فصل: تفسير الآيات (114- 115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (114- 115):

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة. فروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو. و{اللهم} عند سيبويه أصلها يا الله فجعلت الميمان بدلاً من ياء و{ربنا} منادى آخر، ولا يكون صفة لأن {اللهم} يجري مجرى الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير، وقرأ الجمهور {تكون لنا} على الصفة للمائدة. وقرأ ابن مسعود والأعمش {تكن لنا} على جواب {أنزل} والعيد: المجتمع واليوم المشهود، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر والجمعة ونحوه. وهو من عاد يعود فأصله الواو ولكن لزمته الياء من أجل كسرة العين، وقرأ جمهور الناس {لأولنا وآخرنا} وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري: {لأولنا وأخرانا}. واختلف المتأولون في معنى ذلك، فقال السدي وقتادة وابن جريج وسفيان: لأولنا معناه لأول الأمة ثم لمن بعدهم حتى لآخرها يتخذون ذلك اليوم عيداً. وروي عن ابن عباس أن المعنى يكون مجتمعاً لجميعنا أولنا وآخرنا، قال: وأكل من المائدة حين وضعت أول الناس كما أكل آخرهم.
قال القاضي أبو محمد: فالعيد على هذا لا يراد به المستدير، وقوله: {وآية منك} أي علامة على صدقي وتشريفي. فأجاب الله دعوة عيسى وقال: {إني منزلها عليكم} ثم شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم {إني مُنَزّلها} بفتح النون وشد الزاي، وقرأ الباقون {منْزلها} بسكون النون، والقراءتان متجهتان نزل وأنزل بمعنى واحد، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف، {قال الله إني سأنزلها عليكم}، واختلف الناس في نزول المائدة، فقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد: إنهم لما سمعوا الشرط في تعذيب من كفر استعفوها فلم تنزل. قال مجاهد فهو مثل ضربه الله تعالى للناس لئلا يسألوا هذه الآيات، وقال جمهور المفسرين: نزلت المائدة، ثم اختلفت الروايات في كيفية ذلك، فروى الشعبي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: نزلت المائدة خبزاً وسمكاً، وقال عطية: المائدة سمكة فيها طعم كل طعام، قال ابن عباس نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أين ما نزلوا إذا شاؤوا، وقاله وهب بن منبه، قال إسحاق بن عبد الله: نزلت المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، قال: فسرق منها بعضهم فرفعت، وقال عمار بن ياسر: سألوا عيسى عليه السلام مائدة يكون عليها طعام لا ينفذ، فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم وما لم تخبئوا أو تخونوا، فإن فعلتم عذبتم قال فما مضى يوم حتى خبؤوا وخانوا فمسخوا قردة وخنازير، وقال ابن عباس في المائدة أيضاً، كان طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا، وقال عمار بن ياسر: نزلت المائدة عليها ثمار من ثمار الجنة، وقال ميسرة: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم.
قال القاضي أبو محمد: وكثر الناس في قصص هذه المائدة بما رأيت اختصاره لعدم سنده وقال قوم: لا يصح أن لا تنزل المائدة لأن الله تعالى أخبر أنه منزلها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير لازم لأن الخبر مقرون بشرط يتضمنه قوله: {فمن يكفر بعد منكم}، وسائغ ما قال الحسن، أما أن الجمهور على أنها نزلت وكفرت جماعة منهم فمسخهم الله خنازير قاله قتادة وغيره، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون، ويذكر أن شمعون رأس الحواريين قال لعيسى حيت رأى طعام المائدة، يا روح الله أمن طعام الدنيا هو أم من طعام الآخرة؟ قال عيسى عليه السلام: ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات، هذا طعام ليس من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، بل هو بالقدرة الغالبة، قال الله له كن فكان، وروي أنه كان على المائدة يقول سوى الثوم والكراث والبصل، وقيل كان عليها زيتون وتمر وحب رمان.

.تفسير الآيات (116- 117):

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}
اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول. فقال السدي وغيره: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى حينئذ عن قولهم فقال: {سبحانك} الآية.
قال القاضي أبو محمد: فتجيء {قال} على هذا متمكنة في المضي ويجيء قوله آخراً {وإن تغفر لهم} [المائدة: 118] أي بالتوبة من الكفر، لأن هذا ما قاله عيسى عليه السلام وهم أحياء في الدنيا وقال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس: هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة، يقول الله له على رؤوس الخلائق، فيرى الكفار تبرية منهم، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل.
قال القاضي أبو محمد: وقال على هذا التأويل بمعنى يقول. ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته، وقوله آخراً {وإن تغفر لهم} [المائدة: 118] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب، وليس المعنى أنه لابد من أن تفعل أحد هذين الأمرين. بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به. وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين.
وسبحانك معناه تنزيهاً لك عن أن يقال هذا وينطق به، وقوله: {ما يكون لي أن أقول}.... الآية. بقي يعضده دليل العقل، فهذا ممتنع عقلاً أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {إن كنت قلته فقد علمته} فوفق الله عيسى عليه السلام لهذه الحجة البالغة، وقوله: {تعلم ما في نفسي} بإحاطة الله به، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات، والمعنى: أن الله يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل هذه الآية على قول من قال: إن توقيف عيسى عليه السلام كان إثر رفعه مستقيمة المعنى. لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون. وهي على قول من قال إن التوقيف هو يوم القيامة بمعنى أن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا أمره مما عسى أن يكون في نفسه، وقوله: {ولا أعلم ما في نفسك} معناه ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به.
وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها الإيجاز، وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله: {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54] {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]، فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة، ثم أقر عليه السلام لله تعالى بأنه {علام الغيوب}، المعنى ولا علم لي أنا بغيب فكيف تكون لي الألوهية.
ثم أخبر عما صنع في الدنيا وقال في تبليغه وهو أنه لم يتعد أمر الله في أن أمرهم بعبادته وأقر بربوبيته و{أن} في قوله: {أن اعبدوا الله} مفسرة لا موضع لها من الإعراب. ويصح أن تكون بدلاً من {ما} ويصح أن تكون في موضع خفض على تقدير بأن اعبدوا الله، ويصح أن تكون بدلاً من الضمير في {به} ثم أخبر عليه السلام أنه كان شهيداً ما دام فيهم في الدنيا، فما ظرفية. وقوله: {فلما توفيتني} قبضتني إليك بالرفع والتصيير في السماء. والرقيب: الحافظ المراعي.

.تفسير الآيات (118- 120):

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}
اعتراض عليك. وإن تغفر لهم أي لو غفرت بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك، الحكيم في أفعالك. لا تعارض على حال. فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك. وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله. وهذا هو عندي القول الأرجح. ويتقوى ما بعده.
وذلك أن عيسى عليه السلام لما قرر أن الله تعالى له أن يفعل في عباده ما يشاء من تعذيب ومغفرة أظهر الله لعباده ما كانت الأنبياء تخبرهم به، كأنه يقول هذا أمر قد فرغ منه. وقد خلص للرحمة من خلص، وللعذاب من خلص، فقال تبارك وتعالى {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله تعالى وكل ما كان اتقى فهو أدخل في العبارة، ثم جاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى في حاله تلك وصدقه فيما قال. فحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه، وذكر تعالى ما أعد لهم برحمته وطوله إلى قوله: {ذلك الفوز العظيم} وقرأ نافع وحده {هذا يومَ} بنصب يوم، وقرأ الباقون {يومُ} بالرفع على خبر المبتدأ الذي هو {هذا} و{يوم} مضاف إلى {ينفع}، والمبتدأ والخبر في موضع نصب بأنه مفعول القول. إذ القول يعمل في الجمل، وأما قراءة نافع فتحتمل وجهين: أحدهما أن يكون {يوم} ظرفاً للقول كأن التقدير قال الله هذا القصص أو الخبر يوم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي معنى يزيل رصف الآية وبهاء اللفظ، والمعنى الثاني أن يكون ما بعد قال حكاية عما قبلها ومن قوله لعيسى إشارة إليه، وخبر {هذا} محذوف إيجازاً، كأن التقدير قال الله: هذا المقتص يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين.
قال القاضي أبو محمد: والخطاب على هذا لمحمد عليه السلام وأمته، وهذا أشبه من الذي قبله، والبارع المتوجه قراءة الجماعة، قال أبو علي، ولا يجوز أن تكون {يوم} في موضع رفع على قراءة نافع لأن هذا الفعل الذي أضيف إليه معرب، وإنما يكتسي البناء من المضاف إليه إذا كان المضاف إليه مبنياً نحو من عذاب يومئذ، ولا يشبه قول الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع

لأن الماضي الذي في البيت مبني والمضارع الذي في الآية معرب وقرأ الحسن بن العباس الشامي: {هذا يومٌ} بالرفع والتنوين، وقوله تعالى: {لله ملك السماوات}... الآية، يحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة، ويحتمل أنه مقطوع من ذلك مخاطب به محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. وعلى الوجهين ففيه عضد ما قال عيسى، إن تعذب الناس فإنهم عبادك على تقدم من تأويل الجمهور.

.سورة الأنعام:

.تفسير الآيات (1- 2):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}
هذا تصريح بأن الله تعالى هو الذي يستحق الحمد بأجمعه. لأن الألف واللام في {الحمد} لاستغراق الجنس، فهو تعالى له الأوصاف السنية والعلم والقدرة والإحاطة والأنعام، فهو أهل للمحامد على ضروبها وله الحمد الذي يستغرق الشكر المختص بأنه على النعم، ولما ورد هذا الإخبار تبعه ذكر بعض أوصافه الموجبة للحمد، وهي الخلق {للسماوات والأرض} قوام الناس وأرزاقهم، {والأرض} هاهنا للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، والبادي من هذا الترتيب أن السماء خلقت من قبل الأرض، وقد حكاه الطبري عن قتادة، وليس كذلك لأن الواو لا ترتب المعاني، والذي ينبني من مجموع آي القرآن أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء فخلقها ثم دحا الأرض بعد ذلك، و{جعل} هاهنا بمعنى خلق لا يجوز غير ذلك، وتأمل لم خصت {السماوات والأرض} ب {خلق} و{الظلمات والنور} ب {جعل}؟ وقال الطبري {جعل} هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد، لأن {جعل} إذا كانت على هذا النحو فلابد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال المقاربة كقولك كاد زيد يموت، {جعل} زيد يجيء ويذهب، وأما إذا لم تربط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري، وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين: {الظلمات} الليل و{النور} النهار، وقالت فرقة: {الظلمات} الكفر و{النور} الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برئ القرآن منه، و{النور} أيضاً هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه.
وقوله تعالى: {ثم} دالة على قبح فعل {الذين كفروا} لأن المعنى أن خلقه {السموات والأرض} وغيرهما قد تقرر، وآياته قد سطعت، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه ب {ثم}، {الذين كفروا} في هذا الموضع هم كل من عبد شيئاً سوى الله قال قتادة: هم أهل الشرك صراحية، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضاً دون بعض فلم يصب إلا أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضاً يشير إلى المانوية ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام، وقول ابن أبزى إن المراد أهل الكتاب بعيد، و{يعدلون} معناه يسوون ويمثلون، وعدل الشيء قرينه ومثيله، والمنوية مجوس، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو القدرية مجوس هذه الأمة ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقاً غير الله، والقدرية تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقاً غير الله تعالى عن قولهم، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول القدرية: إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده، وإنما قلنا في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم مجوساً حقيقة لم يضفهم إلى الأمة، وهذا كله أن لو صح الحديث والله الموفق.
وقوله تعالى: {هو الذين خلقكم من طين} الآية قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم.. المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك قال: {خلقكم من طين} وحكى المهدوي عن فرقة أنها قالت بل المعنى أن النطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها من طين ثم يقلبها الله نطفة، وذكره مكي والزهراوي، والقول الأول أليق بالشريعة لأن القول الثاني إنما يترتب على قول من يقول بأن الطين يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة، وذلك مردود عند الأصوليين، واختلف المفسرون في هذين الأجلين، فقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة والضحاك، {أجلاً} أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته، والأجل المسمى عنده من وقت موته إلى حشره، ووصفه بمسمى عنده لأنه استأثر بعلم وقت القيامة، وقال ابن عباس: {أجلاً}، الدنيا، {أجل مسمى} الآخرة، وقال مجاهد: {أجلاً} الآخرة، {وأجل مسمى}، الدنيا بعكس الذي قبله، وقال ابن عباس أيضاً: {أجلاً}، وفاة الإنسان بالنوم، {وأجل مسمى} وفاته بالموت وقال ابن زيد، الأجل الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم، وبقي {أجل} واحد مسمى في هذه الحياة الدنيا، وحكى المهدوي عن فرقة {أجلاً}، ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن، {وأجل مسمى} قيام الساعة، وحكي أيضاً عن فرقة {آجلاً} ما عرفناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، {وأجل مسمى} الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: رضي الله عنه. وينبغي أن تتأمل لفظة {قضى} في هذا الآية فإنها تحتمل معنيين، فإن جعلت بمعنى قدر وكتب ورجعت إلى سابق علمه وقدره فيقول إن ذلك ولابد قبل خلقه آدم من طين، وتخرج ثم من معهودها في ترتيب زمني وقوع القصتين ويبقى لها ترتيب زمني الإخبار عنه، كأنه قال: أخبركم أنه خلقكم من طين ثم أخبركم أنه قضى أجلاً، وإن جعلت {قضى} بمعنى أوجد وأظهر ويرجع ذلك إلى صفة فعل فيصح أن يكون خلق آدم من طين قبل إظهار هذا الأجل وإبدائه وتكون ثم على بابها في ترتيب زمني وقوع القضيتين، و{تمترون} معناه تشكون، والمرية الشك، وقوله: {ثم أنتم} على نحو قوله: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} في التوبيخ على سوء الفعل بعد مهلة من وضوح الحجج.