فصل: تفسير الآيات (137- 138):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (137- 138):

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)}
قوله: {الذين كانوا يستضعفون} كناية عن بني إسرائيل لاستعباد فرعون لهم وغلبته عليهم، وقوله: {مشارق الأرض ومغاربها} قال الحسن وقتادة وغيرهما: يريد أرض الشام، وقال أبو جعفر النحاس: وقيل يراد أرض مصر وهو قول الحسن في كتاب النقاش، وقالت فرقة: يريد الأرض كلها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يتجه إما على المجاز لأنه ملكهم بلاداً كثيرة، وإما على الحقيقة في أنه ملك ذريتهم وهو سليمان بن داود ولكن الذي يليق بمعنى الآية وروي فيها هو أنه ملك أبناء المستضعفين بأعيانهم مشارق الأرض ومغاربها لاسيما بوصفه الأرض بأنها التي بارك فيها ولا يتصف بهذه الصفة وينفرد بها أكثر من غيرها إلا أرض الشام لما بها من الماء والشجر والنعم والفوائد، وحكى الطبري عن قائل لم يسمه وذكر الزهراوي أنه الفراء: أن {مشارق الأرض ومغاربها} نصب على الظرف أي يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، وأن قوله: {التي باركنا فيها} معمول ل {أورثنا}، وضعفه الطبري، وكذلك هو قول غير متجه، و{التي} في موضع خفض نعت ل {الأرض}، ويجوز أن يكون في موضع نصب نعت لمشارق ومغارب، وقوله: {وتمت كلمة ربك الحسنى} أي ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه، قاله مجاهد، وقال المهدوي: وهي قوله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} [القصص: 5] وقيل هي قوله: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم} [الأعراف: 129]، وروي عن أبي عمرو كلمات و{يعرشون} قال ابن عباس ومجاهد معناه يبنون وعرش البيت سقفه والعرش البناء والتنضيد وقال الحسن هي في الكروم وما أشبهها وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ الباقون: ابن عامر وعاصم فيما روي عنه والحسن وأبو رجاء ورجاء ومجاهد بضمها، وكذلك في سورة النحل وهما لغتان، وقرأ ابن أبي عبلة {يُعَرَّشون} و{يُعَكِّفون} بضم الياء فيهما وفتحة العين مشددة الراء والكاف مكسورتين.
قال القاضي أبو محمد: ورأيت للحسن البصري أنه احتج بقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك} إلى آخر الآية، على أنه لا ينبغي أن يخرج على ملوك السوء وإنما ينبغي أن يصبر عليهم، فإن الله تعالى يدمرهم، ورأيت لغيره أنه قال: إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه، وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الله بالفرج، وروي هذا القول أيضاً عن الحسن.
وقرأ جمهور الناس {وجاوزنا} وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {وجوزنا} ذكره أبو حاتم والمهدوي، والمعنى قطعناه بهم وجزعناه وهذه الآية ابتداء خبر عنهم، قال النقاش: جاوزوا البحر يوم عاشوراء، وأعطي موسى التوراة يوم النحر القابل بين الأمرين أحد عشر شهراً، وروي أن قطعهم كان من ضفة البحر إلى ضفة المناوحة الأولى وروي أنه قطع من الضفة إلى موضع آخر منها.
قال القاضي أبو محمد: فإما أن يكون ذلك بوحي من الله وأمر لينفذ أمره في فرعون وقومه وهذا هو الظاهر، وإما بحسب اجتهاد موسى في التخلص بأن يكون بين وضعين أوعار وحايلات، ووقع في كتاب النقاش أنه نيل مصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ لا تساعده رواية ولا يحتمله لفظ إلا على تحامل، وإنما هو بحر القلزوم و{القوم} المشار إليهم في الآية العرب، قيل هم الكنعانيون، وقال قتادة وقال أبو عمروان الجوني: هم قومن من لخم وجذام، والقوم في كلام العرب الرجال خاصة، ومنه قول زهير:
ولا أدري وسوف إخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

ومنه قوله عز وجل: {لا يسخر قوم من قوم.... ولا نساء من نساء} [الحجرات: 11] وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {يعكُفون} بضم الكاف، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية عبد الوارث عنه {يعكِفون} بكسرها وهما لغتان والعكوف: الملازمة بالشخص لأمر ما والإكباب عليه، ومنه الاعتكاف في المساجد ومنه قول الراجز [الرجز]
عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْزَجَا

والأصنام في هذه الآية قبل كانت بقراً على الحقيقة، وقال ابن جريج: كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من مقالة بني إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} أنهم استحسنوا ما رأوه من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به إلى الله، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى: اجعل لنا صنماً نفرده بالعبادة ونكفر بربك، فعرفهم موسى أن هذا جهل منهم إذ سألوا أمراً حراماً فيه الإشراك في العبادة ومنه يتطرق إلى إفراد الأصنام بالعبادة والكفر بالله عز وجل، وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي قصه النبي صلى الله عليه وسلم في قول أبي واقد الليثي له في غزوة حنين إذ مروا على دوح سدرة خضراء عظيمة: اجعل لنا يا رسول الله ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسلحتهم ولها يوم يجتمعون إليها فيه، فأراد أبو واقد وغيره أن يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ذريعة إلى عبادة تلك السرحة، فأنكره وقال: «الله أكبر قلتم والله كما قالت بنو إسرائيل {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} لتتبعن سنن من قبلكم».
قال القاضي أبو محمد: ولم يقصد أبو واقد بمقالته فساداً، وقال بعض الناس كان ذلك من بني إسرائيل كفراً ولفظة الإله تقتضي ذلك، وهذا محتمل، وما ذكرته أولاً أصح عندي والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (139- 141):

{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}
أعلمهم موسى عن الله عز وجل بفساد حال اولئك القوم ليزول ما استحسنوه من حالهم فقال {إن هؤلاء} إشارة إلى أولئك القوم {متبر} أي مهلك مدمر ردي العاقبة، قاله السدي وابن زيد، والتبار الهلاك وسوى العقبى وإناء متبر أي مكسور وكسارته تبر ومنه تبر الذهب لأنه كسارة، وقوله: {ما هم فيه} لفظ يعم جميع حالهم {وباطل} معناه فاسد ذاهب مضمحل.
وقوله تعالى: {قال أغير الله} الآية، أمر الله موسى عليه السلام أن يوقفهم ويقررهم على هذه المقالة، ويحتمل أن يكون القول من تلقائه عليه السلام، {أبغيكم} معناه: أطلب لكم، من بغيت الشيء إذا طلبته، و{غير} منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال كأن تقدير الكلام: قال أبغيكم إلهاً غير الله فهي في مكان الصفة فلما قدمت نصبت على الحال، و{العالمين} لفظ عام يراد به تخصيص عالم زمانهم، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بإجماع، ولقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] اللهم إلا أن يراد بالفضل كثرة الأنبياء منهم فإنهم فضلوا في ذلك على العالمين بالإطلاق.
ثم عدد عليهم في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها أن لا يكفروا به ولا يرغبوا عبادة غيره وقرأت فرقة {نجيناكم}، وقرأ جمهور الناس: {أنجيناكم} وقد تقدم، وروي عن ابن عباس {وإذا أنجاكم} أي أنجاكم الله وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، و{يسومونكم} معناه يحملونكم ويكلفونكم، تقول سامه خطة خسف، ونحو هذا، ومساومة البيع ينظر إلى هذا وأن كل واحد من المتساومين يكلف صاحبه إرادته، ثم فسر {سوء العذاب} بقوله: {يقتلون ويستحيون}، و{بلاء} في هذا الموضع معناه اختبار وامتحان، وقوله: {ذلكم} إشارة إلى سوء العذاب، ويحتمل أن يشير به إلى التنجية فكأنه قال وفي تنجيتكم امتحان لكم واختبار هل يكون منكم وفاء بحسب النعمة.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول أظهر، وقالت فرقة: هذه الآية خاطب بها موسى من حضره من بني إسرائيل، وقال الطبري: بل خوطب بهذه الآية من كان على عهد محمد صلى الله عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل بأوائلهم وبما جازوا به.
قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر وأبين.

.تفسير الآيات (142- 145):

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)}
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} قرأ أبو عمرو وأبيّ بن كعب وأبو رجاء وأبو جعفر وشيبة {ووعدنا} وقد تقدم في البقرة، وأخبر الله تعالى موسى عليه السلام أن يتهيأ لمناجاته {ثلاثين ليلة} ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال، فذكر أن موسى عليه السلام أعلم بني إسرائيل بمغيبه {ثلاثين ليلة} فلما زاده العشر في حال مغيبه دون أن تعلم بنو إسرائيل ذلك وجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم به، فقال لهم السامري: إن موسى قد هلك وليس براجع وأضلهم بالعجل فاتبعوه، قاله كله ابن جريج، وقيل: بل أخبرهم بمغيبه {أربعين} وكذلك أعلمه الله تعالى وهو المراد بهذه الآية، قاله الحسن، وهو مثل قوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] وأنهم عدوا الأيام والليالي فلما تم {أربعون} من الدهر قالوا قد أخلف موسى فضلوا، قال مجاهد إن الثلاثين هي شهر ذي القعدة وإن العشر هي عشر ذي الحجة، وقاله ابن عباس ومسروق.
وروي أن الثلاثين إنما وعد بأن يصومها ويتهيأ فيها للمناجاة ويستعد وأن مدة المناجاة هي العشر، وقيل بل مدة المناجاة الأربعون، وإقبال موسى على الأمر والتزامه يحسن لفظ المواعدة، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة فذلك إخبار بجملة الأمر هو في هذه الآية إخبار بتفصيله كيف وقع، و{أربعين} في هذه الآية وما بعدها في موضع الحال، ويصح أن تكون {أربعين} ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة، وفي مصحف أبي بن كعب {وتممناها} بغير ألف وتشديد الميم، وذكر الزجاج عن بعضه قال: لما صام ثلاثين يوماً أنكر خلوف فماه فاستاك بعود خروب فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيدت عليه عشر ليال، و{ثلاثين} نصب على تقدير أجلناه ثلاثين وليست منتصبه على الظرف لأن المواعدة لم تقع في الثلاثين، ثم ردد الأمر بقوله: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} قيل ليبين أن العشر لم تكن ساعات وبالجملة فتأكيد وإيضاح.
وقوله تعالى: {وقال موسى لأخيه}.... الآية، المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها، و{اخلفني} معناه كن خليفتي وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته لا يقتضي أنه متمادٍ بعد وفاة فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية في قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً بقوله أنت مني كهارون من موسى وقال موسى {اخلفني} فيترتب على هذا أن علياً خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه يحل هذا القياس، وأمره في هذه الآية بالإصلاح ثم من الطرق الأخر في أن لا يتبع سبيل مفسد، قال ابن جريج: كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه.
ثم أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء إلى الموضع الذي حد له وفي الوقت الذي عين له وكلمه ربه قال تمنياً منه أي {رب أرني أنظر إليك} وقرأ الجمهور: {أرِني} بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير {أرْني} بسكون الراء، والمعنى في قوله: {كلمه} أي خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: أدنى الله تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح، وكلام الله عز وجلّ لا يشبه شيئاً من الكلام الذي للمخلوقين ولا في جهة من الجهات وما هو موجود لا كالموجودات، ومعلوم لا كالمعلومات، كذلك كلامه لا يشبه الكلام الذي فيه علامات الحدوث، والواو عاطفة {كلمه} على {جاء}، ويحتمل أن تكون واو الحال والأول أبين، وقال وهب بن منبه كلم الله موسى في ألف مقام كان يرى نور على وجهه ثلاثة أيام إثر كل مقام، وما قرب موسى النساء منذ كلمة الله تعالى، وجواب {لما} في قوله: {قال}، والمعنى أنه لما كلمه وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشويق إلى ذلك، فسأل ربه أن يريد نفسه، قاله السدي وأبو بكر الهذلي، وقال الربيع: قربناه نجياً حتى سمع صريف الأقلام، ورؤية الله عز وجل عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً، لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته، قالوا لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود، إلا أن الشريعة قررت رؤية الله تعالى في الآخرة نصاً ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر من الشرع، فموسى عليه السلام لم يسأل ربه محالاً وإنما سأل جائزاً.
وقوله تعالى: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل} الآية ليس بجواب من سأل محالاً، وقد قال تعالى لنوح {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] فلو سأل موسى محالاً لكان في الكلام زجر ما وتبيين، وقوله عز وجل: {لن تراني} نص من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا، و{لن} تنفي الفعل المستقبل ولو بقينا مع هذا النفي بمجردة لقضينا أنه لا يراه موسى أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرى برؤيته، وقال مجاهد وغيره: إن الله عز وجل قال لموسى لن تراني ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي فستمكنك أنت رؤيتي.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالاً وقالت فرقة: إنما المعنى سأتبدى لك على الجبل فإن استقر لعظمتي فسوف تراني، وروي في كيفية وقوف موسى وانتظاره الرؤية قصص طويل اختصرته لبعده وكثرة مواضع الاعتراض فيه.
قوله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}
قال المتأولون المتكلمون كالقاضي ابن الباقلاني وغيره: إن الله عز وجل خلق للجبل حياة وحساً وإدراكاً يرى به، ثم تجلى له أي ظهر وبدا سلطانه فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق، وهذا المعنى هو المروي عن ابن عباس، وأسند الطبري عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال: فوضع الإبهام قريباً عن خنصره قال فساخ الجبل، فقال حميد لثابت: تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس، وأكتمه أنا؟ وقالت فرقة: المعنى فلما تجلى الله للجبل بقدرته وسلطانه اندك الجبل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يتمسك به المعتزلة تمسكاً شديداً لقولهم إن رؤية الله عز وجل غير جائزة، وقائله من أهل السنة إنما يقوله مع اعتقاده جواز الرؤية ولكنه يقول إنه أليق بألفاظ الآية من أن تحمل الآية أن الجبل خلق له إدراك وحياة، وقال الزّجاج: من قال إن التقدير فلما تجلى أمر ربه فقد أخطأ ولا يعرف أهل اللغة ذلك، ورد أبو علي في الإغفال عليه، والدك الانسحاق والتفتت، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر {دكاً}، وقرأ حمزة والكسائي وابن عباس والربيع بن خثيم وغيرهم {دكاء} على وزن حمراء، والدكاء الناقة التي لا سنام لها، فالمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة، فروي أنه ذهب الجبل بجملته، وقيل ذهب أعلاه وبقي أكثره، وروي أن الجبل تفتت وانسحق حتى صار غباراً تذروه الرياح، وقال سفيان: روي أنه ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين، قال ابن الكلبي فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة، وروي أنه انكسر ست فرق فوقعت منه ثلاث بمكة ثبير وغار ثور وحراء، وثلاث بالمدينة أحد وورقان ورضوى، قاله النقاش، وقال أبو بكر الهذلي: ساخ في الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة، و{صعقاً} معناه مغشياً عليه كحال من تصيبه الصعقة وهي الصيحة المفرطة، قال الخليل: وهي الوقع الشديد من صوت الرعد قاله ابن زيد وجماعة من المفسرين، وقال قتادة: كان موتاً، قال الزجّاج: وهو ضعيف، ولفظة {أفاق} تقتضي غير هذا، وقوله: {سبحانك} أي تنزيهاً لك كذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {تبت إليك} معناه من أن أسألك الرؤية في الدنيا وأنت لا تبيحها.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل عندي أنه لفظ قاله عليه السلام لشدة هول ما اطلع ولم يعن به التوبة من شيء معين ولكنه لفظ يصلح لذلك المقام.
قال القاضي أبو محمد: والذي يتحرز منه أهل السنة أن تكون توبة من سؤال المحال كما زعمت المعتزلة، وقرأ نافع {وأنا} بإثبات الألف في الإدراج، قال الزهراوي والأولى حذفها في الإدراج وإثباتها لغة شاذة خارجة عن القياس، وقوله: {أول} إما أن يريد من قومه بني إسرائيل، وهو قول ابن عباس ومجاهد أو من أهل زمانه ان كان الكفر قد طبق الآفاق وإما أن يريد أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، قاله أبو العالية.
ثم ان الله تعالى قرر موسى على آلائه عنده على جهة الإخبار وقنعه بها وأمره بالشكر عليها وكأنه قال ولا تتعدها إلى غيرها، و{اصطفى} أصله اصتفى وهو افتعل من صفا يصفو انقلبت التاء طاء لمكان الصاد، ومعناه تخيرتك وخصصتك، ولا تستعمل إلا في الخير والمتن، لا يقال اصطفاه لشر، وقوله: {على الناس} عام والظاهر من الشريعة أن موسى مخصص بالكلام وإن كان قد روي في تكليم الله غيره أشياء بما يشاء من أعظمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال هو نبي مكلَّم.
قال القاضي أبو محمد: إلا أن ذلك قد تأول أنه كان في الجنة فيتحفظ على هذا تخصيص موسى، ويصح أن يكون قوله: {على الناس} عموماً مطلقاً في مجموع الدرجتين الرسالة والكلام. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {برسالاتي} على الجمع إذ الذي أرسل به ضروب، وقرأ ابن كثير ونافع {برسالتي} على الإفراد الذي يراد به الجمع وتحل الرسالة هاهنا محل المصدر الذي هو الإرسال، وقرأ جمهور الناس و{بكلامي}، وقرأ أبو رجاء {برسالتي وبكلمتي}، وقرأ الأعمش {برسالاتي وبكلمي}، وحكى عنه المهدوي {وتكليمي} على وزن تفعيلي، وقوله: {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} تأديب وتقنيع وحمل على جادة السلامة ومثال لكل أحد في حاله، فإن جميع النعم من عنده بمقدار وكل الأمور بمرأى من الله ومسمع.
وقوله تعالى: {وكتبنا له في الألواح} الآية، الضمير في {له} عائد على موسى عليه السلام، والألف واللام في {الألواح} عوض من الضمير الذي يقدر وصله بين الألواح وموسى عليه السلام، تقديره في ألواحه، وهذا كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] مأواه وقيل: كانت الألواح اثنين، وقيل أيضاً من برد، وقال الحسن من خشب، وقوله: {من كل شيء} لفظه عموم والمراد به كل شيء ينفع في معنى الشرع ويحتاج إليه في المصلحة، وقوله: {لكل شيء} مثله، قال ابن جبير: ما أمروا به ونهوا عنه، وقاله مجاهد: وقال السدي: الحلال والحرام. وقوله: {بقوة} معناه بجد وصبر عليها واحتمال لمؤنها قاله ابن عباس والسدي، وقال الربيع بن أنس {بقوة} هنا بطاعة، وقال ابن عباس أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه، و{خذ} أصله أؤخذ حذفت الهمزة التي هي فاء الفعل على غير قياس فاستغني عن الأول، وقوله: {بأحسنها} يحتمل معنيين أحدهما التفضيل كأنه قال: إذا اعترض فيها مباحان فيأخذون الأحسن منهما كالعفو والقصاص، والصبر والانتصار.
قال القاضي أبو محمد: هذا على القول إن أفعل في التفضيل لا يقال إلا لما لهما اشتراك في المفضل فيه وأما على القول الآخر فقد يراد بالأحسن المأمور به بالإضافة للمنهي عنه لأنه أحسن منه، وكذلك الناسخ بالإضافة إلى المنسوخ ونحو هذا، وذهب إلى هذا المعنى الطبري.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا التأويل أنه تدخل فيه الفرائض وهي لا تدخل في التأويل الأول، وقد يمكن أن يتصور اشتراك في حسن من المأمور به والمنهي عنه ولو بحسب الملاذ وشهوات النفس الأمارة، والمعنى الآخر الذي يحتمله قوله: {بأحسنها} أن يريد بأحسن وصف الشريعة بجملتها، فكأنه قال: قد جعلنا لكم شريعة هي أحسن كما تقول: الله أكبر دون مقايسة ثم قال: فمرهم يأخذوا بأحسنها الذي شرعناه لهم، وفي هذا التأويل اعتراضات، وقرأ جمهور الناس {سأوريكم}، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {سأوريكم} قال أبو الفتح ظاهر هذه القراءة مردود وهو أبو سعيد المأثور فصاحته فوجهها أن المراد أريكم ثم أشبعت ضمة الهزة ومطلب حتى نشأت عنها واو، ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه.
وقرأ قسامة بن زهير {سأورثكم} قاله أبو حاتم، ونسبها المهدوي إلى ابن عباس، وثبتت الواو في خط المصحف فلذلك أشكل هذا الاختلاف مع أنا لا نتأول إلا أنها مرويات فأما من قرأها {سأوريكم} فالمعنى عنده سأعرض عليكم وأجعلكم تخشون لتعتبروا حال دار الفاسقين، والرؤية هنا رؤية العين إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين والوعيد للفاسقين ويدل على أنها ررية العين تعدى فعلها وقد عدي الهمزة إلى مفعولين فهو مقدر أي مدمرة أو خربة مسعرة على قول من قال: هي جهنم، قيل له: ولا يجوز حذف هذا المفعول والاقتصار دونه أنها داخله على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله عز وجل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومقاتل وقتادة في كتاب النقاش {دار الفاسقين} مصر والمراد آل فرعون، وقال قتادة أيضاً: {دار الفاسقين} الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم، وقال مجاهد والحسن: {دار الفاسقين} جهنم والمراد الكفرة بموسى عامة، وقال النقاش عن الكلبي: {دار الفاسقين} دور ثمود وعاد والأمم الخالية: أي سنقصها عليكم فترونها.