فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 28):

{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)}
هذه المخاطبة لجميع العالم والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عراة، فقيل كان ذلك من عادة قريش، وقال قتادة والضحاك: كان ذلك من عادة قبيلة من اليمن، وقيل كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس وهم قريش ومن والاها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح لأن قريشاً لما سنوا بعد عام الفيل سنناً عظموا بها حرمتهم كانت هذه من ذلك، فكان العربي إما أن يعيره أحد من الحمس ثوباً فيطوف فيه، وإما أن يطوف في ثيابه ثم يلقيها، وتمادى الأمر حتى صار عند العرب قربة فكانت العرب تقول نطوف عراة كما خرجنا من بطون أمهاتنا ولا نطوف في ثياب قد تدنسنا فيها بالذنوب، ومن طاف في ثيابه فكانت سنتهم كما ذكرنا أن يرمي تلك الثياب ولا يتتفع بها وتسمى تلك الثياب اللقى، ومنه قول الشاعر:
كفى حزناً كرّي عليه كأنه ** لقى بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تطوف عريانة حتى كانت إحداهن تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** فما بدا منه فلا أحله

فنهى الله عز وجل عن جميع ذلك ونودي بمكة في سنة تسع لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، والفتنة في هذه الآية الاستهواء والغلبة على النفس، وظاهر قوله: {لا يفتننكم} نهي الشيطان، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الاستماع له والطاعة لأمره كما قالوا لا أرينك ها هنا، فظاهر اللفظ نهي المتكلم نفسه، ومعناه نهي الآخر عن الإقامة بحيث يراه، وأضاف الإخراج في هذه الآية إلى إبليس وذلك تجوز بسبب أنه كان ساعياً في ذلك ومسبباً له، ويقال أب وللأم أبة، وعلى هذا قيل أبوان، و{ينزع} في موضع الحال من الضمير في {أخرج}، وتقدم الخلاف في اللباس من قول من قال الأظفار ومن قال النور ومن قال ثياب الجنة، وقال مجاهد هي استعارة إنما أراد لبسة التقى المنزلة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقوله: {إنه يراكم} الآية، زيادة في التحذير وإعلام أن الله عز وجل قد مكن الشيطان من ابن آدم في هذا القدر وبحسب ذلك يجب أن يكون التحذر بطاعة الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: والشيطان موجود قد قررته الشريعة وهو جسم، {وقبيلة} يريد نوعه وصنفة وذريته.
و{حيثُ} مبنية على الضم، ومن العرب من يبينها على الفتح، وذلك لأنها تدل على موضع بعينه، قال الزجاج: ما بعدها صلة لها وليست مضافة إليه، قال أبو علي: هذا غير مستقيم وليست {حيث} بموصولة إذ ليس ثم عائد كما في الموصولات، وهي مضافة إلى ما بعدها.
ثم أخبر عز وجل أنه صير {الشياطين أولياء} أي صحابة ومداخلين إلى الكفرة الذين لا إيمان لهم، وذكر الزهراوي أن جعل هنا بمعنى وصف.
قال القاضي أبو محمد: وهي نزعة اعتزالية.
وقوله: {وإذا فعلوا} وما بعده داخل في صفة الذين لا يؤمنون ليقع التوبيخ بصفة قوم جعلوا مثالاً للموبخين إذا أشبه فعلهم فعل الممثل بهم، ويصح أن تكون هذه الآية مقطوعة من التي قبلها ابتداء إخبار عن كفار العرب، و{الفاحشة} في هذه الآية وإن كان اللفظ عاماً هي كشفت العورة عند الطواف فقد روي عن الزهري أنه قال: إن في ذلك نزلت هذه الآية، وقاله ابن عباس ومجاهد، وكان قول بعض الكفار إن الله أمر بهذه السنن التي لنا وشرعها، فرد الله عليهم بقوله: {قل إن الله لا يأمربالفحشاء} ثم وبخهم على كذبهم ووقفهم على قولهم ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هو دعوى واختلاق.

.تفسير الآيات (29- 30):

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}
تضمن قوله: {قل أمر ربي بالقسط} أقسطوا ولذلك عطف عليه قوله: {وأقيموا} حملاً على المعنى، و{القسط} العدل والحقن واختلف المتأولون في قوله: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} فقيل أراد إلى الكعبة قاله مجاهد والسدي والمقصد على هذا شرع القبلة والأمر بالتزامها، وقيل أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول وجهت وجهي لله قاله الربيع.
قال القاضي أبو محمد: فلا يؤخذ الوجه على أنه الجارحة بل هو المقصد والمنزع، وقيل: المراد بهذا اللفظ إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض، أي حيث ما كنتم فهو مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة إقامة وجهوكم فيه الله عز وجل، قال قوم: سببها أن قوماً كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم في قبلتهم، فإذا حضر الصلاة في غير ذلك من المساجد لم يصلّوا فيها، وقوله: {مخلصين} حال من الضمير في {وادعوه}، و{الدين} مفعول ب {مخلصين}.
قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وابن عباس ومجاهد: المراد بقوله: {كما بدأكم تعودون} الإعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت فالوقف على هذا التأويل {تعودون}، و{فريقاً} نصب ب {هدى}، والثاني منصوب بفعل تقديره: وعذب فريقاً أو أضل {فريقاً حق عليهم}، وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية ومحمد بن كعب ومجاهد أيضاً وسعيد بن جبير والسدي وجابر بن عبد الله وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: المراد بقوله: {كما بدأكم تعودون} الإعلام بأن أهل الشقاء والكفر في الدنيا الذين كتب عليهم هم أهل الشقاء في الآخرة وأهل السعادة والإيمان الذين كتب لهم في الدنيا هم أهلها في الآخرة لا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها وأنفذها شيء، قالوقف في هذا التأويل في قوله: {تعودون} غير حسن، و{فريقاً} على هذا التأويل نصب على الحال والثاني عطف على الأول، وفي قراءة أبي بن كعب {تعودون فريقين فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة}، والضمير في {إنهم} عائد على الفريق الذين حق عليهم الضلالة، و{أولياء} معناه: أنصاراً وأصحاباً وإخواناً، {ويحسبون} معناه يظنون يقال: حسبت أحسب حسباناً وحسباً ومحسبة، قال الطبري: وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أن الله تعالى لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر {أنهم اتخذوا} بفتح الألف.

.تفسير الآيات (31- 32):

{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها، والزينة هاهنا الثياب الساترة قاله مجاهد والسدي، وقال طاوس: الشملة من الزينة.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل فيها ماكان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعملة الخيلاء، و{عند كل مسجد} عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها هذا هو مهم الأمر، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك، وذكر مكي حديثاً أن معنى {خذوا زينتكم} صلوا في النعال، وما أحسبه يصح.
وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا} نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم والودك في أيام الموسم، قال السدي وابن زيد، وتدخل مع ذلك أيضاً البحيرة والسائبة ونحو ذلك، وقد نص على ذلك قتادة وقال إن البحيرة وما جانسها هي المراد بقوله تعالى: {والطيبات من الرزق}، وقوله تعالى: {ولا تسرفوا} معناه ولا تفرطوا، قال أهل التأويل: يريد ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم مالم يحرم الله عز وجل، قال ابن عباس: ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي.
قال القاضي أبو محمد: يريد في الحلال القصد، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقاً فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه، مثل ذلك أن يفرط الإنسان في شراء ثياب ونحوها ويستنفد في ذلك جل ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه، فالله عز وجل لا يحب شيئاً من هذا، وقد نهت الشريعة عنه، ولذلك وقف النبي عليه السلام بالموصي عند الثلث، وقال بعض العلماء: لو حط الناس إلى الربع لقول النبي عليه السلام «والثلث كثير»، وقد قال ابن عباس في هذه الآية، أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة.
وأمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يسألهم عمن حرم ما أحل الله على جهة التوبيخ والتقرير وليس يقتضي هذا السؤال جواباً، وإنما المراد منه التوقيف على سوء الفعل، وذكر بعض الناس أن السؤال والجواب جاء في هذه الآية من جهة واحدة وتخيل قوله: {قل هي للذين آمنوا} جواباً.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نظر فاسد ليس ذلك بجواب السؤال ولا يقتضي هذا النوع من الأسئلة جواباً، و{زينة الله} هي ما حسنته الشريعة وقررته.
وزينة الدنيا هي كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين وهي الزينة التي فضل الشرع عليها، وقوله: {والطيبات} قال الجمهور يريد المحللات، وقال الشافعي وغيره يريد المستلذات.
قال القاضي أبو محمد: إلا أن ذلك ولابد يشترط فيه أن يكون من الحلال، وإنما قاد الشافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوزغ وغيرها فإنه يقول هي من الخبائث محرمة.
وقوله تعالى: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}.
قرأ نافع وحده {خالصةٌ} بالرفع والباقون {خالصةً} بالنصب، والآية تتأول على معنيين أحدهما أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون، فقوله: {في الحياة الدنيا} متعلق ب {آمنوا}. وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير، فإنه قال: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا} ينتفعون بها في الدنيا ولا يتبعهم إثمها، وقوله: {خالصةٌ} بالرفع خبر هي، و{للذين} تبيين للخلوص، ويصح أن يكون خالصة خبراً بعد خبر، و{يوم القيامة} يريد به وقت الحساب، وقرأ قتادة والكسائي {قل هي لمن آمن في الحياة الدنيا}، والمعنى الثاني هو أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا وإن كانت أيضاً لغيرهم معهم وهي يوم القيامة خالصة لهم أي لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة، وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد، فقوله: {في الحياة الدنيا} على هذا التأويل متعلق بالمحذوف المقدر في قوله: {للذين آمنوا} كأنه قال هي خالصة أو ثابتة في الحياة الدنيا للذين آمنوا، و{خالصةٌ} بالرفع خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مقدر تقديره: وهي خالصة يوم القيامة، و{يوم القيامة} يراد به استمرار الكون في الجنة، وأما من نصب {خالصةً} فعلى الحال من الذكر الذي في قوله: {للذين آمنوا}، التقدير هي ثابتة أو مستقرة للذين آمنوا في حال خلوص لهم، والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل في قوله: {للذين}. وقال أبو علي في الحجة: ويصح أن يتعلق قوله: {في الحياة الدنيا} بقوله: {حرم} ولا يصح أن يتعلق ب {زينة} لأنها مصدر قد وصف، ويصح أني يتعلق بقوله: {أخرج لعباده} ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله: {قل هي للذين آمنوا} لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جداً كما جاء في قوله: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة} [يونس: 27] فقوله: {وترهقهم ذلة} معطوف على {كسبوا} داخل في الصلة، والتعلق ب {أخرج} هو قول الأخفش ويصح أن يتعلق بقوله: {والطيبات}. ويصح أن يتعلق بقوله: {من الرزق} ويصح أن يتعلق بقوله: {آمنوا}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الأخير هو أصح الأقوال على هذا التأويل الأول فيما رتبناه هنا، وأما على التأويل الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر أبو علي وإنما يظهر أن يتعلق المحذوف المقدر في قوله: {للذين آمنوا} وقوله تعالى: {كذلك} تقدير الكلام أي كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك وعلى تلك الصورة نفصل الآيات أي نبين الأمارات والعلامات والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به، و{نفصل} معناه نقسم ونبين لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول.

.تفسير الآيات (33- 36):

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}
لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم، أتبعه ذكر ما حرم الله عز وجل وتقديره، و{الفواحش} ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ** إذا هي نصته ولا بمعطل

ثم استعمل فيما ساء من الخلق وألفاظ الحرج والرفث، ومنه الحديث ليس بفاحش في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله لسلمة بن سلامة بن وقش «أفحشت على الرجل» في حديث السير، ومنه قوله الحزين في كثير عزة: [الطويل]
قصير القميص فاحش عند بيته

وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس. والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع، والفاحش كذلك، فقوله هنا {الفواحش} إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه، وقوله: {ما ظهر منها وما بطن} يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال: {ما ظهر} الطواف عرياناً، والبواطن الزنى، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال، و{ما} بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو، {والإثم} أيضاً: لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم، هذا قول الجمهور، وقال بعض الناس: هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر: [الوافر]
شربت الإثم حتى طار عقلي

قال القاضي وأبو محمد: وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء، وهي في أجوافهم، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق، وإن صح فهو على حذف مضاف، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} [البقرة: 219] وهو في هذه الآية قد حرم، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة.
قال القاضي أبو محمد: ولكن لا يصح هذا لأن قوله: {فيهما إثم} لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله: {قل فيهما إثم} وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة.
{والبغي}: التعدي وتجاوز الحد، كان الإنسان مبتدياً بذلك أو منتصراً فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ، وقوله: {بغير الحق} زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغياً، {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً} المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله، والسلطان البرهان والحجة، {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه.
وقوله تعالى: {ولكل أمة أجل} الآية، يتضمن الوعيد والتهديد، والمعنى ولكل أمة أي فرقة وجماعة، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس، أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك قاله الطبري وغيره، وقرأ الحسن {فإذا جاء آجالهم} بالجمع. وهي قراءة ابن سيرين، قال أبو الفتح هذا هو الأظهر لأن لكل إنسان أجلاً فأما الإفراد فلأنه جنس وإضافته إلى الجماعة حسنت الإفراد، ومثله قول الشاعر: [الرجز]
في حلقكم عظم وقد شجينا

وقوله: {ساعة} لفظ عين به الجزء القليل من الزمن، والمراد جميع أجزائه أي لا يستأخرون ساعة ولا أقل منها ولا أكثر، وهذا نحو قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] فإنما هي عبارة يقام الجزء فيها مقام الكل.
قال القاضي أبو محمد: وكأنه يظهر بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} [إبراهيم: 10، نوح: 4] تعارض لأن تلك تقتضي الوعد بتأخير إن آمنوا والوعيد بمعاجلة إن كفروا.
قال القاضي أبو محمد: والحق مذهب أهل السنة أن كل أحد إنما هو بأجل واحد لا يتأخر عنه ولا يتقدم. وقوم نوح كان منهم من سبق في علم الله تعالى أنه يكفر فيعاجل، وذلك هو أجله المحتوم، ومنه من يؤمن فيتأخر إلى أجله المحتوم وغيب عن نوح تعيين الطائفتين فندب الكل إلى طريق النجاة وهو يعلم أن الطائفة إنما تعاجل أو تؤخر بأجلها، فكأنه يقول: فإن آمنتم علمنا أنكم ممن قضى الله له بالإيمان والأجل المؤخر، وإن كفرتم علمنا أنكم ممن قضي له بالأجل المعجل والكفر.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا الحد هو دعاء محمد عليه السلام العالم إلى طريق الجنة، وقد علم أن منهم من يكفر فيدخل النار، وكذلك هو أمر الأسير يقال له إما أن تؤمن فتترك وإلا قتلت.
وقوله تعالى: {يا بني آدم} الآية، الخطاب في هذه الآية لجميع العالم. وإن الشرطية دخلت عليها ما مؤكدة. ولذلك جاز دخول النون الثقيلة على الفعل، وإذا لم تكن ما لم يجز دخول النون الثقيلة. وقرأ أبي كعب والأعرج {تأتينكم} على لفظ الرسل. {وجاء يقصون} على المعنى.
وكأنه هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم ومتحصل منه لحاضري محمد عليه السلام أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه. و{يأتينكم} مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا على مراعاة وقت نزول الآية، وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال إن الله تعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال {يا بني آدم أما يأتينكم رسل منكم} الآية، قال ثم نظر إلى الرسل فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52] ثم بثهم.
قال القاضي أبو محمد: ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل وقيل المراد بالرسل محمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: من حيث لا نبي بعده، فكأن المخاطبين هم المراد ببني آدم لا غير، إذ غيرهم لم ينله الخطاب، ذكره النقاش. و{يقصون} معناه يسردون ويوردون. والآيات لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، وقوله: {فمن اتقى وأصلح} يصح أن تكون من شرطية وجوابه {فلا خوف عليهم} وهذه الجملة هي في جواب الشرط الأول الذي هو {إما يأتينكم} ويصح أن تكون من في قوله: {فمن اتقى} موصولة، وكأنه قصد بالكلام تقسيم الناس فجعل القسم الأول {فمن اتقى} والقسم الثاني {والذين كذبوا بآياتنا}. وجاء هذا التقسيم بجملته جواباً للشرط في قوله: {إما يأتينكم} فكأنه قال إن أتتكم رسل فالمتقون لا خوف عليهم، والمكذبون أصحاب النار، أي هذا هو الثمرة وفائدة الرسالة: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15] أي ليس ثم نفع للمفتري ولا غرض دنياوي. فالآية تبرية للنبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء وتوبيخ للمفترين من الكفار. و{لا} في قوله: {لا خوف} بمعنى ليس، وقرأ ابن محيصن {لا خوف} دون تنوين، ووجهه إما أن يحذف التنوين لكثرة الاستعمال وإما حملاً على حذفه مع لا وهي تبرية ناصبة تشبه حالة الرفع في البناء بحالة النصب، وقيل: إن المراد فلا الخوف، ثم حذفت الألف واللام وبقيت الفاء على حالها لتدل على المحذوف، ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها، ويشبه أن يكون الخوف لما يستقبل من الأمور والحزن لما مضى منها.
{والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا} هذه حالتان تعم جميع من يصد عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده وإما أن يستكبر فكذب وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو الكفر عناداً.