فصل: تفسير الآيات (101- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (101- 102):

{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}
قرأ ابن مسعود {آتيتن} و{علمتن} بحذف الياء على التخفيف، وقرأ ابن ذر {رب آتيتني} بغير قد.
وذكر كثير من المفسرين: أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين، ورأى أن الدنيا كلها قليلة فتمنى الموت في قوله: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} وقال ابن عباس: لم يتمن الموت نبي غير يوسف، وذكر المهدوي تأويلاً آخر- وهو الأقوى عندي- أن ليس في الآية تمني موت- وإنما عدد يوسف عليه السلام نعم الله عنده ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره أي {توفني}- إذا حان أجلي- على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين، وإنما تمنى الموافاة على الإسلام لا الموت. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضرّ نزل به» الحديث بكماله. وروي عنه عليه السلام أنه قال في بعض دعائه: «وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون»، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم قد رقّ عظمي وانتشرت وعييت فتوفني غير مقصر ولا عاجز.
قال القاضي أبو محمد: فيشبه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: لضر نزل به- إنما يريد ضرر الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك ويبقى تمني الموت مخافة فساد الدين مباحاً، ويدلك على هذا قول النبي عليه السلام: «يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، ليس به الدين لكن ما يرى من البلاء والفتن».
قال القاضي أبو محمد: فقوله: ليس به الدين- يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة الناس كيف تكون.
وقوله: {آتيتني من الملك} قيل: {من} للتبعيض وقيل: لبيان الجنس؛ وكذلك في قوله: {من تأويل الأحاديث} المراد بقوله: {الأحاديث} الأحلام، وقيل: قصص الأنبياء والأمم.
وقوله: {فاطر} منادى، وقوله: {أنت وليي} أي القائم بأمري الكفيل بنصرتي ورحمتي.
وقوله تعالى: {ذلك من أنباء الغيب} الآية، {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من قصة يوسف، وهذه الآية تعريض لقريش وتنبيه على آية صدق محمد، وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه.
والضمير في {لديهم} عائد إلى إخوة يوسف، وكذلك الضمائر إلى آخر الآية، و{أجمعوا} معناه: عزموا وجزموا، و{الأمر} هنا هو إلقاء يوسف في الجب، والمكر هو أن تدبر على الإنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والخديعة هي أن تفعل بإنسان وتقول له ما يوجب أن يفعل هو فعلاً فيه عليه ضرر. وحكى الطبري عن أبي عمران الجوني أنه قال: والله ما قص الله نبأهم ليعيرهم بذلك، إنهم لأنبياء من أهل الجنة، ولكن قص الله علينا نبأهم لئلا يقنط عبده.

.تفسير الآيات (103- 108):

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}
هاتان الآيتان تدلان أن الآية التي قبلهما فيها تعريض لقريش ومعاصري محمد عليه السلام، كأنه قال: فإخبارك بالغيوب دليل قائم على نبوتك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وإن كنت أنت حريصاً على إيمانهم، أي يؤمن من شاء الله. وقوله: {ولو حرصت} اعتراض فصيح.
وقوله: {وما تسألهم} الآية، توبيخ للكفرة وإقامة الحجة عليهم، أي ما أسفههم في أن تدعوهم إلى الله دون أن تبغي منهم أجراً فيقول قائل: بسبب الأجر يدعوهم.
وقرأ مبشر بن عبيد: {وما نسألهم} بالنون.
ثم ابتدأ الله تعالى الإخبار عن كتابة العزيم. أنه ذكر وموعظة لجميع العالم- نفعنا الله به ووفر حظنا منه بعزته-.
وقرأت الجماعة {وكأيّن} بهمز الألف وشد الياء، قال سيبويه: هي كاف التشبيه اتصلت بأي، ومعناها معنى كم في التكثير. وقرأ ابن كثير {وكائن} بمد الألف وهمز الياء، وهو من اسم الفاعل من كان، فهو كائن ولكن معناه معنى كم أيضاً. وقد تقدم استعاب القراءات في هذه الكلمة في قوله: {وكأين من نبي قتل} [آل عمران: 146].
وال {آيه} هنا المخلوقات المنصوبة للاعتبار والحوادث الدالة على الله سبحانه في مصنوعاته، ومعنى {يمرون عليها} الآية- أي إذا جاء منها ما يحس أو يعلم في الجملة لم يتعظ الكافر به، ولا تأمله ولا أعتبر به بحسب شهواته وعمهه، فهو لذلك كالمعرض، ونحو هذا المعنى قول الشاعر: [الطويل]
تمر الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا ** ويصدع قلبي أن يهب هبوبها

وقرأ السدي {والأرضَ} بالنصب بإضمار فعل، والوقف- على هذا- في {السماوات} وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد {والأرضُ} بالرفع على الابتداء، والخبر قوله: {يمرون} وعلى القراءة بخفض {الأرضِ} ف {يمرون} نعت الآية. وفي مصحف عبد الله: {والأرض يمشون عليها}. وقوله: {وما يؤمن أكثرهم} الآية، قال ابن عباس: هي في أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله ثم يشركون من حيث كفروا بنبيه، أو من حيث قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. وقال عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد هي في كفار العرب، وإيمانهم هو إقرارهم بالخالق والرازق والمميت، فسماه إيماناً وإن أعقبه إشراكهم بالأوثان والأصنام-فهذا الإيمان لغوي فقط من حيث هو تصديقها. وقيل: هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطواف والتلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك، يقول له: قط قط، أي قف هنا ولا تزد: إلا شريك هو لك.
وال {غاشية} ما يغشي ويغطي ويغم، وقرأ أبو حفص مبشر بن عبد الله: {يأتيهم الساعة بغتة} بالياء، و{بغتة} معناه: فجأة، وذلك أصعب، وهذه الآية من قوله: {وكأين} وإن كانت في الكفار-بحكم ما قبلها- فإن العصاة يأخذون من ألفاظها بحظ، ويكون الإيمان حقيقة والشرك لغوياً كالرياء، فقد قال عليه السلام:
الرياء: الشرك الأصغر.
وقوله تعالى: {قل هذه سبيلي} الآية، إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة بأسرها. قال ابن زيد: المعنى: هذا أمري وسنتي ومنهاجي.
وقرأ ابن مسعود: {قل هذا سبيلي} والسبيل: المسلك، وتؤنث وتذكر، وكذلك الطريق، و{بصيرة}: اسم لمعتقد الإنسان في الأمر من الحق واليقين، والبصيرة أيضاً في كلام العرب: الطريقة في الدم، وفي الحديث المشهور: «تنظر في النصل فلا ترى بصيرة»، وبها فسر بعض الناس قول الأشعر الجعفي:
راحوا بصائرهم على أكتافهم ** وبصيرتي يعدو بها عتد وأي

يصف قوماً باعوا دم وليهم فكأن دمه حصلت منه طرائق على أكتفاهم إذ هم موسومون عند الناس ببيع ذلك الدم.
قال القاضي أبو محمد: ويجوز أن تكون البصيرة في بيت الأشعر على المعتقد الحق، أي جعلوا اعتقادهم طلب النار وبصيرتهم في ذلك وراء ظهورهم، كما تقول: طرح فلان أمري وراء ظهره.
وقوله: {أنا ومن اتبعني} يحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في {ادعوا} ويحتمل أن تكون الآية كلها أمارة بالمعروف داعية إلى الله الكفرة به والعصاة.
و{سبحان الله} تنزيه لله، أي وقل: سبحان الله، وقل متبرئاً من الشرك. وروي أن هذه الآية: {قل هذه سبيلي} إلى آخرها كانت مرقومة على رايات يوسف عليه السلام.

.تفسير الآيات (109- 110):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
هذه الآية تتضمن الرد على مستغربي إرسال الرسل من البشر كالطائفة التي قالت: أبعث الله بشراً رسولاً، وكالطائفة التي اقترحت ملكاً وغيرهما.
وقرأ الجمهور: {يوحَى إليهم} بالياء وفتح الحاء، وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر، وقرأ في رواية حفص: {نوحِي} بالنون وكسر الحاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن وطلحة.
و{القرى}: المدن، وخصصها دون القوم المنتوين- أهل العمود- فإنهم في كل أمة أهل جفاء وجهالة مفرطة، قال ابن زيد: {أهل القرى} أعلم وأحلم من أهل العمود.
قال القاضي أبو محمد: فإنهم قليل نبلهم ولم ينشئ الله فيهم رسولاً قط. وقال الحسن: لم يبعث الله رسولاً قط من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن.
قال القاضي أبو محمد: والتبدي مكروه إلا في الفتن وحين يفر بالدين، كقوله عليه السلام «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً» الحديث. وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تعرب في الإسلام» وقال: من «بدا جفا» وروى عنه معاذ بن جبل أنه قال: «الشيطان ذيب الإنسان كذيب الغنم يأخذ الشاة القاصية فإياكم والشعاب وعليكم بالمساجد والجماعات والعامة».
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا ببدو يعقوب، وينفصل عن ذلك بوجهين أحدهما: أن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود بل هو بتقر في منازل وربوع.
والثاني: أنه إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر.
ثم أحالهم على الاعتبار في الأمم السالفة في أقطار الأرض التي كذبت رسلها فحاق بها عذاب الله، ثم حض على الآخرة والاستعداد لها والاتقاء من الموبقات فيها، ثم وقفهم موبخاً بقوله: {أفلا تعقلون}.
وقوله: {ولدار الآخرة} زيادة في وصف إنعامه على المؤمنين، أي عذب الكفار ونجى المؤمنين، ولدار الآخرة أحسن لهم.
وأما إضافة الدار إلى {الآخرة} فقال الفراء: هي إضافة الشيء إلى نفسه كما قال الشاعر: [الوافر]
فإنك لو حللت ديار عبس ** عرفت الذل عرفان اليقين

وفي رواية:
فلو أقوت عليك ديار إلخ.
وكما يقال: مسجد الجامع، ونحو هذا، وقال البصريون: هذه على حذف مضاف تقديره: ولدار الحياة الآخرة أو المدة الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأسماء التي هي للأجناس كمسجد وثوب وحق وجبل ونحو ذلك- إذا نطق بها الناطق لم يدر ما يريد بها، فتضاف إلى معرف مخصص للمعنى المقصود فقد تضاف إلى جنس آخر كقولك: جبل أحد، وقد تضاف إلى صفة كقولك: مسجد الجامع وحق اليقين، وقد تضاف إلى اسم خاص كقولك جبل أحد ونحوه.
وقرأ الحسن والأعمش والأعرج وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وعلقمة {يعقلون} بالياء، واختلف عن الأعمش. قال أبو حاتم: قراءة العامة: {أفلا تعقلون} بالتاء من فوق.
ويتضمن قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوا أممهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات، صاروا في حيز من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن تدخل {حتى} في قوله: {حتى إذا استيأس الرسل}.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن وعائشة- بخلاف- وعيسى وقتادة ومحمد بن كعب والأعرج وأبو رجاء وابن أبي مليكة {كُذّبوا} بتشديد الذال وضم الكاف، وقرأ الباقون {كُذِبوا} بضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها- وهي قراءة علي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والأعمش وابن جبير ومسروق والضحاك وإبراهيم وأبي جعفر، ورواها شيبة بن نصاح عن القاسم عن عائشة- وقرأ مجاهد والضحاك وابن عباس وعبد الله بن الحارث- بخلاف عنهم- {كَذَبوا} بفتح الكاف والذال، فأما الأولى فتحتمل أن يكون الظن بمعنى اليقين، ويكون الضمير في {ظنوا} وفي {كذبوا} للرسل، ويكون المكذبون مشركي من أرسل إليه؛ المعنى: وتيقن الرسل أن المشركين كذبوهم وهموا على ذلك وأن الانحراف عنه ويحتمل أن يكون الظن على بابه، والضميران للرسل، والمكذبون مؤمنو من أرسل إليه، أي مما طالت المواعيد حسب الرسل أن المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم.
وأما القراءة الثانية- وهي ضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها- فيحتمل أن يكون المعنى- حتى إذا استيأس الرسل من النصر أو من إيمان قومهم- على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك- وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوءة، أو فيما توعدوهم به من العذاب- لما طال الإمهال واتصلت العافية- فلما كان المرسل إليهم- على هذا التأويل- مكذبين- بني الفعل للمفعول في قوله: {كُذِبوا}- هذا مشهور قول ابن عباس وابن جبير- وأسند الطبري: أن مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} فهذا هو أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مخففة. فقال له ابن جبير: يا أبا عبد الرحمن؛ إنما يئس الرسل من قومهم أن يجيبوهم، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم، فحينئذ جاء النصر. فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال: فرجت عني فرج الله عنك.
قال القاضي أبو محمد: فرضي الله عنهم كيف كان خلقهم في العلم. وقال بهذا التأويل- في هذه القراءة- ابن مسعود ومجاهد، ورجح أبو علي الفارسي هذا التأويل، وقال: إن رد الضمير في {ظنوا} وفي {كذبوا} على المرسل إليهم- وإن كان لم يتقدم لهم ذكر صريح- جائز لوجهين.
أحدهما: أن ذكر الرسل يقتضي ذكر مرسل إليه.
والآخر: أن ذكرهم قد أشير إليه في قوله: {عاقبة الذين}، وتحتمل هذه القراءة أيضاً أن يكون الضمير في {ظنوا} وفي {كذبوا} عائد على الرسل، والمعنى: كذبهم من أخبرهم عن الله، والظن على بابه- وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم- والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم- قاله ابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن جبير- وقال: ألم يكونوا بشراً؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا هو الذي نكره. وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا. وقال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز على الرسل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم؟
وأما القراءة الثالثة- وهي فتح الكاف والذال- فالضمير في {ظنوا} للمرسل إليهم، والضمير في {كذبوا} للرسل، ويحتمل أن يكون الضميران للرسل، أي ظن الرسل أنهم قد كذبوا من حيث نقلوا الكذب وإن كانوا لم يتعمدوه، فيرجع هذا التأويل إلى المعنى المردود الذي تقدم ذكره.
وقوله: {جاءهم نصرنا} أي بتعذيب أممهم الكافرة، ثم وصف حال مجيء العذاب في أنه ينجي الرسل وأتباعهم، وهم الذين شاء رحمتهم، ويحل بأسه بالمجرمين الكفرة.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي {فنُنْجي}- بنونين- من أنجى. وقرأ الحسن: {فننَجي}- النون الثانية مفتوحة، وهو من نجى ينجّي. وقرأ أبو عمرو أيضاً وقتادة {فنجّي}- بنون واحدة وشد الجيم وسكون الياء- فقالت فرقة: إنها كالأولى أدغمت النون الثانية في الجيم؛ ومنع بعضهم أن يكون هذا موضع إدغام لتنافر النون والجيم في الصفات لا في المخارج، وقال: إنما حذفت النون في الكتاب لا في اللفظ وقد حكيت هذه القراءة عن الكسائي ونافع. وقرأ عاصم وابن عامر {فنجيَ} بفتح الياء على وزن فعل. وقرأت فرقة {فننجيَ}- بنونين وفتح الياء- رواها هبيرة عن حفص عن عاصم- وهي غلط من هبيرة. وقرأ ابن محيصن ومجاهد {فنجى}- فعل ماض بتخفيف الجيم وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن بن أبي الحسن وابن السميفع وأبي حيوة، قال أبو عمرو الداني: وقرأت لابن محيصن {فنجّى}- بشد الجيم- على معنى فنجى النصر.
والبأس: العذاب. وقرأ أبو حيوة «من يشاء»- بالياء- وجاء الإخبار عن هلاك الكافرين، بقوله: {ولا يرد بأسنا...} الآية- إذ في هذه الألفاظ وعيد بين، وتهديد لمعاصري محمد عليه السلام. وقرأ الحسن {بأسه}، بالهاء.