فصل: تفسير الآيات (35- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 36):

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
لما أبى يوسف المعصية، ويئست منه امرأة العزيز طالبته بأن قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فإما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإما حبسته كما أنا محبوسة. فحينئذ بدا لهم سجنه. قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر إن يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن؛ قال أبو صالح: ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى.
و{بدا} معناه: ظهر، والفاعل ب {بدا} محذوف تقديره بدو- أو- رأي. وجمع الضمير في {لهم} والساجن الملك وحده من حيث كان في الأمر تشاور. و{يسجننه} جملة دخلت عليها لام القسم. ولا يجوز أن يكون الفاعل ب {بدا} ل {يسجننه} لأن الفاعل لا يكون جملة بوجه، هذا صريح مذهب سيبويه. وقيل الفاعل {ليسجننه} وهو خطأ، وإنما هو مفسر للفاعل.
و{الآيات} ذكر فيها أهل التفسير أنها قد القميص، قاله مجاهد وغيره، وخمش الوجه الذي كان مع قد القميص، قاله عكرمة، وحز النساء أيديهن، قاله السدي.
قال القاضي أبو محمد: ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد بدو الآيات المبرئة له من التهمة، فهكذا يبين ظلمهم له وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرية ليوسف، ولا تتصور تبرية إلا في خبر القميص، فإن كان المتكلم طفلاً- على ما روي- فهي آية عظيمة، وإن كان رجلاً فهي آية فيها استدلال ما، والعادة أنه لا يعبر بآية إلا فيما ظهوره في غاية الوضوح، وقد تقع {الآيات} أيضاً على المبينات كانت في أي حد اتفق من الوضوح.
ويحتمل أن يكون معنى قوله: {من بعد ما رأوا الآيات} أي من بعد ما ظهر لهم من وجوه الأمر وقرائنه أن يوسف برئ، فلم يرد تعيين آية بل قرائن جميع القصة.
والحين في كلام العرب وفي هذه الآية الوقت من الزمن غير محدود يقع للقليل والكثير، وذلك بين موارده في القرآن؛ وقال عكرمة الحين- هنا- يراد به سبعة أعوام، وقيل: بل يراد بذلك سنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب ما كشف الغيب في سجن يوسف.
وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ {عتى حين} بالعين- وهي لغة هذيل- فقال له: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود، فكتب عمر إلى ابن مسعود: إن الله أنزل القرآن عربياً بلغة قريش، فبها أقرئ الناس، ولا تقرئهم بلغة هذيل، وروي عن ابن عباس أنه قال: عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات:
{همّ} [يوسف: 24] فسجن، وقال: {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42] {فأنساه الشيطان ذكر ربه} [يوسف: 42] فطول سجنه، وقال: {إنكم لسارقون} [يوسف: 70] فروجع: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف: 77].
وقوله تعالى: {ودخل معه السجن} الآية، المعنى: فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضاً، وهذه مع تحتمل أن تكون باقتران وقت الدخول، وأن لا تكون بل دخلوا أفذاذاً، وروي أنهما كانا للملك الأعظم- الوليد بن الريان- أحدهما: خبازه، والآخر: ساقيه.
والفتى الشاب، وقد تقع اللفظة على المملوك وعلى الخادم الحر، ويحتمل أن يتصف هذان بجميع ذلك، واللفظة من ذوات الياء، وقولهم: الفتوة شاذ. وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه، ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما، قاله السدي، فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزماه، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه، وقال له: كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف: لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات: أحبتني عمتي فامتحنت لمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت لمحبته لي، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت لمحبتها بما ترى، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا وأجيد، فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه؛ وروى عم مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة، فأرادا سؤاله، فقال أحدهما واسمه بنو، فيما روي، إني رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان، فيها عناقيد عنب حسان، فكنت أعصرها وأسقي الملك؛ وقال الآخر، واسمه مجلث، كنت أرى أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه.
وقوله: {أعصر خمراً} قيل: إنه سمى العنب خمراً بالمآل، وقيل: هي لغة أزد عمان، يسمون العنب خمراً، وقال الأصمعي: حدثني المعتمر، قال: لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت: ما تحمل؟ قال: خمراً، أراد العنب.
وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود {إني أراني أعصر عنباً}.
قال القاضي أبو محمد: ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها وقوله: {خبزاً} يروى أنه رأى ثريداً فوق رأسه، وفي مصحف ابن مسعود {فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه}.
وقوله: {إنا نراك من المحسنين} قال الجمهور: يريدان في العلم، وقال الضحاك وقتادة: المعنى: {من المحسنين} في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم، وقيل: إنه أراد إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً إذا تأول لهما ما رأياه، ونحا إليه ابن إسحاق.

.تفسير الآيات (37- 38):

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
روي عن السدي وابن إسحاق: أن يوسف عليه السلام لما علم شدة تعبير منامه رأى الخبز وأنها تؤذن بقتله، ذهب إلى غير ذلك من الحديث، عسى ألا يطالباه بالتعبير، فقال لهما- معلماً بعظيم علمه للتعبير-: إنه لا يجيئكما طعام في نومكما، تريان أنكما رزقتماه إلا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام، أي بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به. فروي أنهما قالا: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: {ذلكما مما علمني ربي} ثم نهض ينحي لهما على الكفر ويحسن لهما الإيمان بالله: فروي أنه قصد في ذلك وجهين: أحدهما: تنسيتهما أمر تعبير ما سألا عنه- إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما- والآخر: الطماعية في إيمانهما. ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته. وقال ابن جريج: أراد يوسف عليه السلام: {لا يأتيكما طعام} في اليقظة {ترزقانه إلا نبأتكما} منه بعلم وبما يؤول إليه أمركما {قبل أن يأتيكما} ذلك المآل.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا إنما أعلمهم بأن يعلم مغيبات لا تعلق لها برؤيا. وقصد بذلك أحد الوجهين المتقدمين. وهذا على ما روي من أنه نبئ في السجن، فإخباره كإخبار عيسى عليه السلام، وقال ابن جريج: كانت عادة ذلك الملك إذا أراد قتل أحد ممن في سجنه بعث إليه طعاماً يجعله علامة لقتله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله لا يقتضيه اللفظ ولا ينهض به إسناد.
وقوله: {تركت} مع أنه لم يتشبث بها، جائز صحيح، وذلك أنه أخبر عن تجنبه من أول بالترك، وساق لفظة الترك استجلاباً لهما عسى أن يتوكأ الترك الحقيقي الذي هو بعد أخذ في الشيء، والقوم المتروكة ملتهم: الملك وأتباعه. وكرر قوله: {هم} على جهة التأكيد، وحسن ذلك للفاصلة التي بينهما.
وقوله: {واتبعت} الآية، تمادٍ من يوسف عليه السلام في دعائهما إلى الملة الحنيفية، وزوال عن مواجهة- مجلث- لما تقتضيه رؤياه.
وقرأ {آبائي} بالإسكان في الياء الأشهب العقيلي وأبو عمرو، وقرأ الجمهور {آبائيَ} بياء مفتوحة، قال أبو حاتم: هما حسنتان فاقرأ كيف شئت. وأما طرح الهمزة فلا يجوز، ولكن تخفيفها جيد؛ فتصير ياء مكسورة بعد ياء ساكنة أو مفتوحة.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى ملتهم وشرعهم، وكون ذلك فضلاً عليهم بين، إذ خصهم الله تعالى بذلك وجعلهم أنبياء. وكونه فضلاً على الناس هو إذ يدعون به إلى الدين ويساقون إلى النجاة من عذاب الله عز وجل.
وقوله: {من شيء} هي {من} الزائدة المؤكدة التي تكون مع الجحد. وقوله: {لا يشكرون} يريد الشكر التام الذي فيه الإيمان.

.تفسير الآيات (39- 42):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
وصفه لهما ب {صاحبي السجن} هو: إما على أن نسبهما بصحبتهما للسجن من حيث سكناه- كما قال: {أصحاب الجنة} [الأعراف: 44، الحشر: 20]، و{أصحاب الجحيم} [البقرة: 119] ونحو هذا- وإما أن يريد صحبتهما له في السجن، فأضافهما إلى السجن بذلك، كأنه قال: يا صاحبيَّ في السجن، وهذا كما قيل في الكفار إن الأصنام شركاؤهم؛ وعرضه عليهما بطول أمر الأوثان بأن وصفها بالتفرق، ووصف الله تعالى ب الوحدة والقهر تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته، وهكذا الوجه في محاجة الجهلة أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك أبداً حتى يصل إلى الحق، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده؛ وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم.
وقوله: {إلا أسماء} ذهب بعض المتكلمين إلى أنه أوقع في هذه الآية الأسماء على المسميات وعبر عنها بها إذ هي ذوات أسماء.
قال القاضي أبو محمد: والاسم الذي هو ألف وسين وميم- قد يجري في اللغة مجرى النفس والذات والعين، فإن حملت الآية على ذلك صح المعنى، وليس الاسم- على هذا- بمنزلة التسمية التي هي رجل وحجر، وإن أريد بهذه الأسماء التي في الآية أسماء الأصنام التي هي بمنزلة اللات والعزى ونحو ذلك من تسميتها آلهة، فيحتمل أن يريد: إلا ذوات أسماء، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ ويحتمل- وهو الراجح المختار إن شاء الله- أن يريد: ما تعبدون من دونه ألوهية ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط لا بالحقيقة، وأما الحقيقة فهي وسائر الحجارة والخشب سواء، فإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم، فذلك هو معبودكم إذا حصل أمركم؛ فعبر عن هذا المعنى باللفظ المسرود في الآية، ومن هذه الآية وهم من قال- في قولنا: رجل وحجر- إن الاسم هو المسمى في كل حال، وقد بانت هذه المسألة في صدر التعليق.
ومفعول سميتم الثاني محذوف، تقديره: آلهة، هذا على أن {الأسماء} يراد بها ذوات الأصنام، وأما على المعنى المختار- من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء وليست موجودة في الأصنام- فقوله: {سميتموها} بمنزلة وضعتموها، فالضمير للتسميات، ووكد الضمير ليعطف عليه.
وال {سلطان} الحجة، وقوله: {إن الحكم إلا الله} أي ليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، أي فما بالها إذن؟ ويحتمل أن يريد الرد على حكمهم في نصبهم آلهة دون الله تعالى وليس لهم تعدي أمر الله في أن لا يعبد غيره، و{القيم} معناه: المستقيم.
و{أكثر الناس لا يعلمون} لجهالتهم وغلبة الكفر.
ثم نادى {يا صاحبي السجن} ثانية لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب، فروي أنه قال لنبو: أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وقال لمجلث: أما أنت فتصلب، وذلك كله بعد ثلاث، فروي أنهما قالا له ما رأينا شيئاً وإنما تحالمنا لنجربك؛ وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب؛ وقيل: كانا رأيا ثم أنكرا.
وقرأت فرقة: {يَسقي ربه} من سقى، وقرأت فرقة من أسقى، وهما لمعنى واحد لغتان وقرأ عكرمة والجحدري: {فيُسقَى ربه خمراً} بضم الياء وفتح القاف أي ما يرويه.
وأخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله تعالى: إن الأمر قد قضي ووافق القدر.
وقوله: {وقال للذي ظن أنه ناج} الآية. الظن هاهنا- بمعنى اليقين، لأن ما تقدم من قوله: {قضي الأمر} يلزم ذلك، وهو يقين فيما لم يخرج بعد إلى الوجود: وقال قتادة: الظن- هنا- على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن.
قال القاضي أبو محمد: وقول يوسف عليه السلام: {قضي الأمر} دل على وحي ولا يترتب قول قتادة إلا بأن يكون معنى قوله: {قضي الأمر} أي قضي كلامي وقلت ما عندي وتم، والله أعلم بما يكون بعد.
وفي الآية تأويل آخر، وهو: أن يكون {ظن} مسنداً إلى الذي قيل له: إنه يسقي ربه خمراً، لأنه دخلته أبهة السرور بما بشر به وصار في رتبة من يؤمل حين ظن وغلب على معتقده أنه ناج: وذلك بخلاف ما نزل بالآخر المعرف بالصلب.
ومعنى الآية: قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك: {اذكرني} عند الملك، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق، أو يذكره بهما.
والضمير في {أنساه} قيل: هو عائد على يوسف عليه السلام، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق، فروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك، وطول سجنه عقوبة على ذلك، وقيل: أوحي إليه: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك، وقيل: إن الضمير في {أنساه} عائد على الساقي- قاله ابن إسحاق- أي نسي ذكر يوسف عند ربه، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده، والرب على هذا التأويل- الملك.
و{بضع} في كلام العرب اختلف فيه، فالأكثر على أنه من الثلاثة إلى العشرة، قاله ابن عباس، وعلى هذا هو فقه مذهب مالك رحمه الله في الدعاوى والأيمان؛ وقال أبو عبيدة: البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد، وإنما هو من الواحد إلى الأربعة، وقال الأخفش البضع من الواحد إلى العشرة، وقال قتادة: «البضع» من الثلاثة إلى التسعة، ويقوي هذا ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق في قصة خطره مع قريش في غلبة الروم لفارس «أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع» وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة، قال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع العشرات، لا يذكر مع مائة ولا مع ألف، والذي روي في هذه الآية أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين ثم نزلت له قصة الفتيين وعوقب على قوله: {اذكرني عند ربك} بالبقاء في السجن سبع سنين، فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة، وقيل: عوقب ببقاء سنتين، وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث»، ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.