فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا عيشهم الأول بمصر، وكنى عن المن والسلوى {بطعام واحد}، وهما طعامان، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد، ولتكرارهما سواء أبداً قيل لهما {طعام واحد}، ولغة بني عامر {فادعِ} بكسر العين.
و{يخرج}: جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولاً مما تنبت الأرض، وقال الأخفش: {من} في قوله: {مما} زائدة {وما} مفعولة، وأبى سيبويه أن تكون {من} ملغاة في غير النفي، كقولهم: ما رأيت من أحد، و{من} في قوله: {من بقلها} لبيان الجنس، و{بقلها} بدل بإعادة الحرف، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم، والقثاء جمع قثأة.
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب: {قُثائها}، بضم القاف.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: الفوم الحنطة.
وقال مجاهد: الفوم الخبز.
وقال عطاء وقتادة: الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه.
وقال الضحاك: الفوم الثوم، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء، وروي ذلك عن ابن عباس، والثاء تبدل من الفاء، كما قالوا، مغاثير ومغافير، وجدث وجدف، ووقعوا في عاثور شر، وعافور شر، على أن البدل لا يقاس عليه، والأول أصح: أنها الحنطة، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح: [الطويل]
قد كنت أغنى الناس شخصاً واجداً ** ورد المدينة عن زراعة فوم

يعني حنطة.
قال ابن دريد: الفوم الزرع أو الحنطة، وأزد السراة يسمون السنبل فوماً، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر، و{أدنى} مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة.
وقال علي بن سليمان: هو مهموز من الدنيء البين الدناءة، بمعنى الأخس، إلا أنه خففت همزته.
وقال غيره: هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون أفعل، قلب فجاء أفلع، وقلبت الواو ألفاً لتطرفها.
وقرأ زهير للكسائي: أدنأ، ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه، يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة، لأن هذه البقول لا خطر لها، وهذا قول الزجاج، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوا عارٍ من هذه الخصال، فكأن أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب، فهو {أدنى} في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، فهي {أدنى} في هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها، وفي الكلام حذف، تقديره: فدعا موسى ربه فأجابه، فقال لهم: {اهبطوا}، وتقدم ذكر معنى الهبوط، وكأن القادم على قطر منصب عليه، فهو من نحو الهبوط، وجمهور الناس يقرؤون مصراً بالتنوين وهو خط المصحف، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه.
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها: أراد مصراً من الأمصار غير معين، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه.
وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها.
وقال الأخفش: لخفتها وشبهها بهند ودعد وسيبويه لا يجيز هذا.
وقال غير الأخفش: أراد المكان فصرف.
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما: {اهبطوا مصر} بترك الصرف، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا: هي مصر فرعون.
قال الأعمش: هي مصر التي عليها صالح بن علي.
وقال أشهب: قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون.
وقوله تعالى: {فإن لكم ما سألتم} يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم.
وقرأ النخغي وابن وثاب {سِألتم} بكسر السين وهي لغة، {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} معناه ألزموها وقضي عليهم بها، كما يقال ضرب الأمير البعث، وكما قالت العرب ضربة لازب، أي إلزام ملزوم أو لازم، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد، أي حجر وألزم؛ ومنه ضرب الدهر ضرباته، أي ألزم إلزاماته، و{الذلة} فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال، {والمسكنة} من المسكين، قال الزجاج: هي مأخوذة من السكون وهي هنا: زي الفقر وخضوعه، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته.
قال الحسن وقتادة: المسكنة الخراج أي الجزية.
وقال أبو العالية: المسكنة الفاقة والحاجة.
{وباؤوا بغضب من الله} معناه: مروا متحملين له، تقول: بؤت بكذا إذا تحملته، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب.
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده، والباء في {بأنهم} باء السبب.
وقال المهدوي: إن الباء بمعنى اللام والمعنى: لأنهم، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع وغيرها مما يخرق العادة، وهو علامة لصدق الآية به، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {وتقتلون} بالتاء على الرجوع إلى خطابهم، وروي عنه أيضاً بالياء.
وقرأ نافع: بهمز {النبيئين}، وكذلك حيث وقع في القرآن، إلا في موضعين: في سورة الأحزاب: {أن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي} [الأحزاب: 50] بلا مد ولا همز، {ولا تدخلوا بيوت النبي إلا} [الأحزاب: 53]، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون، فأما من همز فهو عنده من {أنبأ} إذا أخبر، واسم فاعله منبئ فقيل نبيء، بمعنى منبئ، كما قيل: سميع بمعنى مسمع، واستدلوا بما جاء من جمعه على نبآء. قال الشاعر: [الطويل]
يا خاتم النبآء إنك مرسل ** بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا

فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح كظريف وظرفاء وشبهه.
قال أبو علي: زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة: كان مسيلمة نبوته نبيئة سوء، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز، ومنهم من قال: هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر، فالنبي الطريق الظاهر، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة، وقال الشاعر: [البيسط].
لما وردنا نبياً واستتبّ بنا ** مسحنفر كخطوط السيح منسحل

واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء، وحكى الزهراوي أنه يقول نبوء إذا ظهر فهو نبيء، والطريق الظاهر نبيء بالهمز، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا نبيء الله، وهمز، فقال له النبي صلى عليه السلام: لست بنبيء الله، وهمز، ولكني نبيّ الله، ولم يهمز.
قال أبو علي: ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار، والجمع كالواحد.
وقوله تعالى: {بغير الحق} تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجهاً، فصرح قوله: {بغير الحق} عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم. وسلط عليه، كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن عباس وغيره: لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر.
وقوله تعالى: {ذلك} رد على الأول وتاكيد للإشارة إليه، والباء في {بما} باء السبب، و{يعتقدون} معناه: يتجاوزون الحدود، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم والمعاصي.

.تفسير الآيات (62- 64):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
اختلف المتأولون في المراد ب {الذين آمنوا} في هذه الآية، فقال سفيان الثوري: هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: {إن الذين آمنوا} في ظاهر أمرهم، وقرنهم باليهود {والنصارى والصابئين}، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله: {من آمن} في المؤمنين المذكورين: من حقق وأخلص، وفي سائر الفرق المذكورة: من دخل في الإيمان. وقالت فرقة: {الذين آمنوا} هم المؤمنون حقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم قوله: {من آمن بالله} يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقال السدي: هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، {والذين هادوا} كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، {والنصارى} كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، {والصابئين} كذلك، قال: إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذكر له الطبري قصة طويلة، وحكاها أيضاً ابن إسحاق، مقتضاها أنه صحب عباداً من النصارى فقال له آخرهم إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فأمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} [آل عمران: 85] وردت الشرائع: كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
{والذين هادوا} هم اليهود، وسموا بذلك لقولهم {إنا هدنا إليك} [الأعراف: 156] أي تبنا، فاسمهم على هذا من هاد يهود، قال الشاعر: [السريع]
إني امرؤ من مدحتي هائد ** أي تائب

وقيل: نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب، فلما عرب الاسم لحقه التغيير، كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها، وحكى الزهراوي التهويد النطق في سكون ووقار ولين، وأنشد:
وخود من اللائي تسمعن بالضحى ** قريض الردافى بالغناء المهود

قال: ومن هذا سميت اليهود، وقرأ أبو السمال {هادَوا} بفتح الدال.
{والنصارى} لفظة مشتقة من النصر، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة، ويقال نصريا ويقال نصرتا، وإما لأنهم تناصروا، وإما لقول عيسى عليه السلام {من أنصاري إلى الله} [آل عمران: 152، الصف: 4] قال سيبويه: واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة وندامى، وأنشد: [أبو الأخرز الحماني]: [الطويل]
فكلتاهما خرت وأسجدَ رأسُها ** كما سَجَدتْ نصْرانةٌ لم تَحَنّفِ

وأنشد الطبري: [الطويل]
يظل إذا دار العشيُّ محنّفاً ** ويضحي لديها وهو نَصْرانُ شامسُ

قال سيبويه: إلا إنه لا يستعمل في الكلام إلاّ بياء نسب، قال الخليل، واحد {النصارى} نصريّ كمهريّ ومهارى.
والصابئ في اللغة من خرج من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبا، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة تشبيهاً بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا إله إلا الله، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت، قال أبو علي: يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابئ التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه ومتنقل إلى سواها، وبالهمزة قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال، أو يجعله على قلب الهمزة ياء، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: {والصابئين} فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، وليسوا بيهود ولا نصارى، وقال ابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم، وقال ابن زيد: هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بجزيرة الموصل، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة.
و{من} في قوله: {من آمن بالله} في موضع نصب بدل من {الذين}، والفاء في قولهم {فلهم} داخله بسبب الإبهام الذي في {من} و{لهم أجرهم} ابتداء وخبر في موضع خبر {إن}، ويحتمل ويحسن أن تكون {من} في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والفاء في قوله: {فلهم} موطئة أن تكون الجملة جوابها، و{لهم أجرهم} خبر {من}، والجملة كلها خبر {إن}، والعائد على {الذين} محذوف لابد من تقديره، وتقديره {من آمن منهم بالله}.
وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى، وجمع الضمير في قوله تعالى {لهم أجرهم} بعد أن وحد في {آمن} لأن {من} تقع على الواحد والتثنية الجمع، فجائز أن يخرج ما بعدها مفرداً على لفظها، أو مثنى أو مجموعاً على معناها، كما قال عز وجل {ومنهم من يستمعون إليك} [يونس: 42] فجمع على المعنى، وكقوله: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات} [النساء: 13] ثم قال: {خالدين فيها} [النساء: 13] فجمع على المعنى، وقال الفرزدق: [الطويل]
تعشَّ فإن عاهدتني لا تخونني ** نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطحبانِ

فثنى على المعنى، وإذا جرى ما بعد {من} على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في الكلام.
وقرأ الحسن {ولا خوف} نصب على التبرية، وأما الرفع فعلى الابتداء، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية.
وقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم}، {إذ} معطوفة على التي قبلها، والميثاق مفعال من وثق يثق، مثل ميزان من وزن يزن، و{الطور} اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه، قاله ابن عباس، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم: {الطور} اسم لكل جبل، ويستدل على ذلك بقول العجاج: [الرجز]
دانى جناحيه من الطور فمرْ ** تقضّيَ البازي إذا البازي كسرْ

وقال ابن عباس أيضاً: {الطور} كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت ليس بطور، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله على أن اللفظة عربية، وقال أبو العالية ومجاهد: هي سريانية اسم لكل جبل.
وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة، قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم ناراً بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وقال الطبري رحمه الله عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق، وكانت سجدتهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً، فلما رحمهم الله قالوا لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لأنهم آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة، وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين.
وقوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} في الكلام حذف تقديره: وقلنا خذوا، و{آتيناكم} معناه أعطيناكم، و{بقوة}: قال ابن عباس: معناه بجد واجتهاد، وقيل: بكثرة درس، وقال ابن زيد: معناه بتصديق وتحقيق، وقال الربيع. معناه بطاعة الله.
{واذكروا ما فيه} أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه وتضيعوه، والضمير عائد على {ما آتيناكم} ويعني التوراة، وتقدير صلة {ما}: واذكروا ما استقر فيه، و{لعلكم تتقون} ترج في حق البشر.
وقوله تعالى: {ثم توليتم من بعد ذلك} الآية. تولّى تفعّل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً، و{فضل الله} رفع بالابتداء، والخبر مضمر عند سيبويه لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه، تقديره فلولا فضل الله عليكم تدارككم، {ورحمته} عطف على فضل، قال قتادة: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على أن المخاطب بقوله: {عليكم} لفظاً ومعنى من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن المراد بالمعنى من سلف، و{لكنتم} جواب {لولا}، {ومن الخاسرين} خبر كان. والخسران النقصان، وتوليهم من بعد ذلك، إما بالمعاصي، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها، وإما أن يكون توليهم بالكفر فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك ليكون من ذريتهم من يؤمن، أو يكون المراد من لحق محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك قوم، وعليه يتجه قول قتادة: إن الفضل الإسلام، والرحمة القرآن، ويتجه أيضاً أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم.