فصل: تفسير الآيات (3- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (3- 5):

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)}
قاعدة الكلام في هذه الآية أن حلول الله تعالى في الأماكن مستحيل وكذلك مماسته للأجرام أو محاداته لها أو تحيز لا في جهة لامتناع جواز التقرب عليه تبارك وتعالى، فإذا تقرر هذا فبين أن قوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} ليس على حد قولنا زيد في الدار بل هو على وجه من التأويل آخر، قالت فرقة ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى، كأنه قال وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض، وعبر بعضهم بأن قدر هو الله المدبر للأمر في {السماوات وفي الأرض}، وقال الزجاج {في} متعلقة بما تضمنه اسم الله تعالى من المعاني كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله: {وهو الله} أي الذي له هذه كلها {في السماوات وفي الأرض} كأنه وهو الخالق الرازق المحيي المحيط {في السماوات وفي الأرض} كما تقول زيد السلطان في الشام والعراق، فلو قصدت ذات لقلت محالاً، وإذا كان مقصد قوله زيد الأمر الناهي المبرم الذي عزل ويولي في الشام والعراق فأقمت السلطان مقام هذه كان فصيحاً صحيحاً، فكذلك في الآية أقام لفظة {الله} مقام تلك الصفات المذكورة، وقالت فرقة {وهو الله} ابتداء وخبر تم الكلام عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله: {في السماوات} بمفعول {يعلم}، كأنه قال: {وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض} فلا يجوز مع هذا التعليق أن يكون {هو} ضمير أمر وشأن لأنه يرفع {الله} بالابتداء، و{يعلم} في موضع الخبر، وقد فرق {في السماوات وفي الأرض} بين الابتداء والخبر وهو ظرف غريب من الجملة، ويلزم قائلي هذه المقالة أن تكون المخاطبة في الكاف في قوله: {سركم وجهركم} لجميع المخلوقين الإنس والملائكة، لأن الإنس لا سر ولا جهر لهم في السماء، فترتيب الكلام على هذا القول وهو الله يعلم يا جميع المخلوقين {سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض} وقالت فرقة {وهو} ضمير الأمر والشأن و{الله في السماوات} ابتداء وخبر تم الكلام عنده، ثم ابتدأ كأنه قال: {ويعلم في الأرض سركم وجهركم}، وهذا القول إذ قد تخلص من لزوم المخاطبة الملائكة فهو مخلص من شبهة الكون في السماء بتقدير حذف المعبود أو المدبر على ما تقدم، وقوله تعالى {يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} خبر في ضمنه تحذير وزجر، و{تكسبون} لفظ عام لجميع الاعتقادات والأفعال والأقوال.
وقوله تعالى: {وما تأتيهم} الآية {ما} نافية و{من} الأولى هي الزائدة التي تدخل على الأجناس بعد النفي، فكأنها تستغرق الجنس، و{من} الثانية للتبعيض، والآية العلامة والدلالة والحجة، وقد تقدم القول في وزنها في صدر الكتاب، وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم، ثم اقتضت الفاء في قوله: {فقد} أن إعراضهم عن الآيات قد أعقب أن كذبوا بالحق وهو محمد عليه السلام وما جاء به، ثم توعدهم بأن يأتيهم عقاب استهزائهم، و{ما} بمعنى الذي، ويصح أن تكون مصدرية، وفي الكلام حذف مضاف تقديره يأتيهم مضمن أنباء القرآن الذي كانوا به يستهزئون، وإن جعلت {ما} مصدرية فالتقدير يأتيهم نبأ كونهم مستهزئين، أي عقاب يخبرون أنه على ذلك الاستهزاء، وهذه العقوبات التي توعدوا بها تعم عقوبات الدنيا كبدر وغيرها وعقوبات الآخرة.

.تفسير الآية رقم (6):

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)}
هذا حض على العبرة، والرؤية هنا رؤية القلب، و{كم} في موضع نصب ب {أهلكنا}، والقرن والأمة المقترنة في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام: خير الناس قرني الحديث، واختلف الناس في مدة القرن كم هي؟ فالأكثر على أنها مائة سنة، ويرجح ذلك الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر: يريد أنها تحرم ذلك القرن، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشير: تعيش قرناً فعاش مائة سنة، وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل سبعون وقيل ستون، وتمسك هؤلاء بالمعترك وحكى النقاش أربعين وذكر الزهراوي في ذلك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى النقاش أيضاً ثلاثين، وحكى عشرين، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف، وهذه طبقات وليست بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال، ويظهر ذلك من قوله تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين} وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة عشر عاماً فصاعداً، وقيل القرن الزمن نفسه، وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن، والضمير في {مكناهم} عائد على القرن، والمخاطبة في {لكم} في للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس، فكأنه قال: ما لم نمكن يا أهل العصر لكم، فهذا أبين ما فيه، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال يا محمد قل لهم: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض، ما لم نمكن لكم} وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال ذلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة {السماء} المطر ومنه قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

و{مدراراً} بناء تكثير كمذكار ومئناث، ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك وتحتمل الآية أن تراد السماء المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدراراً لا يوصف به إلا المطر، وقوله تعالى: {فأهلكناهم} معناه فعصوا وكفروا {فأهلكناهم}، {وأنشأنا} اخترعنا وخلقنا، وجمع {آخرين} حملاً على معنى القرن.

.تفسير الآيات (7- 9):

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)}
لما أخبر عنهم عز وجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضاً، والمعنى {لو نزلنا} بمرأى منهم عليك {كتاباً} أي كلاماً مكتوباً {في قرطاس} أي في صحيفة، ويقال {قُرطاس} بضم القاف {فلمسوه بايديهم} يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين، ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي امية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية، يأمرني بتصديقك، وما أراني مع هذا كنت أصدقك، ثم أسلم بعد ذلك عبد الله وقتل شهيداً في الطائف، وقوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليك ملك} الآية حكاه عمن تشطط من العرب بأن طلب أن ينزل ملك يصدق محمداً في نبوءته ويعلم عن الله عز وجل أنه حق، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر} وقال مجاهد: معناه لقامت القيامة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا ضعيف، وقال قتادة والسدي وابن عباس رضي الله عنه: في الكلام حذف تقديره ولو أنزلنا ملكاً فكذبوا به لقضي الأمر بعذابهم ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية وكذبت بعد أن ظهرت إليها، وهذا قول حسن، وقالت فرقة {لقضي الأمر} أي لماتوا من هول رؤية الملك في صورته، ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، فالأولى في قول {لقضي الأمر} أي لماتوا من هول رؤيته، {ينظرون} معناه يؤخرون، والنظرة التأخير، وقوله عز وجل: {ولو جعلناه} الآية المعنى أنَّا لو جعلناه ملكاً لجعلناه ولابد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي عليه السلام للمشركين، فسمعا حس الملائكة وقائلاً يقول في السماء، أقدم حيزوم فمات أحدهما لهول ذلك، فكيف برؤية ملك في خلقته، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه السلام لجبريل وغيره في صورهم، لأن النبي عليه السلام أعطي قوة غير هذه كلها صلى الله عليه وسلم، {وللبسنا} أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وعلى ضعفتهم، أي لفعلنا لهم في ذلك فعلاً ملبساً يطرق لهم إلى أن يلبسوا به، وذلك لا يحسن، ويحتمل الكلام مقصداً آخر، أي {للبسنا} نحن عليهم كما {يلبسون} هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله بهم، ويقال: ليس الرجل الأمر يلبسه لبساً إذا خلطه، وقرأ ابن محيصن {ولَبّسنا} بفتح اللام وشد الباء، وذكر بعض الناس في هذه الآية: أنها نزلت في أهل الكتاب، وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب.

.تفسير الآيات (10- 11):

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}
قرئ {ولقد} بضم الدال مراعاة للضمة بعد الساكن الذي بعد الدال، وقرئ بكسر الدال على عرف الالتقاء، وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالأسوة في الرسل وتقوية لنفسه على محاجّة المشركين وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه والمستهزئين، و{حاق} معناه نزل وأحاط، وهي مخصوصة في الشر، يقال حاق يحيق حيقاً ومنه قول الشاعر:
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ** وحاق بهم من بأس ضبة حائق

وقال قوم: أصل حاق حق فبدلت القاف الواحدة كما بدلت النون في تظننت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، و{ما} في قوله: {ما كانوا} يصح أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر، كأنه قال: استهزاؤهم، وهذا كناية عن العقوبة كما تهدد إنساناً فتقول سيلحقك عملك، المعنى عاقبته، وسخروا معناه استهزؤوا.
وقوله تعالى: {قل سيروا} الآية، حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل فعلهم، وقال {كان} ولم يقل كانت لأن تأنيث العاقبة ليس بحقيقي، وهي بمعنى الآخر والمآل، ومعنى الآية {سيروا} وتلقوا ممن سار لأن العبرة بآثار من مضى إنما يستند إلى حس العين.

.تفسير الآيات (12- 13):

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}
قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف تقديره: {قل لمن ما في السماوات والأرض}؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا، قل لله، وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له: قل لله، والصحيح أن الله عز وجل أمر محمداً عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، جاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: {لمن ما في السماوات والأرض} والوجه في الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العادلون بربهم {لمن ما في السماوات والأرض}؟ ثم سبقهم فقال: {لله}، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} معناه قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتمضن كتب الرحمة، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا، منها أن الله تعالى خلق مائة رحمه فوضع منها واحدة في الأرض فيها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها. وبها تتعاطف الطير والحيتان، وعنده تسع وتسعون رحمة، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده.
قال القاضي أبو محمد: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تعمدنا الله بفضل منه، ومنها حديث آخر أن الله عز وجل كتب عنده كتاباً فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي، ويروى: نالت غضبي، ومعناه سبقت، وأنشد عليه ثابت بن قاسم:
أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ** نالا الملوك وفكَّكا الأغلالا

ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا، وأن باب توبتهم مفتوح، قال الزجاج: {الرحمة} هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، وحكى المهدوي: أن جماعة من النحويين قالت: إن {ليجمعنكم} هو تفسير {الرحمة} تقديره: أن يجمعكم فيكون {ليجمعنكم} في موضع نصب على البدل من {الرحمة}، وهو مثل قوله: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} [يوسف: 35] المعنى: أن يسجنوه.
قال القاضي أبو محمد: يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب، وهو مردود، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم، وقالت فرقة وهو الأظهر: إن اللام لام قسم والكلام مستأنف، ويتخرج ذلك في {ليسجننه} وقالت فرقة {إلى} بمعنى في وقيل على بابها غاية وهو الأرجح، و{لا ريب فيه} لا شك فيه، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه، وقوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم} الآية قيل إن {الذين} منادى.
قال القاضي أبو محمد: وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات، وقيل: هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: هو بدل من الضمير في {ليجمعنكم}، قال المبرد: ذلك لا يجوز كما لا يجوز مررت بك زيد.
قال القاضي أبو محمد: وقوله في الآية {ليجمعنكم} مخالف لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله: {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال {الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب هنا، وخصوا على جهة الوعيد، ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح ويجيء هذا بدل البعض من الكل وقال الزجاج {الذين} رفع بالابتداء وخبره {فهم لا يؤمنون}، وهذا قول حسن، والفاء في قوله: {فهم} جواب على القول بأن {الذين} رفع بالابتداء لأن معنى الشرط حاصل تقديره، من خسر نفسه فهو لا يؤمن، وعلى القول بأن {الذين} بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة، و{خسروا} معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه، ومنه قول الشاعر [الأعشى]: [السريع]
لا يأخُذُ الرَشْوَةَ في حُكْمِهِ ** ولا يبالي غَبَنَ الخَاسِرِ

وقوله تعالى: {وله ما سكن} الآية {وله} عطف على قوله: {لله} واللام للملك، و{ما} بمعنى الذي، و{سكن} هي من السكنى ونحوه أي ما ثبت وتقرر، قاله السدي وغيره وقالت فرقة: هو من السكون، وقال بعضهم: لأن الساكن من الأشياء أكثر من المتحرك إلى غير هذا من القول الذي هو تخليط، والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا أن يكون {سكن} بمعنى استقر وثبت وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن، ألا ترى إلى الفلك والشمس والقمر والنجوم والسابحة والملائكة وأنواع الحيوان والليل والنهار حاصران للزمان {وهو السميع العليم} هاتان صفتان تليقان بنمط الآية من قبل أن ما ذكر قبل من الأقوال الردية عن الكفرة العادلين هو سميع لهم عليم بمواقعها مجازٍ عليها، ففي الضمير وعيد.