فصل: تفسير الآيات (73- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (73- 75):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)}
هذه آية تقريع للكفار وتوبيخ وإظهار لفساد نظرهم ووضع لهم من الأصنام في الجهة التي فيها سعي الناس وإليها هممهم، وهي طلب الرزق، وهذه الأصنام لا تملك إنزال المطر ولا إثبات نعمة، ومع أنها لا تملك لا تستطيع أن تحاول ذلك من ملك الله تعالى، وقوله: {رزقاً} مصدر ونصبه على المفعول ب {يملك}، وقوله: {شيئاً} ذهب كثير من النحويين إلى أنه منصوب على البدل، من قوله: {رزقاً} و{رزقاً} اسم، وذهب الكوفيون وأبو علي معهم إلى أنه منصوب بالمصدر في قوله: {رزقاً} ولا نقدره اسماً، وهو كقوله تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً} [المرسلات: 25-26] فت {كفاتاً} [المرسلات: 25] مصدر منصوب به {أحياء} [المرسلات: 26] ومنه أيضاً في قوله عز وجل {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة} [البلد: 14-15] فنصب {يتيماً} [البلد: 15] ب {إطعام} [البلد: 14]، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فلولا رجاء النصر منك ورهبة ** عقابك قد صاروا لنا كالموارد

والمصدر يعمل مضافاً باتفاق لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف اللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعُد عن حال الفعلية، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر:
ضعيف النكاية أعداءه

البيت.
وقوله: عن الضرب مسمعاً، وقوله: {يملك} على لفظ {ما}، وقوله: {يستطيعون} على معناها بحسب اعتقاد الكفار في الأصنام أنها تعقل، ويحتمل أن يكون الضمير في {يستطيعون} للذين يعبدون، المعنى لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها، وقوله: {فلا تضربوا} أي لا تمثلوا لله الأمثال، وهو مأخوذ من قولك: ضريب هذا أي مثله، والضرب النوع، تقول: الحيوان على ضروب، وهذان من ضرب واحد، وباقي الآية بين وقوله: {ضرب الله مثلاً} الآية، هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر، ولا يلزم من هذا أن العبيد كلهم بهذه الصفة كما انتزع بعض من ينتحل الفقه، وقد قال في المثال: لا يقدر على شيء فيلزم على هذا الانتزاع أن يكون مؤمناً ينفق بحسب الطاعة، وذلك أنه أشرف أن يكون مثالاً، والرزق ما صح الانتفاع به، وقال أبو منصور في عقيدته: الرزق ما وقع الاغتذاء به، وهذه الآية ترد على هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 30] و{أنفقوا مما رزقناكم} [البقرة: 254] وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعل رزقي في ظل رمحي»، وقوله: «أرزاق أمتي في سنابك خيلها، وأسنة رماحها، فالغنيمة كلها رزق»، والصحيح أن ما صح الانتفاع به هو الرزق، وهو مراتب أعلاها ما تغذي به، وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت».
قال القاضي أبو محمد: وفي معنى اللباس يدخل المركوب ونحوه، واختلف الناس في الذي هو له هذا المثيل فقال قتادة وابن عباس: هو مثل الكافر والمؤمن فكأن الكافر مملوك مصروف عن الطاعة فهو لا يقدر على شيء لذلك. ويشبه ذلك العبد المذكور.
قال القاضي أبو محمد: والتمثيل على هذا التأويل إنما وقع في جهة الكافر فقط، جعل له مثالاً، ثم قرن بالمؤمن المرزوق إلا أن يكون المرزوق ليس بمؤمن، وإنما هو مثال للمؤمن، فيقع التمثيل من جهتين، وقال مجاهد والضحاك: هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل أصوب، لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وعبد كان له، وروي تعيين غير هذا ولا يصح إسناده.
قال القاضي أبو محمد: والمثل لا يحتاج إلى تعيين أحد، وقوله: {الحمد لله} شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له، وهذا كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك: الله أكبر، على هذا يكون كذا وكذا، فلما قال هنا {هل يستوون}؟ فكأن الخصم قال له لا فقال الحمد لله ظهرت الحجة، وقوله: {بل أكثرهم لا يعلمون} يريد لا يعلمون أبداً ولا يداخلهم إيمان، ويتمكن على هذا قوله: {أكثرهم}، لأن الأقل من الكفار هو الذي آمن من أولئك، ولو كان معنى قوله: {لا يعلمون} أي الآن، لكان قوله: {أكثرهم} بمعنى الاستيعاب لأنه لم يكن أحد منهم يعلم.

.تفسير الآيات (76- 79):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}
هذا مثل لله عز وجل والأصنام، فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق، والكَلّ الثقل والمؤنة، وكل محمول فهو كَلّ، وسمي اليتيم كلاً، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أكول المال الكَلِّ قبل شبابه ** إذا كان عظم الكَلِّ غير شديد

كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ثم لا يأتي من جهتها خير البتة، هذا قول قتادة، وقال ابن عباس: هو مثل للكافر، وقرأ ابن مسعود {يوجه}، وقرأ علقمة {يوجِّهُ} وقرأ الجمهور، {يوجهه}، وهي خط المصحف، وقرأ يحيى بن وثاب {يُوجَّه}، وقرأ ابن مسعود أيضاً {توجهه} على الخطاب، وضعف أبو حاتم قراءة علقمة لأنه لازم، والذي {يأمر بالعدل} هو الله تعالى، وقال ابن عباس: هو المؤمن. و{الصراط} الطريق، وقوله: {ولله غيب السماوات والأرض} الآية، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه، وقوله: {وما أمر الساعة} آية إخبار بالقدرة وحجة على الكفار، والمعنى على ما قال قتادة وغيره: ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك، ف {أو} على هذا على بابها في الشك، وقيل هي للتخيير، ولمح البصر هو وقوعه على المرئي، وقوى هذا الإخبار بقوله: {إن الله على كل شيء قدير}. ومن قال: {وما أمر الساعة} له وما إتيانها ووقوعها بكم على جهة التخويف من حصولها ففيه بعد تجوز كثير، وبُعْد من قول النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها، ووجه التأويل أن القيامة لما كانت آتية ولابد جعلت من القرب {كلمح البصر} كما يقال: ما السنة إلا لحظة، إلا أن قوله: {أو هو أقرب} يرد أيضاً هذه المقالة، وقوله: {والله أخرجكم} الآية، آية تعديد نعمة بينة لا ينكرها عاقل، وهي نعمة معها كفرها وتصريفها في الإشراك بالذي وهبها، فالله عز وجل أخبر بأنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئاً، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلماً إلى درك المعارف، ليشكر على ذلك ويؤمن بالمنعم عليه، وأمهات أصله أمات، وزيدت الهاء مبالغة وتأكيداً، كما زادوا الهاء في أهرقت الماء، قاله أبو إسحاق، وفي هذا المثل نظر وقول غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي {إمهاتكم} بكسر الهمزة، وقرأ الأعمش {في بطون أمِّهاتكم} بحذف الهمزة وكسر الميم المشددة، وقرأ ابن أبي ليلى بحذف الهمزة وفتح الميم مشددة، قال أبو حاتم: حذف الهمزة ردي ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب والترجي الذي في لعل هو بحسبنا، وهذه الآية تعديد نعم وموضع اعتبار، وقوله: {ألم تروا إلى الطير} الآية، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش وابن هرمز {ألم تروا} بالتاء، وقرأ أهل مكة والمدينة {ألم يروا} بالياء على الكناية عنهم، واختلف عن الحسن وعاصم وأبي عمرو وعيسى الثقفي، والجو مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل هو ما يلي الأرض منها، وما فوق ذلك هو اللوح، والآية عبرة بينة تفسيرها تكلف بحت.

.تفسير الآيات (80- 81):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}
هذه آية تعديد نعمة الله على الناس في البيوت، فذكر أولاً بيوت التمدن وهي التي للإقامة الطويلة وهي أعظم بيوت الإنسان، وإن كان الوصف ب {سكناً} يعم جميع البيوت، والسكن مصدر يوصف به الواحد، ومعناه يسكن فيها وإليها ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة، وقوله: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لأن هذه هي من الجلود، لكونها نابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام، ويكون قوله: {ومن أصوافها} عطفاً على قوله: {من جلود الأنعام}، أي جعل بيوتاً أيضاً، ويكون قوله: {أثاثاً} نصباً على الحال، و{تستخفونها} أي تجدونها خفافاً وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {ظعَنكم} بفتح العين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {ظعْنكم} بسكون العين، وهما لغتان، وليس بتخفيف، وظعن معناه رحل والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز والبقر، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان فلذلك اقتصر على هذه، ويحتمل أن ترك ذلك القطن والحرير والكتان إعراضاً والكتان في لفظ السرابيل، والأثاث متاع البيت واحدتها أثاثة، هذا قول أبي زيد الأنصاري، وقال غيره الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه.
قال القاضي أبو محمد: والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم: لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة، تقول شعر أثيث ونبات أثيث إذا كثر والتف، وقوله: {إلى حين} يريد به وقتاً غير معين، وهو بحسب كل إنسان إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث، ومن هذه اللفظة قول الشاعر: [الوافر]
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ** بذي الزيّ الجميل من الأثاث

وقوله: {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} الآية، نعم عددها الله عليهم بحسب أحوالهم وبلادهم، وأنها الأشياء المباشرة لهم، لأن بلادهم من الحرارة وقهر الشمس بحيث للظل غناء عظيم ونفع ظاهر، وقوله: {مما خلق} يعم جميع الأشخاص المظلة، و{الأكنان} جمع كن وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، و{السرابيل} جميع ما يلبس على جميع البدن كالقميص والقرقل، والمجول والدرع والجوشن والخفتان ونحوه، وذكر وقاية الحر إذا هو أمس في تلك البلاد على ما ذكرنا، والبرد فيها معدوم في الأكثر، وإذا جاء في الشتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السربال المتقدم الذكر، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط، قاله الطبري عن عطاء الخراساني، الا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج لأنه ليس في بلادهم، قال ابن عباس: إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قط.
قال القاضي أبو محمد: وأيضاً فذكر أحدهما يدل على الآخر، ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضاً ** أريد الخير أيهما يليني

قال القاضي أبو محمد: وهذه التي ذكرناها هي بلاد الحجاز، وإلا ففي بلاد العرب ما فيه برد شديد، ومنه قول متمم:
إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا.

ومنه قول الآخر:
في ليلة من جمادى ذات أندية.

البيتين، وغير هذا، والسرابيل التي تقي البأس هي الدرع، ومنه قول كعب بن زهير: [البسيط]
شم العرانين أبطال لبوسهمُ ** من نسج داود في الهيجا سرابيل

وقال أوس بن حجر:
ولنعم حشو الدرع والسربال

فهذا يراد به القميص، والبأس مس الحديد في الحرب، وقرأ الجمهور {يتم نعمته}، وقرأ ابن عباس {تتم نعمته} على أن النعمة هي تتم، وروي عنه {تتم نعمه} على الجمع وقرأ الجمهور {تسلمون} من الإسلام، وقرأ ابن عباس {تَسلمون} من السلامة، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب، وما في لعل من الترجي والتوقع فهو في حيز البشر المخاطبين، أي لو نظر الناظر هذه الحال لترجى منها إسلامهم.

.تفسير الآيات (82- 85):

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}
هذه الآية فيها موادعة نسختها آية السيف، والمعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، وإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه، ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة، ويقرون أنها من عنده ثم يكفرون به تعالى، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها، هذا قول مجاهد، فسماهم منكرين للنعمة تجوزاً، إذ كانت لهم أفعال المنكر من الكفر برب النعمة وتشريكهم في النعمة الأوثان على وجه ما، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من الضر والنفع، وقال السدي: النعمة هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم تعالى بأنهم يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه الطبري، ثم حكم على أكثرهم بالكفر وهم أهل مكة، وذلك أنه كان فيهم من قد داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك، وقوله: {ويوم نبعث} الآية وعيد، والتقدير واذكر يوم نبعث ويرد {شهيداً} على كفرهم وإِيمانهم، ف شهيد بمعنى، شاهد وذكر الطبري أن المعنى ثم ينكرونها اليوم {ويوم نبعث من كل أمة شهيداً}، أي ينكرون كفرهم فيكذبهم الشهيد وقوله: {ثم لا يؤذن} أي لا يؤذن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطن، لأن في القرآن أن {كل نفس تأتي تجادل عن نفسها} [النحل: 111] ويترتب أن تجيء كل نفس تجادل فإذا استقرتَ أقوالهم بعث الله الشهود من الأمم فتكذب الكفار، فلم يؤذن للمكذبين بعد في معذرة، و{يستعتبون} معناه يعتبون، يقال أعتبت الرجل إذا كفيته ما عتب فيه، كما تقول أشكيته إذا كفيته ما شكا، فكأنه قال ولا هم يكفون ما يعتبون فيه ويشق عليهم والعرب تقول استفعل بمعنى أفعل، تقول أدنيت الرجل واستدنيته وقال قوم معناه لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم، وقال الطبري معنى {يستعتبون} يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة عمل. وقوله: {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفرة الظالمين في كفرهم إذا أراهم الله عذاب الله وشارَفُوها وتحققوا كنه شدتها، فإن ذلك الأمر الهائل الذي نزل بهم لا يخفف بوجه ولا يؤخر عنهم، وإنما مقصد الآية الفرق بين ما يحل بهم وبين رزايا الدنيا، فإن الإنسان لا يتوقع أمراً من خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه وفي أن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه، وكذلك متى حل به كان طامعاً في أن يخف، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيراً، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة إذا عاينه الكافر لا طماعية فيه بتخفيف ولا بتأخير.