فصل: تفسير الآية رقم (102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (102):

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}
الضمير في {سجدوا} للطائفة المصلية والمعنى: فإذا سجدوا معك الركعة الأولى فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية والمعنى: فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة، والضمير في قوله: {فليكونوا} يحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولاً بإزاء العدو ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق {فلِتقم} بكسر اللام، وقرأ الجمهور {ولتأت طائفة} بالتاء، وقرأ أبو حيوة {وليأت} بالياء، وقوله تعالى: {ود الذين كفروا} الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة، لئلا ينال العدو أمله. وأسلحة جمع سلاح، وفي قوله تعالى: {ميلة واحدة} بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية، وقوله تعالى: {ولا جناح عليكم} الآية ترخيص، قال ابن عباس: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين بقوله: {إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً}.

.تفسير الآيات (103- 104):

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف، على حد ما أمروا عند قضاء المناسك بذكر الله، فهو ذكر باللسان، وذهب إلى ان {قضيتم} بمعنى فعلتم، أي إذا تلبستم بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات: المرض، وغيره، وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال: يصلي قاعداً فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يطق فعلى الأيسر، فإن لم يطق فعلى الظهر، ومذهب مالك في المدونة التخيير، لأنه قال: فعلى جنبه أو على ظهره، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال: يبتدئ بالظهر ثم بالجنب، قال ابن حبيب: وهو وهم، قال اللخمي: وليس بوهم، بل هو أحكم في استقبال القبلة، وقال سحنون: يصلي على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره، فإن لم يقدر فعلى ظهره، و{الطمأنينة} في الآية: سكون النفس من الخوف، وقال بعض المتأولين: المعنى: فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً، وقوله تعالى: {كتاباً موقوتاً} معناه: منجماً في أوقات، هذا ظاهر اللفظ، وروي عن ابن عباس: أن المعنى مفروضاً، فهما لفظان بمعنى واحد كرر مبالغة.
وقوله تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم} يبين أن القضاء المشار إليه قبل، إنما هو قضاء صلاة الخوف، و{تهنوا} معناه تلينوا وتضعفوا، حبل واهن أي ضعيف، ومنه: {وهن العظم} [مريم: 4]، و{ابتغاء القوم}: طلبهم وقرأ عبد الرحمن الأعرج {أن تكونوا} بفتح الألف، وقرأ يحيى بن وثاب ومنصور بن المعتمر تيلمون في الثلاثة وهي في لغة، وهذا تشجيع لنفوس المؤمنين، وتحقير لأمر الكفرة، ومن نحو هذا المعنى قول الشاعر [الشداخ بن يعمر الكناني]: [المنسرح]
القومُ أمثالُكُمْ لَهُمْ شَعَرٌ ** في الرَّأسِ لا ينشرون إنْ قتلوا

ثم تأكد التشجيع بقوله تعالى: {وترجون من الله ما لا يرجون} وهذا برهان بيّن، ينبغي بحسبه أن تقوى نفوس المؤمنين، وباقي الآية بيّن.

.تفسير الآيات (105- 107):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}
في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه، وتقويم أيضاً على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة، وقوله تعالى: {بما أراك الله} معناه: على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة، وقوله تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيماً، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق، وكانوا إخوة، بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر غيره، فكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعراً يتصل فيه، فمنه قوله:
أفكلما قال الرجال قصيدة ** نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالها

قال قتادة بن النعمان: وكان بنو أبيرق أهل فاقه، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من دومك الشام فجعله في مشربه له، وفي المشربة درعا له وسيفان، فعدي على المشربة من الميل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فقال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: {ونحن نسأل} والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه ثم أتى بني ابيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبنا فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي: يابن اخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة فأتيته عليه السلام فقصصتها عليه، فقال: انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلاً منهم يقال له: أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته قال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة، قال: فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه، فأتيت عمي فقال: ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} الآيات.
فالخائنون بنو أبيرق، والبريء المرمي لبيد بن سهل، والطائفة التي همت: أسير وأصحابه.
قال القاضي أبو محمد: وقال قتادة وغير واحد من المتأولين: هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة، وقال السدي: القصة في طعمة بن أبيرق لكن بأن استودعه يهودي درعاً فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل الأنصاري، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح، وأبو مليل هو البريء المشار إليه، وقال عكرمة: سرق طعمة بن أبيرق درعاً من مشربة ورمى بسرقتها رجلاً من اليهود يقال له: زيد بن السمين.
قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم، وخلق مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك، ونبه على مقاله لقتادة بن النعمان بقوله: {ولا تكن للخائنين خصيماً}.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وطعيمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة، ونزل على سلافة فرماها حسان بن ثابت بشعر، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت: اخرج عنا، أهديت إليَّ شعر حسان، فروي: أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله، وروي: أنه اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه.
وقوله تعالى: {واستغفر الله} ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد براءتهم، والمعنى: استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، فهذا حدك، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب.
وقوله تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم، وقوله تعالى: {إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً} رفق وإبقاء، فإن الخوان: هو الذي تتكرر منه الخيانة، والأثيم: هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا الشديد الساقط مرة واحدة ونحو ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة، واختيان الأنفس: هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة.

.تفسير الآيات (108- 110):

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)}
الضمير في {يستخفون} للصنف المرتكب للمعاصي مستسرين بذلك عن الناس مباهتين لهم، واندرج في طي هذا العموم، ودخل تحت هذه الأنحاء أهل الخيانة في النازلة المذكورة، وأهل التعصب لهم والتدبير في خدع النبي صلى الله عليه وسلم والتلبس عليه، ويحتمل أن يكون الضمير لأهل هذه النازلة، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من فعل نحو فعلهم، ومعنى {وهو معهم} بالإحاطة والعلم والقدرة، و{يبيتون} يدبرون ليلاً، انطلقت العبارة على كل استسرار بهذا، إذ الليل مظنة الاستتار والاختفاء، قال الطبري: وزعم بعض الطائيين: أن التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين الطائي: [المتقارب]
وَبَيَّتَ قولي عِنْدَ الملي ** كِ قَاتَلَكَ اللهُ عبداً كنودا

وقال أبو زيد {يبيتون} معناه: يؤلفون، ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت، أي: يستسرون في تدبيرهم بالجدرات.
وقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء} قد تقدمت وجوه القراءات فيه في سورة آل عمران، والخطاب بهذه الآية للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج طي هذا العموم أهل النازلة، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل التعصب في هذه النازلة وهو الأظهر عندي بحكم التأكيد ب {هؤلاء} وهي إشارة إلى حاضرين، وقد تقدم إعراب مثل هذه الآية في سورة آل عمران، والمجادلة: المدافعة بالقول وهي من فتل الكلام وليه، إذ الجدل القتل، وقوله تعالى: {فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة} وعيد محض، أي إن الله يعلم حقيقة الأمر فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره، كما فعلتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو بشر يقضي على نحو ما يسمع.
ولما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل يقوم بأمور العصاة عنده، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم، والمهل المنفسح بقوله تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله} الآية، منحنى من عمل السوء، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله تعالى: {يجد الله} استعارة، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين، كانوا كالواجدين لمطلوب، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب من الله، وقال عبد الله بن مسعود يوماً في مجلسه: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتبت كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئاً من ثيابه قرضه بالمقراضين، فقال رجل من القوم: لد آتى الله بني إسرائيل خيراً، فقال عبد الله: ما آتاكم الله خير مما آتاهم، جعل لكم الماء طهوراً، وقال: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الآية وهذه آية وعد بشرط المشيئة على ما تقتضيه عقيدة أهل السنة، وفضل الله مرجو وهو المستعان.

.تفسير الآيات (111- 113):

{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
تقدم القول في معنى الكسب، والإثم الحكم اللاحق عن المعصية، ونسبة المرء إلى العقوبة فيها، وقوله: {فإنما يكسبه على نفسه} أي إياها يردي وبها يحل المكروه.
وقوله تعالى: {خطيئة أو إثماً} ذهب بعض الناس إلى أنهما لفظان بمعنى كرر لاختلاف اللفظ، وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وهذه الآية لفظها عام، ويندرج تحت ذلك العموم وتوبيخه أهل النازلة المذكورة، وبريء النازلة قيل: هو لبيد بن سهل، وقيل: هو زيد بن السمين اليهودي، وقيل: أبو مليل الأنصاري، وقوله تعالى: {فقد احتمل} تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات، و{بهتاناً} معناه: كذباً على البريء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قلت في أخيك ما فيه مما يكره سماعه فقد اغتبته، فإن قلت ما ليس فيه بهته، فرمي البريء بهت له ونفس الخطيئة والإثم إثم مبين، معصية هذا الرامي معصيتان.
ثم وقف الله تعالى على نبيه على مقدار عصمته له، وأنها بفضل من الله ورحمة وقوله تعالى: {لهمت} معناه: لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه، وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت، وإنما المعنى: ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك، ويجعله هم نفسه أي كما فعل هؤلاء، لكن العصمة تبطل كيد الجميع، فيبقى الضلال في حيزهم، ثم ضمن وعد الله تعالى له أنهم {لا يضرونه شيئاً} وقرر عليه نعمه لديه، من إنزَال {الكتاب} المتلو، {والحكمة} التي بعضها خوطب به وبعضها جعلت له سجية ملكها، وقريحة يعمل عنها، وينظر بين الناس بها، لا ينطق عن الهوى، وبهذين علمه ما لم يكن يعلم، وباقي الآية بيّن.