فصل: تفسير الآيات (74- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (74- 75):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
{قست} أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي قال: إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب بعدما رأوا هذه الآية العظمى، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم، قال عبيدة السلماني: ولم يرث قاتل من حينئذ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وبمثله جاء شرعنا، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سبباً لأن لا يرث قاتل: ثم ثبت ذلك الإسلام، كما ثبت كثيراً من نوازل الجاهلية، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما: إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك.
وقوله تعالى: {فهي كالحجارة} الآية، الكاف في موضع رفع خبر ل هي، تقديره: فهي مثل الحجارة {أو أشد} مرتفع بالعطف على الكاف، {أو} على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي، و{قسوة} نصب على التمييز، والعرف في {أو} أنها للشك، وذلك لا يصح في هذه الآية، واختلف في معنى {أو} هنا، فقالت طائفة، هي بمعنى الواو، كما قال تعالى: {آثماً أو كفوراً} [الإنسان: 24] أي وكفوراً، وكما قال الشاعر [جرير]: [البسيط]
نال الخلافة أو كانَتْ له قدراً ** كما أتى ربَّهُ موسى على قَدَر

أي وكانت له. وقالت طائفة هي بمعنى بل، كقوله تعالى: {إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147] المعنى بل يزيدون، وقالت طائفة: معناها التخيير، أي: شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وقالت فرقة: هي على بابها في الشك. ومعناه: عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة. وقالت فرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمّداً حباً شديداً ** وعباساً وحمزة أو عليّا

ولم يشك أبو الأسود، وإنما قصد الإبهام على السامع، وقد عورض أبو الأسود في هذا، فاحتجّ بقول الله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24]، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود، ولا يتم معنى الآية إلا ب أو، وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد، ومثل هذا قولك: أطعمتك الحلو أو الحامض، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين، وقالت فرقة: إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته، فصارت أشد من الحجارة، فلم تخل أن كانت كالحجارة طوراً أو أشد طوراً، وقرأ أبو حيوة: {قساوة}، والمعنى واحد.
وقوله تعالى: {وإن من الحجارة} الآية، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة، وقال قتادة: عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم، وقرأ قتادة: {وإنْ} مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد، في {لما}، وما في موضع نصب اسم ل {إن}، ودخلت اللام على اسم {إن} لمّا حال بينهما المجرور، ولو اتصل الاسم ب {إن} لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين، وقرأ مالك بن دينار: {ينفجِر} بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم، ووحد الضمير في {منه} حملاً على لفظ {ما}، وقرأ أبي بن كعب والضحاك {منها الأنهار} حملاً على الحجارة، و{الأنهار} جمع نهر وهو ما كثر ماؤه جرياً من الأخاديد، وقرأ طلحة بن مصرف: {لمّا} بتشديد الميم في الموضعين، وهي قراءة غير متجهة، {ويشقق} أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهاراً، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون، وقيل في هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها، وقيل المراد: الجبل الذي جعله الله دكاً، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعاً، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجذع الذي أَنَّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة أي: تبعث من يراها على شرائها، وقال مجاهد، ما تدرى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا {من خشية الله}، نزل بذلك القرآن، وقال مثله ابن جريج، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى {يريد أن ينقض} [الكهف: 77]، وكما قال زيد الخيل: [الطويل]
بِجمعٍ تضِل البُلْقُ في حَجَراتِهِ ** ترى الأكمَ فيه سجداً للحوافرِ

وكما قال جرير: والجبال الخشع، أي من رأى الحجر هابطاً تخيل فيه الخشية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف: لأن براعة معنى الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة، و{بغافل} في موضع نصب خبر {ما}، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية، وقرأ ابن كثير {يعملون} بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} الآية، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب: التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب، وقال مجاهد والسدي: عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئاً حكماً أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها، وقال ابن إسحاق والربيع: عُني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، وقرأ الأعمش، {كَلِمَ الله}، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باقٍ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم وأن ذلك ممكنٌ في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه.

.تفسير الآيات (76- 78):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
المعنى: وهم أيضاً إذ لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم؟ ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفاً مقطوعاً من معنى الطمع، فيه كشف سرائرهم.
وورد في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن»، فقال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما: اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد وقولوا لهم آمنا واكفروا إذا رجعتم، فنزلت هذه الآية فيهم، وقال ابن عباس: نزلت في منافقين من اليهود، وروي عنه أيضاً أنها نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين نحن نؤمن أنه نبي ولكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا قال بعضهم: لم تقرون بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه، وأصل {خلا} {خَلَوَ} تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، وقال أبو العالية وقتادة: إن بعض اليهود تكلم بما في التوارة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كفرة الأحبار: أتحدثون {بما فتح الله عليكم} أي عرفكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا تؤمنون به؟، وقال السدي: إ ن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما عذب به أسلافهم، فقال بعض الأحبار، {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} من العذاب، فيحتجون عليكم ويقولون نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا؟ وفتح على هذا التأويل بمعنى حكم، وقال مجاهد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة: يا إخوة الخنازير والقردة، فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم، أتحدثونهم؟ وقال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن شيء، قالوا في التوراة كذا وكذا، فكرهت الأحبار ذلك، ونهوا في الخلوة عنه، ففيه نزلت الآية.
والفتح في اللغة ينقسم أقساماً تجمعها بالمعنى التوسعة وإزالة الإبهام، وإلى هذا يرجع الحكم وغيره، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن، و{يحاجوكم} من الحجة، وأصله من حج إذا قصد، لأن المتحاجَّيْن كل واحد منهما يقصد غلبة الآخر، و{عند ربكم} معناه في الآخرة، وقيل عند بمعنى في ربكم، أي فيكونون أَحق به، وقيل: المعنى عند ذكر ربكم.
وقوله تعالى: {أفلا تعقلون} قيل: هو من قول الأحبار للأتباع، وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال. والعقل علوم ضرورية.
وقرأ الجمهور أولا يعلمون بالياء من أسفل، وقرأ ابن محيصن أولا تعلمون بالتاء خطاباً للمؤمنين، والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه قولهم آمنا، هذا في سائر اليهود، والذي أسره الأحبار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والمعرفة به، والذي أعلنوه الجحد به، ولفظ الآية يعم الجميع.
و{أميون} هنا عبارة عن جهلة بالتوراة، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما: المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال، وقيل: المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين، وقال عكرمة والضحاك: هم في الآية نصارى العرب، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال: هم المجوس. والضمير في {منهم} على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة أميون بتخفيف الميم، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأم: إما لأنه بحَال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك، وقيل نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف، فإنها لا تقرأ لا تكتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب: «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب»، والحديث: والألف واللام في {الكتاب} للعهد، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد. والأماني جمع أمنية، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي عنه {أماني} بتخفيف الياء، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة، ويجمع هذا الوزن على أفاعل، وعلى هذا يجب تخفيف الياء، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء {أماني}.
واختلف في معنى {أماني}، فقالت طائفة: هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئاً سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب، وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قوله تعالى {إلا إذا ألقى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] ومنه قول الشاعر [كعب بن مالك]: [الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليله ** وآخرة لاقى حمام المقادِرِ

فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لها بصحته، وقال الطبري: هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت.
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب، وإن نافية بمعنى ما، والظن هنا على بابه في الميل إلى أحد الجائزين.

.تفسير الآيات (79- 82):

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
{الذين} في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء، قال الخليل: الويل شدة الشر، وقال الأصمعي: الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له، ويجمع على ويلات، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع، لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على معنى الدعاء أي ألزمه الله ويلاً، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم، وروى سفيان وعطاء بن يسار أن الويل في هذه الآية: واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وادٍ في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفاً، وقال أبو عياض: إنه صهريج في جهنم، وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من جبال النار. وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم، و{الذين يكتبون}: هم الأحبار الذين بدلوا التوراة.
وقوله تعالى: {بأيديهم} بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله، وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأياً له، وقال ابن السراج: هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم، وقال ابن إسحاق: كانت صفته في التوراة أسمر ربعة، فردوه آدم طويلاً، وذكر السدي أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعرب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله، وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم.
والثمن قيل عرض الدنيا، وقيل الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراماً، وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها، {يكسبون} معناه من المعاصي والخطايا، وقيل من المال الذي تضمنه ذكر الثمن.
وقوله تعالى: {وقالوا لن تمسَّنا النارُ} الآية، روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود من أهل النار؟ فقالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال لهم: كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم، فنزلت هذه الآية، ويقال إن السبب أن اليهود قالت: إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوماً عدد عبادتهم العجل، قاله ابن عباس وقتادة، وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن جريج: إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوماً.
و{اتخذتمْ} أصله ايتخذتم، وزنه افتعلتم من الأخذ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء ايتخذتم فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفاً في ياتخذوا وواواً في موتخذ فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل، ومذهب أبي علي أن {اتخذتم} من تخذ لا من أخذ وقد تقدم ذكر ذلك.
وقال أهل التفسير: العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد، وقال ابن عباس وغيره: معناه هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار؟، فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى التأويل الثاني يجيء: هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون؟، وقوله: {فلن يخلف الله عهده} اعتراض أثناء الكلام.
و{بلى} رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب، وقال الكوفيون: أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها، وقال سيبويه: هي حرف مثل بل وغيره، وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل {لن تمسنا النار} فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان، و{من} شرط في موضع رفع بالابتداء، و{أولئك} ابتداء ثان، و{أصحاب} خبره، والجملة خبر الأول، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط.
وقالت طائفة: السيئة الشرك كقوله تعالى {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} [النمل: 90]، والخطيئات كبائر الذنوب، وقال قوم: {خطيئته} بالإفراد، وقال قوم: السيئةُ هنا الكبائر، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس، كقوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34]، والخطيئة الكفر، ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء، وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم: معنى الآية مات بذنوب لم يتب منها، وقال الربيع أيضاً: المعنى مات على كفره، وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي: المعنى كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة، والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة وإن علم انقطاعه، كما يقال ملك خالد ويدعى للملك بالخلد.
وقوله تعالى: {والذين آمنوا} الآية. يدل هذا التقسيم على أن قوله: {من كسب سيئة} الآية في الكفار لا في العصاة، ويدل على ذلك أيضاً قوله: {أحاطت} لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته، ويدل على ذلك أيضاً أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة فهم المراد بالخلود، والله أعلم.