فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (71):

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}
المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئاً موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل {ما لا ينفعنا ولا يضرنا} يعني الأصنام، إذ هي جمادات حجارة وخشب ونحوه، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال: {ولا يضرنا} إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية، {ونرد على أعقابنا} تشبيه، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدماً وهي المشية الجيدة فيرد يمشي القهقرى، وهي المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدي إلى عبادة الأصنام، و{هدانا} بمعنى أرشدنا، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمراً فخاب أمله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول قلق وقوله تعالى: {كالذي استهوته الشياطين} الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رداً كرد الذي و{استهوته} استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته، قال أبو عبيدة: ويحتمل هويه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم، والهوى من هوى يهوى يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل، ومنه قول الشاعر:
هوى ابْنِي مِنْ دَار أشرف ** فَزَلَّتْ رِجُلُهُ ويَدُه

وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه أبو علي وقال: هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل.
قال القاضي أبو محمد: والتحرير: أن العرب تقول: هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئاً، وبيستعمل الهوى أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} [إبراهيم: 37]، ومنه قول شاعر الجن: [السريع]
تهوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى ** ما مؤمنُ آلجِنّ كأنجاسِها

وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية، وقرأ الجمهور من الناس {استهوته الشياطين} وقرأ الحسن {استهوته الشياطون}. وقال بعض الناس: هو لحن، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ، وقرأ حمزة {استهواه الشياطين} وأمال استهواه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة {استهويه الشيطان} بالياء وإفراد الشيطان، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، وقوله: {في الأرض} يحكم بأن {استهوته} إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع و{حيران} في موضع الحال، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ومعناه ضالاً متحيراً وهو حال من الضمير في {استهوته} والعامل فيه {استهوته}، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف، وقوله: {استهوته} يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته.
قال القاضي أبو محمد: فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدي نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتداداً على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائراً وقوله: {وله أصحاب} يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولاً يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً، و{ائتنا} من الإتيان بمعنى المجيء، وفي مصحف عبد الله {إلى الهدي بيناً} وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله، حكى مكي وغيره أن المراد ب {الذي} في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وب {الأصحاب} أبوه وأمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل: إن قوله تعالى: {والذي قال لوالديه أف لكما} [الأحقاف: 17] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت: كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.
قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول: من نازع أحداً من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: {ائتنا}، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا انتزاع حسن جداً، وقوله تعالى: {قل إن هدى الله} الآية، من قال إن {الأصحاب} هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال: إن قوله: {قل إن هدى الله هو الهدى} رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحاً وليس بهدي بل هو نفسه كفر وضلال، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان، ومن قال: إن {الأصحاب} هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله: {قل إن هدى الله} بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه، {وأمرنا لنسلم} اللام لام كي ومعها أن مقدرة ويقدر مفعول ل {أمرنا} مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم، ومذهب سيبويه في هذه أن {لنسلم} هو موضع المفعول وأن قولك: أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر: [الطويل]
أردت لأنسى ذكرها ** إلى غير ذلك من الأمثلة، ونسلم يعم الدين والاستسلام.

.تفسير الآيات (72- 73):

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
{وأن أقيموا} يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدر في {أمرنا} [الأنعام: 71]، وقيل بل هو معطوف على قوله: {لنسلم} [الأنعام: 71] تقديره لأن نسلم {وأن أقيموا}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن قوله لأن نسلم معرب، وقوله: {أن أقيموا} مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم إلا أن تجعل العطف في أن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله: {وأن أقيموا} بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى، ويشبه هذا من جهة ما ما حكاه يونس عن العرب: أدخلوا الأول فالأول بالنصب، وقال الزجّاج أيضاً: يحتمل أن يكون {وأن أقيموا} معطوفاً على {ائتنا} [الأنعام: 71].
قال القاضي أبو محمد: وفيه بعد، والضمير في قوله: {واتقوه} عائد على رب العالمين {وهو} ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر يتضمن التنبيه والتخويف، وقوله تعالى: {وهو الذي خلق} الآية، {خلق} ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، و{بالحق}، أي لم يخلقها باطلاً بغير معنى بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق وغير ذلك، وقيل المعنى بأن حق له أن يفعل ذلك، وقيل {بالحق} معناه بكلامه في قوله للمخلوقات {كن} وفي قوله: {ائتيا طوعاً أوكرهاً} [فصّلت: 11].
قال القاضي أبو محمد: وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام، واقتران كن بحالة إيجاد المخلوق فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئاً فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه: انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد، ولله المثل الأعلى، لا تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير، أمره واحدة كلمح البصر فكأن معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله: {كن} المقترنه بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه فعبر عن ذلك {بالحق}، {ويوم يقول} نصب على الظرف وهو معلق بمعمول فعل مضمر، تقديره: واذكر الخلق والإعادة يوم، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها: واذكر الإعادة يوم يقول الله للأجساد كن معادة، ثم يحتمل أن يتم الكلام هنا ثم يبدأ بإخبار أن يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخباراً بالإعادة، ويحتمل أن يكون تمام الكلام في قوله: {فيكون} ويكون {قوله الحق} ابتداء وخبر أو على الاحتمال الذي قبل ف {قوله} فاعل، قال الزجّاج قوله: {يوم} معطوف على الضمير من قوله: {واتقوه} فالتقدير هنا على هذا القول واتقوا العقاب أو الأهوال والشدائد يوم، وقيل: إن الكلام معطوف على قوله: {خلق السماوات} والتقدير على هذا: وهو الذي خلق السماوات والأرض والمعادات إلى الحشر يوم، ولا يجوز أن تعمل هذه الأفعال لا تقديرك اذكر ولا اتقوا ولا خلق في يوم لأن أسماء الزمان إذا بنيت مع الأفعال فلا يجوز أن تنصب إلا على الظرف، ولا يجوز أن يتعلق {يوم} بقوله: {قوله الحق} لأن المصدر لا يعمل فيما تقدمه، وقد أطلق قوم أن العامل اذكر أو خلق، ويحتمل أن يريد ب يقول معنى المضي كأنه قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق يوم يقول بمعنى قال لها كن، ف {يوم} ظرف معطوف على موضع {قوله الحق} إذ هو في موضع نصب، ويجيء تمام الكلام في قوله: {فيكون}، ويجيء {قوله الحق} ابتداء وخبراً ويحتمل أن يتم الكلام في {كن}، ويبتدأ {فيكون قوله الحق} وتكون يكون تامة بمعنى يظهر، و{الحق} صفة للقول و{قوله} فاعل، وقرأ الحسن {قُوله} بضم القاف، {وله الملك} ابتداء وخبر {يوم ينفخ في الصور} {يوم} بدل من الأولى على أن يقول مستقبل لا على تقدير مضيه، وقيل: بل متعلق بما تضمن الملك من معنى الفعل او بتقدير ثابت أو مستقر يوم، و{في الصور} قال أبو عبيدة هو جمع صورة فالمعنى يوم تعاد العوالم وقال الجمهور هو الصور القرن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث ورجحه الطبري بقول النبي عليه السلام: «إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ»، وقرأ الحسن {في الصوَر} يفتح الواو وهذه تؤيد التأويل الأول وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض {عالم} رفع بإضمار مبتدأ وقيل نعت ل {الذي} وقرأ الحسن والأعمش عالمٍ بالخفض على النعت للضمير الذي في {له}، أو على البدل منه من قوله: {له الملك}، وقد رويت عن عاصم، وقيل ارتفع عالم بفعل مضمر من لفظ الفعل المبني للمفعول تقديره ينفخ فيه عالم على ما أنشد سيبويه: [الطويل]
لِيَبْكِ يزيدَ ضارعٌ لخصومةٍ ** وآخرُ مِمّنْ طَوّحَتْهُ الطَّوائِحُ

التقدير يبكيه ضارع، وحكى الطبري هذا التأويل الذي يشبه ليبك يزيد عن ابن عباس ونظيرها من القرآن قراءة من قرأ {زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} [الأنعام: 137] بضم الزاي ورفع الشركاء وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو {يوم ننفخ في الصور} بنون العظمة، و{الغيب والشهادة} معناه ما غاب عنا وما حضر، وهذا يعم جميع الموجودات.

.تفسير الآيات (74- 75):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)}
العامل في {إذ} فعل مضمر تقديره: واذكر أو قص، قال الطبري: نبه الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بإبراهيم في محاجته قومه إذ كانوا أهل أصنام وكان قوم محمد أهل أصنام.
قال القاضي أبو محمد: وليس يلزم هذا من لفظ الآية، أما أن جميع ما يجيء من مثل هذا عرضه للاقتداء، وقرأ السبعة وجمهور الناس آزَرَ بفتح الهمزة التي قبل الألف وفتح الزاي والراء، قال السدي وابن إسحاق وسعيد بن عبد العزيز: هو اسم أبي إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد: وقد ثبت أن اسمه تارح فله على هذا القول اسمان كيعقوب وإسرائيل، وهو في الإعراب على هذا بدل من الأب المضاف في موضع خفض وهو اسم علم، وقال مجاهد بل هو اسم صنم وهو في موضع نصب بفعل مضمر تقديره: أتتخذ أصناماً.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا ضعف، وقال بعضهم بل هو صفة ومعناه هو المعوج المخطئ.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا بأن آزر إذا كان صفة فهو نكرة ولا يجوز أن تنعت المعرفة بالنكرة ويوجه ذلك على تحامل بأن يقال أريدت فيه الألف واللام وإن لم يلفظها، وإلى هذا أشار الزجّاج لأنه قدر ذلك فقال لأبيه المخطئ، وبأن يقال إن ذلك مقطوع منصوب بفعل تقديره اذن المعوج أو المخطئ، وإلا تبقى فيه الصفة بهذه الحال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقيل نصبه على الحال كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه وهو في حال عوج وخطأ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء ويصح مع هذا ان يكون {آزر} اسم أبي إبراهيم، ويصح أن يكون بمعنى المعوج والمخطئ، وقال الضحاك: {آزر} بمعنى شيء، ولا يصح مع هذه القراءة أن يكون {آزر} صفة، وفي مصحف أبيّ يا أزر بثبوت حرف النداء {اتخذت أصناماً} بالفعل الماضي، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه أيضاً: {أَزْراً تتخذ} بألف الاستفهام وفتح الهمزة من آزر وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وإسقاط ألف الاستفهام من {اتخذ} ومعنى هذه القراءة عضداً وقوة مظاهرة على الله تعالى تتخذ، وهو من نحو قوله تعالى: {أشدد به أزري} [طه: 31] وقرأ أبو اسماعيل رجل من أهل الشام بكسر الهمزة من هذا الترتيب ذكرها أبو الفتح، ومعناها: أنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة فكأنه قال: أوزراً ومأثماً تتخذ أصناماً، ونصبه على هذا بفعل مضمر، ورويت أيضاً عن ابن عباس، وقرأ الأعمش: {إزْراً تتخذ} بكسر الهمزة وسكون الزاي دون ألف توقيف، و{أصناماً آلهة} مفعولان، وذكر: أن {آزر} أبا إبراهيم كان نجاراً محسناً ومهندساً وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظي عنده آزر لذلك، وكان على خطة عمل الأصنام تعمل بأمره وتدبيره ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده، وحينئذ يعبد ذلك الصنم، فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد كان أبوه يكلفه بيعها، فكان إبراهيم ينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ ويستخف بها ويجعلها في الماء منكوسة، ويقول اشربي، فلما شهر أمره بذلك وأخذ في الدعاء إلى الله تعالى قال لأبيه هذه المقالة، و{أراك} في هذا الموضع يشترك فيها البصر والقلب لأنها رؤية قلب ومعرفته وهي متركبة على رؤية بصر، و{مبين} بمعنى واضح ظاهر، وهو من أبان الشيء، إذا ظهر ليس بالفعل المتعدي المنقول من باب يبين.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون المفعول مقدراً تقديره: في ضلال مبين كفركم، وقيل كان آزر رجلاً من أهل كوثا من سواد الكوفة، قال النقاش وبها ولد إبراهيم عليه السلام، وقيل كان من أهل حران، وقوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت، و{نُري} لفظها الاستقبال ومعناها المضي، وحكى المهدوي: أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه، و{نُرِي} هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى ثلاثة مفاعيل، وليس كذلك ولا يصح أن يقال: إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي يدخل عليها علمت في هذا الموضع، وإنما هي من علم بمعنى عرف، ثم نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت {أرى} بمنزلتها في هذه الحال، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر، وروي في ذلك أن الله عز وجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص لإبراهيم عليه السلام بما لم يدركه غيره، قبله ولا بعده، وهذا هو قول مجاهد قال: تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي، وقيل: هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره، وذلك ولابد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القولان الأخيران يناسبان الآية، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنين وبعده واليقين يقع له ولغيره وبالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو، و{ملكوت} بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت، وقال عكرمة هو ملكوتي باليونانية أو بالنبطية، وقرأ {ملكوث} بالثاء مثلثة وقرأ أبو السمال {مَلْكوت} بإسكان اللام وهي لغة، و{ملكوت} بمعنى الملك، والعرب تقول لفلان ملكوت اليمن أي ملكه، واللام في {ليكون} متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من المؤقنين أريناه، والموقن: العالم بالشيء علماً لا يمكن أن يطرأ له فيك شك، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً إن الإشارة هاهنا {بملكوت السماوات} هي إلى الكواكب والقمر والشمس، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها رؤية بصر في ظاهر الملكوت، وروي عن ابن عباس في تفسير {وليكون من الموقنين} قال جلى له الأمور سرها وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا، فرده لا يرى أعمالهم.