فصل: تفسير الآيات (5- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 7):

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
هذه آية توبيخ للكفرة أي {وإن تعجب} يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق- فهم أهل لذلك، وعجب وغريب ومزر بهم {قولهم}: أنعود بعد كوننا {تراباً}- خلقاً جديداً- ويحتمل اللفظ منزعاً آخر أي وإن كنت تريد عجباً فلهم، فإن من أعجب العجب {قولهم}.
واختلف القراء في قراءة قوله: {أئذا كنا تراباً} فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد} جميعاً بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد. وقرأ نافع {أئذا كنا} مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ {إنا لفي خلق جديد} مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة {أئذا كنا تراباً أئنا} بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر {إذا كنا} مكسورة الألف من غير استفهام {ءائنا} يهمز ثم يمد ثم يهمز، فمن قرأ بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني، وإذا ظرف له، وإذا في موضع نصب بفعل مضمر، تقديره: انبعث أو نحشر إذا. ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين،- ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
والإشارة ب {أولئك} إلى القوم القائلين: {أئذا كنا تراباً} وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر.
وقوله: {وأولئك الأغلال} يحتمل معنيين:
أحدهما: الحقيقة وأنه أخبر عن كون {الأغلال في أعناقهم} في الآخرة فهي كقوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71].
ويحتمل أن يكون مجازاً وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب، وهي كقوله تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فهم مقمحون} [يس: 8] وباقي الآية بين.
وقال بعض الناس {الأغلال}-هنا- عبارة عن الأعمال، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال.
قال القاضي أبو محمد: وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه.
وقوله تعالى: {ويستعجلونك بالسيئة...} الآية، هذه آية تبين تخطيئهم في أن يتمنوا المصائب، ويطلبوا سقوط كسف من السماء أو حجارة تمطر عليهم ونحو هذا مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير؛ ولو كان ذلك لم ينزل قط لكانوا أعذر، و{المثلات} جمع مثلة، كسمرة وسمرات، وصدقة وصدقات.
وقرأ الجمهور {المَثُلات} بفتح الميم وضم الثاء، وقرأ مجاهد {المَثَلات} بفتح الميم والثاء، وذلك جمع مثلة، أي الأخذة الفذة بالعقوبة، وقرأ عيسى بن عمر {المُثُلات} بضم الميم والتاء، ورويت عن أبي عمرو؛ وقرأ يحيى بن وثاب بضم الميم وسكون الثاء، وهاتان جمع مثلة، وقرأ طلحة بن مصرف {المَثْلات} بفتح الميم وسكون الثاء.
ثم رجّى عز وجل بقوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال الطبري: معناه في الآخرة، وقال قوم: المعنى: إذا تابوا، وشديد العقاب إذا كفروا.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من معنى المغفرة هنا إنما هو ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة، ألا ترى التيسير في لفظ {مغفرة}، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة كما في قوله: {وإني لغفار لمن تاب} [طه: 82] ونمط الآية يعطي هذا، ألا ترى حكمه عليهم بالنار، ثم قال: {ويستعجلونك} فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر، ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد.
ثم خوف بقوله: {وإن ربك لشديد العقاب} قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله ومغفرته لما تمنى أحد عيشاً، ولولا عقابه لاتكل كل أحد» وقال ابن عباس: ليس في القرآن أرجى من هذه الآية.
و{المثلات} هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلاً يتمثل به، ومنه التمثيل بالقتلى، ومنه المثلة بالعبيد.
وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا} الآية، هذه آية غض من اقتراحاتهم المتشططة التي لم يجر الله به عادة إلا للأمم التي حتم بعذابها واستئصالها، والآية هنا يراد بها الأشياء التي سمتها قريش كالملك والكنز وغير ذلك، ثم أخبره الله تعالى بأنه {منذر} وهذا الخبر قصد هو بلفظه، والناس أجمعون بمعناه.
واختلف المتأولون في قوله: {ولكل قوم هاد} فقال عكرمة وأبو الضحى: المراد بالهادي محمد عليه السلام، و{هادٍ} عطف على {منذر} كأنه قال: إنما أنت {منذر} و{هادٍ} لكل قوم. فيكون هذا المعنى يجري مع قوله عليه السلام: «بعثت للأسود والأحمر» و{هادٍ}- على هذا- في هذه الآية بمعنى داعٍ إلى طريق الهدى. وقال مجاهد وابن زيد: المعنى: إنما أنت منذر ولكل أمة سلفت هادٍ أي نبي يدعوهم.
قال القاضي أبو محمد: والمقصد: فليس أمرك يا محمد ببدع ولا منكر، وهذا يشبه غرض الآية.
وقالت فرقة: الهادي في هذه الآية الله عز وجل، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير، و{هادٍ}- على هذا- معناه مخترع للرشاد.
قال القاضي أبو محمد: والألفاظ تطلق بهذا المعنى، ويعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع.
وقالت فرقة الهادي: علي بن أبي طالب، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم- من طريق ابن عباس- أنه قرأ هذه الآية وعلي حاضر، فأومأ بيده إلى منكب علي وقال: «أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي».
قال القاضي أبو محمد: والذي يشبهه- إن صح هذا- أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل علياً رضي الله عنه مثالاً من علماء الأمة وهداتها إلى الدين، كأنه قال: أنت يا علي وصنفك، فيدخل في هذا أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة، ثم كذلك من كل عصر، فيكون المعنى- على هذا- إنما أنت يا محمد ولكل قوم في القديم والحديث رعاة وهداة إلى الخير.
قال القاضي أبو محمد: والقولان الأولان أرجح ما تأول في الآية.

.تفسير الآيات (8- 10):

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}
لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور- قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث:
فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث، من الأجنة من كل نوع من الحيوان؛ وهذه البدأة تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة.
و{ما} في قوله: {ما تحمل} يصح أن تكون بمعنى الذي، مفعولة {يعلم} ويصح أن تكون مصدرية، مفعولة أيضاً ب {يعلم}، ويصح أن تكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، والخبر: {تحمل} وفي هذا الوجه ضعف.
وفي مصحف أبي بن كعب: {ما تحمل كل أنثى وما تضع}.
وقوله: {وما تغيض الأرحام} معناه: ما تنقص، وذلك أنه من معنى قوله: {وغيض الماء} [هود: 44] وهو بمعنى النضوب فهي- هاهنا- بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه، فلما قابله قوله: {وما تزداد} فسر بمعنى النقصان: ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان: فقال مجاهد غيض الرحم أن يهرق دماً على الحمل، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم، فهذا هو معنى قوله: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل.
وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض، فيكون قوله: {وما تزداد}- بعد ذلك- جارياً مجرى {تغيض} على غير مقابلة، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه.
وقال الضحاك: غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاماً في خلقه.
وقال قتادة: الغيض: السقط، والزيادة: البقاء بعد تسعة أشهر.
وقوله: {وكل شيء عنده بمقدار} لفظ عام في كل ما يدخله التقدير، و{الغيب}: ما غاب عن الإدراكات، و{الشهادة}: ما شهود من الأمور، ووضع المصادر موضع الأشياء التي كل واحد منها لابد أن يتصف بإحدى الحالتين.
وقوله: {الكبير} صفة تعظيم على الإطلاق، والمتعالي من العلو.
واختلفت القراءة في الوقف على المتعال: فأثبت ابن كثير وأبو عمرو- في بعض ما روي عنه- الياء في الوصل والوقف، ولم يثبتها الباقون في وصل ولا وقف. وإثباتها هو الوجه والباب. واستسهل سيبويه حذفها في الفواصل- كهذه الآية- قياساً على القوافي في الشعر، ويقبح حذفها في غير فاصلة ولا شعر، ولكن وجهه أنه لما كان التنوين يعاقب الألف واللام أبداً، وكانت هذه الياء تحذف مع التنوين، حسن أن تحذف مع معاقبة.
قال القاضي أبو محمد: ويتصل بهذه الآية فقد يحسن ذكره. فمن ذلك اختلاف الفقهاء في الدم الذي تراه الحامل، فذهب مالك رحمه الله وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وجماعة، إلى أنه حيض. وقالت فرقة عظيمة: ليس حيض، ولو كان حيضاً لما صح استبراء الأمة بحيض وهو إجماع. وروي عن مالك- في كتاب محمد- ما يقتضي أنه ليس بحيض، ومن ذلك أن الأمة مجمعة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذلك منتزع من قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف: 15] مع قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة: 233].
وهذه الستة أشهر هي بالأهلة- كسائر أشهر الشريعة- ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك- وأظنه في كتاب ابن حارث- أنه إن نقص من الأشهر الستة ثلاثة أيام، فإن الولد يلحق لعلة نقص الشهور وزيادتها واختلف في أكثر الحمل فقيل تسعة أشهر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقالت عائشة وجماعة من العلماء أكثره حولان، وقالت فرقة: ثلاثة أعوام وفي المدونة: أربعة أعوام وخمسة أعوام. وقال ابن شهاب وغيره: سبعة أعوام، ويروى أن ابن عجلان ولدت امرأته لسبعة أعوام، وروي أن الضحاك بن مزاحم بقي حولين- قال: وولدت وقد نبتت ثناياي، وروي أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر.
وقوله تعالى: {سواء منكم} الآية: {سواء} مصدر وهو يطلب بعده شيئين يتماثلان. ورفعه على خبر الابتداء الذي هو من والمصدر لا يكون خبراً إلا بإضمار كما قالت الخنساء: [البسيط]:
.................. ** فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. فقالت فرقة هنا: المعنى: ذو سواء، وقال الزجاج كثر استعمال سواء في كلام العرب حتى جرى مجرى اسم الفاعل فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: هو عندي كعدل وزور وضيف.
وقالت فرقة: المعنى: مستوٍ منكم، فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: وضعف هذا سيبويه بأنه ابتداء بنكرة.
ومعنى هذه الآية: معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله فهمس به في نفسه، {ومن جهر به} فأسمع، لا يخفى على الله تعالى شيء.
وقوله تعالى: {ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} معناه: من هو بالليل في غاية الاختفاء، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما. وذهب ابن عباس ومجاهد إلى معنى مقتضاه: أن المستخفي والسارب هو رجل واحد مريب بالليل، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس.
قال القاضي أبو محمد: فهذا قسم واحد جعل الليل نهار راحته، والمعنى: هذا والذي أمره كله واحد بريء من الرب سواء في اطلاع الله تعالى على الكل، ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار {من} ولا يأتي حذفها إلا في الشعر والسارب- في اللغة- المتصرف كيف شاء، ومن ذلك قول الشاعر: [الأخنس بن شهاب الثعلبي] [الطويل]
أرى كل قوم كاربوا قيد محلهم ** ونحن حللنا قيده فهو سارب

أي متصرف غير مدفوع عن جهة، هذا رجل يفتخر بعزة قومه، ومن ذلك قول الآخر: [قيس بن الخطيم] [الكامل]
إني سربت وكنت غير سروب ** وتقرب الأحلام غير قريب

وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف: فالذي يسر طرف، والذي يجهر طرف مضاد للأول، والثالث: متوسط متلون: يعصي بالليل مستخفياً، ويظهر البراءة بالنهار. و{القول} في الآية يطرد معناه في الأعمال.
وقال قطرب- فيما حكى الزجاج- {مستخف} معناه: الظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته.
قال القاضي أبو محمد: قال امرؤ القيس: [الطويل]
خفاهن من أنفاقهن كأنما ** خفاهن ودق من عشي مجلّب

قال: و{سارب} معناه: متوار في سرب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول- وإن كان تعلقه باللغة بيناً- فضعيف، لأن اقتران الليل بـ المستخفي، والنهار بـ السارب- يرد على هذا القول.