فصل: تفسير الآيات (30- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (30- 32):

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)}
الكاف في {كذلك} متعلقة بالمعنى الذي في قوله: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} [الرعد: 27] أي كما أنفذ الله هذا {كذلك} أرسلتك- هذا قول- والذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي، لا بالآيات المقترحة. فكذلك أيضاً فعلنا في هذه الأمة: {أرسلناك} إليها بوحي، لا بآيات مقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
وقوله: {وهم يكفرون بالرحمن} قال قتادة وابن جريج: نزلت حين عاهدهم رسول الله عام الحديبية، فكتب الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال قائلهم: نحن لا نعرف الرحمن ولا نقرأ اسمه.
قال القاضي أبو محمد: والذي أقول في هذا: أن {الرحمن} يراد به الله تعالى وذاته، ونسب إليهم الكفر به على الإطلاق، وقصة الحديبية وقصة أمية بن خلف مع عبد الرحمن بن عوف، إنما هي إباية الاسم فقط، وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل محمد عليه السلام.
ثم أمر الله تعالى نبيه بالتصريح بالدين والإفصاح بالدعوة في قوله: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت} والمتاب: المرجع كالمآب، لأن التوبة الرجوع.
ويحتمل قوله: {ولو أن قرآنا} الآية، أن يكون متعلقاً بقوله: {وهم يكفرون بالرحمن} فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض- هذا تأويل الفراء وفرقة من المتألين- وقالت فرقة: بل جواب {لو} محذوف، تقديره: ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه، وقال أهل هذا التأويل- ابن عباس ومجاهد وغيرهما- إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلاناً وفلاناً- فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله، وقالت فرقة: جواب {لو} محذوف، ولكن ليس في هذا المعنى، بل تقديره: لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به، وتتضمن الآية- على هذا- تعظيم القرآن، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية.
وقوله: {بل لله الأمر جميعاً} يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين.
وقوله: {أفلم ييئس الذين آمنوا} الآية، {ييئس} معناه: يعلم، وهي لغة هوازن- قاله القاسم بن معن- وقال ابن الكلبي: هي لغة هبيل حي من النخع، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي: [الطويل]
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ** ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: {ولو أن قرآناً} الآية- على التأويلين في المحذوف المقدر- قال في هذه الآية: أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، علماً منهم {أن لو يشاء لهدى الناس جميعاً}.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن {يأيس} وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد {أفلم يتبين}.
ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته.
وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد: {ولا يزال الذين ظلموا} ثم قال: {أو تحل} أنت يا محمد {قريباً من دارهم} هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة- وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى {أو تحل} القارعة {قريباً من دارهم}.
وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير: {أو يحل} بالياء {قريباً من ديارهم} بالجمع.
و{وعد الله}- على قول ابن عباس وقوم- فتح مكة، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة، وأن حال الكفرة هكذا هي أبداً. و{وعد الله}: قيام الساعة، و{القارعة}: الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه.
وقوله: {ولقد استهزئ} الآية، هذه آية تأنيس للنبي عليه السلام، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، قد تقدم هذا في الأمم وأمليت لهم أي مددت المدة وأطلت، والإملاء: الإمهال على جهة الاستدراج، وهو من الملاوة من الزمن، ومنه: تمليت حسن العيش. وقوله: {فكيف كان عقاب} تقرير وتعجيب، في ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام.

.تفسير الآيات (33- 35):

{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}
هذه الآية راجعة بالمعنى إلى قوله: {وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إله إلا هو} [الرعد: 30] والمعنى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر؟- هذا تأويل- ويظهر أن القول مرتبط بقوله: {وجعلوا لله شركاء} كأن المعنى: أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك أهل أن ينتقم ويعاقب أم لا؟.
والأنفس من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به لتقرب الموعظة من حس السامع. ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه.
وقوله: {قل سموهم} أي سموا من له صفات يستحق بها الألوهية ثم أضرب القول وقرر: هل تعلمون الله {بما لا يعلم}؟.
وقرأ الحسن: {هل تنْبئونه} بإسكان النون وتخفيف الباء و{أم} هي بمعنى: بل، وألف الاستفهام- هذا مذهب سيبويه- وهي كقولهم: إنها لإبل أم شاء.
ثم قررهم بعد، هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر، لأن ظاهر الأمر له إلباس ما وموضع من الاحتمال، وما لم يكن إلا بظاهر القول فقط فلا شبهة له.
وقرأ الجمهور {زُين} على بناء الفعل للمفعول {مكرُهم} بالرفع، وقرأ مجاهد {زَين} على بنائه للفاعل {مكرَهم} بالنصب، أي زين الله، و{مكرهم}: لفظ يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {وصُدوا} بضم الصاد، وهذا على تعدي الفعل وقرأ الباقون هنا، وفي {صم} المؤمن- بفتحها، وذلك يحتمل أن يكون {صَدوا} أنفسهم أو {صدوا} غيرهم، وقرأ يحيى بن وثاب: وصِدوا بكسر الصاد.
وقوله: {لهم عذاب} الآية، آية وعيد أي لهم عذاب في دنياهم بالقتل والأسر والجدوب والبلايا في أجسامهم وغير ذلك مما يمتحنهم الله، ثم لهم في الآخرة عذاب {أشق} من هذا كله، وهو الاحتراق بالنار، و{أشق} أصعب من المشقة، والواقي: الساتر على جهة الحماية من الوقاية.
وقوله تعالى: {مثل الجنة} الآية، قال قوم: {مثل} معناه، صفة، وهذا من قولك: مثلت الشيء، إذا وصفته لأحد وقربت عليه فهم أمره، وليس بضرب مثل لها، وهو كقوله: {وله المثل الأعلى} [الروم: 27] أي الوصف الأعلى. ويظهر أن المعنى الذي يتحصل في النفس مثالاً للجنة هو جري الأنهار وأن أكلها دائم.
وراجعه عند سيبويه فقدر قبل، تقديره: فيما يتلى عليكم أو ينص عليكم مثل الجنة. وراجعه عند الفراء قوله: {تجري} أي صفة الجنة أنها {تجري من تحتها الأنهار} ونحو هذا موجود في كلام العرب، وتأول عليه قوم: أن {مثل} مقحم وأن التقدير: {الجنة التي وعد المتقون تجري}.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود {أمثال الجنة}.
وقد تقدم غيره مرة معنى قوله: {تجري من تحتها الأنهار} وقوله: {أكلها} معناه: ما يؤكل فيها. والعقبى والعاقبة والعاقب: حال تتلو أخرى قبلها. وباقي الآية بين.
وقيل: التقدير في صدر الآية، مثل الجنة جنة تجري- قاله الزجاج- فتكون الآية على هذا ضرب مثل لجنة النعيم في الآخرة.

.تفسير الآيات (36- 39):

{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}
اختلف المتأولون فيمن عنى بقوله: {الذين آتيناهم الكتاب} فقال ابن زيد: عنى به من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وشبهه.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى: مدحهم بأنهم لشدة إيمانهم يسرون بجميع ما يرد على النبي عليه السلام من زيادات الشرع.
وقال قتادة: عنى به جميع المؤمنين، و{الكتاب} هو القرآن، و{بما أنزل إليك} يراد به، جميع الشرع. وقالت فرقة: المراد ب {الذين آتيناهم الكتاب} اليهود والنصارى، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق شرائعهم وذكر أوائلهم.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا التأويل بأن همهم به أكثر من فرحهم، ويضعف أيضاً بأن اليهود والنصارى ينكرون بعضه. وقد فرق الله في هذه الآية بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب.
و{الأحزاب} قال مجاهد: هم اليهود والنصارى والمجوس، وقالت فرقة: هم أحزاب الجاهلية من العرب. وأمره الله تعالى أن يطرح اختلافهم ويصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله وترك الإشراك، والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه وهو الرجوع عند البعث يوم القيامة.
وقوله: {وكذلك} المعنى: كما يسرنا هؤلاء للفرح، وهؤلاء لإنكار البعض، كذلك {أنزلناه حكماً عربياً}، ويحتمل المعنى: والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم.
ثم عدد النعمة بقوله: {كذلك جعلناه} أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا.
و{حكماً} نصب على الحال، والحكم هو ما تضمنه القرآن من المعاني، وجعله {عربياً} لما كانت العبارة عنه بالعربية.
ثم خاطب النبي عليه السلام محذراً من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة، والخطاب لمحمد عليه السلام، وهو بالمعنى بتناول المؤمنين إلى يوم القيامة.
ووقف ابن كثير وحده على واقي وهادي ووالي بالياء. قال أبو علي: والجمهور يقفون بغير ياء، وهو الوجه. وباقي الآية بين.
وقوله: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} الآية. في صدر هذه الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم ورد على المقترحين من قريش بالملائكة المتعجبين من بعثة الله بشراً رسولاً. فالمعنى: أن بعثك يا محمد ليس ببدع فقد تقدم هذا في الأمم. ثم جاء قوله: {وما كان لرسول} الآية، لفظه لفظ النهي والزجر، والمقصود به إنما هو النفي المحض، لكنه نفي تأكد بهذه العبارة، ومتى كانت هذه العبارة عن أمر واقع تحت قدرة المنهي فهي زجر، ومتى لم يقع ذلك تحت قدرته فهو نفي محض مؤكد، و{بإذن الله} معناه: إلا أن يأذن الله في ذلك.
وقوله: {لكل أجل كتاب} لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال، وذلك أنه ليس كائن منها إلا وله أجل في بدئه أو في خاتمته.
وكل أجل مكتوب محصور، فأخبر تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة، وقال الضحاك والفراء: المعنى: لكل كتاب أجل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا العكس غير لازم ولا وجه له، إذ المعنى تام في ترتيب القرآن، بل يمكن هدم قولهما بأن الأشياء التي كتبها الله تعالى أزلية باقية كتنعيم أهل الجنة وغيره يوجد كتابها لا أجل له.
وقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {ويثبّت} بشد الباء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {ويثبت} بتخفيفها.
وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتخلص به مشكلها: أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي ثبتت في {أم الكتاب} وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها-ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت. وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم.
وقالت فرقة- منها الحسن- هي في آجال بني آدم، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر، وقيل:- في ليلة نصف شعبان- يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى. وقال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم {يمحو الله ما يشاء ويثبت}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاماً في جميع الأشياء، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها، أعني ما من شأنه أن يغير-على ما قدمناه- فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما: اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها. أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك.
وقيل: إن هذه الآية نزلت لأن قريشاً لما سمعت قول الله تعالى: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}، قال: ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ، فنزلت {يمحو الله ما يشاء ويثبت} أي ربما أذن الله من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن.
وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: معنى الآية {يمحو الله ما يشاء ويثبت} من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو ما أحلناه أولاً في الآية.
وحكي عن فرقة أنها قالت: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئاً. وقالت فرقة معناه: يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة.
وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعباً قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وما هي؟ قال: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وذكر أبو المعالي في التلخيص: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب.
قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي لا يصح عن علي.
واختلفت أيضاً عبارة المفسرين في تفسير {أم الكتاب} فقال ابن عباس: هو الذكر، وقال كعب: هو علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون.
قال القاضي أبو محمد: وأصوب ما يفسر به {أم الكتاب} أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن وسبق ألا تبدل، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت- قال نحوه قتادة- وقالت فرقة: معنى {أم الكتاب} الحلال والحرام- وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.