فصل: تفسير الآيات (116- 118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (116- 118):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
قرأ هذه الآية عامة القراء {وقالوا} بواو تربط الجملة بالجملة، أو تعطف على {سعى} [البقرة: 114]، وقرأ ابن عامر وغيره {قالوا} بغير واو، وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، وحذف منه الواو يتجه من وجهين، أحدهما أن هذه الجملة مرتبطة في المعنى بالتي قبلها فذلك يغني عن الواو، والآخر أن تستأنف هذه الجملة ولا يراعى ارتباطها بما تقدم، واختلف على من يعود الضمير في {قالوا}، فقيل: على النصارى، لأنهم قالوا المسيح ابن الله.
قال القاضي أبو محمد: وذكرهم أشبه بسياق الآية، وقيل: على اليهود، لأنهم قالوا عزير ابن الله، وقيل: على كفرة العرب لأنهم قالوا الملائكة بنات الله، و{سبحانه} مصدر معناه تنزيهاً له وتبرئة مما قالوا، و{ما} رفع بالابتداء، والخبر في المجرور، أو في الاستقرار المقدر، أي كل ذلك له ملك، والذي {قالوا اتخذ الله ولداً} داخل في جملة {ما في السماوات والأرض} ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد لا من المخلوقات المملوكات.
والقنوت في اللغة الطاعة، والقنوت طول القيام في عبادة، ومنه القنوت في الصلاة، فمعنى الآية أن المخلوقات كلها تقنت لله أي تخضع وتطيع، والكفار والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل: الكافر يسجد ظله وهو كاره.
و{بديع} مصروف من مبدع كبصير من مبصر، ومثله قول عمرو بن معديكرب: [الوافر]:
أَمِنْ ريحانة الداعي السميعِ

يريد المسمع، والمبدع المخترع المنشيء، ومنه أصحاب البدع، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة رمضان: نعمت البدعة هذه.
وخص {السماوات والأرض} بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا، و{قضى}، معناه قدر، وقد يجيء بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد.
والأمر واحد الأمور، وليس هنا بمصدر أمر يأمر، ويكون رفع على الاستئناف، قال سيبويه: معناه فهو يكون، قال غيره: يكون عطف على يقول، واختاره الطبري وقرره، وهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود، وتكلم أبو علي الفارسي في هذه المسألة بما هو فاسد من جملة الاعتزال لا من جهة العربية.
وقرأ ابن عامر {فيكونَ} بالنصب، وضعفه أبو علي، ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر: هذا لحن.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيها معنى الشرط، تقول أكرم زيداً فيكرمك، والمعنى إن تكرم زيداً يكرمك، وفي هذه الآية لا يتجه هذا، لأنه يجيء تقديره: إن تكن يكن، ولا معنى لهذا، والذي يطرد فيه معنى الشرط هو أن يختلف الفاعلان أو الفعلان فالأول أكرم زيداً فيكرمك والثاني أكرم زيداً فتسود.
وتلخيص المعتقد في هذه الآية، أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها، قادراً مع تأخر المقدورات، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل، ومن جعل من المفسرين {قضى} بمعنى أمضى عند الخلق والإيجاد، فكأن إظهار المخترعات في أوقاتها المؤجلة قول لها {كن}، إذ التأمل يقتضي ذلك، على نحو قول الشاعر [أبو النجم العجلي]: [الرجز]
وقالتِ الأقرابُ للبطن الحق

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يجري مع قول المعتزلة، والمعنى الذي تقتضيه عبارة {كن} هو قديم قائم بالذات، والوضوح التام في هذه المسألة يحتاج أكثر من هذا البسط.
قوله تعالى: {وقال الذين لا يعلمون} الآية، قال الربيع والسدي: هم كفار العرب.
قال القاضي أبو محمد: وقد طلب عبد الله بن أبي أمية وغيره من النبي صلى الله عليه نحو هذا، فنفى عنهم العلم لأنهم لا كتاب عندهم ولا اتباع ولا اتباع نبوة، وقال مجاهد: هم النصارى لأنهم المذكورون في الآية أولاً، ورجحه الطبري، وقال ابن عباس: المراد من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أسمعنا كلام الله، وقيل: الإشارة بقوله: {لا يعلمون} إلى جميع هذه الوظائف، لأن كلهم قال هذه المقالة أو نحوها، ويكون {الذين من قبلهم} قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، و{لولا} تحضيض بمعنى هلا، كما قال الأشهب بن رميلة: [الطويل]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أفضلَ مجدِكُمْ ** بني ضَوْطَرى لولا الكميّ المقنعا

وليست هذه {لولا} التي تعطي منع الشيء لوجوب غيره، وفرق بينهما أنها في التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهراً أو مقدراً، وعلى بابها في المنع للوجوب يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر، والآية هنا العلامة الدالة، وقد تقدم القول في لفظها، و{الذين من قبلهم} اليهود والنصارى في قول من جعل {الذين لا يعلمون} كفار العرب، وهم الأمم السالفة في قول من جعل {الذين لا يعلمون} كفار العرب والنصارى واليهود، وهم اليهود في قول من جعل {الذين لا يعلمون} النصارى، والكاف الأولى من {كذلك} نعت لمصدر مقدر، و{مثل} نعت لمصدر محذوف، ويصح أن يعمل فيه، {قال}: وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة {تَشَّابهت} بشد الشين، قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه فعل ماض.
وقوله تعالى: {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين، فلذلك خصهم بالذكر، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة، وقوله تعالى {بينا} قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينة أخرى، وهي أن الكلام مدح لهم، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده، ومثال ذلك تيقن المقادة ثبوت الصانع، ومنه قول مالك- رحمه الله- في الموطأ في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه الشيء في نفسه على غير ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه.

.تفسير الآيات (119- 121):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}
المعنى {بشيراً} لمن آمن، {ونذيراً} لمن كفر، وقرأ نافع وحده {ولا تسألْ} بالجزم على النهي، وفي ذلك معنيان: أحدهما لا تسأل على جهة التعظيم لحالهم من العذاب، كما تقول: فلان لا تسأل عنه، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر، والمعنى الثاني روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت {ولا تسأل}.
وحكى المهدوي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليت شعري أي أبوي أحدث موتاً»، فنزلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه لأن أباه مات وهو في بطن أمه، وقيل وهو ابن شهر، وقيل ابن شهرين، وماتت أمه بعد ذلك بخمس سنين منصرفة به من المدينة من زيارة أخواله، فهذا مما لا يتوهم أنه خفي عليه صلى الله عليه وسلم، وقرأ باقي السبعة {ولا تُسألُ} بضم التاء واللام، وقرأ قوم {ولا تَسألُ} بفتح التاء وضم اللام، ويتجه في هاتين القراءتين معنيان: أحدهما الخبر أنه لا يسأل عنهم، أو لا يسأل هو عنهم، والآخر أن يراد معنى الحال كأنه قال: وغير مسؤول أو غير سائل عنهم، عطفاً على قوله: {بشيراً ونذيراً}، وقرأ أبي كعب {وما تسأل} وقرأ ابن مسعود {ولن تسأل}، وهاتان القراءتان تؤيدان معنى القطع والاستئناف في غيرهما، و{الجحيم} إحدى طبقات النار.
ويقال: رضي يرضى رضىً ورضاً ورضواناً، وحكي رضاءً ممدوداً، وقال: {ملتهم} وهما مختلفتان بمعنى لن ترضى اليهود حتى تتبع ملتهم ولن ترضى النصارى حتى تتبع ملتهم، فجمعهم إيجازاً، لأن ذلك مفهوم، والملة الطريقة، وقد اختصت اللفظة بالشرائع والدين، وطريق ممل أي قد أثر المشي فيه.
وروي أن سبب هذه الآية أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدنة، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعاً منهم، فأعلمه الله تعالى أن إعطاء الهدنة لا ينفع عندهم، وأطلعه على سر خداعهم.
وقوله تعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى} أي ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء.
ثم قال تعالى لنبيه {ولئن اتبعت أهواءهم} الآية، فهذا شرط خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته معه داخلة فيه، و{أهواء} جمع هوى، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على إفراد الملة لقيل هواهم، والولي الذي يتولى الإصلاح والحياطة والنصر والمعونة، و{نصير} بناء مبالغة في اسم الفاعل من نصر.
وقوله تعالى: {الذين آيتناهم الكتاب} الآية، {الذين} رفع بالابتداء، و{آيتناهم الكتاب} صلة، وقال قتادة: المراد ب {الذين} في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، و{الكتاب} على هذا التأويل القرآن، وقال ابن زيد: المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، و{الكتاب} على هذا التأويل التوراة، و{آتيناهم} معناه أعطيناهم، وقال قوم: هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة، فأثنى الله عليهم، ويحتمل أن يراد ب {الذين} العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب، ويكون {الكتاب} اسم الجنس، و{يتلونه} معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي، وقيل {يتلونه} يقرؤونه حق قراءته، وهذا أيضاً يتضمن الاتباع والامتثال، و{يتلونه} إذا أريد ب {الذين} الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون {يتلونه} في موضع الحال والخبر {أولئك}، وإذا أريد ب {الذين} العموم لم يكن الخبر إلا {أولئك}، و{يتلونه} حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة، لأنه لو كان الخبر في {يتلونه} لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب {حق تلاوته}، و{حق} مصدر، والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى أفعل، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرف، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم رجل واحد أمة، ونسيج وحده، والضمير في {به} عائد على {الكتاب}، وقيل: يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، لأن متبعي التوراة يجدونه فيها فيؤمنون به.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل عندي أن يعود على {الهدى} الذي تقدم، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في أول لآية وحذر رسوله من اتباع أهوائهم، وأعلمه بأن {هدى الله هو الهدى} الذي أعطاه وبعثه به، ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذاك الهدى المقتدون بأنواره، والضمير في {يكفر به} يحتمل من العود ما ذكر في الأول، و{فأولئك هم الخاسرون} ابتداء وعماد وخبر، أو ابتداء وابتداء وخبر، والثاني خبره خبر الأول، والخسران نقصان الحظ.

.تفسير الآيات (122- 124):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
قرأ الحسن وغيره {نعمتي} بتسكين الياء تخفيفاً، لأن أصلها التحريك كتحريك الضمائر لك وبك، ثم حذفها الحسن للالتقاء، وفي السبعة من يحرك الياء، ومنهم من يسكنها، وإن قدرنا فضيلة بني إسرائيل مخصوصة في كثرة الأنبياء وغير ذلك فالعالمون عموم مطلق، وإن قدرنا تفضيلهم على الإطلاق فالعالمون عالمو زمانهم، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بالنص، وقد تقدم القول على مثل هذه الآية إلى قوله: {ينصرون} ومعنى {لا تنفعها شفاعة} أي ليست ثم، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد فيرد، وإنما نفى أن تكون ثم شفاعة على حد ما هي في الدنيا، وأما الشفاعة التي هي في تعجيل الحساب فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة في خاصتهم، وأما الأخيرة التي هي بإذن من الله تعالى في أهل المعاصي من المؤمنين فهي عد أن أخذ العقاب حقه، وليس لهؤلاء المتوعدين من الكفار منها شيء.
والعامل في {إذ} فعل، تقديره: واذكر إذ، {ابتلى} معناه اختبر، و{إبراهيم} يقال إن تفسيره بالعربية أب رحيم، وقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة أبراهام، وقدم على الفاعل للاهتمام، إذ كون الرب مبتلياً معلوم، فإنما يهتم السامع بمن {ابتلي}، وكون ضمير المفعول متصلاً بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام.
واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال ابن عباس: هي ثلاثون سهماً، هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملاً إلا إبراهيم صلوات الله عليه، عشرة منها في براءة {التائبون العابدون} [التوبة: 112]، عشرة في الأحزاب {إن المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35]، وعشرة في {سأل سائل} [المعارج: 1]، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة: الكلمات عشر خصال خمس منها في الرأس المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفرق الرأس، وقيل بدل فرق الراس: إعفاء اللحية، وخمس في الجسد تقليم الظفر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، والاختتان، وقال ابن عباس أيضاً: هي عشرة خصال، ست في البدن وأربع في الحج: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة، وقال الحسن بن أبي الحسن: هي الخلال الست التي امتحن بها، الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، وقيل بدل الهجرة: الذبح، وقالت طائفة: هي مناسك الحج خاصة، وروي أن الله عز وجل أوحى إليه أن تطهر، فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.
قال القاضي أبو محمد: وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم.
وقال الراوي: فأوحى الله إليه {إني جاعلك للناس إماماً} يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه السلام هو الذي أتم.
وقال مجاهد وغيره: إن الكلمات هي أن الله عز وجل قال لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال إبراهيم: تجعلني للناس إماماً، قال الله: نعم، قال إبراهيم: تجعل البيت مثابة، قال الله: نعم، قال إبراهيم وأمناً، قال الله: نعم، قال إبراهيم: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال الله: نعم، قال إبراهيم: تجعل هذا البلد آمناً، قال الله: نعم، قال إبراهيم: وترزق أهله من الثمرات، قال الله: نعم.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم، وقد طول المفسرون في هذا، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها، وإنما سميت هذه الخصال كلمات، لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات، وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه كتب الله له البراءة من النار، فذلك قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 37].
والإمام القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وهو هنا اسم مفرد، وقيل في غير هذا الموضع: هو جمع آم وزنه فاعل أصله آمم، فيجيء مثل قائم وقيام وجائع وجياع ونائم ونيام.
وجعل الله تعالى إبراهيم إماماً لأهل طاعته، فلذلك أجمعت الأمم على الدعوى فيه، وأعلم الله، تعالى أنه كان حنيفاً، وقول إبراهيم عليه السلام: {ومن ذريتي}، هو على جهة الدعاء والرغبى إلى الله، أي ومن ذريتي يا رب فاجعل، وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ والذرية مأخوذة من ذرا يذرو أو من ذرى يذري أو من ذر يذر أو من ذرأ يذرأ، وهي أفعال تتقارب معانيها، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى.
وقوله تعالى: {قال لا ينال عهدي}، أي قال الله، والعهد فيما قال مجاهد: الإمامة، وقال السدي: النبوءة، وقال قتادة: الأمان من عذاب الله، وقال الربيع والضحاك: العهد الدين: دين الله تعالى.
وقال ابن عباس: معنى الآية لا عهد عليك لظالم أن تطيعه، ونصب {الظالمين} لأن العهد ينال كما ينال، وقرأ قتادة وأبو رجاء والأعمش {الظالمون} بالرفع، وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو أن لا طاعة لظالم فالظلم في الآية ظلم الكفر، لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر، وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين فالظلم ظلم المعاصي فما زاد.