فصل: تفسير الآيات (130- 132):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (130- 132):

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
{من} استفهام في موضع رفع بالابتداء، و{يرغب} خبره، والمعنى يزهد ويربأ بنفسه عنها، والملة الشريعة والطريقة، و{سفه} من السفه الذي معناه الرقة والخفة، واختلف في نصب {نفسه}، فقال الزجاج: {سفه} بمعنى جهل وعداه بالمعنى، وقال غيره: {سفه} بمعنى أهلك، وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها، وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة، وقال الفراء نصبها على التمييز.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: لأن السفه يتعلق بالنفس والرأي والخلق، فكأنه ميزها بين هذه ورأوا أن هذا التعريف ليس بمحض لأن الضمير فيه الإبهام الذي في {من}، فكأن الكلام: إلا من سفه نفساً، وقال البصريون: لا يجوز التمييز مع هذا التعريف، وإنما النصب على تقدير حذف في، فلما انحذف حرف الجر قوي الفعل، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم ضرب فلان الظهر والبطن أي في الظهر والبطن، وحكى مكي أن التقدير {إلا من سفه} قوله: {نفسه} على أن نفسه تأكيد حذف المؤكد وأقيم التوكيد مقامه قياساً على النعت والمنعوت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول متحامل، و{اصطفى} افتعل من الصفوة معناه تخير الأصفى، وأبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق، ومعنى هذا الاصطفاء أنه نبأه واتخذه خليلاً، و{في الآخرة} متعلق باسم فاعل مقدر من الصلاح، ولا يصلح تعلقه ب {الصالحين} لأن الصلة لا تتقدم الموصول، هذا على أن تكون الألف واللام بمعنى الذي، وقال بعضهم: الألف واللام هنا للتعريف ويستقيم الكلام، وقيل: المعنى أنه من عمل الآخرة {لمن الصالحين}، فالكلام على حذف مضاف.
وقوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم}، العامل في {إذ} {اصطفيناه}، وكان هذا القول من الله حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. والإسلام هنا على أتم وجوهه، وقرأ نافع وابن عامر {وأوصى}، وقرأ الباقون {ووصى}، والمعنى واحد، إلا أن وصى يقتضي التكثير، والضمير في {بها} عائد على كلمته التي هي {أسلمت لرب العالمين}، وقيل: على الملة المتقدمة، والأول أصوب لأنه أقرب مذكور، وقرأ عمرو بن فائد الأسواري ويعقوبَ بالنصب على أن يعقوب داخل فيمن أوصى، واختلف في إعراب رفعه، فقال قوم من النحاة: التقدير ويعقوب أوصى بنيه أيضاً، فهو عطف على {إبراهيم}، وقال بعضهم: هو مقطوع منفرد بقوله: {يا بني}، فتقدير الكلام ويعقوب قال يا بني، و{اصطفى} هنا معناه تخير صفة الأديان، والألف واللام في {الدين} للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه، وكسرت {إنّ} بعد {أوصى} لأنها بمعنى القول، ولذلك سقطت {إن} التي تقتضيها {أوصى} في قوله: {أن يا بني}، وقرأ ابن مسعود والضحاك {أن يا بني} بثبوت أن.
وقوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} إيجاز بليغ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظاً وتذكيراً بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى؟ فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه من وقت الأمر دائباً لازماً، وحكى سيبويه فيما يشبه هذا المعنى قوله: لا أرينك ها هنا، وليس إلى المأمور أن يحجب إدراك الأمر عنه، فإنما المقصود، اذهب وزل عن هاهنا، فجاء بالمقصود بلفظ يزيد معنى الغضب والكراهية، و{أنتم مسلمون} ابتداء وخبر في موضع الحال.

.تفسير الآيات (133- 135):

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية، والإسلام، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم؟، أي لم تشهدوا بل أنتم تفترون، و{أم} تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وحكى الطبري أن {أم} يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه، ومنه {أم يقولون افتراه} [يونس: 38، هود: 13، 35، السجدة: 3، الأحقاف: 8]، وقال قوم: {أم} بمعنى بل، والتقدير بل شهد أسلافكم يعقوب وعلمتم منهم ما أوصى به، ولكنكم كفرتم جحداً ونسبتموهم إلى غير الحنيفية عناداً، والأظهر أنها التي بمعنى بل وألف الاستفهام معاً، و{شهداء} جمع شاهد أي حاضر، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئاً، وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم، والعامل في {إذ}: {شهداء}، و{إذ قال} بدل من {إذ} الأولى، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم، وأيضاً فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه، و{من بعدي} أي من بعد موتي، وحكي أن يعقوب عليه السلام حين خير كما يخير الأنبياء اختار الموت، وقال أمهلوني حتى أوصي بنيَّ وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا: {نعبد إلهك} الآية، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عمٌّ.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في العباس: «ردوا علي أبي، إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود».
وقال عنه في موطن آخر: «هذا بقية آبائي»، ومنه قوله عليه السلام: «أنا ابن الذبيحين» على القول الشهير في إن إسحاق هو الذبيح.
وقرأ الحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء {وإله أبيك}، واختلف بعد فقيل هو اسم مفرد أرادوا به إبراهيم وحده، وقال بعضهم: هو جمع سلامة، وحكى سيبويه أب وأبون وأبين. قال الشاعر: [زياد بن واصل السلمي]: [المتقارب]:
فلمّا تبيَّنَّ أصواتنا ** بكينَ وَفَدَّيْنَنَا بالأبينا

وقال ابن زيد: يقال قدم إسماعيل لأنه أسن من إسحاق و{إلهاً} بدل من {إلهك}، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية، وقيل {إلهاً} حال، وهذا قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية، {نحن له مسلمون} ابتداء وخبر، أي كذلك كنا نحن ونكون، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل {نعبد}، والتأويل الأول أمدح.
وقوله تعالى: {قد خلت} في موضع رفع نعت لأمة، ومعناه ماتت وصارت إلى الخلاء من الأرض، ويعنى بالأمة الأنبياء المذكورون، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى، أي أنتم أيها الناحلوهم اليهودية والنصرانية، ذلك لا ينفعكم، لأن كل نفس {لها ما كسبت} من خير وشر، فخيرهم لا ينفعكم إن كسبتم شراً، وفي هذه الآية رد على الجبرية القائلين لا اكتساب للعبد، {ولا تسألون عما كانوا يعملون} فتنحلوهم ديناً.
وقولهم: {كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا} نظير قولهم {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} [البقرة: 111]، ونصب {ملة} بإضمار فعل، أي بل نتبع ملة، وقيل نصبت على الإغراء، وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة {بل ملةُ} بالرفع والتقدير بل الهدى ملة، و{حنيفاً} حال، وقيل نصب بإضمار فعل، لأن الحال تعلق من المضاف إليه، والحنف الميل، ومنه الأحنف لمن مالت إحدى قدميه إلى الأخرى، والحنيف في الدين الذي مال عن الأديان المكروهة إلى الحق، وقال قوم: الحنف الاستقامة، وسمي المعوج القدمين أحنف تفاؤلاً كما قيل سليم ومفازة، ويجيء الحنيف في الدين المستقيم على جميع طاعات الله عز وجل، وقد خصص بعض المفسرين، فقال قوم: الحنيف الحاج، وقال آخرون: المختتن، وهذه أجزاء الحنف.
ونفى عنه الإشراك فانتفت عبادة الأوثان واليهودية لقولهم عزير ابن الله، والنصرانية لقولهم المسيح ابن الله.

.تفسير الآيات (136- 138):

{قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
هذا الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، علمهم الله الإيمان، و{ما أنزل إلينا} يعني به القرآن، وصحت إضافة الإنزال إليهم من حيث هم المأمورون المنهيون فيه، و{إبراهيم وإسماعيل} يجمعان براهيم وسماعيل، هذا هو اختيار سيبويه والخليل، وقال قوم براهم، وقال الكوفيون: براهمة وسماعلة، وقال المبرد: أباره وأسامع، وأجاز ثعلب براه كما يقال في التصغير بريه، {والأسباط} هم ولد يعقوب، وهم روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وربالون ويشحر ودنية بنته وأمهم ليا، ثم خلف على أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وولد له من سريتين ذان وتفثالي وجاد وأشرو، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسموا الأسباط لأنه كان من كل واحد منهم سبط، و{ما أوتي موسى} هو التوراة وآياته، و{ما أوتي عيسى} هو الإنجيل وآياته، فالمعنى أنا نؤمن بجميع الأنبياء لأن جميعهم جاء بالايمان بالله، فدين الله واحد وإن اختلفت أحكام الشرائع، و{لا نفرق بين أحد منهم} أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما تفعلون، وفي الكلام حذف تقديره: بين أحد منهم وبين نظيره، فاختصر لفهم السامع، والضمير في {له} عائد على اسم الله عز وجل.
وقوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} الآية، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
والمعنى إن صدقوا تصديقاً مثل تصديقكم، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين، هذا قول بعض المتأولين، وقيل الباء زائدة مؤكدة، والتقدير آمنوا مثل، والضمير في {به} عائد كالضمير في {له}، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به، ويظهر عود الضمير على {ما}، وقيل {مثل} زائدة كما هي في قوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، وقالت فرقة: هذا من مجاز الكلام، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به، هذا قول ابن عباس، وقد حكاه عنه الطبري قراءة، ثم أسند إليه أنه قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به، فإنه لا مثل لله تعالى، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول، وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس فالله أعلم.
وقوله تعالى: {وإن تولوا} أي أعرضوا، يعني به اليهود والنصارى، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق، وقيل: شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير.
وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، و{السميع} لقول كل قائل، {العليم} بما يجب أن ينفذ في عباده.
و{صبغة الله} شريعته وسنته وفطرته، قال كثير من المفسرين: وذلك أن النصارى لهم ماء يصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك: وقيل: سمي الدين {صبغة} استعارة من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر الصبغ في الثوب وغيره، ونصب الصبغة على الإغراء، وقيل بدل من ملة، وقيل نصب على المصدر المؤكد لأن ما قبله من قوله: {فقد اهتدوا} هو في معنى يلبسون أو يتجللون صبغة الله، وقيل: التقدير ونحن له مسلمون صبغة الله، فهي متصلة بالآية المتقدمة، وقال الطبري من قرأ برفع {ملةُ} قرأ برفع صبغةُ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد ذكرتها عن الأعرج وابن أبي عبلة. و{نحن له عابدون} ابتداء وخبر.

.تفسير الآيات (139- 141):

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}
معنى الآية: {قل} يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم أديانهم وكتبهم: {أتحاجوننا في الله}؟ أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم، والرب تعالى واحد وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين؟، ثم وبخوا بقوله: {ونحن له مخلصون} أي ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم؟.
وقرأ ابن محيصن {أتحاجونا} بإدغام النون في النون، وخف الجمع بين ساكنين لأن الأول حرف مد ولين، فالمد كالحركة، ومن هذا الباب دابة وشابة، و{في الله} معناه في دينه والقرب منه والحظوة لديه.
وقوله تعالى: {أم تقولون} عطف على ألف الاستفهام المتقدمة، وهذه القراءة بالتاء من فوق قرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وقرأ بن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم {أم يقولون} بالياء من أسفل، و{أم} على هذه القراءة مقطوعة، ذكره الطبري، وحكي عن بعض النحاة أنها ليست بمقطوعة لأنك إذا قلت أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى أيكون هذا أم هذا؟.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا المثال غير جيد، لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غيران، وإنما تتجه تتجه معادلة {أم} للألف على الحكم المعنوي كأن معنى {قل أتحاجوننا} أي أيحاجون يا محمد أم يقولون، وقيل أن {أم} في هذا الموضع غير معادلة على القراءتين، وحجة ذلك اختلاف معنى الآيتين وإنهما ليسا قسمين، بل المحاجة موجودة في دعواهم الأنبياء عليهم السلام، ووقفهم تعالى على موضع الانقطاع في الحجة، لأنهم إن قالوا إن الأنبياء المذكورين على اليهودية والنصرانية كذبوا، لأنه قد علم أن هذين الدينين حدثا بعدهم، وإن قالوا لم يكونوا على اليهودية النصرانية قيل لهم فهلموا إلى دينهم إذ تقرون بالحق.
وقله تعالى: {قل أأنتم أعلم أم الله} تقرير على فساد دعواهم إذ لا جواب لمفطور إلا أن الله تعالى أعلم، و{من أظلم} لفظه الاستفهام والمعنى لا أحد أظلم منهم، وإياهم أراد تعالى بكتمان الشهادة.
واختلف في الشهادة هنا ما هي؟ فقال مجاهد والحسن والربيع: هي ما في كتبهم من أن الأنبياء على الحنيفية لا على ما ادعوا هم، وقال قتادة وابن زيد: هي ما عندهم من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، والأول أِبه بسياق معنى الآية، واستودعهم الله تعالى هذه الشهادة ولذلك قال: {من الله}، ف {من} على هذا متعلقة ب {عنده}، كأن المعنى شهادة تحصلت له من الله، ويحتمل أن تتعلق {من} ب {كتم}، أي كتمها من الله.
وقوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون}، وعيد وإعلام أنه لا يترك أمرهم سدى، وأن أعمالهم تحصل ويجازون عليها، والغافل الذي لا يفطن للأمور إهمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغفل، وهي التي لا معلم بها.
وقوله تعالى: {تلك أمة} الآية، كررها عن قرب لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها، ولترداد ذكرهم أيضاً في معنى غير الأول.