فصل: تفسير الآيات (27- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 30):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}
هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها، قال الزهراوي: والمعنى لا تخونوا بغلول الغنائم، وقال الزهراوي وعبد الله بن أبي قتادة: سبب نزولها أمر أبي حبابة، وذلك أنه أشار لبني قريظة حين سفر إليهم إلى حلقة يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح، أي فلا تنزلوا، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه، الحديث المشهور، وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئاً حتى تيب عليه، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}، وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله: سببها أن رجلاً من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فقوله: {يا أيها الذين آمنوا} معناه أظهروا الإيمان، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقاً أن لا يفعلوا فعل ذلك المنافق، وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال: أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: يشبه أن تمثل بالآية في قتل عثمان رحمه الله، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات، والخيانة التنقص للشيء باختفاء وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما، مالاً كان أو سرّاً أو غير ذلك، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر وخيانة الرسول تنقص فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير، وقيل المعنى وتخونوا ذوي أماناتكم، وأظن الفارسي أبا علي حكاه، {وأنتم تعلمون}، يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد، وقوله: {فتنة} يريد محنة واختباراً وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك، وقوله: {وأن الله عنده أجر عظيم} يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدراً من مكاسب الدنيا.
وقوله تعالى: {وتخونوا} قال الطبري: يحتمل أن يكون داخلاً في النهي كأنه قال: لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم، قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ

وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضاً {وتخونوا أمانتكم} على إفراد الأمانة، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله} الآية، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له، و{ويجعل لكم فرقاناً} معناه فرقاً بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم، والفرقان مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما، ومنه قوله: {يوم الفرقان} [الأنفال: 41] وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان هاهنا بالنجاة، وقال السدي ومجاهد معناه مخرجاً ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار: [الخفيف]
بادر الأفقُ أنْ يَغيبَ فلمّا ** أَظْلَمَ اللّيلُ لمْ يجدْ فُرْقَانا

وقال الآخر: [الرجز]
ما لك من طولِ الأسَى فُرقانُ ** بعد قطينٍ رحلوا وبانوا

وقال الآخر: [الطويل]
وكيف أرجّي الخلدَ والموتُ طالبي ** وماليَ من كأسِ المنيَّةِ فرقان

وقوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية، يشبه أن يكون قوله: {وإذ} معطوفاً على قوله: {إذ أنتم قليل} [الأنفال: 26] وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله ورسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم، الحديث المشهور، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية، والمكر المخاتلة والتداهي، تقول: فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلاً وتستراً بما يريد، ويقال أصل المكر الفتل، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم: ممكورة، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديماً من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكراً وما استسروا به هو المكر، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك، قال: يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟ قال: ربي، قال: إن ربك لرب صدق فاستوص به خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو يا عم يستوصي بي خيراً.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قوياً جلداً فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفاً ويأتون محمداً في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى، هذا الرأي لا أرى غيره، فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيصورون به، فلما قام رأوا علياً فقالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدري.
وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم تراباً ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون، قالوا محمداً، قال إني رأيته الآن جائياً من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا علياً فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار، ومعنى {ليثبتوك} ليسجنوك فتثبت، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ليوثقوك، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك.
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني {ليثبّتوك} وهذه أيضاً بالتضعيف، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ {ليبيتوك} من البيات، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة، وقال أبو حاتم معنى {ليثبتوك} أي بالجراحة، كما يقال أثبتته الجراحة، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحداً، وقوله تعالى: {ويمكر الله} معناه يفعل أفعالاً منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب، وقوله: {خير الماكرين} أي أقدرهم وأعزهم جانباً.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو من واحد.

.تفسير الآيات (31- 32):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)}
الضمير في {عليهم} عائد على الكفار، و{الآيات} هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله: {تتلى}، و{قد سمعنا} يريد وقد سمعنا هذا المتلو {لو نشاء لقلنا} مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم، أي قصصهم المكتوبة المسطورة، و{أساطير} جمع اسطورة، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري، لأنه كان يجيء أساطر دون ياء، هذا هو قانون الباب، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صيارف، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيه آيات من كتاب الله، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل وكان أسره المقداد، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد: هذا الذي أردت، فضرب عنق النضر، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبراً ثلاثة نفر، المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وهم عظيم في خبر المطعم، فقد كان مات قبل يوم بدر، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» يعني أسرى بدر، وقوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره، وفيه نزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم، لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكوناً إلى قوله، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة، وعميت بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل، ويجوز في العربية رفع {الحق} على أنه خبر {هو} والجملة خبر {كان}، قال الزّجاج: ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب {الحقَّ} على أن يكون خبر كان ويكون هو فصلاً، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بان الذي بعده خبر ليس بصفة. و{أمطر} إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة.
قال القاضي أبو محمد: ويعارض هذه قوله: {هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24] لأنهم ظنوها سحابة رحمة، وقولهم {من السماء} مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّة ويمنه.

.تفسير الآيات (33- 34):

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}
قالت فرقة: نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى، وقال ابن أبزى: نزل قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} بمكة إثر قولهم {أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] ونزل قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله: {وما لهم} إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم، قال: أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول {ما كان ليعذبهم} بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن، واختلفوا في معنى قوله: {وما كان الله معذبهم وهم مستغفرون} فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله: {معذبهم} يعود على كفار مكة والضمير في قوله: {وهم} عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد: ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه: أن يقال الضميران عائدان على الكفار، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك، ويقولون لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين، كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة، وقال قتادة: الضمير للكفار، وقوله: {وهم يستغفرون}، جملة في موضع الحال أن لو كانت، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهو بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله: {وما لهم ألا يعذبهم الله} وقال الزجّاج ما معناه، إن الضمير في قوله: {وهم} عائد على الكفار.
والمراد به سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر، فالمعنى: وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وحكاه الطبري عن ابن عباس.
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي: المراد بقوله: {وهم يستغفرون} ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين، فالمعنى: وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون، فنسب الاستغفار إليهم، إذ ذريتهم منهم، وذكره مكي ولم ينسبه، وفي الطبري عن فرقة أن معنى {يستغفرون} يصلون، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة، وقوله عز وجل: {وما لهم ألا يعذبهم الله} توعد بعذاب الدنيا، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون أن في موضع نصب، وقال الطبري: تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا، والظاهر في قوله: {وما} أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسيؤال، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة، ويصح أن تكون {ما} نافية ويكون القول إخباراً، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون، وقوله: {وهم يصدون} على التأويلين جملة في موضع الحال، و{يصدون} في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم، فهو متعدٍّ كما قال الشاعر: [الوافر]
صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو

وقد تجيء صد عير متعدٍّ كما أنشد أبو علي: [البسيط]
صدت خليدة عنّا ما تكلّمُنا

والضمير في قوله: {أولياؤه} عائد على الله عز وجل من قوله: {يعذبهم الله}، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، روي الأخير عن الحسن، والضمير الآخر تابع للأول وقوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه، وقوله: {أكثرهم} ونحن نجد كلهم بهذه الصفة، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه حكى سيبويه من قولهم: قل من يقول ذلك، وهم يريدون لا يقوله أحد.
وإما أن يقول: إنه أراد بقوله: {أكثرهم} أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوماً قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله: {أكثرهم} وكذلك كانت حال مكة وأهلها، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن: إن قوله: {وما لهم ألا يعذبهم الله}، ناسخ لقوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ.