فصل: تفسير الآيات (72- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (72- 73):

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}
المعنى فإن لم تقبلوا على دعوتي وكفرتم بها وتوليتم عنها، والتولي أصله في البدن ويستعمل في الإعراض عن المعاني، يقول: فأنا لم أسألكم أجراً على ذلك ولا مالاً، فيقع منكم قطع بي وتقصير بإرادتي، وإنما أجري على الذي بعثني، وقرأ نافع وأبو عمرو بخلاف عنه: أجري بسكون الياء، وقرأ {أجريَ} بفتح الياء الأعرج وطلحة بن مصرف وعيسى وأبو عمرو،، وقال أبو حاتم: هما لغتان، والقراءة بالإسكان في كل القرآن، ثم أخبرهم بأن الله أمره بالإسلام والدين الحنيفي الذي هو توحيد الله والعمل بطاعته والإعداد للقائه، وقوله: {فكذبوه} الآية، إخبار من الله عز وجل عن حال قوم نوح المكذبين له، وفي ضمن ذلك الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم وضرب المثال لهم، أي أنتم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكونون بحالهم من النقمة والتعذيب، و{الفلك}: السفينة، والمفسرون وأهل الآثار مجمعون على أن سفينة نوح كانت واحدة، و{الفلك} لفظ الواحد منه ولفظ الجمع مستو وليس به وقد مضى شرح هذا في الأعراف، و{خلائف} جمع خليفة، وقوله: {فانظر} مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم يشاركه في معناها جميع الخلق، وفي هذه الآية أنه أغرق جميع أهل الأرض كما قال بعض الناس لاستوى: نوح ومحمد صلى الله عليه وسلم في البعث إلى أهل الأرض، ويرد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي» الحديث. ويترجح بهذا النظر أن بعثة نوح والغرق إنما كان في أهل صقع لا في أهل جميع الأرض.

.تفسير الآيات (74- 75):

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)}
الضمير في قوله: {من بعده} عائد على نوح عليه السلام والضمير في {قومهم} عائد على الرسل، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم، و{البينات} المعجزات والبراهين الواضحة، والضمير في قوله: {كانوا} وفي {ليؤمنوا} عائد على قوم الرسل، والضمير في {كانوا} عائد على قوم نوح، وهذا قول بعض المتأولين، وقال بعضهم: بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم، وقال يحيى بن سلام {من قبل} معناه من قبل العذاب.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول بعد، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون ما مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جراه، ويؤيد هذا التأوليل قوله: {كذلك نطبع}، وقال بعض العلماء: عقوبة التكذيب الطبع على القلوب، وقرأ جمهور الناس: {نطبع} بالنون، وقرأ العباس بن الفضل: {يطبع} بالياء، وقوله: {كذلك} أي هذا فعلنا بهؤلاء، ثم ابتدأ {كذلك نطبع} أي كفعلنا هذا و{المعتدين} هم الذين تجاوزوا طورهم واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي هاهنا في الكفر، والضمير في {بعدهم} على الرسل، والضمير في {ملئه} عائد على {فرعون}، والملأ: الجماعة من قبيلة وأهل مدينة، ثم يقال للأشراف والأعيان من القبيلة أو البلد ملأ، أي هم يقومون مقام الملأ، وعلى هذا الحد هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش بدر: «أولئك الملأ» وكذلك هي في قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك} [القصص: 20]. وأما في هذه الآية فهي عامة لأن بعثة موسى وهارون كانت إلى فرعون وجميع قومه من شريف ومشروف وقد مضى في {المص} [الأعراف: 1]، ذكر ما بعث إليهم فيه، والآيات البراهين والمعجزات وما في معناها، وقوله: {فاستكبروا} أي تعظموا وكفروا بها، و{مجرمين} معناه يرتكبون ما لم يبح الله ويجسرون من ذلك على الخطر الصعب.

.تفسير الآيات (76- 78):

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}
يريد ب {الحق} آيتي العصا واليد، ويدل على ذلك قولهم عندهما: هذا سحر ولم يقولوا ذلك إلا عندهما ولا تعاطوا إلا مقاومة العصا فهي معجزة موسى عليه السلام التي وقع فيها عجز المعارض، وقرأ جمهور الناس: {لسحر مبين} وقرأ سعيد بن جبير والأعمش: {لساحر مبين}، ثم حكي عن موسى أنه وقفهم ووبخهم بقوله: {أتقولون للحق لما جاءكم} ثم اختلف المتأولون في قوله: {أسحر هذا} فقالت فرقة: هو حكاية من موسى عنهم على معنى أن قولهم كان {أسحر هذا} ثم اختلف في معنى قول قوم فرعون: {أسحر هذا} فقال بعضهم: قالها منهم كل مستفهم جاهل بالأمر فهو يسأل عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يضعفه ما ذكر الله قبل عنهم من أنهم صمموا على أنه سحر بقولهم: {إن هذا لسحر مبين} وقال بعضهم بل قالوا ذلك على معنى التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم كما تقول لفرس تراه يجيد الجري: أفرس هذا؟ على معنى التعجب منه والاستغراب وأنت قد علمت أنه فرس، وقالت فرقة غير هاتين: ليس ذلك حكاية من موسى عنهم بل القول الذي حكاه عنهم مقدر تقديره أتقولون للحق لما جاءكم سحر.
قال القاضي أبو محمد: أو نحو هذا من التقدير، ثم ابتدأ يوقفهم بقوله: {أسحر هذا} على جهة التوبيخ، ثم أخبرهم عن الله تعالى أن الساحرين لا يفلحون ولا يظفرون ببغية، ومثل هذا التقدير المحذوف على هذا التأويل موجود في كلام العرب، ومنه قول ذي الرمة:
فلما لبسن الليل أو حين نصّبت ** له من خذا آذانها وهو جانح

يريد أو حين قاربن ذلك، ومنه قول الله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} [الإسراء: 7] المعنى بعثناهم ليسوءوا، ومثل هذا كثير شائع، وقوله تعالى: {قالوا أجئتنا} الآية، المعنى قال قوم فرعون لموسى: أجئتنا لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا، ويقال لفت الرجل عن الآخر إذا لواه، ومنه قولهم: التفت فإنه افتعل من لفت عنقه، ومنه قول رؤبة: [الرجز]
لفتاً وتهزيعاً سواء اللفت

وقرأ السبعة سوى أبي عمرو فإنه اختلف عنه وتكون بالتاء من فوق وهي قراءة جمهور الناس، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما زعم خارجة وإسماعيل، {ويكون} بالياء من تحت ورويت عن أبي عمرو وعن عاصم وهي قراءة ابن مسعود، و{الكبرياء}: مصدر مبالغ من الكبر، والمراد به في هذا الموضع الملك، وكذلك قال فيه مجاهد والضحاك وأكثر المتأولين، لأنه أعظم تكبر الدنيا، ومنه قول الشاعر [ابن الرقاع]: [الخفيف]
مؤددا غير فاحش لا تدانيـ ** ـه تجبارة ولا كبرياء

وقوله: {بمؤمنين} بمصدقين.

.تفسير الآيات (79- 82):

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}
يخبر أن فرعون قال لخدمته ومتصرفيه: {ائتوني بكل ساحر}، هذه قراءة جمهور الناس، وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب وعيسى {بكل سحار} على المبالغة، قال أبو حاتم: لسنا نقرأ {سحار} إلا في سورة الشعراء، فروي أنهم أتوه بسحرة الفرما وغيرها من بلاد مصر حسبما قد ذكر في غير هذه الآية، فلما ورد السحرة باستعدادهم للمعارضة خيّروا موسى كما ذكر في غير هذه الآية، فقال لهم عن أمر الله: {ألقوا ما أنتم ملقون}، وقوله تعالى: {فلما ألقوا} الآية، المعنى فلما ألقوا حبالهم وعصيهم وخيلوا بها وظنوا أنهم قد ظهروا قال لهم موسى هذه المقالة،، وقرأ السبعة سوى أبي عمرو {السحر} وهي قراءة جمهور الناس، وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع {به السحر} بألف الاستفهام ممدودة قبل {السحر}.
فأما من قرأ {السحر} بغير ألف استفهام قبله ف {ما} في موضع رفع على الابتداء وهي بمعنى الذي وصلتها قوله: {جئتم به} والعائد الضمير في {به} وخبرها {السحر}، ويؤيد هذه القراءة والتأويل أن في مصحف ابن مسعود {ما جئتم به سحر}، وكذلك قرأها الأعمش وهي قراءة أبي بن كعب، {ما أتيتم به سحر}، والتعريف هنا في السحر أرتب لأنه قد تقدم منكراً في قولهم {إن هذا لسحر} [يونس: 76] فجاء هنا بلام العهد كما يقال في أول الرسالة، سلام عليك وفي آخرها والسلام عليك، ويجوز أن تكون {ما} استفهاماً في موضع رفع بالابتداء و{جئتم به} الخبر و{السحر} خبر ابتداء تقديره هو السحر إن الله سيبطله، ووجه استفهامه هذا هو التقرير والتوبيخ، ويجوز أن تكون {ما} في موضع نصب على معنى أي شيء جئتم و{السحر} مرفوع على خبر الابتداء تقدير الكلام أي شيء جئتم به هو السحر، {إن الله سيبطله}، وأما من قرأ الاستفهام والمد قبل {السحر} ف {ما} استفهام رفع بالابتداء و{جئتم به} الخبر، وهذا على جهة التقدير، وقوله: {السحر} استفهام أيضاً كذلك، وهو بدل من الاستفهام الأول، ويجوز أن تكون {ما} في موضع نصب بمضمر تفسيره {جئتم به} تقديره أي شيء جئتم به السحر، وقوله: {إن الله سيبطله} إيجاب عن عدة من الله تعالى، وقوله: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}، يصح أن يكون من كلام موسى عليه السلام، ويصح أن يكون ابتداء خبر من الله تعالى، وقوله: {ويحق الله الحق} الآية، يحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون من إخبار الله عز وجل، وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب وهو الذي ذكر الطبري، وأما قوله: {بكلماته} فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك، قال ابن سلام {بكلماته} بقوله: لا تخف ومعنى {ولو كره المجرمون} وإن كره المجرمون والمجرم: المجترم الراكب للخطر.

.تفسير الآيات (83- 86):

{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}
المعنى فما صدق موسى، ولفظة {آمن} تتعدى بالباء، وتتعدى باللام وفي ضمن المعنى الباء، واختلف المتأولون في عود الضمير الذي في {قومه} فقالت فرقة: هو عائد على موسى، وقالت فرقة هو عائد على {فرعون}، فمن قال إن العود على موسى قال معنى الآية وصف حال موسى في أول مبعثه أنه لم يؤمن به إلا فتيان وشباب أكثرهم أولو آباء كانوا تحت خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل، فالضمير في {الملأ} كعائد على {الذرية} وتكون الفاء على هذا التأويل عاطفة جملة على جملة لا مرتبة، وقال بعض القائلين بعود الضمير على موسى: إن معنى الآية أن قوماً أدركهم موسى ولم يؤمنوا به وإنما آمن ذريتهم بعد هلاكهم لطول الزمان، قاله مجاد والأعمش، وهذا قول غير واضح، وإذا آمن قوم بعد موت آبائهم فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية، وأيضاً فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا، وهيئة قوله: {فما آمن} يعطي تقليل المؤمنين به لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه للبعض ولو كان الأكثر مؤمناً لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يترجح قول ابن عباس في الذرية إنه القليل لا أنه أراد أن لفظة الذرية هي بمعنى القليل كما ظن مكي وغيره، وقالت فرقة إنما سماهم ذرية لأن أمهاتهم كانت من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط، فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء وهم الفرس المنتقلون مع وهرز بسعاية سيف بن ذي يزن، والأمر بكماله في السير، وقال السدي كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون.
قال القاضي أبو محمد: ومما يضعف عود الضمير على موسى أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوماً قد تقدمت فيهم النبوات وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبياً، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه واتبعوه ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به فكيف تعطي هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن، فالذي يترجح بحسب هذا أن الضمير عائد على فرعون ويؤيد ذلك أيضاً ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم وتوبيخهم على قولهم هذا سحر، فذكر الله ذلك عنهم، ثم قال: {فما آمن لموسى إلا ذرية} من قوم فرعون الذين هذه أقوالهم، وروي في ذلك أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه، قال ابن عباس، والسحرة أيضاً فإنهم معدودون في قوم فرعون وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا، وتكون الفاء مرتبة للمعاني، التي عطفت، ويعود الضمير في {ملئهم} على الذرية، ولاعتقاد الفراء وغيره عود الضمير على موسى تخبطوا في عود الضمير في {ملئهم}، فقال بعضهم: ذكر فرعون وهو الملك يتضمن الجماعة والجنود، كما تقول جاء الخليفة وسافر الملك وأنت تريد جيوشه معه، وقال الفراء: المعنى على خوف من آل فرعون وملئهم وهو من باب: {واسأل القرية} [يوسف: 82].
قال القاضي أبو محمد: وهذا التنظير غير جيد لأن إسقاط المضاف في قوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] هو سائغ بسبب ما يعقل من أن {اسأل القرية} لا تسأل، ففي الظاهر دليل على ما أضمر، وأما هاهنا فالخوف من فرعون متمكن لا يحتاج معه إلى إضمار، إما أنه ربما احتج أن الضمير المجموع في {ملئهم} يقتضي ذلك والخوف إنما يكون من الأفعال والأحداث التي للجثة ولكن لكثرة استعماله ولقصد الإيجاز أضيف إلى الأشخاص، وقوله: {أن يفتنهم} بدل من {فرعون} وهو بدل الاشتمال، ف {أن} في موضع خفض، ويصح أن تكون في موضع نصب على المفعول من أجله، وقرأ الحسن والجراح، ونبيح {أن يُفتنهم} بضم الياء، ثم أخبر عن فرعون بالعلو في الأرض والإسراف في الأفعال والقتل والدعاوى ليتبين عذر الخائفين، وقوله تعالى: {وقال موسى- إلى- الكافرين}، ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنساً لهم ونادباً إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات، والذي أقول: إن التوكل الذي يأمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع، وهو الذي في قوله صلى الله عليه وسلم «قيدها وتوكل» فقد جعله متوكلاً مع التقييد والنبي صلى الله عليه وسلم رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله، وكذلك السلف كله، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها، كمن يدخل غاراً خفياً يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف، وللصحيح منه قرائن تسهله، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198]، ولهم قال: {وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2] ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهمه، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة، فكيف بمن يحتسب، وقال لهم: {إن كنتم آمنتم} مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة كما تقول، إن كنت رجلاً فقاتل، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة نفسه، وقوله: {إن كنتم مسلمين}، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى، ثم ذكر أنه أجاب بنو إسرائيل بنية التوكل على الله والنطق بذلك، ثم دعوا في أن لا يجعلهم فتنة للظلمة، والمعنى لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة مجاورتنا لهم فيفتنون ويعتقدون إن إهلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق، قاله مجاهد وغيره.
قال القاضي أبو محمد: فهذا لدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين، أحدهما القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون، والآخر ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق، وفي ذلك فساد الأرض، ونحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «ليس الميت أبو امامة اليهود والمشركين يقولون: لو كان نبياً لم يمت صاحبه»، ويحتمل اللفظ من التأويل وقد قالته فرقة: إن المعنى لا تفتنهم وتبتلهم بقتلنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة وفي هذا التأويل قلق، باقي الآية بيّن.