فصل: تفسير الآيات (201- 203):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (201- 203):

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
{اتقوا} هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده، وأيضاً فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة {طائف}، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {طيّف}، وقرأ سعيد بن جبير {طيْف}، واللفظة إما من طاف يطوف وإما من طاف يطوف وإما من طاف يطيف بفتح الياء، وهي ثابتة عن العرب، وأنشد أبو عبيدة في ذلك:
أنى المَّ بك الخيال بطيفُ ** ومطافه لك ذكرة وشغوف

ف {طائف} اسم فاعل كقائل من قال يقول وكبائع من باع يبيع و{طيّف} اسم فاعل أيضاً كميت من مات يموت أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين و{طيّف} يكون مخففاً أيضاً من طيف كميت من ميت، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر، وإلى هذا مال أبو علي الفارسي وجعل الطائف كالخاطر والطيف كالخطرة، قال الكسائي: الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان.
قال القاضي أبو محمد: وكيف هذا وقد قال الأعشى: [الطويل]
وتصبح عن غب السرى وكأنّما ** ألمّ بها من طائف الجن أولق

ومعنى الآية: إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي، وقوله: {تذكروا} إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها، وقرأ ابن الزبير {من الشيطان تأملوا فإذا هم}، وفي مصحف أبي بن كعب {إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الغضب جند من جند الجن»، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق؟ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض، وقوله: {مبصرون} من البصيرة أي فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه.
وقوله تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي} الآية، في هذه الضمائر احتمالات، قال الزجاج: هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: {ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون} [الأعراف: 192].
قال القاضي أبو محمد: في هذا نظر، وقال الجمهور: إن الآية مقدرة موضعها إلا أن الضمير في قوله: {وإخوانهم} عائد على الشياطين والضمير في قوله: {يمدونهم} عائد على الكفار وهم المراد بالإخوان، و{الشيطان} في الآية قبل هذه للجنس فلذلك عاد عليهم هاهنا ضمير جميع فالتقدير على هذا التأويل وإخوان للشياطين يمدونهم الشياطين في الغي، وقال قتادة إن الضميرين في الهاء والميم للكفار.
قال القاضي أبو محمد: فتجيء الآية على هذه معادلة للتي قبلها أي إن المتقين حالهم كذا وكذا وهؤلاء الكفار يمدهم إخوانهم من الشياطين ثم لا يقصرون، وقوله: {في الغي} يحتمل أن يتعلق بقوله: {يمدونهم} وعليه يترتب التأويل الذي ذكرنا أولاً عن الجمهور، ويحتمل أن يتعلق بالإخوان فعلى هذا يحتمل أن يعود الضميران جميعاً على الكفار كما ذكرناه عن قتادة ويحتمل أن يعودا جميعاً على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغي بخلاف الأخوة في الله يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق في الغي بالإمداد لأن الإنس لا يغوون الشياطين، والمراد بهذه الآية وصف حالة الكفار مع الشياطين كما وصف حالة المتقين معهم قبل، وقرأ جميع السبعة غير نافع {يمدونهم} من مددت، وقرأ نافع وحده {يُمدونهم} بضم الياء من أمددت، فقال أبو عبيدة وغيره: مد الشيء إذا كانت الزيادة من جنسه وأمده شيء آخر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير مطرد، وقال الجمهور هما بمعنى واحد إلا أن المستعمل في المحبوب أمد فمنه قوله تعالى: {إنما نمدهم به من مال وبنين} [المؤمنون: 55] وقوله: {وأمددناهم بفاكهة} [الطور: 22] وقوله: {أتمدونني بمال} [النمل: 36] والمستعمل في المكروه مد فمنه قوله تعالى: {ويمدهم في طغيانهم} [البقرة: 15] ومد الشيطان للكفرة في الغي هو التزيين لهم والإغواء المتتابع: فمن قرأ في هذه الآية {يمُدونهم} بضم الميم فهو على المنهاج المستعمل، ومن قرأ {يمدونهم} فهو مقيد بقوله في الغي كما يجوز أن تقيد البشارة فتقول بشرته بشر، وقرأ الجحدري {يمادّونهم}، وقوله: {ثم لا يقصرون} عائد على الجمع أي هؤلاء لا يقصرون في الطاعة للشياطين والكفر بالله عز وجل، وقرأ جمهور الناس {يُقصرون} من أقصر، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر {يَقصرون} من قصر.
وقوله: {وإذا لم تأتهم بآية} سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، فكان الكفار يقولون هلا اجتبيتها، ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد وغيرهم: المراد بهذه اللفظة هلا اخترتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك، والمعنى إذ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تزعمه، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك: المراد هلا تلقيتها من الله وتخيرتها عليه، إذ تزعم أنك نبي وأن منزلتك عنده منزلة الرسالة، فأمره الله عز وجل أن يجيب بالتسليم لله تعالى وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء لا معقب لحكمه في ذلك فقال {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} ثم أشار بقوله هذا إلى القرآن، ثم وصفه بأنه {بصائر} أي علامات هدى وأنوار تضيء القلوب، وقالت فرقة: المعنى ذو بصائر، ويصح الكلام دون أن يقدر حذف مضاف لأن المشار إليه بهذا إنما هو سور وآيات وحكم، وجازت الإشارة إليه بهذا من حيث اسمه مذكر، وجاز وصفه ب {بصائر} من حيث هو سور وآيات، {وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} أي لهؤلاء خاصة، قال الطبري: وأما من لا يؤمن فهو عليه عمى عقوبة من الله تعالى.

.تفسير الآيات (204- 206):

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}
ذكر الطبري وغيره أن سبب هذه الآية هو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم ويصيحون عند آيات الرحمة والعذاب ويقول أحدهم إذا أتاهم صليتم؟ وكم بقي؟ فيخبرونه ونحو هذا، فنزلت الآية أمراً لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة، وأما قول من قال إنها في الخطبة فضعيف، لأن الآية مكية، والخطبة لم تكن إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكذلك ما ذكر الزهراوي أنها نزلت بسبب فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، فأما الاستماع والانصات عن الكلام في الصلاة فإجماع، وأما الإمساك والإنصات عن القراءة فقالت فرقة: يمسك المأموم عن القراءة جملة قرأ الإمام جهراً أو سراً، وقالت فرقة: يقرأ المأموم إذا أسر الإمام ويمسك إذا جهر، وقالت فرقة: يسمك المأموم في جهر الإمام عن قراءة السورة ويقرأ فاتحة الكتاب.
قال القاضي أبو محمد: ومع هذا القول أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية واجبة الحكم في الصلاة أن ينصت عن الحديث وما عدا القراءة واجبة الحكم أيضاً في الخطبة من السنة لا من هذه الآية، ويجب من الآية الإنصات إذا قرأ الخطيب القرآن أثناء الخطبة وحكم هذه الآية في غير الصلاة على الندب أعني في نفس الإنصات والاستماع إذا سمع الإنسان قراءة كتاب الله عز وجل، وأما ما تتضمنه الألفاظ وتعطيه من توقير القرآن وتعظيمه فواجب في كل حالة، والإنصات السكوت، و{لعلكم} على ترجي البشر.
قال القاضي أبو محمد: ولم نستوعب اختلاف العلماء في القراءة خلف الإمام، إذ ألفاظ الآية لا تعرض لذلك، لكن لما عن ذلك في ذكر السبب ذكرنا منه نبذة، وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله عز وجل {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول جمع فيه ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات، قال الزجّاج: ويجوز أن يكون {فاستمعوا له وأنصتوا} اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.
وقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك} الآية، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وهو أمر من الله عز وجل بذكره وتسبيحه وتقديسه والثناء عليه بمحامده، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله: {ودون الجهر من القول} فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ، و{تضرعاً} معناه تذللاً وخضوعاً، {خيفة} أصلها خوفة بدلت الواو ياء لأجل الكسرة التي تقدمتها، وقوله: {بالغدو والآصال} معناه دأباً وفي كل يوم وفي أطراف النهار، وقالت فرقة هذه الآية كانت في صلاة المسلمين قبل فرض الصلوات الخمس، وقال قتادة: الغدو صلاة الصبح و{الآصال} صلاة العصر و{الآصال} جمع أصل والأصل جميع أصيل وهو العشيّ وقيل {الآصال} جمع أصيل دون توسط كإيمانٍ جمع يمين وآصال أيضاً جمع أصاييل فهو جمع جمع الجمع، وقرأ أبو مجلز والإيصال مصدر كالإصباح والإمساء، ومعناه إذا دخلت في الأصيل وفي الطبري قال أبو وائل لغلامه هل أصلنا بعد؟ {ولا تكن من الغافلين} تنبيه، ولما قال الله عز وجل {ولا تكن من الغافلين} جعل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائكة ليبعث على الجد في طاعة الله عز وجل، وقوله: {الذين} يريد الملائكة، وقوله: {عند} إنما يريد في المنزلة والتشريف والقرب في المكانة لا في المكان، فهم بذلك عنده، ثم وصف تعالى حالهم من تواضعهم وإدمانهم للعبادة والتسبيح والسجود، وفي الحديث: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد» وهذا موضع سجدة، قال النخعي في كتاب النقاش: إن شئت ركعت وإن شئت سجدت.

.سورة الأنفال:

.تفسير الآية رقم (1):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)}
النفل والنفل والنافلة في كلام العرب الزيادة على الواجب، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل، ومه قول لبيد: [الرمل]
إنَّ تَقْوى ربِّنا خَيْرُ نَفَلْ

أي خير غنيمة، وقول عنترة:
إنَّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا ** ونعفُّ عند مقاسم الأنفالِ

والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسؤول، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال فهو من الضرب الأول، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء {يسألونك الأنفال}، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى من، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب {الأنفال} في هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا.
وقال ابن عباس في كتاب الطبري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال: من قتل قتيلاً أو أسر أسيراً فله كذا وله كذا، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها، وقالت نحن أولى بالمغنم، وساءت أخلاقهم في ذلك، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا، فقسمه حيئنذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السواء، وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام عن بواء.
قال القاضي أبو محمد: يريد عن سواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين، مما جرى أيضاً يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه، فقال: ليس هذا لي ولا لك، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال فما جاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال، فقال: اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فهو لك.
قال القاضي أبو محمد: وفي بعض طرق هذا الحديث، قال سعد: فقلت لما قال لي ضعه في القبض أني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي، قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلفي، قال فقلت أخاف أن يكون نزلت فيّ شيء، فقال: إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت {يسألونك عن الأنفال} وأسند الطبري أيضاً عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان يسمى المزربان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به، فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة، لاسيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية، فرضي المسلمون وسلموا، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليه غنائمهم، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد: كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب، ثم نسخ بقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال: 41] وقال ابن زيد: لم يقع في الآية نسخ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول.
قال القاضي أبو محمد: وقال ابن عباس أيضاً {الأنفال} في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه، وهذا أيضاً يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر. وقال علي بن صالح بن جني والحسن فيما حكى المهدوي: {الأنفال} في الآية ما تجيء به السرايا خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة، بل يجيء خارجاً عن يوم بدر، وقال مجاهد: {الأنفال} في الآية الخمس، قال المهاجرون: لم يخرج منا هذا الخمس، فقال الله تعالى هو لله وللرسول، وهذا أيضاً قول قليل التناسب مع الآية، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً: {الأنفال} في الآية ماشد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس والغاير والعبد الآبق هو للنبي صلى الله عليه سولم يصنع فيه ما شاء، وقال ابن عباس أيضاً: {الأنفال} في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال: {الأنفال} الأسارى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئاً من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب من الاختلاف، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الجمهور: النفل باق إلى يوم القيامة، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة: إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده، وقالت فرقة: إنما ينفل الإمام قبل القتال، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا، وقال الشافعي وابن حنبل: لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس، وقال إبراهيم النخعي: ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي: لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس: وقال ابن المسيب: إنما ينفل الإمام من خمس الخمس، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا، ولا أحب لأحد أن يسفك دماً على مثل هذا، قال سحنون: فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة.
وقال مالك رحمه الله: لا يجوز أن يقول الإمام لسرية: ما أخذتم فلكم ثلثه، قال سحنون: يريد ابتداء، فإن نزل مضى ولهم انصباؤهم في الباقي، وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية: ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى، ويستحب على مذهب مالك إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهباً أو فضة أو لؤلؤاً أو نحو هذا، وقال بعضهم: النفل جائز من كل شيء، وأما السلب فقال مالك رحمه الله: الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره: وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر: السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر: السلب حق للقاتل بحكم النبي صيلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر: قاله الإمام أو لم يقله وقال مالك: إذ قال الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه فذلك لازم، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد، وقال الشافعي وابن حنبل: تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة، وقال إسحاق بن راهويه: إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل وإن كان كثيراً خمس، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفاً، فخمس ذلك، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود، وقال مكحول: السلب مغنم وفيه الخمس، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: يريد يخمس على القاتل وحده وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم: ويجزئ شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه.
قال القاصي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال الشافعي: لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلاً مشيحاً مبارزاً، وأما من قتل منهزماً فلا، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف: للقاتل السلب منهزماً كان القتيل أو غير منهزم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه، وقال ابن حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط، واختلفوا في السلب، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافاً أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه، وقال أحمد بن حنبل في الفرس: ليس من السلب، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دناينر أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافاً أنه ليس من السلب واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب، وقالت: فرقة: ليس من السلب، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب، قال ابن حبيب في الواضحة: والسوارين من السلب، ويرجح الشافعي هل هذه كلها من السلب أو لا؟
قال القاضي أبو محمد: وإذا قال الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل ذمي قتيلاً فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ أهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلاً فله سلبه.
قال القاضي أبو محمد: وأما الصفي فكان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل: {فاتقوا الله} معناها في الكلام، اجعل بينك وبين المحذور وقاية، وقوله: {وأصلحوا ذات بينكم} تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح، و{ذات} في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته، والذي يفهم من {بينكم} هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه، وذلك في قوله: {عليم بذات الصدور} [الأنفال: 43] و{ذات الشوكة} [الأنفال: 7] فإنها هاهنا مؤنثة قولهم: الذئب مغبوط بذي بطنه، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه، وقد تقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ** ذات العشاء ولا تسري أفاعيها

وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال: {ذات بينكم} الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء.
قال القاضي أبو محمد: ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض، وقال الزجاج البين هاهنا الوصل، ومثله قوله عز وجل: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94].
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا كله نظر، وقوله: {وأطيعوا الله ورسوله} لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم، وقوله: {إن كنتم مؤمنين} أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم {وأطيعوا} هذا عند سيبويه، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط.