فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (51):

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)}
المعنى: فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن، وقال لهن: {ما خطبكن...} الآية، أي: أي شيء كانت قصتكن؟ فهو استدعاء منه أن يعلمنه القصة فجاوب النساء بجواب جيد، تظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قرر لهن أنهن راودنه قلن- جواباً عن ذلك- {حاش لله} وقد يحتمل- على بعد- أن يكون قولهن {حاش لله} في جهة يوسف عليه السلام، وقولهن: {ما علمنا عليه من سوء} ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في إحدى الجهتين، ولو قلن: ما علمن عليه إلا خيراً لكان أدخل في التبرية. وقد بوب البخاري على هذه الألفاظ على أنها تزكية، وأدخل قول أسامة بن زيد في حديث الإفك: أهلك ولا نعلم إلا خيراً.
قال القاضي أبو محمد: وأما مالك رحمه الله فلا يقنع بهذا في تزكية الشاهد، لأنه ليس بإثبات العدالة.
قال بعض المفسرين فلما سمعت زوجة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي حضرتها نية وتحقيق، فقالت: {الآن حصحص الحق}. و{حصحص} معناه: تبين بعد خفائه، كذا قال الخليل وغيره وقيل: هو مأخوذ من الحصة، أي بانت حصته من حصة الباطل. ثم أقرت على نفسها بالمراودة والتزمت الذنب وأبرأت يوسف البراءة التامة.

.تفسير الآيات (52- 53):

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
قالت جماعة من أهل التأويل: هذه المقالة هي من يوسف عليه السلام، وذلك: {ليعلم} العزيز سيدي {أني لم أخنه} في أهله وهو غائب، وليعلم أيضاً أن الله تعالى {لا يهدي} كيد خائن ولا يرشد سعيه.
قال القاضي أبو محمد: والهدى للكيد مستعار، بمعنى لا يكلمه ولا يمضيه على طريق إصابة، ورب كيد مهدي إذا كان من تقي في مصلحة.
واختلفت هذه الجماعة فقال ابن جريج: هذه المقالة من يوسف هي متصلة بقوله للرسول: {إن ربي بكيدهن عليم} [يوسف: 50]، وفي الكلام تقديم وتأخير، فالإشارة بقوله: {ذلك}- على هذا التأويل- هي إلى بقائه في السجن والتماسه البراءة أي هذا ليعلم سيدي أني لم أخنه.
وقال بعضهم: إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها، إلى قولها: {وإنه لمن الصادقين} [يوسف: 51] فالإشارة- على هذا- إلى إقرارها، وصنع الله تعالى فيه، وهذا يضعف، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك، وبعد هذا يقول الملك: {ائتوني به} [يوسف: 54].
وقالت فرقة من أهل التأويل: هذه الآية من قول امرأة العزيز، وكلامها متصل، أي قولي هذا وإقراري ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته بأن أكذب عليه أو أرميه بذنب هو بريء منه؛ والتقدير- على هذا التأويل توبتي وإقراري ليعلم أني لم أخنه وأن الله لا يهدي..
وعلى أن الكلام من يوسف يجيء التقدير: وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.
وقوله تعالى: {وما أبرئ نفسي} الآية، هذه أيضاً مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة، حسب التي قبلها:
فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك: عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما قال يوسف: {أني لم أخنه بالغيب} قال له جبريل: ولا حين هممت وحللت سراويلك، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك. وروي أن المرأة قالت له ذلك، قاله السدي، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}، قاله ابن عباس أيضاً.
ومن قال: إن المرأة قالت {وما أبرئ نفسي} فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرئ أنا منه نفسي، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه.
و{أمارة} بناء مبالغة، و{ما} في قوله: {إلا ما رحم} مصدرية، هذا قول الجمهور فيها، وهو على هذا. استثناء منقطع، أي إلا رحمة ربي، ويجوز أن تكون بمعنى من، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع، كذا قال أبو علي، فتقدير الآية: إلا النفوس التي يرحمها الله.
قال القاضي أبو محمد: وإذن النفس اسم جنس، فصح أن تقع {ما} مكان من إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه، وهو نص في كلام المبرد، وهو- عندي- معنى كلام سيبويه، وهو مذهب أبي علي- ذكره في البغداديات.
ويجوز أن تكون {ما} ظرفية، المعنى: أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي.
ثم ترجى في آخر الآية بقوله: {إن ربي غفور رحيم}.

.تفسير الآيات (54- 57):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضاً صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فتأمل أن الملك قال أولاً- حين تحقق علمه- {ائتوني به} [يوسف: 50] فقط، فلما فعل يوسف ما فعل، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}، فلما جاءه وكلمه قال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه، إذ المرء مخبوء تحت لسانه؛ ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية حتى ولاه خطة العزيز.
و{أمين} من الأمانة، وقالت فرقة هو بمعنى آمن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيراً ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له: إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي، فقال له يوسف: أتأنف أن آكل معك؟ أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم الخليل، وابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الصديق.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الحديث بعد وضعف، وقد قال ابن ميسرة: إنما جرى هذا في أول أمره، كان يأكل مع العزيز، فلما جرت قصة المرأة قالت للعزيز: أتدع هذا يواكلك؟ فقال له: اذهب فكل مع العبيد؛ فأنف وقال ما تقدم.
اما ان الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك.
وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، ولو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر: ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقال: «عظيم الروم»، ولم يقل: ملكاً ولا أميراً، لأن ذلك حكم، والحق أن يسلم ويسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب، ولو كتب له النبي عليه السلام: أمير الروم، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله: شهد- والله- لي أبو الحسن.
وقوله تعالى: {اجعلني على خزائن الأرض} الآية، فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره في الملك، فألقى يده في الفصل الذي تمكنه فيه المعدلة ويترتب له الإحسان إلى من يجب ووضع الحق على أهله وعند أهله.
قال بعض أهل التأويل: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز له ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام لرغبته في أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر الصديق في الخلافة مه نهيه المستشير من الأنصار عن أن يتأمر على اثنين... الحديث بكماله فجائز للفاضل أن يعمل وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه، وجائز أيضاً للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره.
و{خزائن} لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره. و{حفيظ عليم} صفتان تعم وجوه التثقيف والحيطة لا خلل معهما لعامل. وقد خصص الناس بهاتين الصفتين أشياء، مثل قولهم: {حفيظ} بالحساب {عليم} بالألسن، وقول بعضهم: {حفيظ} لما استودعتني، {عليم} بسني الجوع، وهذا كله تخصيص لا وجه له، وإنما أراد باتصافه أن يعرف الملك بالوجه الذي به يستحق الكون على خزائن الأرض فاتصف بأنه يحفظ المجبي من كل جهة تحتاج إلى الحفظ. ويعلم التناول أجمع. وروي عن مالك بن أنس أنه قال: مصر خزانة الأرض، واحتج بهذه الآية.
وقوله: {خزائن الأرض} يريد أرض مصر إذ لم تكن مملكة فرعون إلا بها فقط، ويؤكد أن تسمى خزانة الأرض نصبتها في بلاد الأرض وتوسطها، فمنها ينقل الناس إلى أقطار الأرض وهي محل كل جالب.
وقوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف} الآية، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الفعال المنصوصة، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض.
قال القاضي أبو محمد: فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق: بل عزله الملك ثم مات أطفير، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه عروساً قال لها: أليس هذا خيراً مما كنت أردت؟ فقالت له: أيها الصديق كنت في غاية الجمال، وكنت شابة عذراء، وكان زوجي لا يطأ، فغلبتني نفسي في حبك، فدخل يوسف بها فوجدها بكراً، وولدت له ولدين. وروي أن الملك عزل العزيز، وولاه موضعه، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد: وأسلم الملك آخر أمره، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه، ومات وافتقرت زوجته، وزمنت وشاخت، فلما كان في بعض الأيام. لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب {هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله، وما أنا من المشركين} [يوسف: 108] فصاحت به وقالت: سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب بالمعصية، فعرفها، وقالت له: تعطف عليَّ وارزقني شيئاً فدعاها وكلمها، وأشفق لحالها، ودعا الله تعالى، فرد عليها جمالها وتزوجها.
قال القاضي أبو محمد: وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه. وقرأ الجمهور: {حيث يشاء} على الإخبار عن يوسف؛ وقرأ ابن كثير وحده {حيث نشاء} بالنون على ضمير المتكلم. أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين؛ وقال أبو علي: إما أن يكون تقدير هذه القراءة: حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها؛ وإما أن يكون معناها: حيث يشاء يوسف، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله من أبي على نزغة اعتزالية، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين، فتأمله.
واللام في قوله: {مكنا ليوسف} يجوز أن تكون على حد التي في قوله: {ردف لكم} [النمل: 72] و{للرؤيا تعبرون} [يوسف: 43]. وقوله: {يتبوأ} في موضع نصب على الحال، و{حيث يشاء} نصب على الظرف أو على المفعول به، كما قال الشماخ: حيث تكوى النواحز. وباقي الآية بين.
ولما تقدم في هذه الآية الإحسان من العبد، والجري على طريق الحق لا يضيع عند الله ولابد من حسن عاقبته في الدنيا، عقب ذلك بأن حال الآخرة أحمد وأحرى أن تجعل غرضاً ومقصداً، وهذا هو الذي ينتزع من الآية بحسب المقيدين بالإيمان والتقوى من الناس وفيها مع ذلك إشارة إلى أن حاله من الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا.

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}
قال السدي وغيره: سبب مجيئهم أن الجماعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب، وروي أنه كان في الغربات من أرض فلسطين بغور الشام. وقيل: كان بالأولاج من ناحية الشعب، وكان صاحب بادية له إبل وشاء، فأصابهم الجوع، وكان أهل مصر قد استعدوا وادخروا من السنين الخصيبة، فكان الناس يمتارون من عند يوسف، وهو في رتبة العزيز المتقدم، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير، يسوي بين الناس، فلما ورد إخوته عرفهم يوسف ولم يعرفوه هم، لبعد العهد وتغير سنه، ولم يقع لهم- بسبب ملكه ولسانه القبطي- ظن عليه؛ وروي في بعض القصص: أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم- بترجمان- أظنكم جواسيس، فاحتاجوا- حينئذ- إلى التعريف بأنفسهم فقالوا: نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثني عشر، ذهب واحد منا في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا، وكانوا عشرة، ولهم أحد عشرة بعيراً؛ فقال لهم يوسف: ولم تخلف أخوكم؟ قالوا: لمحبة أبينا فيه، قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لِمَ أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين؟ وروي في القصص أنهم وردوا مصر، واستأذنوا على العزيز وانتسبوا في الاستئذان، فعرفهم، وأمر بإنزالهم، وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه وأهبة شنيعة؛ وروي أنه كان متلثماً أبداً ستراً لجماله، وأنه كان يأخذ الصواع فينقره، ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه؛ فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم يوسف: صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب، طن يوسف الصاع وقال: كذبتم، ثم تغير لهم، وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك، في قصص طويل جاءت الإشارة إليه في القرآن وجيزة.
والجهاز: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع وكل ما يحمل، وكذلك جهاز العروس وجهاز الميت.
وقول يوسف عليه السلام: {ألا ترون أني أوفى الكيل} الآية، يرغبهم في نفسهم آخراً، ويؤنسهم ويستميلهم. و{المنزلين} يعني المضيفين في قطره ووقته، والجهاز- المشار إليه- الطعام الذي كان حمله لهم، ثم توعدهم إن لم يجيئوا بالأخ بأنه لا كيل لهم عنده في المستأنف، وأمرهم ألا يقربوا له بلداً ولا طاعة، و{لا تقربون} نهي لفظاً ومعنى، ويجوز أن يكون لفظه الخبر ومعناه النهي، وتحذف إحدى النونين كما قرئ {فبم تبشرونِ} [الحجر: 54]- بكسر النون- وهذا خبر لا غير. وخلط النحاس في هذا الموضع؛ وقال مالك رحمه الله: هذه الآية وما يليها تقتضي أن كيل الطعام على البائع، وكذلك هي الرواية في التولية والشركة: أنها بمنزلة البيع، والرواية في القرض: أن الكيل على المستقرض.
وروي أنه حبس منهم شمعون رهينة حتى يجيئوه ببنيامين،- قاله السدي- وروي: أنه لم يحبس منهم أحداً. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان يوسف يلقي حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيطن فيقول لهم: إن هذا الإناء يخبرني أن لكم أباً شيخاً».
قال القاضي أبو محمد: كأنها حيلة وإيهام لهم، وروي: أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام إظهاراً لعزته بحسب غلائه في تلك المدة، وروي: أن يوسف استوفى في تلك السنين أموال الناس، ثم أملاكهم، فمن هناك ليس لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك. وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع ليكمل أجر يعقوب ومحنته وتتفسر الرؤيا الأولى.