فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 18):

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}
قرأت فرقة {عشاء} أي وقت العشاء، وقرأ الحسن: {عشى} على مثال دجى، أي جمع عاش، قال أبو الفتح: {عشاة} كماش ومشاة، ولكن حذفت الهاء تخفيفاً كما حذفت من مألكة، وقال عدي:
أبلغ النعمان عني مألكاً ** أنه قد طالب حبسي وانتظاري

قال القاضي أبو محمد: ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى، ومثل شريح في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية، وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا، قال فأين يوسف؟ قالوا: {ذهبنا نستبق}؛ فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟- وسيأتي قصص ذلك.
و{نستبق} معناه: على الأقدام أي نجري غلاباً، وقيل: بالرمي أي ننتضل. وهو نوع من المسابقة، قاله الزجاج.
وقولهم: {وما أنت بمؤمن} أي بمصدق؛ ومعنى الكلام: أي لو كنا موصوفين بالصدق؛ وقيل المعنى: ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديماً لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ذكره الزجاج وغيره، ويحتمل أن يكون قولهم: {ولو كنا صادقين}، بمعنى: وإن كنا صادقين- وقاله المبرد- كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة فهو تمادٍ منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله: {أو لو كنا كارهين} [الأعراف: 88] بمعنى أو إن كنا كارهين.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وتخبط الرماني في هذا الموضع، وقال: ألزموا أباهم عناداً ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك، بل قالوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا. ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم، فإنما هو بشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه..» الحديث. فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب. وكذلك قد صدق عليه السلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيداً، حتى نزل الوحي، فظهر الحق، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد.
وقوله تعالى: {وجاءو على قميصه بدم كذب} الآية، روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا أثر ناب.
فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟- قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص- واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها- في قول مالك- إلى غير ذلك.
قال الشافعي: كان في القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به. وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئباً فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب، هذا أكل يوسف، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم.
ووصف الدم ب {كذب} إما على معنى بدم ذي كذب، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر:
[الكامل]
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ** لحماً ولا لفؤادِهِ معقولا

فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب.
قال القاضي أبو محمد: هذا كلام الطبري، ولا شاهد له فيه عندي، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل، ولا يحتاج إلى بدل، وإنما الدم الكذب عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة.
وقرأ الحسن: {بدم كذب} بدال غير معجمة، ومعناه الطري ونحوه، وليست هذه القراءة قوية.
ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم: {بل سولت لكم أنفسكم أمراً} أي رضيت وجعلت سولاً ومراداً. {أمراً} أي صنعاً قبيحاً بيوسف. وقوله: {فصبر جميل} رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر: إما على تقدير: فشأني صبر جميل، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل. وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب: {فصبراً جميلاً} على إضمار فعل، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك- وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [الرجز]
صبرا جميلاً فكلانا مبتلى

وينشد أيضاً بالرفع ويروى {صبر جميل}، على نداء الجمل المذكور في قوله: [الرجز]
شكى إليّ جملي طول السرى ** يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى

وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه.
وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بث لم يصبر صبراً جميلاً».
وقوله: {والله المستعان على ما تصفون} تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه، والتقدير على احتمال ما تصفون.

.تفسير الآيات (19- 20):

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}
قيل إن {السيارة} جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب، {سيارة}: جمع سيار، كما قالوا بغال وبغالة، وهذا بعكس تمرة وتمر، و{سيارة}: بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق. وروي أن هذه {السيارة} كانوا قوماً من أهل مدين، وقيل: قوم أعراب. والوارد هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، ويقال: {أدلى الدلو}: إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء. ودلاه يدلوه: إذا استقاه من البئر. وفي الكلام هنا حذف تقديره: فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال: يا بشرأي، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين، ويرجح هذا لفظة {غلام}، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز؛ وقيل: كان ابن سبع عشرة سنة- وهذا بعيد-.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {يا بشرأيَ} بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول: احضري، فهذا وقتك، وهذا نحو قوله: {يا حسرة على العباد} [يس: 30] وروى ورش عن نافع {يا بشرأيْ} بسكون الياء، قال أبو علي: وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها، كما اختصت في القوافي بالتأسيس، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة وليس شيء من ذلك في الياء والواو.
وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن {يا بشريَّ} تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة، وهي لغة فاشية، ومن ذلك قول أبي ذؤيب: [الكامل]
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهمُ ** فتخرموا ولكل جنب مصرع

وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك:
يطوّف بيَّ كعب في معد ** ويطعن بالصملة في قفيا

فإن لم تثأروا لي في معد ** فما أرويتما أبداً صديا

وقرأ حمزة والكسائي {يا بشرِي} ويميلان ولا يضيفان. وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي: كان في أصحاب هذا الوارد رجل اسمه بشرى، فناداه وأعلمه بالغلام، وقيل: هو على نداء البشرى- كما قدمنا- والضمير في قوله: {وأسروه} ظاهر الآيات أنه ل وارد الماء،- قاله مجاهد، وقال: إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا: وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود.
قال القاضي أبو محمد: هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خياراً، فأسروا بينهم أن يقولوا: أبضعه معنا بعض أهل المصر.
و{بضاعة} حال، والبضاعة: القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح، مأخوذة من قولهم: بضعت أي قطعت. وقيل: إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجراً، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئاً، ثم يكون الضمير في قوله: {وشروه} لهم أيضاً، أي باعوه بثمن قليل، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره، بل كانوا زاهدين فيه، وروي- على هذا- أنهم باعوه من تاجر. وقال مجاهد: الضمير في {أسروه} لأصحاب الدلو، وفي {شروه} لإخوة يوسف الأحد عشر، وقال ابن عباس: بل الضمير في {أسروه} و{شروه} لإخوة يوسف.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا: هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم، فقارهم يوسف على هذه المقالة خوفاً منهم، ولينفذ الله أمره؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها، واتخذوه {بضاعة} أي متجراً لهم ومكسباً {وشروه} أيضاً {بثمن بخس}، أي باعوه.
وقوله: {والله عليم بما يعملون} إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف، وسوق الأقدار بناء حاله، فهو- حينئذ- بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يدبر ابن آدم والقضاء يضحك».
وفي الآية- أيضاً- تسلية للنبي عليه السلام عما يجري عليه من جهة قريش، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة.
و{شروه}- هنا- بمعنى باعوه، وقد يقال: شرى، بمعنى اشترى، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل]
وشريتُ برداً ليتني ** من بعد بردٍ كنتُ هامَهْ

برد: اسم غلام له ندم على بيعه، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين؛ و{البخس} مصدر وصف به الثمن وهو بمعنى النقص- وهذا أشهر معانيه- فكأنه القليل الناقص0 وهو قول الشعبي- وقال قتادة: البخس هنا بمعنى الظلم، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه، وقال الضحاك: وهو بمعنى الحرام، وهذا أيضاً بمعنى لا يحل بيعه.
وقوله: {دراهم معدودة} عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية، وهي أربعون درهماً، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه السلام: فقيل باعوه بعشرة دراهم، وقال ابن مسعود: بعشرين، وقال مجاهد: باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين وقال عكرمة: بأربعين درهماً دفعت ناقصة خفافاً، فهذا كان بخسها.
وقوله: {وكانوا فيه من الزاهدين} وصف يترتب في ورّاد الماء، أي كانوا لا يعرفون قدره، فهم لذلك قليل اغتباطهم به، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز.
وقوله: {فيه} ليست بصلة ل {الزاهدين}- قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله: {وشروه}.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
روي أن مبتاع يوسف- وهو الوارد من إخوته أو التاجر من الوراد، حسبما تقدم من الخلاف- ورد به مصر، البلد المعروف، ولذلك لا ينصرف، فعرضه في السوق، وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمناً عظيماً- فقيل: وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير فاشتراه العزيز، وكان حاجب الملك وخازنه، واسم الملك الريان بن الوليد، وقيل مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، وقيل: هو فرعون موسى، عمر إلى زمانه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وذلك أن ظهور يوسف عليه السلام لم يكن في مدة كافر يخدمه يوسف؛ واسم العزيز المذكور: قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: أطفير، وقيل: قنطور؛ واسم امرأته: راعيل، قاله ابن إسحاق، وقيل ربيحة، وقيل: زليخا، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته- حسبما نذكره في البرهان الذي رأى يوسف- وقال مجاهد: كان العزيز مسلماً.
والمثوى مكان الإقامة، والإكرام إنما هو لذي المثوى، ففي الكلام استعارة وقوله: {عسى أن ينفعنا}، أي بأن يعيننا في أبواب دنيانا وغير ذلك من وجوه النفع، وقوله: {أو نتخذه ولداً} أي نتبناه، وكان فيما يقال لا ولد له.
ثم قال تعالى: {وكذلك}، أي كما وصفنا {مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه} فعلنا ذلك. و{الأحاديث}: الرؤيا في النوم- قاله مجاهد- وقيل: أحاديث الأمم والأنبياء.
والضمير في {أمره} يحتمل أن يعود على يوسف، قال الطبري، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، قاله ابن جبير، فيكون إخباراً منبهاً على قدرة الله عز وجل ليس في شأن يوسف خاصة بل عاماً في كل أمر. وكذلك الاحتمال في قول الشاعر: [الطويل]
رأيت أبا بكر- وربك- غالب ** على أمره يبغي الخلافة بالتمر

وأكثر الناس الذين نفي عنهم العلم هم الكفرة، وفيهم الذين زهدوا في يوسف وغيرهم ممن جهل أمره، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أصح الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: {أكرمي مثواه}، وابنة شعيب حين قالت: {استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.
قال القاضي أبو محمد: وفراسة العزيز إنما كانت في نفس نجابة يوسف لا أنه تفرس الذي كان كما في المثالين الآخرين، فإن ما تفرس خرج بعينه.
والأشد: استكمال القوة وتناهي البأس، أولهما البلوغ وقد عبر عنه مالك وربيعة ببنية الإنسان، وهما أشدان: وذكره منذر بن سعيد، والثاني: الذي يستعمله العرب وقيل: هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف. وقيل: الأشد: بلوغ الأربعين، وقيل: بل ستة وثلاثون. وقيل: ثلاثة وثلاثون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو أظهر الأقوال-فيما نحسبه- وهو الأسبوع الخامس، وقيل: عشرون سنة، وهذا ضعيف. وقال الطبري: الأشد لا واحد له من لفظه، وقال سيبويه: الأشد جمع شدة نحو نعمة وأنعم، وقال الكسائي: أشد جمع شد نحو قد وأقد، وشد النهار: معظمه وحيث تستكمل نهاريته.
وقوله: {حكماً} يحتمل أن يريد الحكمة والنبوءة، وهذا على الأشد الأعلى، ويحتمل الحكمة والعلم دون النبوءة، وهذا أشبه إن كانت قصة المراودة بعد هذا. و{علماً} يريد تأويل الأحاديث وغير ذلك. ويحتمل أن يريد بقوله: {حكماً} أي سلطاناً في الدنيا وحكماً بين الناس بالحق. وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله: {وعلماً}.
{وكذلك نجزي المحسنين} ألفاظ فيها وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يهولنك فعل الكفرة بك وعتوهم عليك فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع.