما يحذف التنوين في الاسم المنادى المفرد، كذلك تحذف الياء هنا لكونها على حرف، كما أن التنوين كذلك، ولأنها لا تنفصل من المضاف كما لا ينفصل التنوين من المنون‏.‏

وذكر الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال‏:‏ سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد‏:‏ ‏{‏لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون‏}‏ فيرجوها الناس كلهم، قال فيتبعها‏.‏ ‏{‏الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 69‏]‏ قال‏:‏ فييأس منها جميع الكفار‏.‏

وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويعقوب‏:‏ «لا خوفَ» بنصب الفاء من غير تنوين‏.‏ وقرأ ابن محيصن برفع الفاء من غير تنوين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ نعت للعباد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا عباد‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 68‏]‏‏.‏ ثم ذكر أمره إياهم بدخول الجنة هم وأزواجهم‏.‏ و‏:‏ ‏{‏تحبرون‏}‏ معناه‏:‏ تنعمون وتسرون‏.‏ والحبرة‏:‏ السرور‏.‏ والأكواب‏:‏ ضرب من الأواني كالأباريق، إلا أنها لا آذان لها ولا مقابض‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة‏:‏ «ما تشتهيه» بإثبات الهاء الأخيرة وكذلك في مصحف المدينة ومصاحف الشام، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم والجمهور‏:‏ «ما تشتهي» بحذف الهاء، وكذلك وقع في أكثر المصاحف وحذفها من الصلة لطول القول حسن، وكذلك كثر في التنزيل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهذا الذي بعث الله‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 41‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وسلام على عباده الذين اصطفى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 58‏]‏ وغير ذلك، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏ ليس المعنى أن الأعمال أوجبت على الله إدخالهم الجنة، وإنما المعنى‏:‏ أن حظوظهم منها على قدر أعمالهم، وأما نفس دخول الجنة وأن يكون من أهلها فبفضل الله وهداه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 81‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى حال أهل الجنة وما يقال لهم، عقب ذلك بذكر حال الكفرة من الخلود في النار ولتتضح الأمور التي منها النذارة، والمجرمون في هذه الآية‏:‏ الكفار، بدليل الخلود وما تتضمنه الألفاظ من مخاطبة مالك وغيره‏.‏ والملبس‏:‏ المبعد اليائس من الخيرة، قاله قتادة وغيره‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وهم مبلسون» أي في جهنم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه، ولكن هم ظلموا في أن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها وضعفوا الكفر والتفريط في جنب الله تعالى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «كانوا هم الظالمين» على الفصل‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «هم الظالمون» على الابتداء والخبر، وأن تكون الجملة خبر «كان»‏.‏

ثم ذكر تعالى عن أهل النار أنهم ينادون مالكاً خازن النار، فيقولون على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر ‏{‏ليقض علينا ربك‏}‏ أي ليمتنا مرة حتى يتكرر عذابنا‏.‏

وقرأ النبي عليه السلام على المنبر‏:‏ «يا مالكٍ» بالكاف، وهي قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش‏:‏ «يا مال» بالترخيم، ورويت عن علي بن أبي طالب، ورواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والقضاء في هذه الآية بمعنى الموت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فوكزه موسى فقضى عليه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أن مالكاً يقيم بعد سؤالهم ألف سنة، وقال نوف‏:‏ مائة سنة، وقيل‏:‏ ثمانين سنة‏.‏ وقال عبد الله بن عمر‏:‏ وأربعين سنة، ثم حينئذ يقول لهم‏:‏ ‏{‏إنكم ماكثون‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لقد جئناكم‏}‏ الآية، يحتمل أن يكون من قول مالك لأهل النار، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏جئناكم‏}‏ ‏(‏على حد ما يدخل أحد جملة الرئيس كناية عن نفسه في فعل الرئيس فيقول غلبناكم وفعلنا بكم ونحو هذا، ثم ينقطع كلام مالك في قوله‏:‏ ‏{‏كارهون‏}‏ ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏جئناكم‏}‏ من قول الله تعالى لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك، وفي هذا توعد وتخويف فصيح، بمعنى انظروا كيف تكون حالكم، ثم تتصل الآية على هذا بما بعدها من أمر قريش‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم أبرموا أمراً‏}‏ من أمور كفرهم وتدبيرهم على عهد محمد صلى الله عليه وسلم كما فعلوا في اجتماعهم على قتله في دار الندوة إلى غير ذلك، و‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ في هذه الآية‏:‏ المنقطعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإنا مبرمون‏}‏ أي فإنا محكمو نصره وحمايته‏.‏ والإبرام‏:‏ أن تجمع خيطين ثم تفتلهما فتلاً متقناً‏.‏ والبريم‏:‏ خيط فيه لونان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسبون‏}‏ الآية، قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ نزلت لأن كثيراً من العرب كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السر، ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم ابن مسعود يقولون عند الكعبة‏:‏ أترى الله يسمعنا‏؟‏ فقال أحدهم‏:‏ يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا الحديث، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع، أي يدرك السر والنجوى، وأن رسله الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال البشر مع ذلك، وتعد للجزاء يوم القيامة‏.‏

واختلف المفسرون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ العابدون‏:‏ هو من العبادة، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك، فقال قتادة والسدي والطبري، المعنى‏:‏

‏{‏قل‏}‏ لهم ‏{‏إن كان للرحمن ولد‏}‏ كما تقولون فأنا أول من يعبده على ذلك، ولكن ليس به شيء من ذلك تعالى وجل‏.‏ قال الطبري‏:‏ فهذا الطاف في الخطاب، ونحوه قوله‏:‏ ‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ في مخاطبة الكفار‏:‏ ‏{‏أين شركائي‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27، القصص‏:‏ 62-72، فصلت‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقال مجاهد المعنى‏:‏ إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم‏.‏ وقال قتادة أيضاً وزهير بن محمد وابن زيد‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ نافية بمعنى‏:‏ ما، فكأنه قال‏:‏ ما كان للرحمن ولد‏.‏ وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدئ قوله‏:‏ ‏{‏فأنا أول العابدين‏}‏ قاله أبو حاتم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ العابدون في الآية‏:‏ من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء، ومنه قول الشاعر‏:‏

متى يشأ ذو الود يصرم خليله *** ويعبد عليه لا محالة ظالما

ومنه حديث عثمان وعلي في المرجومة حين قال علي‏:‏ ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ قال‏:‏ فما عبد عثمان أن بعث إليها لترد‏.‏ والمعنى‏:‏ إن جعلتم للرحمن ولداً وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «وَلَد» بفتح الواو واللام‏.‏ وقرأ ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش‏:‏ «وُلْد» بضم الواو وسكون اللام‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ «فأنا أول العابدين» وهي على هذا المعنى، قال أبو حاتم‏:‏ العبد بكسر الباء‏:‏ الشديد الغضب‏.‏ وقال أبو عبيدة معناه‏:‏ أول الجاحدين، والعرب تقول‏:‏ عبدني حقي، أي جحدني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 85‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

لما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنا أول العابدين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏ نزه الرب تعالى عن هذه المقالة التي قالوها و‏:‏ ‏{‏سبحان‏}‏ تنزيه‏.‏ وخص ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ و‏{‏العرش‏}‏ لأنها عظم المخلوقات‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذرهم يخوضوا‏}‏ مهادنة ما وترك، وهي مما نسخت بآية السيف وقرأ الجمهور «يلاقوا» وقرأ أبو جعفر وابن محيصن‏:‏ «حتى يلقوا»‏.‏ وقال جمهور اليوم الذي توعدهم به هو القيامة‏.‏ وقال عكرمة وغيره‏:‏ هو يوم بدر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله‏}‏ الآية آية حكم بعظمته وإخبار بألوهيته، أي هو النافذ أمره‏.‏

وقرأ عمر بن الخطاب وجابر بن زيد وأبو شيخ والحكم بن أبي العاصي وبلال بن أبي بردة وابن مسعود ويحيى بن يعمر وأبي بن كعب وابن السميفع‏:‏ «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله، و‏:‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ المحكم‏.‏ ‏{‏وتبارك‏}‏ تفاعل من البركة، أي تزيدت بركاته‏.‏ و‏:‏ ‏{‏السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ حصر لجميع الموجودات المحسوسات‏.‏ و‏:‏ ‏{‏علم الساعة‏}‏ معناه‏:‏ علم تحديد قيامها والوقف على تعيينه، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه، وإلا فنحن عندنا علم الساعة، أي إنها واقعة، وإنها ذات أهوال وبصفات ما، والمصدر في قوله‏:‏ ‏{‏علم الساعة‏}‏ مضاف إلى المفعول‏.‏

وقرأ أكثر القراء‏:‏» وإليه يرجعون «بالياء من تحت‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو‏:‏» تُرجعون «بالتاء من فوق مضمومة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 89‏]‏

‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يملك‏}‏ الآية مخاطبة لمحمد عليه السلام‏.‏ و‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ هم المعبودون، والضمير في‏:‏ ‏{‏يدعون‏}‏ هو للكفار الذين عبدوا غير الله عز وجل، فأعلم تعالى أن من عبد من دون الله فإنه لا يملك شفاعة عند الله يوم القيامة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «يدعون» بالياء من تحت‏.‏ وقرأ ابن وثاب‏:‏ «تدعون»، بالتاء من فوق، ثم استثنى تعالى من هذه الأخبار، واختلف الناس في المستثنى، فقال قتادة‏:‏ استثنى ممن عبد من دون الله‏:‏ عيسى وعزيراً والملائكة، والمعنى فإنهم يملكون شفاعة، بأن يملكها الله إياهم، إذ هم ممن شهد بالحق وهم يعلمونه في كل أحوالهم، فالاستثناء على هذا التأويل متصل وقال مجاهد وغيره‏:‏ استثنى من في المشفوع فيهم، فكأنه قال‏:‏ لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق وهو يعلمه، أي هو بالتوحيد، فالاستثناء على هذا التأويل منفصل، كأنه قال‏:‏ لكن من يشهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء، والتأويل الأول أصوب، والله أعلم‏.‏ ثم أظهر تعالى عليهم الحجة من أقوالهم وإقرارهم بأن الله هو خالقهم وموجدهم بعد العدم، ثم وقفهم على جهة التقرير والتوبيخ بقوله‏:‏ ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏ أي فلأي جهة يصرفون‏.‏

وقرأ جمهور القراء بالنصب، وهو مصدر كالقول، والضمير فيه لمحمد عليه السلام، وحكى مكي قولاً أنه لعيسى وهو ضعيف، واختلف الناس في الناصب، فقالت فرقة هو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏سرهم ونجواهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏‏.‏ وقالت فرقة العامل فيه ‏{‏يكتبون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏ أي أقوالهم من أفعالهم‏.‏ ‏{‏وقيله‏}‏‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الناصب له ما في قوله‏:‏ ‏{‏وعنده علم الساعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 85‏]‏ من قوة الفعل، أي ويعلم قيله، ونزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيله يا رب‏}‏ بمنزلة وشكوى محمد واسغاثته من كفرهم وعتوهم‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة وابن وثاب والأعمش‏:‏ و«قيلهِ» بالخفض عطفاً على ‏{‏الساعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد‏:‏ «وقيلُه» بالرفع على الابتداء‏.‏ وخبره في قوله‏:‏ ‏{‏يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون‏}‏ أي قيله هذا القول، أو يكون التقدير‏:‏ وقيله يا رب مسموع ومتقبل، ف ‏{‏يا رب‏}‏ على هذا منصوب الموضع ب «قيله» وقرأ أبو قلابة‏:‏ «يا ربَّ» بفتح الباء المشددة، وأراد يا رب على لغة من يقول‏:‏ يا غلاماً، ثم حذف الألف تخفيفاً واتباعاً لخط المصحف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاصفح عنهم‏}‏ موادعة منسوخة بآيات السيف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏ تقديره‏:‏ وقل أمري سلام، أي مسالمة‏.‏ ‏(‏وقالت فرقة‏)‏ المعنى‏:‏ وقل سلام عليكم على جهة الموادعة والملاينة، والنسخ قد أتى على هذا السلام، فسواء كان تحية أو عبارة عن الموادعة‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «يعلمون» بالياء‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر في رواية هشام عنه والحسن والأعرج وأبو جعفر‏:‏ «تعلمون» بالتاء من فوق‏.‏

سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

تقدم القول في‏:‏ ‏{‏حم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب المبين‏}‏ قسم أقسم الله تعالى به‏.‏ و‏:‏ ‏{‏المبين‏}‏ يحتمل أن يكون من الفعل المتعدي، أي يبين الهدى والشرع ونحوه، ويحتمل أن يكون من غير المتعدي، أي هو مبين في نفسه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ يحتمل أن يقع القسم عليه، ويحتمل أن يكون‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ من وصف الكتاب فلا يحسن وقوع القسم عليه، وهذا اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ويحسن القسم به، ويكون الذي وقع القسم عليه‏:‏ ‏{‏إنا كنا منذرين‏}‏‏.‏

واختلف الناس في تعيين الليلة المباركة، فقال قتادة والحسن‏:‏ هي ليلة القدر، وقالوا‏:‏ إن كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان‏:‏ التوراة في أوله، والإنجيل في وسطه، والزبور في نحو ذلك ونزل القرآن في آخره في ليلة القدر، ومعنى هذا النزول‏:‏ أن ابتداء النزول كان في ليلة القدر، وهذا قول الجمهور‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل أنزله الله جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور، ومن هنالك كان جبريل يتلقاه‏.‏ وقال عكرمة وغيره‏:‏ الليلة المباركة هي النصف من شعبان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا‏}‏ معناه‏:‏ يفصل من غيره ويتخلص، وروي عن عكرمة في تفسير هذه الآية أن الله تعالى يفصل للملائكة في ليلة النصف من شعبان، وقال الحسن وعمير مولى غفرة ومجاهد وقتادة‏:‏ في ليلة القدر كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل‏.‏ قال هلال بن يساف كان يقال‏:‏ انتظروا القضاء من شهر رمضان‏.‏ وروي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الرجل يتزوج ويعرس وقد خرج اسمه في الموتى، لأن الآجال تقطع في شعبان»‏.‏

وقرأ الحسن والأعرج والأعمش‏:‏ «يَفرُق» بفتح الياء وضم الراء‏.‏ و‏:‏ ‏{‏حكيم‏}‏ بمعنى محكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أمراً من عندنا‏}‏ نصب على المصدر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من عندنا‏}‏ صفة لقوله‏:‏ ‏{‏أمراً‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنا كنا مرسلين‏}‏ يحتمل أن يريد الرسل والأنبياء، ويحتمل أن يريد الرحمة التي ذكر بعد، وعلى التأويل الأول نصب قوله‏:‏ ‏{‏رحمة‏}‏ على المصدر، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم موقنين‏}‏ تقرير وتثبيت، أي إن كنت موقناً بهذا يكون يقينك، كما تقول لإنسان تقيم نفسه‏:‏ العلم غرضك إن كنت رجلاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏ أي مالككم ومالك آبائكم الأولين‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ «ربُّ السماوات» بالرفع على القطع والاستئناف، وهي قراءة الأعرج وابن أبي إسحاق وأبي جعفر وشيبة‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالكسر على البدل ‏{‏من ربك‏}‏ المتقدم، وهي قراءة ابن محيصن والأعمش‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ «ربُّكم وربُّ» فالجمهور على رفع الباء‏.‏

وقرأ الحسن بالكسر، رواها أبو موسى عن الكسائي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم في شك‏}‏ إضراب قبله نفي مقدر، كأنه يقول‏:‏ ليس هؤلاء ممن يؤمن ولا ممن يتبع وصاة، بل هم في شك يلعبون في أقوالهم وأعمالهم‏.‏

واختلف الناس في الدخان الذي أمر الله تعالى بارتقابه، فقالت فرقة منها علي بن أبي طالب وزيد بن علي وابن عمر وابن عباس والحسن بن أبي الحسن وأبو سعيد الخدري‏:‏ هو دخان يجيء قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين حتى تكون كأنها مصلية حنيذة‏.‏ وقالت فرقة منها عبد الله بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي‏:‏ هو الدخان الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجدب والجوع دخاناً بينه وبين السماء، وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ خمس قد مضين، الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم وذكر الطبري حديثاً عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن أول آيات الساعة الدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن» وضعف الطبري سند هذا الحديث، واختار قول ابن مسعود رضي الله عنه في الدخان قال‏:‏ ويحتمل إن صح حديث حذيفة أن يكون قد مر دخان ويأتي دخان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 18‏]‏

‏{‏يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يغشى‏}‏ معناه‏:‏ يغطي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا عذاب أليم‏}‏ يحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى، كأنه يعجب منه على نحو من قوله تعالى لما وصف قصة الذبح‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو البلاء المبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 106‏]‏، ويحتمل أن يكون ‏{‏هذا عذاب أليم‏}‏ من قول الناس، كأن تقدير الكلام‏:‏ يقولون هذا عذاب أليم، ويؤيد هذا التأويل سياقه حكاية عنهم أنهم يقولون ‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏}‏، وعلم الله تعالى أن قولهم في حال الشدة ‏{‏إنا مؤمنون‏}‏ إنما هو عن غير حقيقة منهم، فدل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أنى لهم الذكرى‏}‏، أي من أين لهم أن يتذكروا وهم قد تركوا الذكرى وراء ظهورهم بأن جاءهم رسول مبين، وهو محمد عليه السلام فكفروا به‏.‏ و‏{‏تولوا عنه‏}‏ أي أعرضوا، وقالوا إنه يعلم هذا الكلام الذي يتلو وأنه ‏{‏مجنون‏}‏، وإخباره تعالى بأنه يكشف عنهم ‏{‏العذاب قليلاً‏}‏ إخبار عن إقامة الحجة عليهم ومبالغة في الإملاء لهم، ثم أخبرهم بأنهم عائدون إلى الكفر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو توعد بمعاد الآخرة، ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم بسبب هذا كله في يوم البطشة، وقدم اليوم وذكره على الذي عمل فيه تهمماً به وتخويفاً منه، والعامل فيه ‏{‏منتقمون‏}‏، وقد ضعف البصريون هذا من حيث هو خبر إن، وأبعدوا أن يعمل خبرها فيما قبلها، وقالوا العامل فعل مضمر يدل عليه ‏{‏منتقمون‏}‏‏.‏

واختلف الناس في يوم ‏{‏البطشة الكبرى‏}‏، فقال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة‏:‏ هو يوم القيامة وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس أيضاً وأبي بن كعب ومجاهد‏:‏ هو يوم بدر‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «نَبطِش» بفتح النون وكسر الطاء‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ بضم الطاء‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً وأبو رجاء وطلحة بن مصرف‏:‏ بضم النون وكسر الطاء، ومعناها‏:‏ نسلط عليهم من يبطش بهم، ثم ذكر تعالى قوم فرعون على جهة المثال لقريش‏.‏

و‏:‏ ‏{‏فتنا‏}‏ معناه‏:‏ امتحنا واختبرنا‏.‏ والرسول الكريم‏:‏ قال قتادة‏:‏ هو موسى عليه السلام، ومعنى الآية يعطي ذلك بلا خلاف وهنا متروك يدل عليه الظاهر، تقديره قال لهم‏:‏ ‏{‏أدوا‏}‏ هذا، مأخوذ من الأداء، كأنه يقول‏:‏ أن ادفعوا إلي وأعطوني ومكنوني‏.‏

واختلف المتأولون في الشيء المؤدى في هذه الآية ما هو‏؟‏ فقال مجاهد وابن زيد وقتادة‏:‏ طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل وإياهم أراد بقوله‏:‏ ‏{‏عباد الله‏}‏ وقال ابن عباس المعنى‏:‏ اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق، فقوله‏:‏ ‏{‏عباد الله‏}‏ منادى مضاف، والمؤدى هي الطاعة والإيمان والأعمال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر من شرع موسى عليه السلام أنه بعث إلى دعاء فرعون إلى الإيمان، وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى أن يؤمن، ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، وفي إرسالهم هو قوله‏:‏ ‏{‏أن أدوا إلى عباد الله‏}‏ أي بني إسرائيل، ويقوي ذلك قوله بعد‏:‏ ‏{‏وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 21‏]‏، وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل فقط، ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسر بعبادي‏}‏ فيظهر أنه إياهم أراد موسى بقوله‏:‏ ‏{‏عباد الله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رسول أمين‏}‏ معناه على وحي الله تعالى أؤديه إلى عباده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 28‏]‏

‏{‏وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

المعنى كانت رسالته وقوله‏:‏ ‏{‏أن أدوا‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏وأن تعلوا‏}‏ وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «إني آتيكم» بكسر الألف على الإخبار المؤكد، والسلطان‏:‏ الحجة، فكأنه قال‏:‏ لا تكفروا، فإن الدليل المؤدي إلى الإيمان بيّن‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ «أني آتيكم» بفتح الألف‏.‏ و«أن» في موضع نصب بمعنى‏:‏ لا تكفروا من أجل أني آتيكم بسلطان مبين، فكأن مقصد هذا الكلام التوبيخ، كما تقول لإنسان‏:‏ لا تغضب، لأن الحق قيل لك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإني عذت‏}‏ الآية، كلام قاله موسى عليه السلام لخوف لحقه من فرعون وملئه و‏:‏ ‏{‏عذت‏}‏ معناه‏:‏ استجرت وتحرمت‏.‏ وأدغم الدال في التاء الأعرج وأبو عمرو‏.‏

واختلف الناس في قوله‏:‏ ‏{‏أن ترجمون‏}‏ فقال قتادة وغيره‏:‏ أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل‏.‏ وقال ابن عباس وأبو صالح‏:‏ أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه، والأول أظهر، لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر، بل قيل فيه عليه السلام وله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تؤمنوا لي‏}‏ بمعنى‏:‏ تؤمنوا بي‏.‏ والمعنى‏:‏ تصدقوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلون‏}‏ مشاركة صريحة‏.‏ قال قتادة‏:‏ أراد خلّوا سبيلي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فدعا ربه‏}‏ قبله محذوف من الكلام، تقديره‏:‏ فما كفوا عنه، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته ‏{‏فدعا ربه‏}‏‏.‏

وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى «إن هؤلاء» بكسر الألف من «إن» على معنى «قال إن»، وقرأ جمهور الناس والحسن أيضاً‏:‏ «أن هؤلاء» بفتح الألف، والقراءتان حسنتان‏.‏

وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم، وهنا أيضاً محذوف من الكلام تقديره‏:‏ فقال الله له‏:‏ ‏{‏فاسر بعبادي‏}‏ وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله إلى موسى بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء وغيرها‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «فاسر» موصولة الألف‏.‏ وقرأ‏:‏ «فأسر» بقطع الألف‏:‏ الحسن وعيسى، ورويت عن أبي عمرو‏.‏ وأعلمه تعالى بأنهم ‏{‏متبعون‏}‏، أي يتبعهم فرعون وجنوده‏.‏

واختلف المفسرون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واترك البحر رهواً‏}‏‏.‏ متى قالها لموسى‏؟‏ فقالت فرقة‏:‏ هو كلام متصل ‏{‏إنكم متبعون واترك البحر‏}‏ إذا انفرق لك ‏{‏رهواً‏}‏ وقال قتادة وغيره‏:‏ خوطب به بعد ما اجتاز البحر وخشي أن يدخل فرعون وقومه وراءه، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل، فهم موسى أن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله، فقيل له عند ذلك‏:‏ ‏{‏واترك البحر رهواً‏}‏‏.‏

واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو، فقال مجاهد وعكرمة معناه‏:‏ يبساً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وقال الضحاك بن مزاحم معناه‏:‏ دمثاً ليناً‏.‏

وقال عكرمة أيضاً‏:‏ جرداً‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ سهلاً‏.‏ وقال ابن عباس معناه‏:‏ ساكناً، أي كما جزته، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة، فإن العيش الواهي هو الذي هو في خفض ودعة وسكون، حكاه المبرد وغيره‏.‏ والرهو في اللغة هو هذا المعنى، ومنه قول عمرو بن شييم القطامي‏:‏

يمشون رهواً فلا الأعجاز خاذلة *** ولا الصدور على الأعجاز تتكل

فإنما معناه‏:‏ يمشون اتئاداً وسكوناً وتماهلاً‏.‏ ومنه قول الآخر‏:‏

وأمة خرجت رهواً إلى عيد *** أي خرجوا في سكون وتماهل، فقيل لموسى عليه السلام‏:‏ اترك البحر ساكناً على حاله من الانفراق ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏.‏ والرهو‏:‏ من أسماء الكركي الطائر، ولا مدخل له في تفسير هذه الآية، ويشبه عندي أن سمي رهواً لسكونه، وأنه أبداً على تماهل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كم تركوا‏}‏ الآية، قبله محذوف تقديره‏:‏ فغرقوا وقطع الله دابرهم، ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة الغبيطة في الدنيا، و‏:‏ ‏{‏كم‏}‏ خبر للتكثير‏.‏ والجنات والعيون‏:‏ روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعاً من رشيد إلى أسوان‏.‏ وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت كما يعتري في كثير من بقاع الأرض‏.‏

وقرأ قتادة ومحمد بن السميفع اليماني ونافع في رواية خارجة عنه‏:‏ «ومُقام» بضم الميم، أي موضع إقامة‏.‏ وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن إلا في مريم ‏{‏خير مقاماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ فكأن المعنى‏:‏ ‏{‏كم تركوا‏}‏ من موضع حسن كريم في قدره ونفعه‏.‏ وقرأ جمهور الناس ونافع‏:‏ «ومَقام» بفتح الميم، أي موضع قيام، فعلى هذه القراءة قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير‏:‏ أراد المنابر‏.‏ وعلى ضم الميم في‏:‏ «مُقام» قال قتادة‏:‏ أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها، والقول بالمنابر بهي جداً‏.‏

والنَعمة بفتح النون‏:‏ غضارة العيش ولذاذة الحياة، والنِعمة بكسر النون أعم من هذا، لأن النعمة بالفتح هي من جملة النعم بالكسر، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعماً، ولا يقال فيها نَعمة بالفتح‏.‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ «ونعمة» بالنصب‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «فاكهين» بمعنى‏:‏ ناعمين‏.‏ والفاكه‏:‏ الطيب النفس‏:‏ أو يكون بمعنى أصحاب فاكهة كلابن وتامر‏.‏ وقرأ أبو رجاء والحسن بخلاف عنه، وابن القعقاع‏:‏ «فكهين»، ومعناه قريب من الأول، لأن الفكه يستعمل كثيراً في المستخف المستهزئ، فكأنه هنا يقول‏:‏ كانوا في هذه النعمة مستخفين بشكرها والمعرفة بقدرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك وأورثناها‏}‏ معناه الأمر كذلك، وسماها وراثة من حيث كانت أشياء أناس وصلت إلى قوم آخرين من بعد موت الأولين، وهذه حقيقة الميراث في اللغة وربطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث، والآخرون من ملك مصر بعد القبط‏.‏ وقال قتادة‏:‏ القوم الآخرون، هم بنو إسرائيل، وهذا ضعيف، لأنه لم يرو أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط، إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشام، وقد ذكر الثعلبي عن الحسن أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 36‏]‏

‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

نفت هذه الآية أن تكون السماء والأرض بكت على قوم فرعون، فاقتضى أن للسماء والأرض بكاء‏.‏ واختلف المتأولون في معنى ذلك فقال علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد وابن جبير‏:‏ إن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحاً، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله، قالوا فلم يكن في قوم فرعون مَن هذه حاله، فهذا معنى الآية‏.‏ وقال السدي وعطاء‏:‏ بكاء السماء‏:‏ حمرة أطرافها‏.‏ وقالوا إن السماء احمرت يوم قتل الحسين بن علي، وكان ذلك بكاء عليه، وهذا هو معنى الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمعنى الجيد في الآية أنها استعارة باهية فصيحة تتضمن تحقير أمرهم، وأنهم لم يتغير عن هلاكهم شيء، وهذا نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان مكرهم لتزول‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 46‏]‏ على قراءة من قرأ «لِتزولَ» بكسر اللام ونصب الفعل وجعل ‏{‏إن‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 46‏]‏ نافية، ومثل هذا المعنى قول النبي عليه السلام‏:‏ «لا ينتطح فيها عنزان» فإنه يتضمن التحقير، لكن هذه الألفاظ هي بحسب ما قيلت فيه، وهو قتل المرأة الكافرة التي كانت تؤذي النبي عليه السلام‏.‏ وعظم قصة فرعون وقومه يجيء بحسبها جمال الوصف وبهاء العبارة في قوله‏:‏ ‏{‏فما بكت عليهم السماء والأرض‏}‏ ومن نحو هذا أن يعكس قول جرير‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع

فيقال في تحقير‏:‏ مات فلان فما خشعت الجبال، ونحو هذا، وفي الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ «ما مات مؤمن في غربة غاب عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ثم قرأ هذه الآية، وقال‏:‏ «إنهما لا يبكيان على كافر»‏.‏ ومن التفخيم ببكاء المخلوقات العظام قول يزيد بن مفرغ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏‏:‏

الريح تبكي شجوه *** والبرق يلمع في غمامه

وقول الفرزدق‏:‏

فالشمس طالعة ليست بكاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

و‏:‏ ‏{‏منظرين‏}‏ معناه‏:‏ مؤخرين وممهلين‏.‏

ثم ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل في أنجائهم من فرعون وقومه، و‏{‏العذاب المهين‏}‏ هو ذبح الأبناء والتسخير في المهن كالبنيان والحفر وغيره‏.‏

وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «من عذاب المهين»، بسقوط التعريف بالألف واللام من العذاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من فرعون‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏من العذاب‏}‏‏.‏ و‏:‏ «مِن» بكسر الميم هي قراءة الجمهور‏.‏ وروى قتادة أن ابن عباس كان يقرأها «مَن» بفتح الميم «فرعونُ» برفع النون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على علم‏}‏ أي على شيء سبق عندنا فيهم وثبت في علمنا أنه سينفذ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏على العالمين‏}‏ يريد على جميع الناس، هذا على التأويل المتقدم في العلم‏.‏ والمعنى‏:‏ لقد اخترناها لهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم وخصصناهم بذلك دون العالم، ويحتمل قوله‏:‏ ‏{‏على علم‏}‏ أن يكون معناه‏:‏ على علم وفضائل فيهم، والمعنى‏:‏ اخترناهم للنبوءات والرسالات، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏على العالمين‏}‏ في هذا التأويل، معناه‏:‏ على عالم زمانهم، وذلك بدليل فضل أمة محمد لهم وعليهم، وأن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناهم من الآيات‏}‏ لفظ جامع لمعجزات موسى وللعبر التي ظهرت في قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك، ولما أنعم به على بني إسرائيل من تظليل الغمام والمن والسلوى وغير ذلك، فإن لفظ ‏{‏الآيات‏}‏ يعم جميع هذا‏.‏ والبلاء في هذا الموضع‏:‏ الامتحان والاختبار، وهذا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ و‏:‏ ‏{‏مبين‏}‏ بمعنى بين‏.‏

ثم ذكر تعالى قريشاً وحكى عنهم على جهة الإنكار لقولهم حين أنكروا فيه ما هو جائز في العقل فقال‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى‏}‏ أي ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا، وما نحن بمبعوثين من القبور، يقال أنشر الله الميت فنشر هو، وقول قريش‏:‏ ‏{‏فأتوا‏}‏ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه من حيث كان النبي عليه السلام مسنداً في أقواله وأفعاله إلى الله تعالى وبواسطة ملك خاطبوه كما تخاطب الجماعة، وهم يريدونه وربه وملائكته‏.‏ واستدعاء الكفار في هذه الآية أن يحيي لهم بعض آبائهم وسموا قصياً لكي يسألوهم عما رأوا في آخرتهم، ولم يستقص في هذه الآية الرد عليهم لبيانه، ولأنه مبثوث في غير ما آية من كتاب الله، فإن الله تعالى قد جزم البعث من القبور في أجل مسمى لا يتعداه أحد، وقد بينت الأمثلة من الأرض الميتة وحال النبات أمر البعث من القبور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 44‏]‏

‏{‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهم خير‏}‏ الآية تقرير فيه وعيد، و‏:‏ ‏{‏تبع‏}‏ ملك حميري، وكان يقال لكل ملك منهم‏:‏ ‏{‏تبع‏}‏، إلا أن المشار إليه في هذه الآية رجل صالح من التبابعة‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، ونهى العلماء عن سبه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد‏:‏ أن تبعاً هذا أسلم وآمن بالله، وروي أن ذلك كان على يد أهل كتاب كانوا بحضرته‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان ‏{‏تبع‏}‏ نبياً‏.‏ وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ما أدري أكان ‏{‏تبع‏}‏ نبياً أم غير نبي‏؟‏»‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ هو الذي كسا الكعبة، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا مجرمين‏}‏ يريد بالكفر‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ «أنهم» بفتح الألف‏.‏ وقرأ الجمهور بكسرها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات‏}‏ الآية، إخبار فيه تنبيه وتحذير‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏ يريد بالواجب المقتضي للخيرات وفيض الهبات‏.‏ و‏:‏ ‏{‏يوم الفصل‏}‏ هو يوم القيامة، وهذا هو الإخبار بالبعث، وهو أمر جوزه العقل وأثبته الشرع بهذه الآية وغيرها‏.‏ والمولى في هذه الآية‏:‏ يعم جميع الموالي من القرابات وموالي العتق وموالي الصداقة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ إن كان الضمير يراد به العالم، فيصح أن يكون من قوله‏:‏ ‏{‏إلا من‏}‏ في موضع نصب على الاستثناء المتصل، وإن كان الضمير يراد به الكفار فالاستثناء منقطع، ويصح أن يكون في موضع رفع علة الابتداء والخبر تقديره‏:‏ فإنه يغني بعضهم عن بعض في الشفاعة ونحوها، أو يكون تقديره‏:‏ فإن الله ينصره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم‏}‏ روي عن ابن زيد ‏{‏الأثيم‏}‏ المشار إليه‏:‏ أبو جهل، ثم هي بالمعنى تتناول كل أثيم، وهو كل فاجر يكتسب الإثم، وروي عن ابن زيد أن أبا الدرداء أقرأ أعرابياً فكان يقول‏:‏ «طعام اليتيم»، فرد عليه أبو الدرداء مراراً فلم يلقن، فقال له‏:‏ قل «طعام الفاجر»، فقرئت كذلك، وإنما هي على التفسير‏.‏ و‏:‏ ‏{‏شجرة الزقوم‏}‏ هي الشجرة الملعونة في القرآن، وهي تنبت في أصل الجحيم، وهي التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين‏.‏

وروي أن أبا جهل لما نزلت هذه الآية فيه، وأشار الناس بها إليه، جمع عجوة بزبد ودعا إليها ناساً وقال لهم‏:‏ «تزقموا، فإن الزقوم هو عجوة يثرب بالزبد، وهو طعامي الذي حدّث به محمد»، وإنما قصد بذلك ضرباً من المغالطة والتلبيس على الجهلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 59‏]‏

‏{‏كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «المهل»‏:‏ دردي الزيت وعكره‏.‏ وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً‏:‏ «المهل» ما ذاب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص ونحوه‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان ابن مسعود على بيت المال لعمر بالكوفة، فأذاب يوماً فضة مكسرة، فلما انماعت، قال‏:‏ يدخل من بالباب، فدخلوا، فقال لهم‏:‏ هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمهل‏.‏ والمعنى أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق والإفساد‏.‏

وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «تغلي» بالتاء على معنى‏:‏ تغلي الشجرة، وهي قراءة عمرو بن ميمون وأبي رزين والحسن والأعرج وابن محيصن وطلحة‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص‏:‏ «يغلي» على معنى‏:‏ يغلي الطعام، وهي قراءة مجاهد وقتادة والحسن بخلاف عنه‏.‏ و‏:‏ ‏{‏الحميم‏}‏‏:‏ الماء الساخن الذي يتطاير من غليانه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذوه‏}‏ الآية، معناه‏:‏ يقال يومئذ للملائكة عن هذا الأثيم ‏{‏خذوه فاعتلوه‏}‏‏.‏ والعتل‏:‏ السَّوق بعنف وإهانة ودفع قوي متصل، كما يساق أبداً مرتكب الجرائم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر‏:‏ بضم التاء، والباقون بكسرها، وقد روي الضم عن أبي عمرو، وكذلك روي الوجهان عن الحسن وقتادة والأعرج‏.‏

والسواء‏:‏ الوسط، وقيل المعظم وذلك متلازم في العظم أبداً من مثل هذا إنما هو في الوسط، وفي الآية ما يقتضي أن الكافر يصب على رأسه من حميم جهنم، وهو ما يغلى فيها من ذوب، وهذا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يصب من فوق رؤوسهم الحميم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ وإلى هذا نظر بعض ولاة المدينة فإنه كان يصب الخمر على رأس الذي شربها أو توجد عنده عقوبة له وأدباً، ذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذق، إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ مخاطبة على معنى هذا التقريع، ويروى عن قتادة أن أبا جهل لما نزلت‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43-44‏]‏ قال أيتهددني محمد وأنا ما بين جبليها أعزمني وأكرم، فنزلت هذه الآيات، وفي آخرها‏:‏ ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ أي على قولك، وهذا كما قال جرير‏:‏

ألم يكن في وسوم قد وسمت بها *** من خان موعظة يا زهرة اليمن

يقولها للشاعر الذي سمى نفسه به، وذلك في قوله‏:‏

أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها *** أني الأعز وأني زهرة اليمن

فجاء بيت جرير على هذا الهزء‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «إنك» بكسر الهمزة‏.‏ وقرأ الكسائي وحده‏:‏ «أنك» بفتح الألف، والمعنى واحد في المقصد وإن اختلف المؤخذ إليه، وبالفتح قرأها على المنبر الحسين بن علي بن أبي طالب أسنده إليه الكسائي وأتبعه فيها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا ما كنتم به تمترون‏}‏ عبارة عن قول يقال للكفرة عند عذابهم، أي هذه الآخرة وجهنم التي كنتم تشكون فيها‏.‏ ثم ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة الكافر ليبين الفرق‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر‏:‏ «في مُقام» بضم الميم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وقتادة وعبد الله بن عمر بن الخطاب والحسن والأعرج‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «في مَقام» بفتحها، وهي قراءة أبي رجاء وعيسى ويحيى والأعمش‏.‏

و‏:‏ ‏{‏أمين‏}‏ يؤمن فيه الغير، فكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون فيه‏.‏ وكسر عاصم العين من «عِيون»‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وذلك مردود عند العلماء، ومثله شيوخ وبيوت، بكسر الشين والباء‏.‏ والسندس‏:‏ رقيق الحرير‏.‏ والاستبرق‏:‏ خشينه‏.‏

وقرأ ابن محيصن‏:‏ «واستبرقَ» بالوصل وفتح القاف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏متقابلين‏}‏ وصف لمجالس أهل الجنة، لأن بعضهم لا يستدبر بعضاً في المجالس، وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك وزوجناهم‏}‏ تقديره‏:‏ والأمر كذلك‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «عين» وهو جمع عيناء‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «عيس»، وهو جمع عيساء، وهي أيضاً البيضاء، وكذلك هي من النوق‏.‏ وقرأ عكرمة‏:‏ «بحورِ عين» على ترك التنوين في «حور» وأضافها إلى «عين»‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ الإضافة هنا تفيد ما تفيد الصفة، وروى أبو قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إخراج القمامة من المسجد من مهور الحور العين»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدعون فيها بكل فاكهة آمنين‏}‏ معناه‏:‏ يدعون الخدمة والمتصرفين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الموتة الأولى‏}‏ قدر قوم ‏{‏إلا‏}‏ بسوى، وضعف ذلك الطبري، وقدرها ببعد، وليس تضعيفه بصحيح، بل يصح المعنى بسوى ويتسق، وأما معنى الآية‏:‏ فبين أنه نفى عنهم ذوق الموت، وأنه لا ينالهم من غير ذلك ما تقدم في الدنيا، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يسرناه‏}‏ عائد على القرآن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بلسانك‏}‏ معناه بلغة العرب ولم يرد الجارحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فارتقب إنهم مرتقبون‏}‏ معناه‏:‏ ‏{‏فارتقب‏}‏ نصرنا لك، ‏{‏إنهم مرتقبون‏}‏ فيما يظنون الدوائر عليك، وفي هذه الآية وعد له، ووعيد لهم، وفيها متاركة، وهذا وما جرى منسوخ بآية السيف‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏ و‏:‏ ‏{‏تنزيل‏}‏ رفع بالابتداء أو على خبر ابتداء مضمر‏.‏ و‏:‏ ‏{‏العزيز‏}‏ معناه عام في شدة أخذه إذا انتقم، ودفاعه إذا حمي ونصر وغير ذلك‏.‏ و‏:‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ المحكم للأشياء‏.‏

وذكر تبارك الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة، فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الفكر، ويخبر بكثير منها الشرع، فلذلك جعلها للمؤمنين، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق‏.‏ ثم ذكر تعالى خلق البشر والحيوان، وكأنه أغمض مما أحال عليه أولاً وأكثر تلخيصاً، فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين في معتقداتهم‏.‏ ثم ذكر تعالى اختلاف الليل والنهار والعبرة بالمطر والرياح، فجعل ذلك ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏، إذ كل عاقل يحصل هذه ويفهم قدرها، وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولا بد فإن اللفظ يعطيه‏.‏ و‏:‏ ‏{‏يبث‏}‏ معناه‏:‏ ينشر في الأرض‏.‏ والدابة‏:‏ كل حيوان يدب، أو يمكن فيه أن يدب، يدخل في ذلك الطير والحوت، وشاهد الطير قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

صواعقها لطيرهن دبيب *** وقول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

دبيب قطا البطحاء في كل منهل *** وشاهد الحوت قول أبي موسى‏:‏ وقد ألقى البحر دابة مثل الظرب ودواب البحر لفظ مشهور في اللغة‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «آياتٍ» بالنصب في الموضعين الآخرين‏.‏ وقرأ الباقون والجمهور‏:‏ «آياتٌ» بالرفع فيهما، فأما من قرأ بالنصب فحمل «آياتٍ» في الموضعين على نصب ‏{‏إن‏}‏ في قوله ‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ ولا يعرض في ذلك العطف على عاملين الذي لا يجيزه سيبويه وكثير من النحويين، لأنا نقدر ‏{‏في‏}‏ معادة في قوله‏:‏ ‏{‏واختلاف‏}‏ وكذلك هي في مصحف ابن مسعود‏:‏ «وفي اختلاف»، فكأنه قال على قراءة الجمهور‏:‏ «وفي اختلاف الليل»، وذلك أن ذكرها قد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وفي خلقكم‏}‏ فلما تقدم ذكر الجار جاز حذفه من الثاني، ويقدر مثبتاً كما قدر سيبويه في قول الشاعر ‏[‏أبو دؤاد الأيادي‏]‏‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

أكل امرئ تحسبين امرأً *** ونار توقد بالليل نارا

أي وكل نار، وكما قال الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أوصيت من برة قلباً حرّا *** بالكلب خيراً والحماة شرّا

أي وبالحمأة، وهذا الاعتراض كله إنما هو في ‏{‏آيات‏}‏ الثاني، لأن الأول قبله حرف الجر ظاهر‏.‏ وفي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود في الثلاثة المواضع‏:‏ «لآيات»‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهذا يدل على أن الكلام محمول على أن في قراءة من أسقط اللامات في الاثنين الآخرين، وأما من رفع «آياتٌ» في الموضعين فوجهه العطف على موضع ‏{‏إن‏}‏ وما عملت فيه، لأن موضعها رفع بالابتداء، ووجه آخر وهو أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وفي خلقكم وما يبث‏}‏ مستأنفاً، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة، وقال بعض الناس‏:‏ يجوز أن يكون جملة في موضع الحال فلا تكون غريبة على هذا‏.‏

‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ إما بالنور والظلام، وإما بكونهما خلفة‏.‏ والرزق المنزل من السماء‏:‏ هو المطر، سماه رزقاً بمآله، لأن جميع ما يرتزق فعن المطر هو‏.‏ ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ هو بكونها صباً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وأيضاً فبكونها مرة رحمة ومرة عذاباً، قاله قتادة، وأيضاً بلينها وشدتها وبردها وحرها‏.‏

وقرأ طلحة وعيسى‏:‏ «وتصريف الريح» بالإفراد، وكذلك في جميع القرآن إلا ما كان فيه مبشرات وخالف عيسى في الحجر فقرأ‏:‏ ‏{‏الرياح لواقح‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله‏}‏ إشارة إلى ما ذكر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نتلوها‏}‏ فيه حذف مضاف، أي يتلو شأنها وتفسيرها وشرح العبرة لها، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏آيات الله‏}‏ القرآن المنزل في هذه المعاني فلا يكون في ‏{‏نتلوها‏}‏ حذف مضاف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ معناه‏:‏ بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث‏}‏ الآية توبيخ وتقريع، وفيه قوة التهديد‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة‏:‏ «يؤمنون» بالياء من تحت وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم أيضاً والأعمش «تؤمنون» بالتاء على مخاطبة الكفار‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ «توقنون» بالتاء من فوق من اليقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الويل في كلام العرب‏:‏ المصائب والحزن والشدة من هذه المعاني، وهي لفظة تستعمل في الدعاء على الإنسان‏.‏ وروي في بعض الآثار أن في جهنم وادياً اسمه‏:‏ ‏{‏ويل‏}‏، وذهب الطبري إلى أنه المراد بالآية، ومقتضى اللغة أنه الدعاء على أهل الإفك والإثم بالمعاني المتقدمة‏.‏ والأفاك‏:‏ الكذاب الذي يقع منه الإفك مراراً‏.‏ والأثيم‏:‏ بناء مبالغة، اسم فاعل من أثم يأثم‏.‏

وروي أن سبب هذه الآية أبو جهل، وقيل النضر بن الحارث، والصواب أن سببها ما كان المذكوران وغيرهما يفعل، وأنها تعم كل من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة‏:‏ و‏:‏ ‏{‏يصر‏}‏ معناه‏:‏ يثبت على عقيدته من الكفر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فبشره بعذاب‏}‏ حسن ذلك لما أفصح عن العذاب، ولو كانت البشارة غير مقيدة بشيء لما حصلت إلا على المحاب‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «وإذا عَلِمَ» بفتح العين وتخفيف اللام، والمعنى‏:‏ وإذا أخبر بشيء ‏{‏من آياتنا‏}‏ فعلم نفس الخبر لا المعنى الذي تضمنه الخبر ولو علم المعاني التي تضمنها إخبار الشرع وعرف حقائقها لكان مؤمناً‏.‏ وقرأ قتادة ومطر الوراق «عُلِّم» بضم العين وشد اللام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ رد على لفظ كل أفاك، لأنه اسم جنس له الصفات المذكورة بعد قوله‏:‏ ‏{‏من ورائهم جهنم‏}‏ قال فيه بعض المفسرين معناه‏:‏ من أمامهم، وهذا نحو الخلاف الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم ملك‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ ولحظ قائل هذه المقالة الأمر من حيث تأول أن الإنسان كأنه من عمره يسير إلى جنة أو نار، فهما أمامه، وليس لفظ الوراء في اللغة كذلك، وإنما هو ما يأتي خلف الإنسان، وإذا اعتبر الأمر بالتقدم أو التأخر في الوجود، على أن الزمان كالطريق للأشياء استقام الأمر، فما يأتي بعد الشيء في الزمان فهو وراءه، فكأن الملك وأخذه السفينة وراء ركوب أولئك إياها، وجهنم وإحراقها للكفرة يأتي بعد كفرهم وأفعالهم، وهذا كما تقول‏:‏ افعل كذا وأنا من ورائك عضداً، وكما تقول ذلك على التهديد، أنا من وراء التقصي عليك، ونحو هذا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ما اتخذوا‏}‏ يعني بذلك الأوثان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا هدى‏}‏ إشارة إلى القرآن‏.‏

وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص‏:‏ «أليمٌ» على النعت ل ‏{‏عذاب‏}‏ وهي قراءة ابن محيصن وابن مصرف وأهل مكة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «أليمٍ» على النعت ل ‏{‏رجز‏}‏ وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى والأعمش‏.‏ والرجز‏:‏ أشد العذاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لهم عذاب‏}‏ بمنزلة قولك‏:‏ لهم حظ، فمن هذه الجهة ومن جهة تغاير اللفظتين حسن قوله‏:‏ ‏{‏عذاب من رجز‏}‏ إذ الرجز هو العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذه آية عبرة في جريان السفينة في البحر، وذلك أن الله تعالى سخر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق الحقير الضعيف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأمره‏}‏ أقام القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك‏.‏ والابتغاء من فضل الله‏:‏ هو بالتجارة في الأغلب، وكذلك مقاصد البر من حج أو جهاد هي أيضاً ابتغاء فضل، والتصير فيه هو ابتغاء فضل‏.‏ وتسخير ‏{‏ما في السماوات‏}‏‏:‏ هو تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة بهذا كله، ويروى أن بعض الأحبار نزل به ضيف فقدم إليه رغيفاً، فكأن الضيف احتقره فقال له المضيف‏:‏ لا تحتقره فإنه لم يستدر حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم الموصلين إلى استدارة الرغيف، وتسخير ما في الأرض هو تسخير البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏جميعاً منه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كل إنعام فهو من الله تعالى‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «منه» وهو وقف جيد‏.‏ وقرأ مسلمة بن محارب‏:‏ «مَنُّه» بفتح الميم وشد النون المضمومة بتقدير‏:‏ هو منه‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على المصدر‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير‏.‏ وقرأ مسلمة بن محارب أيضاً‏:‏ «مِنةٌ» بكسر الميم وبالرفع في التاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا‏}‏ الآية، آية نزلت في صدر الإسلام، أمر الله المؤمنين فيها أن يتجاوزوا عن الكفار وأن لا يعاقبوهم بذنب، بل يأخذون أنفسهم بالصبر، قاله محمد بن كعب القرظي والسدي‏.‏ قال أكثر الناس‏:‏ وهذه آية منسوخة بآية القتال وقالت فرقة‏:‏ الآية محكمة، والآية تتضمن الغفران عموماً، فينبغي أن يقال‏:‏ إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخ غفرانه آية السيف والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة، وإن الأمور المحقرة كالجفاء في القول ونحو ذلك يحتمل أن يتقى محكمه، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى‏.‏ وقال ابن عباس لما نزلت‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ قال فنحاص اليهودي‏.‏ احتاج رب محمد، فأخذ عمر سيفه ومر ليقتله، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «إن ربك يقول‏:‏ ‏{‏قل للذين آمنوا‏}‏» الآية، فهذا احتجاج بها مع قدم نزولها‏.‏ وقد ذكر مكي وغيره أنها نزلت بمكة في عمر رضي الله عنه لما أراد أن يبطش بمشرك شتمه‏.‏ وأما الجزم في قوله‏:‏ ‏{‏يغفروا‏}‏ فهو جواب شرط مقدر تقديره‏:‏ قل اغفروا فإن يجيبوا يغفروا‏.‏

وأخصر عندي من هذا أن ‏{‏قل‏}‏ هي بمثابة‏:‏ أندب المؤمنين إلى الغفر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أيام الله‏}‏ قالت فرقة معناه‏:‏ أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك، ف ‏{‏يرجون‏}‏ على هذا هو من بابه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أيام الله‏}‏ تعالى هي أيام نقمه وعذابه، ف ‏{‏يرجون‏}‏ على هذا هي التي تتنزل منزلة يخافون، وإنما تنزلت منزلتها من حيث الرجاء والخوف متلازمان لا تجد أحدهما إلا والآخر معه مقترن، وقد تقدم شرح هذا غير مرة، وقرأ جمهور القراء «ليجزي» بالياء على معنى‏:‏ ليجزي الله‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن وابن وثاب‏:‏ «لنجزي» بالنون‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بخلاف عنه «ليُجزَى» على بناء الفعل للمفعول «قوماً»، وهذا على أن يكون التقدير‏:‏ ليجزي الجزاء قوماً، وباقي الآية وعيد‏.‏