فصل: تفسير الآية رقم (139):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (139):

{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}
هذه الآية تتضمن تعديد مذاهبهم الفاسدة، وكانت سنتهم في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم، والهاء في {خالصة} قيل هي للمبالغة كما هي في رواية غيرها، وهذا كما تقول فلان خالصتي وإن كان باب هاء المبالغة أن يلحق بناء مبالغة كعلامة ونسابة وبصيرة ونحوه، وقيل هي لتأنيث الأنعام إذ ما في بطونها أنعام أيضاً، وقيل هي على تأنيث لفظ {ما} لأن {ما} واقعة في هذا الموضع موقع قولك جماعة وجملة، وقرأ جمهور القراء والناس {خالصةٌ} بالرفع، وقرأ عبد الله بن مسعود وابن جبير وابن أبي عبلة والأعمش {خالصٌُ} دون هاء ورفع هاتين القراءتين على خبر الابتداء.
وقرأ ابن عباس بخلاف والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين {خالصةً} بالنصب، وقرأ سعيد بن جبير فيما ذكر أبو الفتح {خالصاً} ونصب هاتين القراءتين على الحال من الضمير الذي في قوله: {في بطون}، وذلك أن تقدير الكلام: وقالوا ما استقر هو في بطون هذه الأنعام فحذف الفعل وحمل المجرور الضمير، والحال من الضمير والعامل فيها معنى الاستقرار، قال أبو الفتح ويصح أن يكون حالاً من {ما} على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو حيوة والزهري خالصه بإضافة خالص إلى ضمير يعود على {ما}، ومعناه ما خلص وخرج حياً، والخبر على قراءة من نصب خالصة في قوله: {لذكورنا} والمعنى المراد بما في قوله: {ما في بطون} قال السدي: هي الأجنة، وقال ابن عباس وقتادة والشعبي: هو اللبن، قال الطبري واللفظ يعمهما، وقوله: {ومحرم} يدل على أن الهاء في {خالصة} للمبالغة، ولو كانت لتأنيث لقال ومحرمة، و{أزواجنا} يريد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجاً، قال مجاهد، وحكى الطبري عن ابن زيد أن المراد ب {أزواجنا} البنات.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يبعد تحليقه على المعنى، وقوله: {إن يكن ميتة} كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتاً من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعاً وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها، وقرأ ابن كثير {وإن يكن} بالياء {ميتةٌ} بالرفع فلم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي، والمعنى وإن وقع ميتة أو حدث ميتة، وقرأ ابن عامر {وإن تكن} بالتاء {ميتةٌ} بالرفع فألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثاً، وأسند الفعل إلى الميتة كما فعل ابن كثير، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه {تكن} بالتاء {ميتةً} بالنصب فأنث وإن كان المتقدم مذكراً لأنه حمله على المعنى.
قال القاضي أبو محمد: فالتقدير وإن تكن النسمة أو نحوها ميتة، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {يكن} بالياء {ميتةً} بالنصب، فذكروا الفعل لأنهم أسندوه إلى ضميرها تقدم من قوله: {ما في بطون هذه الأنعام} وهو مذكر، وانتصبت الميتة على الخبر، قال أبو عمرو بن العلاء ويقوي هذه القراءة قوله: {فهم فيه} ولم يقل فيها، وقرأ يزيد بن القعقاع {وإن تكن ميّتة} بالتشديد، وقرأ عبد الله بن مسعود {فهم فيه سواء} ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات إلى الله تعالى وشرعوه من الباطل والإفك {إنه حكيم} أي في عذابهم على ذلك {عليم} بقليل ما تقوّلوه من ذلك وكثيره.

.تفسير الآيات (140- 141):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}
هذا لفظ يتضمن التشنيع بقبح فعلهم والتعجب من سوء حالهم في وأدهم البنات وحجرهم الأنعام والحرث، وقال عكرمة: وكان الوأد في ربيعة ومضر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكان جمهور العرب لا يفعله، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والاقتار وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السباء وقرأ ابن عامر وابن كثير: {قتّلوا} بتشديد التاء على المبالغة وقرأ الباقون: قتلوا بتخفيفها و{ما رزقهم الله}: هي تلك الأنعام والغلات التي توقف بغير شرع ولا مثوبة في معاد بل بالافتراء على الله والكذب و{قد ضلوا} إخباراً عنهم بالحيرة وهو من التعجيب بمنزلة قوله: {قد خسر}، {وما كانوا} يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد: وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين لكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالاً وقوله تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار و{أنشأ} معناه خلق واخترع والجنة مأخوذة من جن إذا ستر، و{معروشات} قال ابن عباس: ذلك في ثمر العنب، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي {المعروشات} ما عرش كهيئة الكرم، وغيره البساتين وقيل: المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل: المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق، و{مختلفاً}: نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء، و{متشابهاً} يريد في المنظر، {وغير متشابه} في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله: {كلوا من ثمره} نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك، ويقرأ {من ثُمره} بضم الثاء وقد تقدم، {وآتوا حقه يوم حصاده} فقالت طائفة من أهل العلم: هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه، وقاله مالك بن أنس.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة، ومعترض أيضاً بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه، وقال ابن الحنفية أيضاً وعطاء ومجاهد وعيرهم من أهل العلم: بل قوله: {وآتوا حقه} ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر، فإذا صفا وكال أخرج من ذلك الزكاة، وقال الربيع بن أنس حقه وإباحة لقط السنبل، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها.
وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن، وقال السدي في هذه السورة مكية نسختها الزكاة فقال له سفيان عمن قال عن العلماء.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والنسخ غير مترتب في هذه الآية، لأن هذه الآية وآية الزكاة لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي {حِصاده} وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر {حَصاده} بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر، وقوله تعالى: {ولا تسرفوا} الآية، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل، وقاله ابن زيد، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته.
وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة، فنزلت هذه الآية، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئاً عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية، ومن قالها إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية.

.تفسير الآيات (142- 143):

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)}
{حمولة} عطف على {جنات معروشات} [الأنعام: 141] التقدير وأنشأنا من الأنعام حمولة، وبالحمولة ما تحمل الأثقال من الإبل والبقر عند من عادته أن يحمل عليها والهاء في {حمولة} للمبالغة، وقال الطبري هو اسم جمع لا واحد من لفظه، والفرش ما لا يحمل ثقلاً كالغنم وصغار البقر والإبل، هذا هو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم، يقال له الفرش ويفرش، وذهب بعض الناس إلى أن تسميته {فرشاً} إنما هي لوطاءته وأنه مما يمتهن ويتوطأ ويتمكن من التصرف فيه إذ قرب جسمه من الأرض.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير، ذكره الطبري.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا منه تفسير لنفس اللفظة لا من حيث هي في هذه الآية، ولا تدخل في الآية لغير الأنعام وإنما خصت بالذكر من جهة ما شرعت فيها العرب، وقوله: {مما رزقكم} نص إباحة وإزالة ما سنه الكفار من البحيرة والسائبة وغير ذلك، ثم تابع النهي عن تلك السنن الآفكة بقوله اختلاف القراء في {خطوات}، ومن شاذها قراءة علي رضي الله عنه والأعرج وعمرو بن عبيد {خُطُؤات} بضم الخاء والطاء وبالهمزة، قال أبو الفتح وذلك جمع خطأة من الخطأ ومن الشاذ قراءة أبي السمال {خطوات} بالواو دون همزة وهو جمع خطوة وهي ذرع ما بين قدمي الماشي، ثم علل النهي عن ذلك بتقرير عداوة الشيطان لابن آدم، وقوله تعالى {ثمانية} اختلف في نصبها فقال الأخفش علي بن سليمان بفعل مضمر تقديره كلوا لحم ثمانية أزواج فحذف الفعل والمضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل نصب على البدل من ما في قوله: {كلو مما رزقكم الله}، وقيل نصبت على الحال، وقيل نصبت على البدل من قوله: {حمولة وفرشاً}، وهذا أصوب الأقوال وأجراها مع معنى الآية، وقال الكسائي نصبها {أنشأ} [الأنعام: 141] والزوج الذكر والزوج الأنثى كل واحد منهما زوج صاحبه، وهي أربعة أنواع فتجيء ثمانية أزواج، و{الضأن} جمع ضائنة وضائن، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر والحسن من {الضأن} بفتح الهمزة، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي {ومن المعْز} بسكون العين وهو جمع ماعز وماعزة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {ومن المعَز} بفتح العين فضأن ومعز كراكب وركب وتاجر وتجر وضان ومعز كخادم وخدم ونحوه، وقرأ أبان بن عثمان {من الضأن اثنان} على الابتداء والخبر المقدم، ويقال في جمع ماعز معز ومعز ومعيز وأمعوز وقوله تعالى: {قل الذكرين} هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله أي لابد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئاً مما يوجبه هذا التقسيم، وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ ثم اتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله: {نبئوني} أخبروني {بعلم} أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب الله {إن كنتم صادقين} و{إن} شرط وجوابه في {نبئوني}، وجاز تقديم جواب هذا الشرط لما كانت {إن} لا يظهر لها عمل في الماضي، ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب.

.تفسير الآية رقم (144):

{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}
القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم كالقول المتقدم في قوله: {من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} [الأنعام: 143] وكأنه قال أنتم الذين تدعون أن الله حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في {الذكرين} أو فيما {اشتملت عليه أرحام الأثنين} لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم.
وقوله تعالى: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} الآية استفهام على جهة التوبيخ، إذ لم يبق لهم الادعاء المحال والتقوّل أنهم شاهدوا وصية الله لهم بهذا، و{شهداء} جمع شهيد، ثم تضمن قوله تعالى: {فمن أظلم} ذكر حال مفتري الكذب على الله وتقرير إفراط ظلمه، وقال السدي: كان الذي سيبوا وبحروا يقولون: الله أمرنا بهذا ثم بيّن تعالى سوء مقصدهم بالافتراء لأنه لو افترى أحد فرية على الله لغير معنى لكان ظلماً عظيماً فكيف إذا قصد بهما إضلال أمة، وقد يحتمل أن تكون اللام في {ليضل} لام صيرورة، ثم جزم الحكم لا رب غيره بأنه {لا يهدي القوم الظالمين}، أي لا يرشدهم، وهذا عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه مما يقتضيه الشرع أن الله يهدي ظلمة كثيرة بالتوبة.

.تفسير الآية رقم (145):

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}
هذا أمر من الله عز وجل بأن يشرع للناس جميعاً ويبين عن الله ما أوحي إليه، وهذه الآية نزلت بمكة ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والممتردية والنطيحة، فإن هذه وإن كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات لأنها بأسباب وليست حتف الأنف، فلما بين النص إلحاقها بالميتة كانت زيادة في المحرمات، ثم نزل النص على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر بوحي غير مُنْجَز، وبتحريم كل ذي ناب من السباع، فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على إذلاله وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام».
وقد روي عنه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ثم اختلف الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يجمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهية ونحوها، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنهم لم تخمس، وتأول بعضهم أن ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها.
وروي عن ابن عامر أنه قرأ {فيما أَوحَى إلي} بفتح الهمزة والحاء وقرأ جمهور الناس يطعمه وقرأ أبو جعفر محمد بن علي {يطّعِمه} بتشديد الطاء وكسر العين، وقرأ محمد بن الحنفية وعائشة وأصحاب عبد الله {طعمه} بفعل ماض، وقرأ نافع والكسائي وأبو عمر وعاصم {إلا أن يكون} بالياء على تقدير إلا أن يكون المطعوم، وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وأيضاً {إلا أن تكون} بالتاء من فوق {ميتة} على تقدير إلا أن تكون المطعومة، وقرأ ابن عامر وحده وذكرها مكي عن ابي جعفر {إلا أن تكون} بالتاء {ميتةٌ} بالرفع على أن تجعل {تكون} بمعنى تقع، ويحتاج على هذه القراءة أن يعطف {أو دماً} على موضع {أن تكون}، لأنها في موضع نصب بالاستثناء، والمسفوح الجاري الذي يسيل وجعل الله هذا فرقاً بين القليل والكثير، والمنسفح، السائل من الدم ونحوه، ومنه قول الشاعر وهو طرفة:
إذا ما عَادهُ مِنّا نِساءٌ ** سَفَحْنَ الدَّمْعَ مِنْ بعْدِ الرَّنِينِ

وقول امرئ القيس:
وإن شفائي عبرة إن سفحتها ** فالدم المختلط باللحم والدم الخارج من مرق اللحم وما شاكل هذا حلال والدم غير المسفوح هو هذا وهو معفوّ عنه، وقيل لأبي مجلز في القدر تعلوها الحمرة من الدم قال: إنما حرم الله المسفوح، وقالت نحوه عائشة وغيرها وعليه إجماع العلماء.

وقيل: الدم حرام لأنه إذا زايل فقد انسفخ، و{الرجس} النتن والحرام، يوصف بذلك الأجرام والمعاني كما قال عليه السلام: «دعوها فإنها منتنة»؛ الحديث، فكذلك قيل في الأزلام والخمر رجس، والرجس أيضاً العذاب لغة بمعنى الرجز، وقوله: {أو فسقاً} يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم، وقوله تعالى: {فمن اضطر} الآية، أباح الله فيها مع الضرورة ركوب المحظور دون بغي.
واختلف الناس فيم ذا فقالت فرقة دون أن يبغي الإنسان في أكله فيأكل فوق ما يقيم رمقه وينتهي إلى حد الشبع وفوقه، وقالت فرقة: بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق أو قتل نفس أو يكون تصرفه في معصية فإن ذلك لا رخصة له، وأما من لم يكن بهذه الأحوال فاضطر فله أن يشبع ويتزود، وهذا مشهور قول مالك بن أنس رحمه الله، وقال بالأول الذي هو الاقتصار على سد الرمق عبد المالك بن حبيب رحمه الله، وقوله: {فإن ربك غفور رحيم} إباحة تعطيها قوة للفظ.