فصل: تفسير الآيات رقم (10- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ توقيف لقريش وتوبيخ‏.‏ و‏:‏ ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ يريد‏:‏ ثمود وقوم لوط وقوم شعيب وأهل السد وغيرهم‏.‏ والدمار‏:‏ الإفساد وهدم البناء وإذهاب العمران‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏دمر الله عليهم‏}‏ من ذلك‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أمثالها‏}‏ يصح أن يعود على العاقبة المذكورة، ويصح أن يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله‏:‏ ‏{‏دمر الله عليهم‏}‏‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏ذلك بأن‏}‏ ابتداء وخبر في «أن» وما عملت فيه‏.‏ والمولى‏:‏ الناصر الموالي، وفي مصحف عبد الله بن مسعود‏:‏ «ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا»‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن هذه الآية نزلت يوم أحد ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال له‏:‏ «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأكلون كما تأكل الأنعام‏}‏ أي أكلاً مجرداً من فكرة ونظر، فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر، فقوله‏:‏ ‏{‏كما‏}‏ في موضع الحال، وهذا كما تقول لجاهل‏:‏ يعيش كما تعيش البهيمة، فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء، ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة‏.‏ والمثوى‏:‏ موضع الإقامة، وقد تقدم القول غير مرة في قوله‏:‏ ‏{‏وكأين‏}‏‏.‏ وضرب الله تعالى لمكة مثلاً بالقرى المهلكة على عظمها، كقرية قوم عاد وغيرها‏.‏ و‏:‏ ‏{‏أخرجتك‏}‏ معناه‏:‏ وقت الهجرة‏.‏ ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏أهلكناهم‏}‏ حملاً على المعنى‏.‏ ويقال‏:‏ إن هذه الآية نزلت إثر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في طريق المدينة‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت بالمدينة‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت بمكة عام دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية‏.‏ وقيل نزلت‏:‏ عام الفتح وهو مقبل إليها‏.‏ وهذا كله حكمه حكم المدني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان‏}‏ الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبقي اللفظ عاماً لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله‏:‏ ‏{‏على بينة‏}‏ معناه على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة، ويحتمل أن يكون المعنى على أمر بين ودين بين، وألحق الهاء للمبالغة‏:‏ كعلامة ونسابة‏.‏ والذي يسند إليه قوله‏:‏ ‏{‏زين‏}‏ الشيطان‏.‏ واتباع الأهواء‏:‏ طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها‏.‏

واختلف الناس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الجنة‏}‏ الآية، فقال النضر بن شميل وغيره‏:‏ ‏{‏مثل‏}‏ معناه صفة، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا، وقال سيبويه‏:‏ المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة‏.‏ ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله‏:‏ فيها كذا وكذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والذي ساق أن يجعل ‏{‏مثل‏}‏ بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعاً على هذه الصورة وذلك هي ‏{‏مثل الجنة‏}‏ ومثالها، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر، كأنه يقول‏:‏ ‏{‏مثل الجنة‏}‏ ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب‏:‏ «مثال الجنة»‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً وابن عباس‏:‏ «أمثال الجنة»‏.‏ وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله‏:‏ ‏{‏كمن هو خالد‏}‏ حذف تقديره‏:‏ أساكن هذه، أو تقديره‏:‏ أهؤلاء إشارة إلى المتقين، ويحتمل عندي أيضاً أن يكون الحذف في صدر الآية‏.‏ كأنه قال‏:‏ أمثل أهل الجنة ‏{‏كمن هو خالد‏}‏، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏مثل‏}‏ مستفهماً عنه بغير ألف الاستفهام، فالمعنى‏:‏ أمثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف ‏{‏كمن هو خالد في النار‏}‏ فتكون الكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كمن‏}‏ مؤكدة في التشبيه، ويجيء قوله‏:‏ ‏{‏فيها أنهار‏}‏ في موضع الحال على هذا التأويل‏.‏ ‏{‏وما غير آسن‏}‏ معناه غير متغير، قاله ابن عباس وقتادة، وسواء أنتن أو لم ينتن، يقال‏:‏ أسَن الماء‏:‏ بفتح السين، وأسِن بكسرها‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «آسِن» على وزن فاعل‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «أسن»، على وزن فعل، وهي قراءة أهل مكة، والأسن أيضاً هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء، ومنه قول الشاعر‏:‏

التارك القرن مصراً أنامله *** يميل في الرمح ميل المائح الأسن

وقال الأخفش‏:‏ ‏{‏آسن‏}‏ لغة‏:‏ والمعنى الإخبار به عن الحال، ومن قال‏:‏ «آسِن» على وزن فاعل، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «غير يسن»، بالياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وذلك على تخفيف الهمزة، قال أبو حاتم عن عوف‏:‏ كذلك كانت في المصحف‏:‏ «يسن»، فغيرها الحجاج‏.‏

وقوله‏:‏ في اللبن ‏{‏لم يتغير طعمه‏}‏ نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله‏:‏ ‏{‏لذة للشاربين‏}‏ جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره و‏{‏لذة‏}‏ نعت على النسب، أي ذات لذة‏.‏ وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من كل الثمرات‏}‏ أي من هذه الأنواع، لكنها بعيدة الشبه، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومغفرة من ربهم‏}‏ معناه‏:‏ وتنعيم أعطته المغفرة وسببته، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة، وقوله‏:‏ ‏{‏وسقوا‏}‏ الضمير عائد على «مَنْ» لأن المراد به جمع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏}‏ يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة، وذلك أنهم كانوا يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته، فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين عملوا وانتفعوا ‏{‏ماذا قال آنفاً‏}‏ فكان منهم من يقول هذا استخفافاً، أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره‏؟‏ ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسياناً، لأنه كان في وقت الكلام مقبلاً على فكرته في أمر دنياه وفي كفره، فكان القول يمر صفحاً، فإذا خرج قال‏:‏ ‏{‏ماذا قال آنفاً‏}‏، وهذا أيضاً فيه ضرب من الاستخفاف، لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام، ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين‏.‏ وروي أن عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال، حكاه الطبري عن ابن عباس‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «آنفاً» على وزن فاعل، وقرأ ابن كثير وحده‏:‏ «أنفاً» على وزن فعل، وهما اسما فاعل من ائتنف، وجريا على غير فعلهما، وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر، وهذا كثير، والمفسرون يقولون‏:‏ «أنفاً» معناه‏:‏ الساعة الماضية القريبة منا، وهذا تفسير بالمعنى‏.‏

ثم أخبر تعالى أنه ‏{‏طبع‏}‏ على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا، وهذا الطبع يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون استعارة وقد تقدم القول فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏ عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق، وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زادهم هدى‏}‏ يحتمل أن يكون الفاعل في ‏{‏زادهم‏}‏ الله تعالى، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى، ويحتمل أن يكون الفاعل في‏:‏ ‏{‏زادهم‏}‏ قول المنافقين واضطرابهم، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه، ويتزيد بصيرة في دينه، فكأنه قال‏:‏ المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى، أي كانت الزيادة بسببه، فأسند الفعل إليه، وقالت فرقة‏:‏ إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى، آمنوا بمحمد فالفاعل في‏:‏ ‏{‏زادهم‏}‏ محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه‏.‏ وقوله على هذا القول‏:‏ ‏{‏اهتدوا‏}‏ يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم ‏{‏زادهم‏}‏ محمد ‏{‏هدى‏}‏ حين آمنوا به‏.‏ والفاعل في ‏{‏آتاهم‏}‏ يتصرف بحسب التأويلات المذكورة، وأقواها أن الفاعل الله تعالى‏.‏ ‏{‏وآتاهم‏}‏ معناه‏:‏ أعطاهم، أي جعلهم متقين له، فالتقدير‏:‏ تقواهم إياه‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «وأنطاهم تقواهم»، وهي بمعنى أعطاهم، ورواها محمد بن طلحة عن أبيه‏.‏ وهي في مصحف عبد الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل ينظرون‏}‏ يريد المنافقين، والمعنى‏:‏ ‏{‏فهل ينظرون‏}‏ أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك، فإن ما في أنفسهم غير مراعى، لأنه باطل‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «أن تأتيهم» ف ‏{‏أن‏}‏ بدل من ‏{‏الساعة‏}‏‏.‏ وقوله تعالى على هذه القراءة‏.‏ ‏{‏فقد جاء أشراطها‏}‏ إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة‏.‏ وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي «إن تأتهم» بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فقد جاء أشراطها‏}‏ جواب الشرط وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط، و‏.‏ ‏{‏بغتة‏}‏ معناه‏:‏ فجأة، وروي عن أبي عمرو «بغَتّة» بفتح الغين وشد التاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فقد جاء أشراطها‏}‏ على القراءتين معناه‏:‏ فينبغي أن يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه‏.‏ والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء، فقد بان من أمر الساعة قدر ما، وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ «أنا من أشراط الساعة وقد بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان»‏.‏ ويقال شرط وشرط‏:‏ بسكون الراء وتخفيفها، وأشرط الرجل نفسه‏:‏ ألزمها أموراً‏.‏ وقال أوس بن حجر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فأشرط فيها نفسه وهو معصم *** وألقى باسباب له وتوكلا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنى لهم‏}‏ الآية، يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ‏{‏فأنى لهم‏}‏ الخلاص أو النجاة ‏{‏إذ جاءتهم‏}‏ الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة، وهذا تأويل قتادة، نظيره‏:‏ ‏{‏وأنى لهم التناوش من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏سبإ‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلم أنه لا إله إلا الله‏}‏ الآية إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين وذكر الأهم، والمعنى‏:‏ دم على علمك، وهذا هو القانون في كل أمر بشيء هو متلبس به، وهذا خطاب للنبي عليه السلام، وكل واحد من الأمة داخل معه فيه‏.‏ واحتج بهذه الآية من قال من أهل السنة‏:‏ إن العلم والنظر قبل القول، والإقرار في مسألة أول الواجبات‏.‏ وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك‏}‏ الآية، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنها صدقة‏.‏ وقال الطبري وغيره‏:‏ ‏{‏متقلبكم‏}‏ تصرفكم في يقظتكم‏.‏ ‏{‏ومثواكم‏}‏ منامكم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏متقلبكم‏}‏ تصرفكم في حياتكم الدنيا‏.‏ ‏{‏ومثواكم‏}‏ في قبوركم وفي آخرتكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏‏}‏

هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى، فمدح الله المؤمنين بحرصهم‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لولا نزلت سورة‏}‏ معناه‏:‏ تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه‏.‏ ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏محكمة‏}‏ معناه‏:‏ لا يقع فيها نسخ، وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام، وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان، فالقرآن فيه كله سواء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كل سورة فيها القتال فهي محكمة، وهو أشد القرآن على المنافقين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن، وليس من تفسير هذه الآية في شيء‏.‏

وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «سورة محدثة»‏.‏ والمرض الذي في القلوب‏:‏ استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام، وتستعار للمعاني، ونظر الخائف الموله قريب من نظر ‏{‏المغشي عليه‏}‏، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولى لهم‏}‏ الآية، «أولى»‏:‏ وزنه أفعل، من وليك الشيء يليك‏.‏ وقالت فرقة وزنه‏:‏ أفلع، وفيه قلب، لأنه مشتق من الويل، والمشهور من استعمال «أولى»‏:‏ أنك تقول‏:‏ هذا أولى بك من هذا، أي أحق، وقد تستعمل «أولى» فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول، فتقول على جهة الزجر والتوعد‏:‏ أولى لك يا فلان، وهذه الآية من هذا الباب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولى لك فأولى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 34-35‏]‏، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن‏:‏ أولى لك‏.‏ وقالت فرقة من المفسرين‏:‏ «أولى» رفع بالابتداء‏.‏ و‏:‏ ‏{‏طاعة‏}‏ خبره‏.‏

وقالت فرقة من المفسرين‏:‏ ‏{‏أولى لهم‏}‏ ابتداء وخبر، معناه‏:‏ الزجر والتوعد‏.‏ ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله‏:‏ ‏{‏طاعة وقول معروف‏}‏ فقال بعضها، التقدير‏:‏ ‏{‏طاعة وقول معروف‏}‏ أمثل، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة، ففيها بعض التعريف‏.‏ وقال بعضها التقدير‏:‏ الأمر ‏{‏طاعة وقول معروف‏}‏، أي الأمر المرضي لله تعالى‏.‏ وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة ‏{‏طاعة وقول معروف‏}‏ فإذا عزم الأمر كرهوه، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة‏.‏ وقال أيضاً ما معناه‏:‏ إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب «أولى»‏.‏ وقوله ‏{‏لهم‏}‏ ابتداء كلام، ف ‏{‏طاعة‏}‏ على هذا القول‏:‏ ابتداء، وخبره‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عزم الأمر‏}‏ استعارة كما قال‏:‏

قد جدت الحرب بكم فجدوا *** ومن هذا الباب‏:‏ نام ليلك ونحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صدقوا الله‏}‏ يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب، ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق، والمعنى متقارب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل عسيتم‏}‏ مخاطبة لهؤلاء ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي قل لهم يا محمد‏.‏

وقرأ نافع وأهل المدينة «عسِيتم» بكسر السين‏.‏ وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة‏:‏ «عسَيتم» بفتح السين، والفتح أفصح، لأنه من عسى التي تصحبها «أن»‏.‏ والمعنى‏:‏ فهل عسى أن تفعلوا ‏{‏إن توليتم‏}‏ غير ‏{‏أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم‏}‏، وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك‏:‏ أو لو كان كذا وكذا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن توليتم‏}‏ معناه‏:‏ إن أعرضتم عن الحق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «إن توليتم» والمعنى‏:‏ إن أعرضتم عن الإسلام‏.‏ وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى‏:‏ إن توليتم أمور الناس من الولاية، وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية، ذكره الثعلبي‏.‏ وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام‏:‏ «إن وُليتم» بواو مضمومة ولام مكسورة‏.‏ قرأ علي بن أبي طالب‏:‏ «إن تُوُلِّيتم» بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى‏:‏ إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل، أو على معنى‏:‏ إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء، فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، وقيل معناها‏:‏ إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «وتُقطِّعوا» بضم التاء وشد الطاء المكسورة‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ «وتَقطَعوا» بفتح التاء والطاء المخففة، وهي قراءة سلام ويعقوب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين لعنهم الله‏}‏ إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين‏.‏ و‏:‏ ‏{‏لعنهم‏}‏ معناه‏:‏ أبعدهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأصمهم وأعمى أبصارهم‏}‏ استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 28‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ توقيف وتوبيخ، وتدبر القرآن‏:‏ زعيم بالتبيين والهدى‏.‏ و‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ منقطعة وهي المقدرة ببل وألف الاستفهام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم على قلوب أقفالها‏}‏ استعارة للرين الذي منعهم الإيمان‏.‏ وروي أن وفد اليمن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال الفتى عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويفرجها، قال عمر‏:‏ فعظم في عيني، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين ارتدوا على أدبارهم‏}‏ الآية، قال قتادة‏:‏ إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم‏.‏ والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر‏.‏ و‏:‏ ‏{‏سول‏}‏ معناه‏:‏ أرجاهم سولهم وأمانيهم، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى‏:‏ دلاهم، مأخوذ من السول‏:‏ وهو الاسترخاء والتدلي‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «وأملى لهم» وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف‏:‏ «أملى»‏.‏ وفاعل ‏{‏أملى‏}‏ هنا‏:‏ قال الحسن‏:‏ هو ‏{‏الشيطان‏}‏ جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر، يقال مُلاوة ومَلاوة ومِلاوة بضم الميم وفتحها وكسرها، وهي القطعة من الزمن، ومنه الملوان الليل والنهار، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب، ويحتمل أن يكون الفاعل في ‏{‏أملى‏}‏ الله عز وجل، كأنه قال‏:‏ الشيطان سول لهم وأملى الله لهم‏.‏ وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل، وهذا هو الأرجح‏.‏ وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش‏:‏ «وأُملِي لهم» بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم، ورواها الخفاف عن أبي عمرو «وأُمليَ» بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏}‏ الآية، قيل إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين ارتدوا‏}‏ وروي أن قوماً من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصر وموازرة، وذلك قولهم ‏{‏سنطيعكم في بعض الأمر‏}‏‏.‏

وقرأ جمهور القراء «أَسرارهم» بفتح الهمزة، وذلك على جمع سر، لأن أسرارهم كانت كثيرة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «إسرارهم» بكسر الهمزة، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش، وهو مصدر اسم الجنس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا توفتهم‏}‏ الآية، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين‏:‏ أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وفراع الأعداء، ‏{‏فكيف‏}‏ فزعهم وجزعهم ‏{‏إذا توفتهم الملائكة‏}‏‏؟‏ والثاني أن يريد‏:‏ هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم، ‏{‏فكيف‏}‏ تكون حالهم مع الله ‏{‏إذا توفتهم الملائكة‏}‏‏؟‏ وقال الطبري‏:‏ المعنى ‏{‏والله يعلم أسرارهم فكيف‏}‏ علمه بها ‏{‏إذا توفتهم الملائكة‏}‏‏.‏ و‏{‏الملائكة‏}‏ هنا‏:‏ ملك الموت والمصرفون معه‏.‏ والضمير في‏:‏ ‏{‏يضربون‏}‏ ل ‏{‏الملائكة‏}‏، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في‏:‏ ‏{‏يضربون‏}‏ للكفار الذين يتوفون، فذلك ضعيف‏.‏ و‏:‏ ‏{‏ما أسخط الله‏}‏ هو الكفر‏.‏ والرضوان هنا‏:‏ الشرع والحق المؤدي إلى رضوان، وقد تقدم القول في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏أحبط أعمالهم‏}‏‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ «فكيف إذا توفاهم الملائكة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أم حسب‏}‏ توقيف وهي ‏{‏أم‏}‏ المنقطعة، وتقدم تفسير مرض القلب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن لن يخرج الله أضغانهم‏}‏ أي يبديها من مكانها في نفوسهم‏.‏ والضغن‏:‏ الحقد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لأريناكم‏}‏ مقاربة في شهرتهم، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم، وإن كانوا قد عرفوا ب ‏{‏لحن القول‏}‏ وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة‏.‏ والسيما‏:‏ العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك‏:‏ إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة‏.‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام، بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحداً‏.‏ وأعظم ما روي في اشتهارهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوماً فأخرجت منهم جماعة من المسجد كأنه وسمهم بهذا لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا إله إلا الله فحقنت دماؤهم‏.‏ وروي عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عليه السلام عرفه بهم أو ببعضهم، وله في ذلك كلام مع عمر رضي الله عنه‏.‏ ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم ‏{‏في لحن القول‏}‏، ومعناه في مذهب القول ومنحاه ومقصده، وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره أنه على خلاف ما يقول، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏في لحن القول‏}‏ ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام‏:‏ «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» الحديث أي أذهب بها في جهات الكلام، وقد يكون هذا اللحن متفقاً عليه‏:‏ أن يقول الإنسان قولاً يفهم السامعون منه معنى، ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر، ومنه الحديث الذي قال سعد بن معاذ وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عضل والقارة وفي هذا المعنى قول الشاعر ‏[‏مالك بن أسماء‏]‏‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

وخير الحديث ما كان لحنا *** أي ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيره، فأخبر الله محمداً رسوله عليه السلام أن أقوالهم المحرفة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها، واحتج بهذه الآية من جعل في التعريض بالقذف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم أعمالكم‏}‏ مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «ولنبلونكم» بالنون، وكذلك «نعلم» وكذلك «نبلوا»، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «وليبلونكم الله»، وكذلك «يعلم» ويبلو «‏.‏

وروى رويس عن يعقوب‏:‏ «ويبلو» بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم‏.‏ وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال‏:‏ اللهم لا تبتلنا، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى نعلم المجاهدين‏}‏ أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي، وإنما المعنى ما ذكرناه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصدوا‏}‏ يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ‏{‏وصدوا‏}‏ غيرهم، ويحتمل أن يكون غير متعد، بمعنى‏:‏ وصدوهم في أنفسهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وشاقوا الرسول‏}‏ معناه‏:‏ خالفوه، فكانوا في شق وهو في شق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما تبين لهم الهدى‏}‏ قالت فرقة‏:‏ نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في المطعمين سفرة بدر، و‏:‏ «تبين الهدى» هو وجوده عند الداعي إليه‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل هي عامة في كل كافر، وألزمهم أنه قد ‏{‏تبين لهم الهدى‏}‏ من حيث كان الهدى بيناً في نفسه، وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له‏:‏ أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك، بمعنى أنه هكذا هو في نفسه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لن يضروا الله‏}‏ تحقير لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وسيحبط أعمالهم‏}‏ إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكناً، وإما على قول من لا يرى ذلك، فمعنى ‏{‏وسيحبط أعمالهم‏}‏ أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها، وأنها لا توجد شيئاً منتفعاً به، فذلك إحباط على تشبيه واستعارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏‏}‏

روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله عليه السلام‏:‏ نحن قد آثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا، كأنهم منوا بذلك، فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏يمنون عليك أن أسلموا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏ ونزلت فيهم هذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام، لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر، وإلا فالحسنات لا تبطلها المعاصي، وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر، والإبطال هو الإفساد التام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار‏}‏ روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال‏:‏ يا رسول الله إن حاتماً كانت له أفعال بر فما حاله‏؟‏ فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم «هو في النار»، فبكى عدي وولى، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ «أبي وابوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار» ونزلت هذه الآية في ذلك، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا‏}‏ معناه‏:‏ فلا تضعفوا، من وهن الرجل إذا ضعف‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «وتدعوا» وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ «وتدّعوا» بشد الدال‏.‏ وقرأ جمهور القراء‏:‏ «إلى السَلم» بفتح السين‏.‏ وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «إلى السِلم» بكسر السين‏.‏ وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه‏.‏ وقال قتادة معنى الآية‏:‏ لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حسن ملتئم مع قوله‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلون‏}‏ يحتمل موضعين أحدهما‏:‏ أن يكون في موضع الحال، المعنى‏:‏ لا تهنوا وأنتم في هذه الحال‏.‏ والمعنى الثاني‏:‏ أن يكون إخباراً بنصره ومعونته‏.‏ و«يتر»، معناه ينقص ويذهب، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر، والمعنى‏:‏ لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم‏.‏ واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم، والأول أصح، وفسر ابن عباس وأصحابه ‏{‏يتركم‏}‏ بيظلمكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو‏}‏ تحقير لأمر الدنيا، أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها، ووصفها باللعب واللهو هو على أنها وما فيها مما يختص بها لعب، وإلا ففي الدنيا ما ليس بلعب ولا لهو، وهو الطاعة وأمر الآخرة وما جرى مجراه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم‏}‏ معناه هذا هوا لمطلوب منكم لا غيره، لا تسألون أموالكم أن تنفقوها في سبيل الله‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ لا يسألكم كثيراً من أموالكم إحفاء إنما يسألكم غيضاً من فيض ربع العشر فطيبوا أنفسكم، ثم قال تعالى منبهاً على خلق ابن آدم ‏{‏إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا‏}‏ والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسؤول كرهاً، ومنه حفاء الرجل‏.‏ والتحفي من البحث عن الشيء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تبخلوا‏}‏ جزم على جواب شرط‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «ويخرجْ» جزماً على ‏{‏تبخلوا‏}‏‏.‏ وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ «ويخرجُ» بالرفع على القطع، بمعنى هو يخرج، وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرأت فرقة‏:‏ ‏{‏و‏}‏ بالنصب على معنى‏:‏ يكن بخل وإخراج، فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الإخراج، والفاعل في قوله‏:‏ ‏{‏ويخرج‏}‏ على كل الاختلافات يحتمل أن يكون الله، ويحتمل أن يكون البخل الذي تضمنه اللفظ، ويحتمل أن يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضاً‏.‏ وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب‏:‏ «يخرج» بفتح الياء «أضغانُكم» رفعاً على أنها فاعلة وروي عنهم‏:‏ «وتُخرَج» بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله‏.‏

وقرأ يعقوب‏:‏ «ونُخرِج» بضم النون وكسر الراء «أضغانَكم» نصباً‏.‏ والأضغان كما قلنا معتقدات السوء، وهذا الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف حين قال له‏:‏ إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال ثم وقف تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم ‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ وكرر هاء التنبيه تأكيداً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عن نفسه‏}‏ يحتمل معنيين، أحدهما‏:‏ فإنما يبخل عن شح نفسه، والآخر أن يكون بمنزلة على، لأنك تقول‏:‏ بخلت عليك وبخلت عنك، بمعنى‏:‏ أمسكت عنك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله الغني وأنتم الفقراء‏}‏ معنى مطرد في قليل الأشياء وكثيرها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستبدل قوماً غيركم‏}‏ قيل الخطاب لقريش، والقوم الغير هم أهل المدينة‏.‏ وقال عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد‏:‏ الخطاب لمن حضر المدينة‏.‏ والقوم الغير‏:‏ فارس‏.‏ وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال‏:‏ «قوم هذا، لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أهل فارس»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أمثالكم‏}‏ معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا، وحكى الثعلبي أن القوم الغير‏:‏ هم الملائكة‏.‏

نجز تفسير سورة القتال، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً‏.‏

سورة الفتح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قال قوم فيما حكى الزهراوي ‏{‏فتحنا لك‏}‏ يريد به فتح مكة، وحكاه الثعلبي أيضاً، ونسبه النقاش إلى الكلبي‏.‏ وأخبره تعالى به على معنى‏:‏ قضينا به‏.‏ والفتاح‏:‏ القاضي بلغة اليمن، وقيل المراد‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك‏}‏ بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر‏.‏ وقال جمهور الناس‏:‏ والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك‏}‏ إنما معناه‏:‏ إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة فتح مبين تستقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين، لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه‏:‏ ما كان في قلوبهم، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش، واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب‏.‏ وبلغ هديه محله، قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ولم يشركهم فيها أحد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفيه نظر، لأن أصحاب السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم، فينبغي أن يقال لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية، واتفقت في ذلك الوقت ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسر بها هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمة من الكفر‏.‏

ثم عظم الله أمر نبيه بأن نبأه أنه غفر له ‏{‏ما تقدم‏}‏ من ذنبه ‏{‏وما تأخر‏}‏، فقوله‏:‏ ‏{‏ليغفر‏}‏ هي لام كي، لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك، فكأنها لام صيرورة، ولهذا قال عليه السلام‏:‏ «لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا»‏.‏ وقال الطبري وابن كيسان المعنى‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك‏}‏ فسبح بحمد ربك واستغفره ليغفر لك، وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏ السورة إلى آخرها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف من وجهين أحدهما‏:‏ أن سورة، ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏ إنما نزلت من أخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس عندما سأل عمر عن ذلك‏.‏ والآخر‏:‏ أن تخصيص النبي عليه السلام بالتشريف كان يذهب، لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي قال الطبري، أي سبح واستغفر لكي يغفر الله، ولا يتضمن هذا أن الغفران قد وقع، وما قدمناه أولاً يقتضي وقوع الغفران للنبي عليه السلام، ويدل على ذلك قول الصحابة له حين قام حتى تورمت قدماه‏:‏ أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏؟‏ فقال‏:‏

«أفلا أكون عبداً شكوراً» فهذا نص في أن الغفران قد وقع‏.‏ وقال منذر بن سعيد المعنى‏:‏ مجاهدتك بالله المقترنة بالفتح هي ليغفر‏.‏ وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل أن المعنى‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك‏}‏ فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ‏{‏ليغفر لك‏}‏ الآية، وهذا نحو قول الطبري‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏ قال سفيان الثوري‏:‏ ‏{‏ما تقدم‏}‏ يريد قبل النبوءة‏.‏ ‏{‏وما تأخر‏}‏ كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة، وأجمع العلماء علىعصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه السلام أو لم يقع، وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال‏:‏ ‏{‏ما تقدم‏}‏ هو ذنب آدم وحواء، أي ببركتك ‏{‏وما تأخر‏}‏ هي ذنوب أمتك بدعائك‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ الإمامية لا تجوز الصغائر على النبي ولا على الإمام، والآية ترد عليهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏وما تقدم‏}‏ هو قوله يوم بدر‏:‏ «اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد»‏.‏ ‏{‏وما تأخر‏}‏ هو قوله يوم حنين‏:‏ «لن نغلب اليوم من قلة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإتمام النعمة عليه، هو إظهاره وتغلبه على عدوه والرضوان في الآخرة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويهديك صراطاً مستقيماً‏}‏ معناه‏:‏ إلى صراط، فحذف الجار فتعدى الفعل، وقد يتعدى هذا بغير حرف جر، والنصر العزيز‏:‏ هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه، والنصر غير العزيز‏:‏ هو الذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط‏.‏ وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين‏:‏ وهي فعلية من السكون هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت، وعلموا أن وعد الله على لسان رسوله حق فازدادوا بذلك إيماناً إلى إيمانهم الأول وكثر تصديقهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما آمنوا بالتوحيد زادهم العبادات شيئاً شيئاً‏.‏ فكانوا يزيدون إيماناً حتى قال لهم‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ فمنحهم أكمل إيمان أهل السماوات والأرض لا إله إلا الله‏.‏ وفسر ابن عباس ‏{‏السكينة‏}‏ بالرحمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولله جنود السماوات والأرض‏}‏ إشارة إلى تسكين النفوس أيضاً وأن تكون مسلمة، لأنه ينصر متى شاء وعلى أي صورة شاء مما لا يدبره البشر، ومن جنده‏:‏ ‏{‏السكينة‏}‏ التي أنزلها في قلوب أصحاب محمد فثبت بصائرهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي كان ويكون، فهي دالة على الوجود بهذه الصفة لا معينة وقتاً ماضياً‏.‏ والعلم والإحكام‏:‏ صفتان مقتضيتان عزة النصر لمن أراد الموصوف بهما نصره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ معناه‏:‏ فازدادوا وتلقوا ذلك‏.‏ فتمكن بعد ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ليدخل المؤمنين‏}‏ أي بتكسبهم القبول لما أنزل الله عليهم‏.‏ ويروى في معنى هذه الآية أنه لما نزلت‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ تكلم فيها أهل الكتاب وقالوا‏:‏ كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به وبالناس معه‏؟‏ فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله‏:‏ ‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ فلما سمعها المؤمنون، قالوا‏:‏ هنيئاً مريئاً، هذا لك يا رسول الله، فما لنا‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وساءت مصيراً‏}‏ فعرفه الله تعالى ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين‏.‏ وذكر النقاش أن رجلاً من عك قال‏:‏ هذه لك يا رسول الله، فما لنا‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هي لي ولأمتي كهاتين» وجمع بين أصبعيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويكفر عنهم سيئاتهم‏}‏ فيه ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع معانيها، لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الظانين بالله ظن السوء‏}‏ قيل معناه من قولهم‏:‏ ‏{‏لن ينقلب الرسول‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏، فكأنهم ظنوا بالله ظن السوء في جهة الرسول والمؤمنين، وقيل‏:‏ ظنوا بالله ظن سوء، إذ هم يعتقدونه بغير صفاته، فهي ظنون سوء من حيث هي كاذبة مؤدية إلى عذابهم في نار جهنم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ كأنه يقوي التأويل الآخر، أي أصابهم ما أرادوه بكم، وقرأ جمهور القراء‏:‏ «دائرة السَوء» كالأول، ورجحها الفراء، وقال‏:‏ قل ما تضم العرب السين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هما متقاربان، والفتح أشد مطابقة في اللفظ‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «ظن السَوء» بفتح السين‏.‏ و‏:‏ «دائرة السُوء» بضم السين، وهو اسم، أي «دائرة السُوء» الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ بضم السين في الموضعين، وروى ذلك عن أبي عمرو ومجاهد، وسمى المصيبة التي دعا بها عليهم‏:‏ ‏{‏دائرة‏}‏، من حيث يقال في الزمان إنه يستدير، ألا ترى أن السنة والشهر كأنها مستديرات، تذهب على ترتيب، وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض‏}‏ فيقال الأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة، لأنها تدور بدوران الزمان، كأنك تقول‏:‏ إن أمراً كذا يكون في يوم كذا من سنة كذا، فمن حيث يدور ذلك اليوم حتى يبرز إلى الوجود تدور هي أيضاً فيه، وقد قالوا‏:‏ أربعاء لا تدور، ومن هذا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

ودائرات الدهر قد تدور *** ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ويعلم أن النائبات تدور *** وهذا كثير ويحسن أن تسمى المصيبة دائرة من حيث كمالها أن تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة، وقد أشار النقاش إلى هذا المعنى ‏{‏وغضب الله‏}‏ تعالى متى قصد به الإرادة فهو صفة ذات، ومتى قصد به ما يظهر من الأفعال على المغضوب عليه فهي صفة فعل‏.‏ ‏{‏ولعنهم‏}‏ معناه‏:‏ أبعدهم من رحمته، وقال تعالى في هذه ‏{‏وكان الله عزيزاً حكيماً‏}‏ فذكر صفة العزة من حيث تقدم الانتقام من الكفار، وفي التي قبل قرن بالحكمة والعلم من حيث وعده بمغيبات، وقرن باللفظتين ذكر جنود الله تعالى التي منها السكينة ومنها نقمة من المنافقين والمشركين، فلكل لفظ وجه من المعنى، وقال ابن المبارك في كتاب النقاش‏:‏ جنود الله في السماء، الملائكة، وفي الأرض الغزاة في سبيل الله‏.‏ قال عبد الحق‏:‏ وهذا بعض من كل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

من جعل الشاهد محصل الشهادة من يوم يحصلها، فقوله‏:‏ ‏{‏شاهداً‏}‏ حال واقعة‏.‏ ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة، فهي حال مستقبلة‏.‏ وهي التي يسميها النحاة المقدرة، المعنى‏:‏ ‏{‏شاهداً‏}‏ على الناس بأعمالهم وأقوالهم حين بلغت إليهم الشرع ‏{‏ومبشراً‏}‏ معناه‏:‏ أهل الطاعة برحمة الله ‏{‏ونذيراً‏}‏ معناه‏:‏ أهل الكفر تنذرهم من عذاب الله‏.‏

وقرأ جمهور الناس في كل الأمصار‏:‏ «لتؤمنوا بالله» على مخاطبة الناس، على معنى قل لهم، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير وابو جعفر‏:‏ «ليؤمنوا» بالياء على استمرار خطاب محمد عليه السلام، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد‏.‏ وقرأ الجحدري‏:‏ «وتَعْزُروه» بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي‏.‏ وقرأ محمد بن السميفع اليماني وابن عباس‏:‏ «وتعززوه» بزاءين، من العزة‏.‏ وقرأ جعفر بن محمد‏:‏ «وتَعْزِروه» بفتح التاء وسكون العين وكسر الزاي ومعنى‏:‏ ‏{‏تعزروه‏}‏ تعظموه وتكبروه، قاله ابن عباس‏:‏ وقال قتادة معناه‏:‏ تنصروه بالقتال وقال بعض المتأولين‏:‏ الضمائر في قوله‏:‏ ‏{‏وتعزروه وتوقروه وتسبحوه‏}‏ هي كلها لله تعالى‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ ‏{‏تعزروه وتوقروه‏}‏ هما للنبي عليه السلام، ‏{‏وتسبحوه‏}‏ هي لله، وهي صلاة البردين‏.‏

وقرأ عمر بن الخطاب‏:‏ «وتسبحوا الله»، وفي بعض ما حكى أبو حاتم‏:‏ «وتسبحون الله»، بالنون، وقرأ ابن عباس‏:‏ «ولتسبحوا الله»‏.‏ والبكرة‏:‏ الغدو‏.‏ والأصيل‏:‏ العشي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يبايعونك‏}‏ يريد في بيعة الرضوان، وهي بيعة الشجرة حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله إليهم، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية، وكان في ألف وأربعمائة رجل‏.‏ قال النقاش‏:‏ وقيل كان في ألف وثمانمائة، وقيل وسبعمائة، وقيل وستمائة، وقيل ومائتين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره‏:‏ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وقال عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله‏:‏ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر‏.‏

والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وبقي اسم البيعة بعد معاقدة الخلفاء والملوك، وعلى هذا سمت الخوارج أنفسهم الشراة، أي اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏إنما يبايعون الله‏}‏ أن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح ثمنها الله تعالى‏.‏

وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب‏:‏ ‏{‏إنما يبايعون الله‏}‏‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ ذلك على حذف المفعول لدلالة الأول عليه وقربه منه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يد الله‏}‏ قال جمهور المتأولين‏:‏ اليد، بمعنى‏:‏ النعمة، أي نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها‏.‏ ‏{‏فوق أيديهم‏}‏ التي مدوها لبيعتك‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ‏{‏يد الله‏}‏ هنا، بمعنى‏:‏ قوة الله فوق قواهم، أي في نصرك ونصرهم، فالآية على هذا تعديد نعمة عليهم مستقبلة مخبر بها، وعلى التأويل الأول تعديد نعمة حاصلة تشرف بها الأمر‏.‏ قال النقاش ‏{‏يد الله‏}‏ في الثواب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن نكث‏}‏ أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على نفسه وإياها يهلك، فنكثه عليه لا له‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «بما عاهد عليه الله» بالنصب على التعظيم‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق‏:‏ «ومن أوفى بما عاهد عليه اللهُ» بالرفع، على أن الله هو المعاهد‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «عليهُ» مضمومة الهاء، وروي ذلك عن ابن أبي إسحاق‏.‏ والأجر العظيم‏:‏ الجنة، لا يفنى نعيمها ولا ينقضي أمرها‏.‏

وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي والعامة‏:‏ «فسيؤتيه» بالياء‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر‏:‏ «فسنؤتيه» بالنون‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «فسيؤتيه الله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏المخلفون من الأعراب‏}‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل، فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىعمرته عام الحديبية رأوا أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا، وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله في هذه الآية، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، فكان كذلك، قالوا‏:‏ شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا، وهذا منهم خبث وإبطال، فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‏}‏ قال الرماني‏:‏ لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة، ثم قال لنبيه عليه السلام ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏فمن يملك لكم من الله شيئاً‏}‏ أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءاً‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «إن أراد بكم ضَراً» بفتح الضاد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «ضُراً» بالضم، ورجحها أبو علي وهما لغتان‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏.‏ «إن أراد بكم سوءاً»‏.‏ ثم رد عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بل كان الله بما تعملون خبيراً‏}‏، ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من أجلها بقوله‏:‏ ‏{‏بل ظننتم‏}‏ الآية، وفي قراءة عبد الله‏:‏ «إلى أهلهم» بغير ياء‏.‏ و‏:‏ ‏{‏بوراً‏}‏ معناه‏:‏ فاسدين هلكى بسبب فسادهم‏.‏ والبوار‏:‏ الهلاك‏.‏ وبارت السلعة، مأخوذ من هذا‏.‏ وبور‏:‏ يوصف به الجمع والإفراد، ومنه قول ابن الزبعرى‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور

والبور في لغة أزد عمان‏:‏ الفاسد، ومنه قول أبي الدرداء‏:‏ فأصبح ما جمعوا بوراً، أي فاسداً ذاهباً، ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏

لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد *** يهدي الإله سبيل المعشر البور

وقال الطبري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‏}‏ يعني به قولهم‏:‏ ‏{‏فاستغفر لنا‏}‏ لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم، قال وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك‏}‏ الآية، معناه‏:‏ وما ينفعكم استغفاري، وهل أملك لكم شيئاً والله قد أراد ضركم بسبب معصيتكم كما لا أملك إن أراد بكم النفع في أموالكم وأهليكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

لما قال لهم‏:‏ ‏{‏وكنتم قوماً بوراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏ توعدهم بعد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يؤمن بالله ورسوله‏}‏ الآية، وأنتم هكذا فأنتم ممن أعدت لهم السعير، وهي النار المؤججة‏.‏ والمسعر‏:‏ ما يحرك به النار، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «ويل من مسعر حرب»‏.‏ ثم رجى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ملك السماوات والأرض‏}‏، الآية‏:‏ لأن القوم لم يكونوا مجاهرين بالكفر، فلذلك جاء وعيدهم وتوبيخهم ممزوجاً فيه بعض الإمهال والترجية، لأن الله تعالى قد كان علم منهم أنهم سيؤمنون، ثم إن الله تعالى أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا والغنيمة فكان كذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريدون أن يبدلوا كلام الله‏}‏ معناه‏:‏ يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر‏.‏ وقال عبد الله بن زيد بن أسلم ‏{‏كلام الله‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏ وهذا قول ضعيف، لأن هذه الآية نزلت في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، وهذا في آخر عمره، وآية هذه السورة نزلت سنة الحديبية، وأيضاً فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فضلهم رسول الله بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب، الحديث المشهور فأمره الله تعالى أن يقول لهم في هذه الغزوة إلى خيبر‏:‏ ‏{‏لن تتبعونا‏}‏ وخص الله بها أهل الحديبية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلكم قال الله من قبل‏}‏ يريد وعده قبل باختصاصهم بها، وقول الأعراب‏:‏ ‏{‏بل تحسدوننا‏}‏ معناه‏:‏ بل يعز عليكم أن نصيب مغنماً ومالاً، فرد الله على هذه المقالة بقوله‏:‏ ‏{‏بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً‏}‏ أي لا يفقهون من الأمور مواضع الرشد، وذلك هو الذي خلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ذلك سبباً إلى منعهم من غزوة خيبر‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏:‏ «تحسِدوننا» بكسر السين‏.‏ وقرأ الجمهور من القراء‏:‏ «كلام» قال أبو علي‏:‏ هو أخص بما كان مفيداً حديثاً‏.‏ وقرأ الكسائي وحمزة وابن مسعود وطلحة وابن وثاب‏:‏ «كلم» والمعنى فيهما متقارب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

أمر الله نبيه عليه السلام بالتقدمة إلى هؤلاء المخلفين بأنهم سيؤمرون بقتال عدو بئيس، وهذا يدل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام، وإلا فلم يكونوا أهلاً لهذا الأمر، واختلف الناس من القوم المشار إليهم في قوله‏:‏ ‏{‏إلى قوم أولي بأس شديد‏}‏ فقال عكرمة وابن جبير وقتادة‏:‏ هم هوازن ومن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويندرج في هذا القول عندي من حورب وغلب في فتح مكة‏.‏

وقال كعب‏:‏ هم الروم الذين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة‏.‏ وقال الزهري والكلبي‏:‏ هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة‏.‏

وقال منذر بن سعيد‏:‏ يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يريد لما كشف الغيب أنهما دعوا إلى قتال أهل الردة‏.‏ وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال‏:‏ والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا‏.‏ وقال ابن عباس وابن أبي ليلى‏:‏ هم الفرس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هم فارس والروم‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ هم قوم لم يأتوا بعد، والقولان الأولان حسنان، لأنهما الذي كشف الغيب وباقيهما ضعيف‏.‏ وقال منذر بن سعيد‏:‏ رفع الله في هذه الجزية، وليس إلا القتال أو الإسلام، وهذا لا يوجد إلا في أهل الردة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهو من حورب في فتح مكة‏.‏ وقرأ الجمهور من القراء‏:‏ «أو يسلمون» على القطع، أي أو هم يسلمون دون حرب‏.‏ وقرأ أبيّ بن كعب فيما حكى الكسائي‏:‏ «أو يسلموا» بنصب الفعل على تقدير‏:‏ أو يكون أن يسلموا، ومثله من الشعر قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فقلت له لا تبك عيناك إنما *** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

يروى‏:‏ «نموتَ» بالنصب‏.‏ و«نموتُ» بالرفع، فالنصب على تقدير‏:‏ أو يكون أن نموت، والرفع على القطع، أو نحن نموت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تطيعوا‏}‏ معناه‏:‏ فيما تدعون إليه، والعذاب الذي توعدهم‏:‏ يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا، وأما عذاب الآخرة فبين فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏18‏)‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

لما بالغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة للمدينة لجهينة ومزينة وغفار وأسلم وأشجع، عقب ذلك بأن عذر أهل الأعذار من العرج والعمى والمرض جملة ورفع الحرج عنهم والضيق والمأثم، وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة، إلا أن يحزب حازب في حضرة ما، فالفرض متوجه بحسب الوسع، ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف، لأن الأعرج أحرى الناس بالصبر وأن لا يفر، وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية، وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله‏.‏

وقرأ الجمهور من القراء‏:‏ «يدخله» بالياء‏.‏ وقرأ ابن عامر ونافع وأبو جعفر والأعرج والحسن وشيبة وقتادة‏:‏ «ندخله» بالنون، وكذلك «نعذبه» و‏:‏ «يعذبه»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة‏}‏ تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة، وبهذا سميت بيعة الرضوان‏.‏ والرضى بمعنى الإرادة، فهو صفة ذات‏.‏ ومن جعل ‏{‏إذ‏}‏ مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة، جاز أن يجعل ‏{‏رضي‏}‏ بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم، فالرضى على هذا صفة فعل، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها‏.‏

وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلاً يبين على قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً، وإنما جاء معتمراً، فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي وحمله على جمل يقال له الثعلب، فلما كلمهم، عقروا الجمل، وأرادوا قتل خراش، فمنعه الأحابيش، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب، فقال له عمر‏:‏ يا رسول الله أنا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني، وليس هناك من بني عدي بن كعب من يحميني، ولكن ابعث عثمان بن عفان، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي، فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره، حتى إذا جاء قريشاً فأخبرهم، فقالوا له‏:‏ إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه، فقال عثمان‏:‏ ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وقالوا‏:‏ لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، ونادى مناديه‏:‏ أيها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا الجد بن قيس المنافق، وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال‏:‏

«هذه يد لعثمان، وهي خير من يد عثمان ثم جاء عثمان بعد ذلك سالماً»‏.‏

و ‏{‏الشجرة‏}‏ سمرة كانت هنالك، ذهبت بعد سنين، فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها، فقال عمر سيروا هذا التكلف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعلم ما في قلوبهم‏}‏ قال قوم معناه‏:‏ من كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف، فيه مذمة للصحابة‏.‏ وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه‏:‏ من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه، وهذا قول حسن، لكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه، أما أنه يحتمل أن يجازى ب ‏{‏السكينة‏}‏ والفتح القريب والمغانم‏.‏

وقال آخرون معناه‏:‏ من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر وغيره، وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول ‏{‏السكينة‏}‏ والتعريض بالفتح القريب‏.‏ و‏{‏السكينة‏}‏ هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له‏.‏

وقرأ الناس‏:‏ «وأثابهم» قال هارون وقد قرئت‏:‏ «وأتابهم» بالتاء بنقطتين والفتح القريب‏:‏ خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج إليها لم يلبث، قال أبو جعفر النحاس، وقد قيل‏:‏ الفتح القريب‏:‏ فتح مكة، والمغانم الكثيرة‏:‏ فتح خيبر‏.‏

وقرأ يعقوب في رواية رويس‏:‏ «تأخذونها» على مخاطبتهم بالتاء من فوق‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «يأخذونها» على الغيبة‏.‏

واختلف في عدة المبايعين فقيل‏:‏ ألف وخمسمائة، قاله قتادة، وقيل‏:‏ وأربعمائة قاله جابر بن عبد الله، وقيل‏:‏ وخمسمائة وخمسة وعشرون، قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ وثلاثمائة قاله ابن أبي أوفى، وقيل غير هذا مما ذكرناه من قبل، وأول من بايع في ذلك رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب قاله الشعبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏20‏)‏ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏22‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعدكم الله‏}‏ الآية مخاطبة للمؤمنين ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة، قاله مجاهد وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فعجل لكم هذه‏}‏ يريد خيبر، وقال زيد بن أسلم وابنه، المغانم الكثيرة‏:‏ خيبر، و‏:‏ ‏{‏هذه‏}‏ إشارة إلى البيعة والتخلص من أمر قريش، وقاله ابن عباس‏:‏ وقوله ‏{‏وكف أيدي الناس عنكم‏}‏ يريد من ولي عورة المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منها، وذلك أنه كان من أحياء العرب ومن اليهود من يعادي وكانت قد أمكنتهم فرصة فكفهم الله عن ذراري المسلمين وأموالهم، وهذه للمؤمنين العلامة على أن الله ينصرهم ويلطف لهم، قاله قتادة‏.‏ وحكى الثعلبي أنه قال‏:‏ كف الله غطفان ومن معها عن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا لنصر أهل خيبر، وذكره النقاش وقال الثعلبي أيضاً عن بعضهم إنه أراد كف قريش‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأخرى لم تقدروا عليها‏}‏ قال عبد الله بن عباس‏:‏ الإشارة إلى بلاد فارس والروم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الإشارة إلى خيبر‏.‏ وقال قتادة والحسن‏:‏ الإشارة إلى مكة، وهذا هو القول الذي يتسق معه المعنى ويتأيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قد أحاط الله بها‏}‏ معناه بالقدرة والقهر لأهلها، أي قد سبق في علمه ذلك وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار‏}‏ إشارة إلى قريش ومن والاها في تلك السنة، قاله قتادة، وفي هذا تقوية لنفوس المؤمنين، وقال بعض المفسرين‏:‏ أراد الروم وفارس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وإنما الإشارة إلى العدو الأحضر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سنة الله‏}‏ إشارة إلى وقعة بدر، وقيل إشارة إلى عادة الله من نصر الأنبياء قديماً، ونصب ‏{‏سنة‏}‏ على المصدر، ويجوز الرفع ولم يقرأ به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي كف أيديهم‏}‏ الآية، روي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً، فلذلك اختصرته فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من المسلمين، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة، فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو «بطن مكة»‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أسر النبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم، وذلك هو «بطن مكة»‏.‏ قال النقاش‏:‏ الحرام كله ‏{‏مكة‏}‏، والظفر عليهم هو أسر من أسر منهم، وباقي الآية تحريض على العمل الصالح، لأن من استشعر أن الله يبصر عمله أصلحه‏.‏

وقرأ الجمهور من القراء‏:‏ «بما تعملون» بالتاء على الخطاب‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده‏:‏ «بما يعملون» بالياء على ذكر الكفار وتهددهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

يريد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم الذين كفروا‏}‏ أهل مكة الذين تقدم ذكرهم‏.‏ وقوله ‏{‏وصدوكم عن المسجد الحرام‏}‏ هو منعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة عام الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد العمرة وتعظيم البيت، وخرج معه بمائة بدنة، قاله النقاش، وقيل بسبعين، قاله المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، فلما دنا من مكة، قال أهل مكة هذا محمد الذي قد حاربنا وقتل فينا، يريد أن يدخل مكة مراغمة لنا، والله لا تركناه حتى نموت دون ذلك، فاجتمعموا لحربه، واستنجدوا بقبائل من العرب وهم الأحابيش وبعثوا فغوروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المياه التي تقرب من مكة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية، وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عثمان، وبعث أهل مكة إليه رجالاً منهم‏:‏ عروة بن مسعود، وبديل بن ورقاء، وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أياماً حتى سفر سهيل بن عمرو، وبه انعقد الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ويعتمر من العام القادم، فهذا كان صدهم إياه وهو مستوعب في كتب السير، فلذلك اختصرناه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «والهدْي» بسكون الدال‏.‏‏.‏ وقرأ الأعرج والحسن بن أبي الحسن‏:‏ «والهدِيّ» بكسر الدال وشد الياء، وهما لغتان، وهو معطوف على الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وصدوكم‏}‏ أي وصدوا الهدي‏.‏ و‏:‏ ‏{‏معكوفاً‏}‏ حال، ومعناه‏:‏ محبوساً، تقول‏:‏ عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وقد قال أبو علي‏:‏ إن عكف لا يعرفه متعدياً، وحكى ابن سيده وغيره‏:‏ تعديه، وهذا العكف الذي وقع للهدي كان من قبل المشركين بصدهم، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم فحبسوا هديهم‏.‏ و‏{‏أن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أن يبلغ‏}‏ يحتمل أن يعمل فيها الصد، كأنه قال‏:‏ وصدوا الهدي كراهة أن أو عن أن، ويحتمل أن يعمل فيها العكف فتكون مفعولاً من أجله، أي الهدي المحبوس لأجل ‏{‏أن يبلغ محله‏}‏، و‏{‏محله‏}‏ مكة‏.‏

وذكر الله تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة، وهو أنه كان بمكة مؤمنون ومن رجال ونساء خفي إيمانهم، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين‏.‏ قال قتادة‏:‏ فدفع الله عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين، وقد يدفع بالمؤمنين عن الكفار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تعلموهم‏}‏ صفة للمذكورين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن تطؤوهم‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏أن‏}‏ بدلاً من ‏{‏رجال‏}‏، كأنه قال‏:‏ ولولا قوم مؤمنون أن تطؤوهم، أي لولا وطئكم قوماً مؤمنين، فهو على هذا في موضع رفع، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بدلاً من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لم تعلموهم‏}‏ كأنه قال‏:‏ لم تعلموا وطأهم أنه وطء المؤمنين، والوطء هنا‏:‏ الإهلاك بالسيف وغيره على وجه التشبيه، ومنه قول الشاعر ‏[‏زهير‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ووطئتنا وطئاً على حنق *** وطء المقيد ثابت الهرم

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم اشدد وطأتك على مضر» ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن آخر وطأة الرب يوم وج بالطائف» لأنها كانت آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيها ذكر هذا المعنى النقاش‏:‏ و«المعرة» السوء والمكروه اللاصق، مأخوذ من العر والعرة وهي الجرب الصعب اللازم‏.‏ واختلف الناس في تعيين هذه المعرة، فقال ابن زيد‏:‏ هي المأثم وقال ابن إسحاق‏:‏ هي الدية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذان ضعيفان، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان من أهل الحرب‏.‏

وقال الطبري حكاه الثعلبي‏:‏ هي الكفارة‏.‏ وقال منذر‏:‏ المعرة‏:‏ أن يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ هي الملام والقول في ذلك، وتألم النفس منه في باقي الزمن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه أقوال حسان‏.‏ وجواب ‏{‏لولا‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ لمكناكم من دخول مكة وأيدناكم عليهم‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ «فتنالكم منه معرة»‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليدخل‏}‏ يحتمل أن يتعلق بمحذوف من القول، تقديره‏:‏ لولا هؤلاء لدخلتم مكة، لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة ‏{‏ليدخل الله‏}‏‏:‏ أي ليبين للناظر أن الله تعالى يدخل من يشاء في رحمته، أو ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم، ويحتمل أن تتعلق بالإيمان المتقدم الذكر، فكأنه قال‏:‏ ولولا قوم مؤمنون آمنوا ليدخل الله من يشاء في رحمته، وهذا مذكور، لكنه ضعيف، لأن قوله‏:‏ ‏{‏من يشاء‏}‏ يضعف هذا التأويل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لو تزيلوا‏}‏ أي لو ذهبوا عن مكة، تقول‏:‏ أزلت زيداً عن موضعه إزالة، أي أذهبته، وليس هذا الفعل من زال يزول، وقد قيل هو منه‏.‏

وقرأ أبو حيوة وقتادة‏:‏ بألف بعد الزاي، أي «لو تزايلوا»، أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ لبيان الجنس إذا كان الضمير في ‏{‏تزيلوا‏}‏ للجميع من المؤمنين والكافرين وقال النحاس‏:‏ وقد قيل إن قوله‏:‏ ‏{‏ولولا رجال مؤمنون‏}‏ الآية‏.‏ يريد من في أصلاب الكافرين من سيؤمن في غابر الدهر، وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً‏.‏ والعامل في قوله‏:‏ ‏{‏إذ جعل‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏لعذبنا‏}‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ أذكر إذ جعلنا‏.‏

و‏:‏ ‏{‏الحمية‏}‏ التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد، قال الزهري‏:‏ وحمية سهيل ومن شاهد عقد الصلح في أن منعوا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ولجوا حتى كتب باسمك اللهم، وكذلك منعوا أن يثبت‏:‏ هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله‏.‏ ولجوا حتى قال صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ «امح واكتب» هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث وجعلها تعالى «حمية جاهلية»، لأنها كانت بغير حجة وفي غير موضعها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاءهم محارباً لعذرهم في حميتهم، وإنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً، فكانت حميتهم جاهلية صرفاً‏.‏ والسكينة هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره‏.‏

و‏:‏ ‏{‏كلمة التقوى‏}‏ قال الجمهور‏:‏ هي لا إله إلا الله، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏.‏ وقال أبو هريرة وعطاء الخراساني‏:‏ هي لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏ وقال علي بن أبي طالب‏:‏ هي لا إله إلا الله والله أكبر، وحكاه الثعلبي عن ابن عمر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه كلها أقوال متقاربة حسان، لأن هذه الكلمة تقي النار، فهي ‏{‏كلمة التقوى‏}‏‏.‏

وقال الزهري عن المسور ومروان‏:‏ ‏{‏كلمة التقوى‏}‏ المشار إليها هي بسم الله الرحمن الرحيم وهي التي أباها كفار قريش، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم ‏{‏أحق بها‏}‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا إله إلا الله أحق باسم‏:‏ ‏{‏كلمة التقوى‏}‏‏.‏ من‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «وكانوا أهلها وأحق بها»‏.‏ والمعنى‏:‏ كانوا أهلها على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم، وقيل ‏{‏أحق بها‏}‏ من اليهود والنصارى في الدنيا، وقيل أهلها في الآخرة بالثواب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله بكل شيء عليماً‏}‏ إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية، فيروى أنه لما انعقد، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة، وامتزجوا، وعلت دعوة الإسلام، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب، وزاد عدد الإسلام أضعاف ما كان قبل ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويقتضي ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏27‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏28‏)‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

روي في تفسير هذه الآية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أرى ذلك بالحديبية، فأخبر الناس بهذه ‏{‏الرؤيا‏}‏، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون‏.‏ لكن ليس في تلك الجهة‏.‏ وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له‏:‏ ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين‏}‏، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصد، وقال المنافقون‏:‏ وأين الرؤيا‏؟‏ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق‏}‏‏.‏ و‏:‏ ‏{‏صدق‏}‏ هذه تتعدى إلى مفعولين، تقول صدقت زيداً الحديث‏.‏ واللام في‏:‏ ‏{‏لتدخلن‏}‏ لام القسم الذي تقتضيه ‏{‏صدق‏}‏ لأنها من قبيل تبين وتحقق، ونحوها مما يعطي القسم‏.‏

واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه، كان ذلك مما يكون ولا بد، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون، وقال بعض العلماء‏:‏ إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض‏.‏ وقال آخرون‏:‏ استثنى لأجل قوله‏:‏ ‏{‏آمنين‏}‏ لأجل إعلامه بالدخول، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب‏.‏ وقال قوم‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ بمعنى إذ فكأنه قال‏:‏ إذ شاء الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حسن في معناه، ولكن كون ‏{‏إن‏}‏ بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه، اختصرت ذكرها، لأنها لا طائل فيها‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏:‏ «إن شاء الله لا تخافون» بدل ‏{‏آمنين‏}‏‏.‏

ولما نزلت هذه الآية، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت، وخرجت في العام المقبل، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فعلم ما لم تعلموا‏}‏ يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله بهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دون ذلك‏}‏، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم‏.‏

واختلف الناس في الفتح القريب، فقال كثير من الصحابة‏:‏ هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق‏.‏ أنه الصلح بالحديبية‏.‏ وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو فتح هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «نعم» وقال ابن زيد‏:‏ الفتح القريب‏:‏ خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها‏.‏ وقال قوم‏:‏ الفتح القريب‏:‏ فتح مكة، وهذا ضعيف، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، بل كان بعد ذلك بعام، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه‏.‏ وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هو الذي أرسل رسوله‏}‏ الآية تعظيم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه يظهره على جميع الأديان‏.‏ ورأى بعض الناس لفظة‏:‏ ‏{‏ليظهره‏}‏ تقتضي محو غيره به، فلذلك قالوا‏:‏ إن هذا الخبر يظهر للوجود عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، فإنه لا يبقى في وقته غير دين الإسلام وهو قول الطبري والثعلبي‏.‏ ورأى قوم أن الإظهار هو الإعلاء وإن بقي من الدين الآخر أجزاء، وهذا موجود الآن في دين الإسلام، فإنه قد عم أكثر الأرض وظهر على كل دين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ معناه‏:‏ شاهداً، وذلك يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما شاهداً عندكم بهذا الخبر ومعلماً به‏.‏ والثاني‏:‏ شاهداً على هؤلاء الكفار المنكرين أمر محمد الرادين في صدره ومعاقباً لهم بحكم الشهادة، والآية على هذا وعيد للكفار الذين شاحوا في أن يكتب محمد رسول الله، فرد عليهم بهذه الآية كلها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏محمد رسول الله‏}‏ قال جمهور الناس‏:‏ هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقوله‏:‏ و‏{‏الذين معه‏}‏ ابتداء وخبره‏:‏ ‏{‏أشداء‏}‏ و‏{‏رحماء‏}‏ خبر ثان‏.‏ وقال قوم من المتأولين‏:‏ ‏{‏محمد‏}‏ «ابتداء» و‏:‏ ‏{‏رسول الله‏}‏ صفة له ‏{‏والذين‏}‏ عطف عليه‏.‏ و‏:‏ ‏{‏أشداء‏}‏ خبر وهؤلاء بوصفهم، وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأول عندي أرجح، لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين معه‏}‏ إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية‏:‏ ب ‏{‏الذين معه‏}‏‏.‏ و‏:‏ ‏{‏أشداء‏}‏ جمع شديد، أصله‏:‏ أشدداء، أدغم لاجتماع المثلين‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «اشداءُ» «رحماءُ» بالرفع، وروى قرة عن الحسن‏:‏ «أشداءَ» رحماءَ «بنصبهما قال أبو حاتم‏:‏ ذلك على الحال والخبر‏:‏ ‏{‏تراهم‏}‏‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ وإن شئت نصبت» أشداءَ «على المدح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تراهم ركعاً سجداً‏}‏، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم‏.‏ و‏:‏ ‏{‏يبتغون‏}‏ معناه يطلبون‏.‏ وقرأ عمر وابن عبيد‏:‏» ورُضواناً «بضم الراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سيماهم‏}‏ معناه‏:‏ علامتهم‏.‏ واختلف الناس في تعيين هذه السيما، فقال مالك بن أنس‏:‏ كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب، كان يبقى على المسح أثره، وقاله عكرمة‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ يسجدون على التراب لا على الأثواب‏.‏ وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية‏:‏ هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نوراً ‏{‏من أثر السجود‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كما يجعل غرة من أثر الوضوء الحديث، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله‏:‏ ‏{‏فضلاً من الله ورضواناً‏}‏ كأنه قال‏:‏ علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة‏:‏ ‏{‏سيماهم في وجوههم من أثر السجود‏}‏‏.‏ ويحتمل أن تكون السيما بدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏فضلاً‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ السمت الحسن‏:‏ هو السيما، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه حالة مكثري الصلاة، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية‏:‏ السيما‏:‏ بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر‏.‏ وقال منصور‏:‏ سألت مجاهداً‏:‏ أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل‏؟‏ فقال‏:‏ لا، وقد تكون مثل ركبة البعير، وهو أقسى قلباً من الحجارة‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس‏:‏ السيما‏:‏ حسن يعتري وجوه المصلين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسناً تابعاً للإجلال الذي في نفسه، ومتى أجل الإنسان أمراً حسناً عنده منظره، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب‏:‏» من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار «‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد، سمع شريك بن عبد الله يقول‏:‏ حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال‏:‏ يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك‏.‏

وقرأ الأعرج‏:‏ «من إثْر» بسكون الثاء وكسر الهمزة‏.‏ قال أبو حاتم هما بمعنى‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ «من آثار»، جمعاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل‏}‏ الآية، المثل هنا الوصف أو الصفة‏.‏ وقال بعض المتأولين‏:‏ التقدير الأمر ‏{‏ذلك‏}‏ وتم الكلام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع‏}‏‏.‏ وقال مجاهد وجماعة من المتأولين‏:‏ المعنى ‏{‏ذلك‏}‏ الوصف هو ‏{‏مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل‏}‏ وتم القول، و‏:‏ ‏{‏كزرع‏}‏ ابتداء تمثيل يختص بالقرآن‏.‏ وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الوصف هو ‏{‏مثلهم في التوراة‏}‏ وتم القول، ثم ابتدأ ‏{‏ومثلهم في الإنجيل كزرع‏}‏‏.‏ وقال آخرون‏:‏ المثلان جميعاً هي في التوراة وهي في الإنجيل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كزرع‏}‏، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل‏:‏ فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده، فكان كالزرع حبة واحدة، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء‏:‏ وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل، يقال‏:‏ أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها، وأشطأ الزرع‏:‏ إذا خرج شطأه‏.‏

وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر‏:‏ «شَطأ» بفتح الطاء والهمز دون مد، وقرأ الباقون بسكون الطاء، وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ «شطاه» بفتح الطاء دون همز، وقرأ أبو جعفر‏:‏ «شطه» رمى بالهمزة وفتح الطاء، ورويت عن نافع وشيبة‏.‏ وروي عن عيسى‏:‏ «شطاءه» بالمد والهمز، وقرأ الجحدري‏:‏ «شطوه» بالواو‏.‏ قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير، وهذه كلها لغات‏.‏ وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الزرع‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فآزره‏}‏‏.‏ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ‏{‏فاستغلظ‏}‏ بأبي بكر، ‏{‏فاستوى على سوقه‏}‏‏:‏ بعمر بن الخطاب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآزره‏}‏ وزنه‏:‏ أفعله، أبو الحسن ورجحه أبو علي‏.‏ وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر‏:‏ «فأزره» على وزن‏:‏ فعله دون مد، ولذلك كله معنيان‏:‏ أحدهما ساواه طولاً، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

بمحنية قد آزر الضال نبتها *** بجر جيوش غانمين وخيب

أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال، فالفاعل على هذا المعنى‏:‏ الشطء والمعنى الثاني‏:‏ إن آزره وأزره بمعنى‏:‏ أعانه وقواه، مأخوذ ذلك من الأزر وشده، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء، ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره «آزره» وزنه‏:‏ فاعله، والأول أصوب أن وزنه‏:‏ أفعله، ويدلك على ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

لا مال إلا العطاف تؤزره *** أم ثلاثين وابنة الجبل

وقرأ ابن كثير‏:‏ «على سؤقه» بالهمز، وهي لغة ضعيفة، يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر ‏[‏جرير‏]‏‏:‏

وجعدة إذا أضاءهما الوقود *** و‏:‏ ‏{‏يعجب الزراع‏}‏ جملة في موضع الحال، وإذا أعجب ‏{‏الزراع‏}‏، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه، إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيباً لم يعجبهم، وهنا تم المثل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليغيظ بهم الكفار‏}‏ ابتداء كلام قبله محذوف تقديره‏:‏ جعلهم الله بهذه الصفة ‏{‏ليغيظ بهم الكفار‏}‏، و‏{‏الكفار‏}‏ هنا المشركون‏.‏ قال الحسن‏:‏ من غيظ الكفار قول عمر بمكة‏:‏ لا عبد الله سراً بعد اليوم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ هي لبيان الجنس وليست للتبعيض، لأنه وعد مرجٍّ للجميع‏.‏