فصل: تفسير الآيات (55- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (55- 57):

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}
الخطاب بقوله: {إنما وليكم الله} الآية للقوم الذين قيل لهم {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} [المائدة: 51]، و{إنما} في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى، وولي اسم جنس، وقرأ ابن مسعود {إنما موليكم الله} وقوله: {والذين آمنوا} أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقاً وهم {الذين يقيمون الصلاة} المفروضة بجميع شروطها {ويؤتون الزكاة}، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته، وقرأ ابن مسعود {آمنوا والذين يقيمون} بواو، وقوله تعالى: {وهم راكعون} جملة معطوفة على جملة، ومعناها وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع، الصلاة، كما قال: {والركع السجود} [البقرة: 125] وهي عبارة عن المصلين، وهذا قول جمهور المفسرين، ولكن اتفق أن علياً بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع، قال السدي: هذه الآية في جمع المؤمنين ولكن علياً بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وروي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكيناً فقال له هل أعطاك أحد شيئاً فقال نعم، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتماً من فضة، وأعطانيه وهو راكع، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر وتلا الآية على الناس.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقال مجاهد: نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع، وفي هذا القول نظر، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي، فقال علي من المؤمنين، والواو على هذا القول في قوله: {وهم} واو الحال، وقام قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا، فنزلت الآية مؤنسة لهم.
ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة {فإن حزب الله هم الغالبون} اختصاراً لأن المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب، و{من} يراد بها الجنس لا مفرد بعينه، والحزب الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعانون فيما يحزب، ومنه قول عائشة في حمنة: وكانت تحارب في امر الإفك فهلكت فيمن هلك، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين {هزواً ولعباً} والهزء السخرية والازدراء ويقرأ {هزُؤاً} بضم الزاي والهمز، و{هزْؤاً} بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزاً بتشديد الزاي المفتوحة و{هزُواً} بضم الزاي وتنوين الواو و{هزاً} بزاي مفتوحة منونة، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلف القراء في إعراب {الكفار} فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة: {والكفارَ} نصباً، وقرأ أبو عمرو والكسائي {والكفارِ} خفضاً، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب، قال أبو علي: حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل {الكفار} على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤاً، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله: {إنا كفيناك المستهزئين} [الحجر: 95] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم {إنا معكم إنما نحن مستهزئون} [البقرة: 14]، ومن قرأ {الكفارَ} بالنصب حمل على الفعل الذي هو {لا تتخذوا}، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم، وقرأ أبيّ بن كعب {ومن الكفار} بزيادة من فهذه تؤيد قراءة الخفض، وكذلك في قراءة ابن مسعود {من قبلكم من الذي أشركوا} وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان، لأنهم أبعد شأواً في الكفر، وقد قال تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة: 73] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء، والمنافقون بألسنتهم، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله: {إن كنتم مؤمنين} أي حق مؤمنين.

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}
قوله تعالى: {وإذا ناديتم} الآية إنحاء على اليهود وتبين لسوء فعلهم فإنهم كانوا إذا سمعوا قيام المؤمنين إلى الصلاة قال بعضهم لبعض، قد قاموا لا قاموا، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفون بها في وقت الأذان وغيره، وكل ما ذكر من ذلك فهو مثال، وقد ذكر السدي أنه كان رجل من النصارة بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله، قال حرق الله الكاذب، فما زال كذلك حتى سقط مصباح في بيته ليلة فأحرقه واحترق النصراني لعنه الله، ثم ذكر تعالى أن فعلهم هذا إنما هو لعدم عقولهم، وإنما عدموها إذ لم تتصرف كما ينبغي بها، فكأنها لم توجد.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب {هل تنقمون منا} ومعناه هل تعدون علينا ذنباً أو نقيصة، يقال نقَم بفتح القاف ينقِم بكسرها، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور، ويقال نقِم بكسر القاف ينقَم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو البرهسم والنخعي، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة، ومثلها قوله تعالى: {وما نقموا منهم، إلا أن يؤمنوا بالله} [البروج: 8] ونظير هذا الغرض في الاسثناء قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وقرأ الجمهور {أَنزل} بضم الهمزة، وكذلك في الثاني، وقرأ أبو نهيك {أَنزل} بفتح الهمزة والزاي فيهما، وقوله تعالى: {وأن أكثركم فاسقون} هو عند أكثر المُتأولين معطوف على قوله: {أن آمنا} فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه، وهذا لا يتجه معناه، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون {وأن أكثركم فاسقون} مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وقال بعض المتأولين قوله: {وأن أكثركم} معطوف على {ما}، كأنه قال: {إلا أن آمنا بالله} ويكتبه وبأن أكثركم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مستقيم المعنى، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد فسقه هو مما ينقمونه، وذكر الله تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى.
وقوله تعالى: {قل هل أنبئكم} قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء، وقرأ ابن وثاب والنخعي {انْبئكم} بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس: {مثُوْبة} بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ ابن بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران {مثْوَبة} بسكون الثاء وفتح الواو، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذاً عن نظائره، ومثله قول العرب: الفاكهة مقْوَدة إلى الأذى، بسكون القاف وفتح الواو، والقياس مثابة ومقادة، وأما مثُوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثوبة مثل مقولة، والمعنى في القراءتين مرجعاً عند الله أي في الحشر يوم القيامة، تقول العرب: ثاب يثوب إذا رجع، منه قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} [البقرة: 125] ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم {هل أنبئكم} هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤاً ولعباً، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئاً، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله: {شر وأضل} صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب {شر وأضل} على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار، ويكون على هذا الاحتمال قوله: {من لعنه الله} الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه، فهو في حكمه، وفي قراءة أبي كعب وعبد الله بن مسعود {من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير}، واللعنة الإبعاد عن الخير، وقوله تعالى: {وجعل} هي بمعنى صير، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق.
قال القاضي أبو محمد: وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية، لأن قوله: {وعبد الطاغوت} تقديره ومن عبد الطاغوت، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحداً عابد الطاغوت، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة، وأما مسخهم خنازير، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك بهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته، فدعت المرأة قوماً إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها، فيئست وباتت مهمومة، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة ينفقون في نواحيها خنازير فقالت: الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة، وقوله تعالى: {وعبد الطاغوت} تقديره ومن عبد الطاغوت، وذلك عطف على قوله: {من لعنه الله} أو معمول ل {جعل} وفي هذا يقول أبو علي: إن {جعل} بمعنى خلق، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده {وعَبُد الطاغوت} بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن {عبد} لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات، لأن عبداً في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، ومنه قول الشاعر: [أوس بن حجر].
أبني لبينى إن أمكم ** أمة وإن أباكم عبد

ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون {وعَبَد الطاغوت} بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره، وقرأ أبي بن كعب {عبدوا الطاغوت}، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه {وعَبُد الطاغوتُ} بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت، وذلك على أن يصير له أن عبد كالخلق والأمر المعتاد المعروف، فهي في معنى فقه وشرف وظرف، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة {وعَبَد الطاغوتِ} بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفاً ومثله قول الزاجر:
قام ولاها فسقوها صرخدا

أراد ولاتها فحذف تخفيفاً، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه {وعَبْد الطاغوتِ} بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و{عبداً الطاغوت} فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر:
ولا ذاكر الله إلا قليلا

والوجه الآخر أن يريد عبد الذي هو فعل ما ض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر:
وما كل مغبون ولو سلْف صفقة

فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال {ولعْنوا بما قالوا} بسكون العين، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه {وعُبَّادَ الطاغوتِ} بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضاً {وعابدُ الطاغوت} على وزن فاعل والدال مرفوعة، قال ابو عمرو تقديره وهم عابد الطاغوت.
قال القاضي أبو محمد: فهو اسم جنس، وروى عكرمة عن ابن عباس {وعابدو الطاغوت} بضمير جمع، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة، وقرأ ابن بريدة {وعابِدِ الطاغوتِ} بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء، وقرأ بعض البصريين و{عباد الطاغوت} بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام، وقد يجوز أن يكون جمع عبد، وقل ما يأتي عباد مضافاً إلى غير الله، وأنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يا ابن حجل ** أشابات يخالون العبادا

قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد، وجميع الخلق عباد الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التعليق بآدم صلى الله عليه وسلم شاذ بعيد والاعتراض فيه باق، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرة فدانتهم مملكة، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ {وعَابِدَ الشيطان} بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب {وعُبُدَ الطاغوتِ} بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف، وقال أحمد بن يحيى ثعلب هو جمع عابد كشارف وشرف، ومنه قول القينة:
ألا يا حمز للشرف النواء ** وهن معلقات بالفناء

وقال أبو الحسن الأخفش: هو جمع عبيد وأنشد:
أنسب العبد إلى آبائه ** أسود الجلدة من قوم عبد

وقرأ الأعمش وغيره {وعُبَّدَ الطاغوتِ} بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون {وعُبِدَ الطاغوتُ} بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ {وعبدت الطاغوت} كما تقول ضربت المرأة، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود {وعُبَدَ الطاغوتِ} بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء، وهذا أيضاً بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد، وروى عكرمة عن ابن عباس: {وعُبَّدَ الطاغوت} على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبداً منوناً ثم حذف التنوين كما قال، ولا ذاكر الله، وقد تقدم نظيره و{الطاغوت} كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة، ومكان يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة، و{سواء السبيل} وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى: {في سواء الجحيم} [الصافات: 55] وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء.