فصل: تفسير الآيات (107- 109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (107- 109):

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة، وجمع الضمير في {لكم} دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته، والولي فعيل من ولي إذا جاور ولحق، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما، و{النصير} فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر.
وقوله تعالى: {أم تريدون}: قالت فرقة: {أم} رد على الاستفهام الأول، فهي معادلته.
وقالت فرقة {أم} استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب.
وقالت فرقة: {أم} هنا بمعنى بل وألف الاستفهام، قال مكي وغيره: وهذا يضعف لأن {أم} لا تقع بمعنى بل إلا اعترض المتكلم شك فيما يورده.
قال القاضي أبو محمد: وليس كما قال مكي رحمه الله، لأن {بل} قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنا يلزم ما قال على أحد معنيي {بل} وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال سيبويه: بل هي لترك كلام وأخذ في غيره.
وقال أبو العالية: إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل. وتلا: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} [النساء: 110].
قال القاضي أبو محمد: فتجيء إضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك، وقيل: إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة، وقيل: سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، وقال مجاهد: سألوه أن يرد الصفا ذهباً، فقال لهم: خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ونكصوا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم، و{كما سئلَ موسى} عليه السلام هو أن يرى الله جهرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره {سِيل} بكسر السين وياء وهي لغة، يقال: سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، وقال أبو العالية: الكفر هنا الشدة، والإيمان الرخاء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به، و{ضل} أخطأ الطريق، و{السواء} من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى {في سواء الجحيم} [الصافات: 55].
وقال عيسى بن عمر: كتبت حتى انقطع سوائي، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن إسحاق وغيره [الكامل]:
يا ويح أنصار النبيِّ ورهطِهِ ** بَعْدَ المغيَّبِ في سواءِ الملحدِ

وقال أبو عبيد: هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه، و{السبيل} عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها.
وقوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب}، {كثير} مرتفع ب {ود}، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قلق، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق، قال الزهري عنى ب {كثير} واحد، وهو كعب بن الأشرف، وهذا تحامل، وقوله تعالى {يردونكم} يرد عليه، وقال ابن عباس: المراد ابنا أخطب، حيي وأبو ياسر.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي الضمن الاتباع، فتجيء العبارة متمكنة، و{الكتاب} هنا التوراة، و{لو} هنا بمنزلة {إن} لا تحتاج إلى جواب، وقيل يتقدر جوابها في {ود}، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ف {ود} دالة على الجواب، لأن من شرطه أن يكون متأخراً عن {لو}، و{كفاراً} مفعول ثان، ويحتمل أن يكون حالاً، و{حسداً} مفعول له، وقيل: هو مصدر في موضع الحال.
واختلف في تعلق قوله: {من عند أنفسهم}: فقيل يتعلق ب {ود} لأنه بمعنى ودوا، وقيل: يتعلق بقوله: {حسداً} فالوقف على قوله: {كفاراً}، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيداً وإلزاماً، كما قال تعالى: {يقولون بأفواههم} [آل عمران: 167]، و{يكتبون الكتاب بأيديهم} [البقرة: 79]، {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، وقيل يتعلق بقوله: {يردونكم}، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم.
واختلف في سبب هذه الآية، فقيل: إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية، وقيل: إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في {راعنا} [البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفاراً.
و{الحق}: المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عناداً، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، والصحيح عندي جوازه غفلاً وبعده وقوعاً، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد، والعفو ترك العقوبة وهو من عفت الآثار والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق.
وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون} [التوبة: 29] إلى قوله: {صاغرون} [التوبة: 29]، وقيل: بقوله: {اقتلوا المشركين}، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير، وأما من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه بعينها، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة، وقيل: مجيء الأمر هو فرض القتال، وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير، وقال أبو عبيدة في هذه الآية: إنها منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.
قال القاضي أبو محمد: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة، وقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير} مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين.

.تفسير الآيات (110- 112):

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
قالت فرقة من الفقهاء: إن قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} عموم، وقالت فرقة: هو من مجمل القرآن، والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه، فعموم من حيث الصلاة الدعاء، فحمله على مقتضاه ممكن، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال، ومجمل من حيث الأوقات، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير، وهذا كله في {أقيموا الصلاة}، وأما الزكاة فمجملة لا غير.
قال الطبري: إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود {راعنا} [البقرة: 104]، لأن ذلك نهي عن نوعه، ثم أمر المؤمنين بما يحطه، والخير المقدم منقض لأنه فعل، فمعنى {تجدوه} تجدوا ثوابه وجزاءه، وذلك بمنزلة وجوده.
وقوله تعالى: {إن الله بما تعملون بصير} خبر في اللفظ معناه الوعد والوعيد.
وقوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة} معناه قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فجمع قولهم، ودل تفريق نوعيهم على تفرق قوليهم، وهذا هو الإيجاز واللف، وهود جمع هائد، مثل عائد وعود، ومعناه التائب الراجع، ومثله في الجمع بازل وبزل وحائل وحول وبائر وبور، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع كفطر وعدل ورضا، وقال الفراء، أصله يهودي حذفت ياءاه على غير قياس.
وقرأ أبي بن كعب {إلا من كان يهودياً}، وكذبهم الله تعالى وجعل قولهم أمنية، وقد قطعوا قبل بقوله: {فتمنوا الموت} [البقرة: 94، الجمعة: 6]، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم بدعائهم إلى إظهار البرهان، وقيل: إن الهاء في {هاتوا} أصلية من هاتا يهاتي، وأميت تصريف هذه اللفظة كله إلا الأمر منه وقيل: هي عوض من همزة آتى، وقيل: ها تنبيه، وألزمت همزة آتى الحذف، والبرهان الدليل الذي يوقع اليقين، قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي بإثبات النظر ويرد على من ينفيه، وقول اليهود {لن} نفي حسنت بعده {بلى}، إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي، حرف مرتجل لذلك، وقيل: هي {بل} زيدت عليها الياء لتنزيلها على حد النسق الذي في {بل}، و{أسلم} معناه استسلم وخضع ودان، ومنه قول زيد ابن عمرو بن نفيل: [المتقارب].
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ** له المزن تحمل عذباً زلالا

وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان وموضع الحواس وفيه يظهر العز والذل، ولذلك يقال وجه الأمر أي معظمه وأشرفه، قال الأعشى: [السريع]:
وأول الحكم على وجهه ** ليس قضائي بالهوى الجائر

ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد، {وهو محسن} جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في {له} على لفظ {من}، وكذلك في قوله: {أجره}، وعاد في {عليهم} على المعنى، وكذلك في {يحزنون}، وقرأ ابن محيصن {فلا خوف} دون تنوين في الفاء المرفوعة، فقيل: ذلك تخفيف، وقيل: المراد فلا الخوف فحذفت الألف واللام، والخوف هو لما يتوقع، والحزن هو لما قد وقع.
وقوله تعالى: {وقالت اليهود} الآية، معناه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر.
وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتسابوا، وكفر اليهود بعيسى وبملته وبالإنجيل، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وبصحة نبوته، وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا.
وفي قوله: {وهم يتلون الكتاب} تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القرآن والوقوف عند حدوده، كما قال الحر بن قيس في عمر بن الخطاب، وكان وقافاً عند كتاب الله، و{الكتاب} الذي يتلونه قيل: التوراة والإنجيل، فالألف واللام للجنس، وقيل: التوراة لأن النصارى تمتثلها، فالألف واللام للعهد.

.تفسير الآيات (113- 115):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
اختلف من المراد بقوله: {لا يعلمون}، فقال الجمهور: عنى بذلك كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم، وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقال قوم: المراد اليهود، وكأنه أعيد قولهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وأخبر تعالى بأنه {يحكم بينهم}، والمعنى بأن يثيب من كان على شيء، أي شيء حق، ويعاقب من كان على غير شيء، وقال الزجاج: المعنى يريهم عياناً من يدخل الجنة ومن يدخل النار و{يوم القيامة} سمي بقيام الناس من القبور، إذ ذلك مبد لجميع مبدأ في اليوم وفي الاستمرار بعده، وقوله: {كانوا} بصيغة الماضي حسن على مراعاة الحكم، وليس هذا من وضع الماضي موضع المستقبل لأن اختلافهم ليس في ذلك اليوم، بل في الدنيا.
وقوله تعالى {ومن أظلم} الآية، {من} رفع بالابتداء، و{أظلم} خبره، والمعنى لا أحد أظلم.
واختلف في المشار إليه من هذا الصنف الظالم، فقال ابن عباس وغيره: المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلى ببيت المقدس ويطرحون فيه الأقذار، وقال قتادة والسدي: المراد الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء عليه السلام، وقيل: المعنّي بختنصر، وقال ابن زيد: المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة أو خرب مدينة إسلام، لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة، والمشهور مسجد بكسر الجيم، ومن العرب من يقول مسجد بفتحها، و{أن يذكر} في موضع نصب: إما على تقدير حذف {من} وتسلط الفعل، وإما على البدل من المساجد، وهو بدل الاشتمال الذي شأن البدل في أن يتعلق بالمبدل منه ويختص به أو تقوم به صفة، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ويجوز أن تكون {أن} في موضع خفض على إسقاط حرف الجر، ذكره سيبويه، ومن قال من المفسرين إن الآية بسبب بيت المقدس جعل الخراب الحقيقي الموجود، ومن قال هي بسبب المسجد الحرام جعل منع عمارته خراباً، إذ هو داع إليه، ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع ضرباً، قاله قتادة والسدي، ومن جعلها في قريش قال كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحج مشرك، و{خائفين} نصب على الحال، وهذه الآية ليست بأمر بين منعهم من المساجد، لكنها تطرق إلى ذلك وبدأة فيها وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.
ومن جعل الآية في النصارى قال: الخزي قتل الحربي وجزية الذمي، وقيل: الفتوح الكائنة في الإسلام كعمورية وهرقلة وغير ذلك، ومن جعلها في قريش جعل الخزي غلبتهم في الفتح وقتلهم والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافراً، و{خزي} رفع بالابتداء وخبره في المجرور.
و{المشرق} موضع الشروق، {والمغرب} موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات، وخصهما بالذكر وإن كانت جملة المخلوقات كذلك لأن سبب الآية اقتضى ذلك، و{أينما} شرط، و{تولوا} جزم به، والجواب في قوله: {فثم}، والمعنى فأينما تولوا نحوه وإليه، لأن ولّى وإن كان غالب استعمالها أدبر فإنها تقتضي أنه يقبل إلى ناحية، تقول وليت عن كذا وإلى كذا، وقرأ الحسن {تولوا} بفتح التاء واللام، وثمَّ مبنية على الفتح، وهي في موضع نصب على الظرف، و{وجه الله} معناه الذي وجهنا إليه، كما تقول سافرت في وجه كذا أي في جهة كذا.
واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافاً إلى الله تعالى في مواضع من القرآن، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدراً، وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى، وضعف أبو المعالي هذا القول، ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه، كما تقول تصدقت لوجه الله تعالى، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة حسبما يأتي في أحد الأقوال، وقال أبو منصور في المقنع: يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه، كما تقول فلان وجه القوم أي موضع شرفهم، فالتقدير فثم جلال الله وعظمته.
واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال قتادة: أباح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يصلي المسلمون حيث شاؤوا، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس حينئذ، ثم نسخ ذلك كله بالتحول إلى الكعبة، وقال مجاهد والضحاك: معناه إشارة إلى الكعبة، أي جيث كنتم من المشرق والمغرب فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة التي هي وجه الله الذي وجهكم إليه.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا فهي ناسخة لبيت المقدس، وقال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت القدس، وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم؟ فنزلت {ولله المشرق والمغرب} الآية، وقال ابن عمر: نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر حيث توجهت بالإنسان دابته، وقال النخعي: الآية عامة أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم {فثم وجه الله}، أي موضع رضاه وثوابه وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن اجتهد في القبلة فأخطأ، وورد في ذلك حديث رواه عامر بن ربيعة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فتحرى قوم القبلة وأعلموا علامات، فلما أصبحوا رأو أنهم قد أخطؤوها، فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت هذه الآية، وذكر قوم هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مع القوم في السفر، وذلك خطأ، وقال قتادة أيضا: نزلت هذه الآية في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه، فقال قوم كيف نصلي على من لم يصلِّ إلى القبلة قط؟ فنزلت هذه الآية، أي إن النجاشي كان يقصد وجه الله وإن لم يبلغة التوجه إلى القبلة، وقال ابن جبير: نزلت الآية في الدعاء لما نزلت: {ادعوني استجب لكم} [غافر: 60]، قال المسلمون: إلى أين ندعو، فنزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله}، وقال المهدوي: وقيل هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها، أي لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب {فثم وجه الله} موجود حيث توليتم.
وقال أيضاً: وقيل نزلت الآية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، و{واسع} معناه متسع الرحمة عليهم أين يضعها، وقيل {واسع} معناه هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر، {عليم} بالنيات التي هي ملاك العمل، وإن اختلفت ظواهره في قبلة وما أشبهها.