فصل: تفسير الآيات (18- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 19):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع {اليهود والنصارى} يقولون عن جميعهم: {نحن أبناء والله وأحباؤه} وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة {نحن أبناء الله وأحباؤه} والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة، وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك وقالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} ولو صح ما رووا لكان معناه بكراً في التشريف أو النبوة ونحوه، وأحباء جمع حبيب، وكانت هذه المقالة منهم عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وخوفهم العذاب، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا {أبناء الله وأحباؤه} وذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوماً ثم تخلفوننا فيها، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى {يعذبهم} به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوباً على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشراً كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات الأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.
وقوله تعالى: {يا أهل الكتاب} خطاب لليهود والنصارى، والرسول في قوله: {رسولنا} محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {على فترة من الرسل}، أي على انقطاع من مجيئهم مدى ما، والفترة سكون بعد حركة في جرم، ويستعار ذلك في المعاني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل عمل شدة، ولكل شدة فترة»، وقال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك فترة

معناه سكون بعد اضطراب، واختلف الناس في قدرة الفترة التي كات بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاماً. وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة. وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود. ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء، قاله ابن عباس، وقوله تعالى: {أن تقولوا} مفعول من أجله، المعنى حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة: {ما جاءنا من بشير ولا نذير} فقد جاءكم وقامت الحجة عليكم، {والله على كل شيء قدير} فهو الهادي والمضل والمنعم والمعذب لا رب غيره.

.تفسير الآيات (20- 22):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}
المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة. وقرأ ابن محيصن {يا قومُ} بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن. وروي ذلك عن ابن كثير. و{نعمة الله} هنا اسم الجنس، ثم عدد عيون تلك النعم، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عسى عليه السلام والأنبياء حاطة ومنقذون من النار وشرف في الدنيا والآخرة. وقوله: {وجعلكم ملوكاً} يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها، والمعنى الآخر: أن يريد استنفذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحراراً تملكون ولا تملكون، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره. وقال قتادة إنما قال: {وجعلكم ملوكاً} لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمة أحد من بني آدم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أي بعضهم كان يسخر بعضاً مذ تناسلوا وكثروا، وإنما تختلفت الأمم في معنى التملك فقط، وقال عبد الله ابن عمرو بن العاصي والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وأمرأة وخادم فهو ملك، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك، وقوله تعالى: {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير: الخطاب هو من موسى عليه السلام لقومه، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله؟ فقال مجاهد، المن والسلوى والحجر والغمام، وقال غيره: كثرة الأنبياء.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق، وعلى القول بأن الموتى هو آيات موسى فالعالمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه السلام أكثر من ذلك، قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعاد العود سيفاً، ورجع الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه، و{المقدسة} معناه المطهرة، وقال مجاهد: المباركة.
قال القاضي أبو محمد: والبركة تطهير من القحوط والجوع ونحوه. واختلف الناس في تعيينها، فقال ابن عباس ومجاهد هي الطور وما حوله، وقال قتادة: هي الشام، وقال ابن زيد: هي أريحاء وقاله السدي وابن عباس أيضاً، وقال قوم: هي الغوطة وفلسطين وبعض الأردن، قال الطبري: ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر.
قال القاضي أبو محمد: وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين، وقوله: {التي كتب الله لكم} معناه التي كتب الله في قضائه وقدره أنها لكم ترثونها وتسكنونها مالكين لها، ولكن فتنتكم في دخلولها بفرض قتال من فيها عليكم تمحيصاً وتجربة، ثم حذرهم موسى عليه السلام الارتداد على الأدبار، وذلك الرجوع القهقرى، ويحتمل أن يكون تولية الدبر والرجوع في الطريق الذي جيء منه، والخاسر: الذي قد نقص حظه.
ثم ذكر عز وجل عن بني إسرائيل أنهم تعنتوا ونكصوا فقالوا {إن فيها قوماً جبارين}. والجبار فعال من الجبر كأنه لقوته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته، والنخلة الجبارة العالية التي لا تنال بيد، وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة فلما بعث موسى الأثني عشر نقيباً مطلعين على أمر الجبارين وأحوالهم رأوا لهم قوة وبطشاً وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم فجاؤوا بني إسرائيل ونقضوا العهد في أن أخبروهم بحال {الجبارين} حسبما قدمناه في ذكر بعث النقباء، ولم يف منهم إلا يوشع بن نوف وكالب بن يوفنا، ثم إن بني إسرائيل كعوا وجبنوا وقالوا: كوننا عبيداً للقبط أسهل من قتال هؤلاء، وهم كثير منهم أن يقدموا رجلاً على أنفسهم ويصير بهم إلى أرض مصر مرتدين على الأعقاب، ونسوا أن الله تعالى إذا أيد الضعيف غلب القوي وأخبروا موسى أنهم لن يدخلوا الأرض ما دام الجبارون فيها، وطلبوا منه أن يخرج الله الجبارين بجند من عنده وحينئذ يدخل بنو إسرائيل.

.تفسير الآيات (23- 26):

{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد {يُخافون} بضم الياء، وقرأ الجمهور {يَخافون} بفتح الياء، وقال أكثر المفسرين: الرجلان يوشع بن نوف وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوفنا، ويقال فيه كلاب، ويقال كالوث بثاء مثلثة ويقال في اسم أبيه يوفيا، وهو صهر موسى على أخته، قال الطبري: اسم زوجته مريم بنت عمران، ومعنى {يخافون} أي الله، وأنعم عليهما بالإيمان الصحيح وربط الجأش والثبوت في الحق، وقال قوم المعنى يخافون العدو لكن {أنعم الله عليهما} بالإيمان والثبوت مع خوفهما، ويقوي التأويل الأول أن في قراءة ابن مسعود: {قال رجلان من الذين يخافون الله أنعم عليهما}. وأما من قرأ بضم الياء فلقراءته ثلاثة معان، أحدها ما روي من أن الرجلين كانت من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، فكانا من القوم الذين يخافون لكن {أنعم الله عليهما} بالإيمان بموسى فقالا نحن أعلم بقومنا، والمعنى الثاني أنهما يوشع وكالوث لكنهما من الذين يوقرون ويسمع كلامهم ويهابون لتقواهم وفضلهم، فهم {يخافون} بهذا الوجه. والمعنى الثالث أن يكون الفعل من أخاف والمعنى من الذين يخافون بأوامر الله ونواهيه ووعيده وزجره، فيكون ذلك مدحاً لهم على نحو المدح في قوله تعالى: {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} [الحجرات: 3] وقوله تعالى: {أنعم الله عليهما} صفة للرجلين، والباب هو باب مدينة الجبارين فيما ذكر المفسرون والمعنى اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب، وقوله: {فإنكم غالبون} ظن منهما ورجاء وقياس إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم، وفي قراءة ابن مسعود {عليهما ويلكم ادخلوا} وقولهما: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر.
ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى: و{قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون} وهذه عبارة تقتضي كفراً، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقولهم {فقاتلا} يقطع بهذا التأويل، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من موسى وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا اذهب انت وكبيرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل تبعيد، وهارون إنما كان وزيراً لموسى وتابعاً له في معنى الرسالة، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون} لكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.
وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وجميع هذا وهم، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة، وغلط النقاش في قائل المقالة، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذفران فكلم الناس وقال لهم: أشيروا عليَّ أيها الناس، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية.
قال القاضي أبو محمد: وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى، ويونس أيضاً في إيمان بني إسرائيل، لأن المقداد قد قال: اذهب أنت وربك فقاتلا، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك، أي اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها.
ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم، وقال داعياً عليهم: {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} يعني هارون، وقوله: {وأخي} يحتمل أن يكون إعرابه رفعاً إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه، وإما على العطف على الضمير الذي في {أملك} تقديره لا أملك أنا، ويحتمل أن يكون إعرابه نصباً على العطف على {نفسي}، وذلك لأن هارون كان يطيع موسى فلذلك أخبر أنه يملكه، وقرأ الحسن {إلا نفسيَ وأخي} بفتح الياء فيهما، وقوله: {فافرق بيننا} دعاء حرج، قال السدي، هي عجلة عجلها موسى عليه السلام، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة، وقال قوم: المعنى {فافرق بيننا وبينهم} في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه: {فرق بيننا وبينهم} بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم {وفرق بيننا وبينهم} حتى لا نشقى بفسقهم، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء، وقرأ عبيد بن عمير {فافرِق} بكسر الراء.
{قال فإنها محرمة} المعنى قال الله، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازاً لدلالة معنى الكلام على المراد، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة {أربعين سنة} وتركهم خلالها {يتيهون في الأرض} أي في أرض تلك النازلة، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلاً في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبداً، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها، وروي أن موسى عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام، وقيل بستة أشهر ونصف، وأن يوشع نبيء بعد كمال الأربعين سنة وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وروي أن موسى عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق، يقال كان في طول موسى عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع، وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعاً، ويروى أن عوجاً اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهداً بحجر الماس فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج، وضربه موسى فمات، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع، وحكي عن ابن عباس أنه قال لما خر كان جسراً على النيل سنة.
قال القاضي أبو محمد: والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم، وحكى الزجاج عن قوم أن موسى وهارون لم يكونا في التيه، والعامل في {أربعين} يحتمل أن يكون {محرمة}، أي حرمت عليهم {أربعين سنة ويتيهون في الأرض} هذه المدة ثم تفتح عليهم، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات. وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل {محرمة}، وذلك منه تحامل، ويحتمل أن يكون العامل {يتيهون} مضمراً يدل عليه {يتيهون} المتأخر، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن الخاطبين لا يدخلونها أبداً، وأنهم مع ذلك {يتيهون في الأرض أربعين سنة} يموت فيها من مات.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لم يعش المكلفون أشار إلى ذلك الزجاج، والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل، وقال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وذلك في مقدار ستة فراسخ.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم أربعين سنة. فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك ماما روي من ملابسهم، وقد مضى ذلك في سورة البقرة، وقوله تعالى: {فلا تأس على القوم الفاسقين} معناه فلا تحزن يقال أسي: الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم ** يقولون لا تهلك أسىًّ وتجمل

ومنه قول متمم بن نويرة:
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى ** دعوني فهذا كله قبر مالك

والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام، قال ابن عباس ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم، فقال له الله: {فلا تأس على القوم الفاسقين} وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد ب {الفاسقين} معاصروه، أي هذه أفعال اسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك، وردهم عليك، فإنه سجية خبيثة موروثة عندهم.