فصل: تفسير الآيات (42- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (42- 46):

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}
المعنى ولا تخلطوا، يقال لبَسْتُ الأمر بفتح الباء ألبسه، إذا خلطته ومزجت بينه بمشكله وحقه بباطله. وأما قول الشاعر:
***وكتيبة لبّستها بكتيبة ** فالظاهر أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون المعنى من اللباس، واختلف أهل التأويل في المراد بقوله: {الحق بالباطل}.
فقال أبو العالية: قالت اليهود: محمد نبي مبعوث، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل.
وقال الطبري: كان من اليهود منافقون فما أظهروا من الإيمان حق، وما أبطنوا من الكفر باطل.
وقال مجاهد: معناه لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام.
وقال ابن زيد: المراد {بالحق} التوراة، والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام، و{تلبسوا} جزم بالنهي، {وتكتموا} عطف عليه في موضع جزم، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار أن وإذا قدرت أن كانت مع {تكتموا} بتأويل المصدر، وكانت الواو عاطفة على مصدر مقدر من {تلبسوا}، كأن الكلام ولا يكن لبسكم الحق بالباطل وكتمانكم الحق.
وقال الكوفيون: {تكتموا} نصب بواو الصرف، و{الحق} يعني به أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وأنتم تعلمون} جملة في موضع الحال ولم يشهد لهم تعالى بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه السلام، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، وفي هذه الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من واقعه على علم، وأنه أعصى من الجاهل.
{وأقيموا الصلاة} معناه: أظهروا هيئتها وأديموها بشروطها، وذلك تشبيه بإقامة القاعد إلى حال ظهور، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
وإذا يقال أتيتمُ يبرحوا ** حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طعان

وقد تقدم القول في الصلاة، و{الزكاة} في هذه الآية هي المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها، و{الزكاة} مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد، وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به المزكي وقيل {الزكاة} مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ الناس.
وقوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} قال قوم: جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة كلها.
وقال قوم: إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع.
وقالت فرقة: إنما قال: {مع} لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتض شهود الجماعة، فأمرهم بقوله: {مع} بشهود الجماعة، والركوع في اللغة الانحناء بالشخص.
قال لبيد: [الطويل]
أخبر أخبار القرون التي مضت ** أدبُّ كأني كلما قمت راكع

ويستعار أيضاً في الانحطاط في المنزلة، قال الأضبط بن قريع: [الخفيف]
لا تعاد الضعيف علك أن تر ** كع يوماً والدهر قد رفعه

وقوله تعالى: {أتأمرون الناس} خرج مخرج الاستفهام، ومعناه التوبيخ، والبر يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر، {وتنسون} بمعنى تتركون كما قال الله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67].
واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية، فقال ابن عباس: كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك، وهم لا يفعلونه.
وقال ابن جريج: كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله، وكانوا هم يواقعون المعاصي. وقالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون.
وقوله تعالى: {وأنتم تتلون} معناه: تدرسون وتقرؤون، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به، و{الكتاب} التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة.
وقوله تعالى: {أفلا تعقلون} معناه: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم؟ والعقل: الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير، أي يمنعه من التصرف، ومنه المعقل أي موضع الامتناع.
وقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال مقاتل: معناه على طلب الآخرة.
وقال غيره: المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على نيل رضوان الله، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب، وعلى مصائب الدهر أيضاً، ومنه الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأ {واستعينوا بالصبر والصلاة}.
وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع. ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة.
وقال قوم: الصبر على بابه، {والصلاة} الدعاء، وتجيء هذه الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله} [الأنفال: 45] لأن الثبات هو الصبر، وذكر الله هو الدعاء.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: {وإنها لكبيرة} على أي شيء يعود الضمير؟ فقيل على {الصلاة}، وقيل على الاستعانة التي يقتضيها قوله: {واستعينوا}، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقالت فرقة: على إجابة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا ضعف، لأنه لا دليل له من الآية عليه.
وقيل: يعود الضمير على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أضعف من الذي قبله.
و{كبيرة} معناه ثقيلة شاقة، والخاشعون المتواضعون المخبتون، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع.
و{يظنون} في هذه الآية قال الجمهور: معناه يوقنون.
وحكى المهدوي وغيره: أن الظن يصح أن يكون على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا تعسف، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى احد معتقديه، وقد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس، لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنساناً وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بعد، كهذه الآية، وكقوله تعالى: {فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53] وكقول دريد بن الصمة: [الطويل]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ** سراتهُم بالفارسي المسرد

وقوله تعالى: {أنهم ملاقو ربهم} أن وجملتها تسد مسد مفعولي الظن، والملاقاة هي للعقاب أو الثواب، ففي الكلام حذف مضاف، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواتر الحديث.
وحكى المهدوي: أن الملاقاة هنا مفاعلة من واحد، مثل عافاك الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف فاعل في المعنى.
{وملاقو} أصله ملاقون، لأنه بمعنى الاستقبال فحذفت النون تخفيفاً، فلما حذفت تمكنت الإضافة لمناسبتها للأسماء، وهي إضافة غير محضة، لأنها تعرف.
وقال الكوفيون: ما في اسم الفاعل الذي هو بمعن المجيء من معنى الفعل يقتضي إثبات النون وإعماله، وكونه وما بعده اسمين يقتضي حذف النون والإضافة.
و{راجعون} قيل: معناه بالموت وقيل بالحشر والخروج إلى الحساب والعرض، وتقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى: {ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} [البقرة: 28، الحج: 66، الروم: 40] والضمير في {إليه} عائد على الرب تعالى، وقيل على اللقاء الذي يتضمنه {ملاقو}.

.تفسير الآيات (47- 49):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون المؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضاً فإن فيه تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم بقوله: {فضلتكم على العالمين} لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع.
قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم: المعنى على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة والملك، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس».
وقوله عز وجل: {واتقوا يوماً} نصب يوماً ب {اتقوا} على السعة، والتقدير عذاب يوم، أو هول يوم، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى، لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل، ولكن معناه: جيئوا متقين يوماً. و{لا تجزي} معناه: لا تغني.
وقال السدي: معناه لا تقضي، ويقويه قوله: {شيئاً} وقيل المعنى: لا تكافئ، ويقال: جزى وأجزأ بمعنى واحد، وقد فرق بينهما قوم، فقالوا: جزى بمعنى: قضى وكافأ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى.
وقرأ أبو السمال {تُجزئ} بضم التاء والهمز، وفي الكلام حذف.
وقال البصريون: التقدير لا تجزي فيه، ثم حذف فيه.
وقال غيرهم: حذف ضمير متصل ب {تجزي} تقديره لا تجزيه، على أنه يقبح حذف هذا الضمير في الخبر، وإنما يحسن في الصلة.
وقال بعض البصريين: التقدير لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر واتصل الضمير، ثم حذف الضمير بتدريج.
وقوله تعالى: {ولا تقبل منها شفاعة} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيت الشفاعة ليس بحقيقي، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شفع، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم.
وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة، و{لا تجزي نفس عن نفس}، وهذا إنما هو في الكافرين، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين.
وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل}، قال أبو العالية: العدل الفدية.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وعدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدراً وإن لم يكن من جنسه، والعِدل بكسر العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه.
وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير، والضمير في قوله: {ولا هم} عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدى.
وقوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون} أي خلصناكم، و{آل} أصله أهل، قلبت الهاء ألفاً كما عمل في ماء، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل، فقيل أُهَيْل، موَيْه، وقد قيل في {آل} إنه اسم غير أهل، أصله أول وتصغيره أويل، وإنما نسب الفعل إلى {آل فرعون} وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم.
وقال الطبري رحمه الله: ويقتضي هذا أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، وآل الرجل قرابته وشيعته وأتباعه.
ومنه قول أراكة الثقفي: [الطويل]
فلا تبك ميْتاً بعد ميْتٍ أجنّهُ ** عليٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بكر

يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر في {آل} أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد، وقد يقال آل مكة، وآل المدنية، وفرعون اسم لكل من ملك من العمالقة مصر، وفرعون موسى قيل اسمه مصعب بن الريان.
وقال ابن إسحاق: اسمه الوليد بن مصعب.
وروي أنه كان من أهل اصطخر، ورد مصر فاتفق له فيها الملك، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام.
و{يسومونكم} معناه: يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه المساومة بالسلعة، وسامه خطة خسف و{يسومونكم} إعرابه رفع على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال، أي سائمين لكم سوء العذاب، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال، ويكون وصف حال ماضية، و{سوء العذاب} أشده وأصعبه.
قال السدي: كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء، ويستحيي النساء.
وقال غيره: صرفهم على الأعمال: الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، وكان قومه جنداً ملوكاً، وقرأ الجمهور {يذبِّحون} بشد الباء المكسورة على المبالغة، وقرأ ابن محيصن: {يذبحون} بالتخفيف، والأول أرجح إذ الذبح متكرر. كان فرعون على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر، فأولت له رؤياه أن مولوداً من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على يديه.
وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما: إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون: قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك.
وقال ابن عباس أيضاً: إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من المولودين في بني إسرائيل، ووكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من يحمل منهن.
وقيل: وكل بذلك القوابل.
وقالت طائفة: معنى {يذبحون أبناءكم} يذبحون الرجال ويسمون أبناء لما كانوا كذلك، واستدل هذا القائل بقوله تعالى: {نساءكم}.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح من التأويل أن الأبناء هم الأطفال الذكور، والنساء هم الأطفال الإناث، وعبر عنهن باسم النساء بالمآل، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهنَّ، ونفس الاستحياء ليس بعذاب، لكن العذاب بسببه وقع الاستحياء، و{يذبحون} بدل من {يسومون}.
قوله تعالى: {وفي ذلكم} إشارة إلى جملة الأمر، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر، و{بلاء} معناه امتحان واختبار، ويكون {البلاء} في الخير والشر.
وقال قوم: الإشارة {بذلكم} إلى التنجية من بني إسرائيل، فيكون {البلاء} على هذا في الخير، أي وفي تنجيتكم نعمة من الله عليكم.
وقال جمهور الناس: الإشارة إلى الذبح ونحوه، و{البلاء} هنا في الشر، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان.
وحكى الطبري وغيره في كيفيه نجاتهم: أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل، فسرى بهم موسى من أول الليل، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح الديكة، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح، وأمات الله تلك الليلة كثيراً من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت عدة بني إسرائيل نيفاً على ستمائة ألف، وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف.
وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته، فلما لحق فرعون موسى ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت؟ فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض فرسه فيه حتى بلغ الغمر، ثم رجع فقال لموسى أين أمرت، فوالله ما كذبت ولا كذبت، فأشار إلى البحر، وأوحى الله تعالى إليه، {أن اضرب بعصاك البحر} [الشعراء: 63]. وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر، وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء.