فصل: تفسير الآيات (158- 160):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (158- 160):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَألأَرْضِ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الذي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنَتَىَ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً}
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه بإشهار الدعوة والحض على الدخول في الشرع، وذلك أنه لما رجا الأمة المتبعة للنبي الأمي التي كتب لهم رحمته عقب ذلك بدعاء الناس إلى الاتباع الذي معه تحصل تلك المنازل وهذه الآية خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة وإلى الجن، قاله الحسن، وتقتضيه الأحاديث، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم، ثم إنه لما أعلن بالرسالة من عند الله أردف بصفة الله التي تقتضي الإذعان له وهي أنه ملك السموات والأرض بالخلق والإبداع والإحياء والإماتة لا إله إلا هو ولا معبود سواه.
وقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} الآية، هو الحض على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {الذي يؤمن} يريد الذي يصدق {بالله وكلماته} والكلمات هنا الآيات المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل، وقرأ جمهور الناس {كلماته} بالجمع، وقرأ عيسى بن عمر {كلمته} بالإفراد الذي يراد به الجمع، وقرأ الأعمش {الذي يؤمن بالله وآياته} بدل {كلماته}، وقال مجاهد والسدي: المراد ب {كلماته} أو {كلمته} عيسى بن مريم، وقوله تعالى: {لعلكم تهتدون} أي على طمعكم وبحسب ما ترونه، وقوله: {واتبعوه} لفظ عام يدخل تحته جميع إلزامات الشريعة جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته.
وقوله: {ومن قوم موسى} الآية، {يهدون} معناه يرشدون أنفسهم، وهذا الكلام يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين المتقين من بني إسرائيل على عهد موسى وما والاه من الزمن، فأخبر أنه كان في بني إسرائيل على عتوهم وخلافهم من اهتدى واتقى وعدل، ويحتمل أن يريد الجماعة التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم، ويحتمل ما روي من أن بني إسرائيل لما تقطعوا مرت أمة منهم واعتزلت ودخلت تحت الأرض فمشت في سرب تحت الأرض سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين، فهم هنالك خلف واد من شهد يقيمون الشرع ويهدون بالحق، قاله السدي وابن جريج، وروي بعضه عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حديث بعيد، وقرأ بعض من الناس {وقطّعناهم} بشد الطاء، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة {وقطَعناهم} بتخفيف الطاء، ورواها أبان عن عاصم، ومعناه فرقناهم من القطع، وقرأ جمهور الناس {عشْرة} بسكون الشين، وهي لغة الحجاز وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان بخلاف {عَشرة} بفتح الشين، وقرأت هذه الجماعة أيضاً وطلحة بن مصرف وأبو حيوة {عشِرة} بكسر الشين وهي لغة تميم، وقال أبو حاتم والعجب أن تميماً يخففون ما كان من هذا الوزن أي أهل الحجاز يشبعون وتناقضوا في هذا الحرف، وقوله: {أسباطاً} بدل من {اثنتي}.
والتمييز الذي بين العدد محذوف مقدر اثنتي عشرة فرقة أو قطعة أسباطاً، وإما أن يزول عن التمييز ويقدر وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة ثم أبدل أسباطاً، والأول أحسن وأبين، ولا يجوز أن يكون {أسباطاً} تمييزاً لأن التمييز لا يكون إلا مفرداً نكرة، وأيضاً فالسبط مذكر وهو قد عد مؤنثاً على أن هذه العلة لو انفردت لمنعت إذ السبط بمعنى الأمة، قال الطبري، وقال بعض الكوفيين لما كان السبط بمعنى الأمة غلب التأنيث وهو مثل قول الشاعر: [الطويل]
فإن كلاباً هذه عشر أبطن ** وأنت بريء من قبائلها العشرِ

قال القاضي أبو محمد: وأغفل هذا الكوفي جمع الأسباط، وإن ما ذهب إليه إنما كان يجوز لو كان الكلام اثنتي عشرة سبطاً والسبط في ولد إسحاق كالقبيلة في ولد إسماعيل، وقد قال الزجّاج وغيره: إن السبط من السبط وهو شجر.
قال القاضي أبو محمد: وإنما الإظهر فيه عبراني عرب.
قوله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُُونَ}
قد تقدم في سورة البقرة أمر الحجر والاستسقاء وأين كان وأمر التظليل وإنزال المن والسلوى، وذكرنا ذلك بما يغني عن إعادته هاهنا.
و{انبجست} معناه انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار، وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني {كلوا من طيبات ما رزقناكم} بتوحيد الضمير.

.تفسير الآيات (161- 163):

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}
المعنى واذكر {إذ قيل لهم}، والمراد من سلف من بني إسرائيل، وذلك أنهم لما خرجوا من التيه قيل لهم {اسكنوا هذه القرية} و{القرية} في كلام العرب المدينة مجتمع المنازل، والإشارة هنا إلى بيت المقدس، قاله الطبري، وقيل إلى أريحا، و{حيث شئتم} أي هي ونعمها لكم مباحة، وقرأ السبعة والحسن وأبو رجاء ومجاهد وغيرهم {حطةٌ} بالرفع، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {حطةً} بالنصب، الرفع على خبر ابتداء تقديره طلبنا حطة، والنصب على المصدر أي حط ذنوبنا حطةً، وهذا على ان يكلفوا قول لفظة معناها حطة، وقد قال قوم كلفوا قولاً حسناً مضمنة الإيمان وشكر الله ليكون حطة لذنوبهم، فالكلام على هذا كقولك قل خيراً.. وتوفية هذا مذكور في سورة البقرة.
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {نغفر} بالنون {لكم خطيئاتكم} بالتاء مهموز على الجمع، وقرأ أبو عمرو {نغفر} بالنون {لكم خطاياكم} نحو قضاياكم وهي قراءة الحسن والأعمش، وقرأ نافع {تُغفر} بتاء مضمومة {لكم خطيئاتُكم} بالهمز وضم التاء على الجمع، ورواها محبوب عن أبي عمرو، وقرأ ابن عامر {تُغفر} بتاء مضمومة {لكم خطيئتُكم} واحدة مهمزوة مرفوعة، قال أبو حاتم: وقرأها الأعرج وفرقة {تُغفر} بالتاء وفتحها على معنى أن الحطة تغفر إذ هي سبب الغفران، وبدل معناه غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه، وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر والإشارة بالقول إلى قول بني إسرائيل حبة في شعرة أو حنطة في شعيرة، والرجز الذي أرسل عليهم طاعون يقال مات منه في يوم سبعون ألفاً، وتقدم أيضاً استيعاب تفسير هذه الآية.
وقوله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} الآية، قال بعض المتأولين: إن اليهود المعارضين لمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا إن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبخة لهم ومقررة ما كان من فعل أهل هذه القرية، فسؤالهم إنما كان على جهة التوبيخ و{القرية} هنا مدين قاله ابن عباس، وقيل أيلة، قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير وعكرمة والسدي والثوري، وقال قتادة هي مقنا بالقاف ساكنة، وقال ابن زيد هي مقناة ساحل مدين، ويقال فيها مغنى بالغين مفتوحة ونون مشددة، وقيل هي طبرية قاله الزهري، و{حاضرة} يحتمل أن يريد معنى الحضور أي البحر فيها حاضر، ويحتمل أن يريد معنى الحضارة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في مدن البحر، و{إذ يعدون} معناه يخالفون الشرع من عدا يعدو، وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك {يعَدُّون}، قال أبو الفتح أراد يعتدون فأسكن التاء ليدغمها في الدال ونقل فتحها إلى العين فصار {يعَدُّون} بفتح العين وشد الدال المضمومة، والاعتداء منهم في السبت هو نفس العمل والاشتغال كان صيداً أو غيره إلا أنه كان في هذه النازلة بالصيد وكان الله عز وجل ابتلاهم في أمر الحوت بأن يغيب عنهم سائر الجمعة فإذا كان يوم السبت جاءهم في الماء شارعاً أي مقبلاً إليهم مصطفاً كما تقول أشرعت الرماح إذا مدت مصطفة، وهذا يمكن أن يقع من الحوت بإرسال من الله كإرسال السحاب أو بوحي وإلهام كالوحي إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقاً من الساعة»، ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة في ذلك اليوم على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة.
قال رواة هذا القصص: فيقرب الحوت ويكثر حتى يمكن أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته وقيل غابت كثرته ولم يبق منه إلا القليل الذي يتعب صيده، قاله قتادة ففتنهم ذلك وأضر بهم فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطرق.
وروى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطاً ويصنع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد مضروب، وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت وجاهزت بالنهي واعتزلت، والعامل في قوله: {ويوم لا يسبتون} قوله: {لا تأتيهم} وهو ظرف مقدم، وقرأ عمر بن عبد العزيز {حيتانهم يوم أسباتهم}، وقرأ نافع وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر والناس {يسبِتون} بكسر الباء، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف {يسبتُون} بضمها، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعاصم بخلاف {يُسبتون} من أسبت إذا دَخل في السبت، ومعنى قوله: {كذلك} الإشارة إلى أمر الحوت وفتنتهم به، هذا على من وقف على {تأتيهم} ومن وقف على {كذلك} فالإشارة إلى كثرة الحيتان شرعاً، أي فما أتى منها فهو قليل، و{نبلوهم} أي نمتحنهم لفسقهم وعصيانهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي قصص هذه الآية رواية وتطويل اختصرته واقتصرت منه على ما لا تفهم ألفاظ الآية إلا به.

.تفسير الآيات (164- 166):

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}
قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، فرقة عصت وصادت، وفرقة نهت وجاهرت وتكلمت واعتزلت، وفرقة اعتزلت ولم تعص ولم تنه، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية وطغيان العاصية وعتوها قالت للناهية {لم تعظون قوماً} يريدون العاصية {الله مهلكهم أو معذبهم} على غلبة الظن وما عهد من فعل الله حينئذ بالأمم العاصية، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله، ثم اختلف بعد هذا فقالت فرقة إن الطائفة التي لم تعص ولم تنه هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي، قاله ابن عباس، وقال أيضاً: ما أدري ما فعل بهم، وقالت فرقة بل نجت مع الناهية لأنها لم تعص ولا رضيت قاله عكرمة والحسن وغيرهما، وقال ابن الكلبي فيما أسند عنه الطبري إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين، فرقة عصت وجاهرت وفرقة نهت وغيرت واعتزلت، وقالت للعاصية إن الله يهلكهم ويعذبهم، فقالت أمة من العاصين للناهين على جهة الاستهزاء لم تعظون قوماً قد علمتم أن الله مهلكهم أو معذبهم.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أصوب، وتؤيده الضمائر في قوله: {إلى ربكم ولعلهم} فهذه المخاطبة تقتضي مخاطِباً ومخاطباً ومكنياً عنه، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي {معذرةٌ} بالرفع، أي موعظتنا، معذرة أي إقامة عذر، وقرأ عاصم في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف {معذرةً} بالنصب أي وعظنا معذرة، قال أبو علي حجتها أن سيبويه قال: لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب.
قال القاضي أبو محمد: الرجل القائل في هذا المثال معتذر عن نفسه وليس كذلك الناهون من بني إسرائيل فتأمل، ومعنى {مهلكهم} في الدنيا {أو معذبهم} في الآخرة، وقوله: {لعلهم يتقون} يقتضي الترجي المحض، لأنه من قول آدميين.
والضمير في قوله: {نسوا} للمهنيين وهو ترك سمي نسياناً مبالغة إذ أقوى منازل الترك أن ينسى المتروك. و{ما} في قوله: {ما ذكروا به} معنى الذي، ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر، و{السوء} لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا بحسب قصص الآية صيد الحوت، و{الذين ظلموا} هم العاصون، وقوله: {بعذاب بئيس} معناه مؤلم موجع شديد، وقرأ نافع وأهل المدينة أبو جعفر وشيبة وغيرهما {بَيْسٍ} بكسر الباء وسكون الياء وكسر السين وتنوينها، وهذا على أنه فعل سمي به كقوله صلى الله عليه وسلم «أنهاكم عن قيل وقال» وقرأ الحسن بن أبي الحسن {بيس} كما تقول بيس الرجل وضعّفها أبو حاتم، قال أبو عمرو: وروي عن الحسن {بئس} بهمزة بين الباء والسين، وقرأ نافع فيما يروي عنه خارجه {بَيْسٍ} بفتح الباء وسكون الياء وكسر السين منونة، وروى مالك بن دينار عن نصر بن عاصم {بَيَس} بفتح الباء والياء منونة على مثل جمل وجيل، وقرأ أبو عبد الرحمن المقري {بَئِس} بفتح الباء وهمززة مكسورة وسين منونة على وزن فعل، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات: [المديد]
ليتني ألقى رقية في ** خلوة من غير ما بئس

قال أبو عمرو الداني هي قراءة نصر بن عاصم وطلحة بن مصرف، وروي عن نصر {بِيس} بباء مكسورة من غيرهم، قال الزهراوي وروي عن الأعمش {بئِّسٍ} الباء مفتوحة والهمزة مكسورة مشددة والسين مكسورة منونة، وقرأت فرقة {بئس} كالتي قبل إلا فتح السين، ذكرها أبو عمرو الداني عما حكى يعقوب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية أبي قرة عنه وعاصم في رواية حفص عنه {بئيسٍ} بباء بعد الهمزة المكسورة والسين المنونة على وزن فعيل، وهذا وصف بالمصدر كقولهم عذير الحي والنذير والنكير، ونحو ذلك، وهي قراءة الأعرج ومجاهد وأهل الحجاز وأبي عبد الرحمن ونصر بن عاصم والأعمش وهي التي رجح أبو حاتم، ومنه قول ذي الأصبع العدواني: [مجزوء الكامل]
حنقاً عليّ ولا أرى ** لي منهما نشراً بئيسا

وقرى أهل مكة {بئيس} كالأول إلا كسر الباء على وزن فعيل قال أبو حاتم: هما لغتان، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه {بَيْئسَ} بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعَل ومعناه شديد، ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي: [الرجز]
كلاهما كان رييساً بَيْئَسا ** يضرب في يوم الهياج القونسا

فهي صفة كضيغم وحيدر، وهي قراءة الأعمش، وقرأ عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه {بَيْئِس} كالتي قبل إلا كسر الهمزة على وزن فيعِل، وهذا شاذ لأنه لا يوجد فعِل في الصحيح وإنما يوجد في المعتل مثل سيد وميت، وقال الزهراوي: روى نصر عن عاصم {بيْس} على مثال ميت وهذا على أنه من البوس لا أصل له في الهمز، قال أبو حاتم زعم عصمة أن الحسن والأعمش قرءا {بِئْيَس} الباء مكسورة والهمزة ساكنة والياء مفتوحة على مثال خِدْيَم، وضعفها أبو حاتم، وقرأ ابن عامر من السبعة {بِئْسٍ} بكسر الباء وسكون الهمزة وتنوين السين المكسورة وقرأت فرقة {بَأْس} بفتح الباء وسكون الألف، وقرأ أبو رجاء {بائِس} على وزن فاعِل، وقرأ فرقة {بَيَسَ} بفتح الباء والياء والسين على وزن فَعَلَ، وقرأ مالك بن دينار {بَأْسَ} بفتح الباء والسين وسكون الهمزة على وزن فَعْلَ غير مصروف، وقرأت فرقة {بأس} مصروفاً، وحكى أبو حاتم {بيس} قال أبو الفتح هي قراءة نصر بن عاصم، وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة {بِيِس} بكسر الباء وبهمز همزاً خفيفاً.
قال القاضي أبو محمد: ولم يبين هل الهمزة مكسورة أو ساكنة، وقوله: {بما كانوا يفسقون} أي لأجل ذلك وعقوبة عليه، والعتو الاستعصاء وقلة الطواعية، وقوله: {قلنا لهم} يحتمل أن يكون قولاً بلفظ من ملك أسمعهم ذلك فكان أذهب في الإغراب والهوان والإصغار، ويحتمل أن يكون عبارة عن المقدرة المكونة لهم قردة، و{خاسئين} خبر بعد خبر، هذا اختيار أبي الفتح، وضعف الصفة وكذلك هو، لأن القصد ليس التشبيه بقردة مبعدات.
قال القاضي أبو محمد: ويجوز أن يكون {خاسئين} حالاً من الضمير في {كونوا}، والصفة أيضاً متوجهة مع ضعفها، وروي أن الشباب منهم مسخوا قردة والرجال الكبار مسخوا خنازير، وروي أن مسخهم كان بعد المعصية في صيد الحوت بعامين وقال ابن الكلبي إن إهلاكهم كان في زمن داود، وروي أن الناهين قسموا المدينة بينهم وبين العاصين بجدار، فلما أصحبوا ليلة أهلك العاصون لم يفتح مدينة العاصين حتى ارتفع النهار فاستراب الناهون لذلك فطلع أحد الناس على السور فرآهم ممسوخين قردة تتوالب، فصاح، فدخلوا عليهم يعرف الرجل قرابته ويعرف القرد أيضاً كذلك قرابته، وينضمون إلى قرابتهم فيتحسرون، قال الزجاج: وقال قوم: يجوز أن تكون هذه القردة من نسلهم.
قال القاضي أبو محمد: وتعلق هؤلاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمة من الأمم فقدت وما أراها إلا الفأر إذا قرب لها لبن لم تشرب، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الضب، وقصص هذا الأمر أكثر من هذا لكن اختصرته واقتصرت على عيونه.