فصل: تفسير الآيات (89- 91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (89- 91):

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
الكتاب القرآن، و{مصدق لما معهم} يعني التوراة، وروي أن في مصحف أبي بن كعب {مصدقاً} بالنصب.
و{يستفتحون} معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم: لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به و{يستفتحون} معناه يستنصرون، وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عيله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين»، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم، وان كفرهم كان مع معرفة ومعاندة، ولعنة الله: معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك.
واختلفت النحاة في جواب {لما} و{لِما} الثانية في هذه الآية. فقال أبو العباس المبرد: جوابهما في قولَه: {كَفروا}، وأعيدت {لما} الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريراً للذنب، وتأكيداً له، وقال الزجاج: {لما} الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه؟
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأنه محذوف، وقال الفراء: جواب {لما} الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب {لما} الثانية {كفروا}.
وبيس أصله بئس سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال في بئس بيس اتباعاً للكسرة، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح، واختلف النحويون في {بيسما} في هذا الموضع، فمذهب سيبويه أن ما فاعلة ببيس، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها ما في الإبهام، فالتقدير على هذا القول: بيس الذي {اشتروا به أنفسهم أن يكفروا}، كقولك: بيس الرجل زيد، وما في هذا القول موصولة، وقال الأخفش: ما في موضع نصب على التمييز كقولك بيس رجلاً زيد، فالتقدير بيس شيئاً أن يكفروا، و{اشتروا به أنفسهم} في هذا القول صفة ما، وقال الفراء بيسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، وما إنما تكف أبداً حروفاً، وقال الكسائي: ما، و{اشتروا} بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا، وهذا أيضاً معترض لأن بيس لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير، وقال الكسائي أيضاً: إن ما في موضع نصب على التفسير وثم ما أخرى مضمرة، فالتقدير بيس شيئاً ما اشتروا به أنفسهم، و{أن يكفروا} في هذا القول بدل من ما المضمرة، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون {أن يكفروا} في موضع خفض بدلاً من الضمير في {به}، وأما في القولين الأولين ف {أن} {يكفروا} ابتداء وخبره فيما قبله، و{اشتروا} بمعنى باعوا، يقال: شرى واشترى بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، و{بما أنزل الله} يعني به القرآن، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل، و{بغياً} مفعول من أجله، وقيل نصب على المصدر، و{أن ينزل} نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {أن ينزل} بالتخفيف في النون والزاي، و{من فضله} يعني من النبوة والرسالة. و{من يشاء} يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب. ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغياً، والله قد تفضل عليه، و{باؤوا} معناه: مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به، و{يغضب} معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل لعبادتهم العجل، وقيل لقولهم عزير ابن الله، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها.
وقال قوم: المراد بقوله: {بغضب على غضب} التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين، و{مهين} مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له.
وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم} يعني: اليهود أنهم إذ قيل لهم: آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعنون التوراة وما وراءه. قال قتادة: أي ما بعده، وقال الفراء، أي ما سواه ويعني به القرآن، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلاً فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء، أي ليس يأتي بعده. ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق، و{مصدقاً} حال مؤكدة عند سيبويه، وهي غير منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة: [البسيط]
أنا ابن دارة معروفاً بها حسبي ** وهل لدارة يا للنّاس من عار

و{لما معهم} يريد به التوراة.
وقوله تعالى: {قل فلم تقتلون} الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم. ولا يجوز الوقف على {فلم} لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم. وخاطب الله من حضر محمداً صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم. وجاء {تقتلون} بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله: {من قبل} وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة [الكامل أخذ مضمر].
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ** أن الوليد أحق بالعذر

وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع. وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، و{إن كنتم} شرط والجواب متقدم، وقالت فرقة: {إن} نافية بمعنى ما.

.تفسير الآيات (92- 95):

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
البينات التوراة والعصا وفرق البحر وغير ذلك من آيات موسى عليه السلام وقوله تعالى: {ثم اتخذتم} تدل ثم على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في دينهم، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل، والضمير في قوله: {من بعده} عائد على موسى عليه السلام، أي من بعده حين غاب عنكم في المناجاة، ويحتمل أن يعود الضمير في {بعده} على المجيء. وهذه الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور.
وقوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} يعني التوراة والشرع، و{بقوة} أي بعزم ونشاط وجد. {واسمعوا} معناه هنا: وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط.
وقالت طائفة من المفسرين: إنهم قالوا {سمعنا وعصينا}. ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية. وقالت طائفة: ذلك مجاز ولم ينطقوا ب {سمعنا وعصينا}، ولكن فعلهم اقتضاه، كما قال الشاعر [الرجز]:
امتلأ الحوض وقال قطني

وهذا أيضاً احتجاج عليهم في كذب قولهم {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91]، وقوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} التقدير حب العجل، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وقال قوم: إن معنى قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل} شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء، وقيل لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرده قوله تعالى: {في قلوبهم}، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن، وقوله تعالى {بكفرهم} يحتمل أن تكون باء السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى مع، وقوله تعالى: {قل بِئسما} الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91]، وما في موضع رفع والتقدير: بئس الشيء قتل واتخاذ عجل وقول {سمعنا وعصينا}، يجوز أن تكون ما في موضع نصب، و{إن كنتم مؤمنين} شرط. وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {إن كنت قلته فقد علمته} [المائدة: 116]، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك {إن كنتم مؤمنين}، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه إقامة حجة بقياس بيّن، وقال قوم {إن} هنا نافية بمنزلة ما كالتي تقدمت، وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: {يأمركم بهو إيمانكم} برفع الهاء.
وقوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، والمعنى: إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها {فتمنوا الموت}، {الدار} اسم {كانت}، و{خالصة} خبرها، ويجوز أن يكون نصب {خالصة} على الحال، و{عند الله} خبر كان، و{من دون الناس}: يحتمل أن يراد ب {الناس} محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم التام وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من {تمنوا} للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ {تمنوا الموت} بفتح الواو، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع، وقراءة الجماعة بضم الواو. وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قالت: نحن أبناء الله وأحباؤه، وشبه ذلك من القول، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه، فرقاً من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكذبهم في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وحرصاً منهم على الحياة.
وقيل إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم. والمراد بقوله: {تمنوا} أريدوه بقلوبكم واسألوه، هذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن عباس: المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب، وقال أيضاً هو وغيره: إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم، وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت بموته. والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة، وقالت فرقة: إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد به هلاك الفريق المكذب أو قطع حجتهم، لا أن علته قولهم نحن أبناء الله.
ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه، و{أبداً} ظرف زمان وإذا كانت ما بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره قدمته، وإذا كانت مع قدمت بمثابة المصدر غنيت عن الضمير، هذا قول سيبويه، والأخفش يرى الضمير في المصدرية، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.
وقوله تعالى: {والله عليم بالظالمين} ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.

.تفسير الآيات (96- 99):

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
وجد في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس، ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر:
تَلَفَّتُّ نحو الحيِّ حتَّى وجدتُني ** وَجِعْتُ من الإصغاءِ لِيتاً وأخدعا

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الضب: «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا خير لهم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: {ومن الذين أشركوا} قيل المعنى وأحرص من الذين أشركوا، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، ألا ترى إلى قول امرئ القيس [الطويل]:
تمتّعْ من الدنيا فإنك فان

والضمير في {أحدهم} يعود في هذا القول على اليهود، وقيل إن الكلام تم في قوله: {حياة}، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين أنهم {يود أحدهم} وهي المجوس، لأن تشميتهم للعاطس لفظ بلغتهم معناه عِشْ ألف سنة فكأن الكلام: ومن المشركين قوم {يود أحدهم}، وفي هذا القول تشبيه بني إسرئيل بهذه الفرقة من المشركين، وقصد الألف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب.
وقوله تعالى: {وما هو بمزحزحه}: اختلف النحاة في {هو}، فقيل هو ضمير الأحد المتقدم الذكر، فالتقدير وما أحدهم بمزحزحه وخبر الابتداء في المجرور، و{أن يعمر} فاعل بمزحزح، وقالت فرقة هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه والخبر في المجرور، {أن يعمر} بدل من التعمير في هذا القول، وقالت فرقة {هو} ضمير الأمر والشأن، وقد رد هذا القول بما حفظ عن النحاة من أن الأمر والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر، وقد جوز أبو علي ذلك في بعض مسائله الحلبيات، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد، وقيل {ما} عاملة حجازية و{هو} اسمها والخبر في {بمزحزحه}، والزحزحة الإبعاد والتنحية.
وفي قوله: {والله بصير بما يعملون} وعيد، والجمهور على قراءة {يعملون} بالياء من أسفل، وقرأ قتادة والأعرج ويعقوب تعملون بالتاء من فوق، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين من بني إسرائيل.
وقوله تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل} الآية: نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من الآيات، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت: جبريل عدونا، واختلف في كيفية ذلك، فقيل إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، فقال: لحوم الإبل وألبانها، وسألوه عن الشبه في الولد، فقال: أي ماء علا كان الشبه له، وسألوه عن نومه، فقال: تنام عيني ولا ينام قلبي، وسألوه عمن يجيئه من الملائكة، فقال: جبريل، فلما ذكره قالوا ذاك عدونا، لأنه ملك الحرب والشدائد والجدب، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة والخصب والأمطار لاتبعناك، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتكرر على بيت المدارس فاستحلفتهم يوماً بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمداً نبي؟ قالوا نعم، قال: فلم تهلكون في تكذبيه، قالوا: صاحبه جبريل وهو عدونا، وذكر أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل أن يملك من يقتله، فنزلت هذه الآية لقولهم.
وفي جبريل لغات: {جِبرِيل} بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، و{جَبرِيل} بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكال فلا أزال أقرؤهما أبداً كذلك، وجَبرَيل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها قرأ عاصم، وجَبرَءيل بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء بين الهمزة واللام، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن عاصم، وجبرائل بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة، وجبرائيل بزيادة ياء بعد الهمزة، وجبراييل بياءين وبها قرأ الأعمش، وجَبرَئلّ بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة، وبها قرأ يحيى بن يعمر، وجبرال لغة فيه، وجِبرِين بكسر الجيم والراء وياء ونون، قال الطبري: هي لغة بني أسد ولم يقرأ بها، وجبريل اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات، فبعضها هي موجودة في أبنية العرب، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي هو كقنديل، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجر ونحوه.
وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن جبر وميك وسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك، وإيل اسم الله تعالى، ويقال فيه إلّ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إلّ.
وقوله تعالى: {فإنه نزّله على قلبك} الضمير في {فإنه} عائد على الله عز وجل، والضمير في {نزّله} عائد على جبريل صلى الله عليه وسلم، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي، وقيل: الضمير في إنه عائد على جبريل وفي {نزله} على القرآن، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف، وجاءت المخاطبة بالكاف في {قلبك} اتساعاً في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكاف، وإنما يجيء قوله: فأنه نزله على قلبي، لكن حسن هذا إذ يحسن في الكلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له، كما تقول لرجل: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هي الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق [الطويل]
ألم تَرَ أنّي يوم جو سويقة ** بكيت فنادتْني هنيدةُ ما ليا

فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة ما لك، و{بإذن الله} معناه: بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، و{مصدقاً} حال من ضمير القرآن في {نزله} و{ما بين يديه}: ما تقدمه من كتب الله تعالى، {هدى} إرشاد، والبشرى: أكثر استعمالها في الخير، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به، ومقصد هذه الآية: تشريف جبريل صلى الله عليه وسلم وذم معاديه.
وقوله تعالى: {من كان عدواً لله} الآية وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ومعاداة أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه، وذكر جبريل وميكائيل وقد كان ذكر الملائكة عمهما تشريفاً لهما، وقيل خصا لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، وقرأ نافع ميكائل بهمزة دون ياء، وقرأ بها ابن كثير في بعض ما روي عنه، وقرأ ابن عامر وابن كثير أيضاً وحمزة والكسائي، ميكائيل بياء بعد الهمزة، وقرأ أبو عمرو وعاصم ميكال، ورويت عن ابن كثير منذ رآها في النوم كما ذكرنا، وقرأ ابن محيصن ميكئل بهمزة دون ألف، وقرأ الأعمش ميكاييل بياءين، وظهر الاسم في قوله: {فإن الله} لئلا يشكل عود الضمير، وجاءت العبارة بعموم الكافرين لأن عود الضمير على من يشكل سواء أفردته أو جمعته، ولو لم نبال بالاشكال وقلنا المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم، ويحتمل أن الله تعالى قد علم أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن تطلق عليه عداوة الله للمآل.
وروي أن رجلاً من اليهود لقي عمر بن الخطاب فقال له: أرأيت جبريل الذي يزعم صاحبك أنه يجيئه ذلك عدونا، فقال له عمر رضي الله عنه: {من كان عدواً لله} إلى آخر الآية، فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله وهذا الخبر يضعف من جهة معناه.
وقوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات}، ذكر الطبري أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئت بآية بينة؟ فنزلت هذه الآية. و{الفاسقون} هنا الخارجون عن الإيمان، فهو فسق الكفر، والتقدير: {ما يكفر بها} أحد {إلا الفاسقون}، لأن الإيجاب لا يأتي إلا بعد تمام جملة النفي.